الان عرفنا من خلال ما ذكر المؤلف رحمه الله ان التوحيد منه ما هو متصل بالربوبية ومنه ما هو متصل بالالهية. فذكر في التوحيد قسمين توحيد الربوبية وهو افراد الله وقوله رحمه الله فمعنى قوله رب العالمين رب العالمين يبين انه اسمه فاعل ثم ذكر ما يفعله بعباده مما تقتضيه رحمته واحسانه وفضله جل وعلا مما ينبغي ان يعلم العبد ان الربوبية تقوم على اربعة اصول الاصل الاول الرزق وهذا بالنظر الى الدليل الذي سنذكره هذا الترتيب لهذه الاصول بناء على ما جاء ذكره في الاية الرزق الملك الخلق التدبير هذه اربعة اصول تقوم عليها الربوبية وقد تضمنها قوله جل وعلا قل من يرزقكم من السماء والارض. قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر الجواب يقول الله تعالى فسيقولون الله وهذه الاصول الاربعة هي اصول معاني الربوبية فمعاني الربوبية تدور على هذه المعاني الاربعة وهي مرتبة على هذا النحو وفقا لما ذكره الله تعالى في الاية والا معلوم ان الخلق يسبق الرزق والملك والتدبير فالخلق هو الاصل ثم تتبعه الملك والتدبير والرزق فهذه المعاني كلها من مقتضيات ربوبيته سبحانه وبحمده. وقد تضمنتها هذه الاية الكريمة. فهذه المعاني الاربعة كلها من لوازم الاقرار بان الله تعالى رب العالمين ثم اخبر الله تعالى عن ان المشركين الذين كذبوا الرسل يقرون بهذه المعاني لله عز وجل ولذلك قال تعالى فسيقولون الله اي فسيكون جوابهم بلا ريب ولا امتراء ان الذي رزق وان الذي ملك وان الذي خلق وان الذي يدبر هو الله. ولهذا جاء الانكار عليهم فقال افلا تتقون اي افلا تتركون ما انتم عليه من كفر وعناد ومعارضة للرسل وعدم قبول لما جاءوا به من الهدايات بعد هذا التقرير لتوحيد الربوبية انتقل المؤلف رحمه الله الى تقرير معنى الالهية فقال والالهية كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبا مألوها ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والاخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل ونحو هذه الاشياء المؤلف رحمه الله بين فيما تقدم معنى الربوبية ثم عطف على ذلك معنى الالهية والسبب في تقديم ذكر الربوبية على الالهية ان القرآن يستدل على الهية الله عز وجل بربوبيته يستدل بما قر في الفطر من الاقرار بان الله رب العالمين على انه الاله المستحق للعبادة وحده لا شريك له ولذلك جاء بعد ذكر الربوبية بالالهية فقال رحمه الله والالهية كون العباد يتخذونه محبوبا مألوها واعلم بارك الله فيك ان الالهية مأخوذة من الاله وهو ما فسره المؤلف رحمه الله بقوله محبوبا مألوها فالاله هو من تألهه القلوب وتتعبده بالمحبة والتعظيم. ولذلك قال ويفردونه بالحب والخوف والرجاء فمعنى الالهية افراد الله تعالى بالمحبة افراد الله تعالى بالخوف افراد الله تعالى بالرجاء وانما ذكر المحبة اولا دون ذكر غيرها من اعمال القلوب لان المحبة هي اصل العبادة فاصل عبادة الحب ولذلك كان اول ما تقوم عليه العبودية لله عز وجل محبته سبحانه وبحمده وبقدر ما يحقق العبد من حب الله عز وجل يحقق من عبوديته فلهذا ذكر المحبة اولا والمطلوب في المحبة ان تكون خالصة له جل في علاه لا يشركه فيها غيره. ولذلك قال وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فلا يصوغ ان يكون معه محبوب سواه بل نهى الله تعالى ان يسوى به غيره فقال جل وعلا فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون. وكان اول ذكر من الصور التي نهى عنها من صور التنديد ما ذكره في سورة البقرة في قوله جل وعلا ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله. فذكر الله فذكر الله جل وعلا اول شرك وقع فيه الناس تنديدا وهو انهم جعلوا معه محبوبين سواه والقلب مفطور على محبة الله عز وجل ليس به غنى عن محبة الله عز وجل فاذا صرف محبته الى غيره تفرق قلبه في شعاب الردى والوان الهلاك وصنوف البلاء في الدنيا والاخرة ولذلك كل السعادة والفلاح والنجاح في افراد الله تعالى بالحب يقول ابن القيم رحمه الله فالقلب فالقلب مضطر الى محبوبه الاعلى فلا يغنيه حب ثاني محبوبه الاعلى هو الله جل وعلا ومهما احب سواه فانه لن يجد في هذه المحبة غنى. ولذلك قال وصلاحه ونعيمه وفلاحه تجريد هذا الحب الرحمن فبقدر ما يحقق العبد من تجريد الحب لله عز وجل ومن افراد الله عز وجل بالمحبة ينال من السعادة والطمأنينة والانشراح وبقدر ما يصرف قلبه عن هذا المعنى يقع في الوان الانحراف فاذا تخلى منه اصبح حائرا ويعود في في ذا الكون ذاها يماني يعود فيها ذا الكون اي في هذا الكون ذا هيمان اي ظلال وظياع لا يصيب خيرا ولا يدرك صلاحا ولا فلاحا. ولهذا لما ذكر المؤلف رحمه الله معنى الالهية ومعنى انه الاله جل وعلا قال كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبا. ثم بعد ان ذكر الحب ذكر ما يقترن به وما ينتج عنه فالحب ينتج عنه عملان قلبيان الخوف والرجاء ولهذا ذكرهما قرينا ذكرهما قرينان ليه الحب فالحب هو رأس الامر وهو اصله وهو منطلقه ثم بعد ذلك يتبع الحب الخوف والرجاء وهذه الاعمال الثلاثة من اعمال القلوب هي مرتكزات توحيد العبادة لله عز وجل فافراد الله بالعبادة لا يتحقق الا بكمال الحب وكمال الخوف وكمال الرجاء افراد الله بالمحبة افراد الله بالخوف افراد الله تعالى بالرجاء. وقد ذكر الله تعالى ذلك في سورة الاسراء قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ثم يقول جل وعلا اولئك يعني الذين تدعونهم من دون الله من الصالحين واولياء الله المقربين اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه. فذكر ثلاثة اعمال من اعمالهم اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب وذلك بحبه والاقبال عليه ثم ذكر بعد ذلك عملين قال ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهذه الاية تضمنت هذه المقامات الثلاثة بدأها الله عز وجل بالمحبة فقال اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة. اي يبتغون القربى اليه جل وعلا. وذلك بمحبته فالحب هو اول المقامات واعظمها متى ما اتى به العبد اتى ببقية موجبات النجاة وتمهد له طريق تحقيق العبودية لله عز وجل فالمحبة الصادقة توجب الخوف من المحبوب وتوجب رجاء ما عنده الخوف من المحبوب في ان يبعدك وان لا يضمك الى اوليائه وعباده والرجاء اي الطمع في ان يجعلك من اوليائه ومن عباده الصالحين فهذه الاعمال الثلاثة مقترنة الا ان رأسها واساسها حب الله عز وجل ولهذا مثل العلماء رحمهم الله هذه الاعمال الثلاثة بالطائر فالحب رأسه والخوف والرجاء جناحاه وانما يستوي المسير باستواء الجناحين فاذا استوى الجناحان سارة الطير سيرا حسنا والا سقط واما الرأس فلا حياة الا به ولذلك اذا قطع الرأس لم ينفع شيء لانه يفارق الحياة فاذا غاب الحب فلا ينفع خوف ولا رجاء. بل لا يتحقق خوف ولا رجاء. انما اصل ذلك ان يحقق العبد الكمال في هذه المقامات الثلاث لتحقيق العبودية لله بالخلق والملك والرزق والتدبير اما النوع الثاني فهو توحيد الالهية وهو افراد الله تعالى بالعبادة واصل ذلك افراده بالمحبة والخوف والرجاء بعد ذلك اذا اكتمل في قلب العبد تمام اليقين بربوية الله عز وجل وتمام الايمان بالهيته وانه لا اله سواه اثمر ذلك جميل الثمار فحقق به حقيقة التوحيد التي اشار اليها في قوله فان التوحيد اي افراد الله تعالى بالعبادة حقيقته اي كنه مضمونه ومعناه على وجه المطابقة لما يجب ان ترى الامور كلها من الله رؤية تقطع الالتفات عن الاسباب والوسائل هذه ثمرة التوحيد هذه نتيجته هذا ما يدركه الانسان بتكميل هذين المعنيين. افراد الله تعالى بالخلق والملك تدبير والرزق وافراد الله عز وجل بالعبادة اذا تحقق للعبد ذلك انقطع نظره عن الخلق فلا يلتفت اليهم ويعلم ان الخلق كلهم اسباب متى شاء الله عز وجل اتت ثمارها ويسرها له ومتى لم يشأ فانها لن تغني عنه شيئا. وهذا معنى قوله رحمه الله رؤية تقطع الالتفات عن الاسباب والوسائل فلا يتعلق بسبب ولا يتعلق وسيلة لحصول شيء او ادراك امر بل قلبه معلق بالله محبة قلبه معلق بالله خوفا قلبه معلق بالله رجاء ويعلم ان ما عدا ذلك انما هي اسباب ووسائل اذا اخذها اخذها وقلبه معلق بالله لا ملتفتا الى هذه الاسباب منجذبا اليها. وبهذا يكمن توحيد العبد فان ثمرة الايمان بان الله رب العالمين وانه الاله الحق الذي لا اله غيره يقطع تعلقه والتفاته الى الاسباب. واعلم بارك الله فيك من الاسباب للناس فيها ثلاثة مواقف من الناس من يعلق قلبه بالاسباب ويجعلها هي التي يدرك بها المطالب ويحصل بها ما يرجوه ويأمله ومن الناس وهذا القسم الثاني من يلغي الاسباب بالكلية ويظن ان تمام التوحيد كمال الديانة في الا يأخذ سببا ويعد اخذ الاسباب التفاتا لما يكون من المهلكات ويتنافى مع التوحيد وهذا وذاك كلاهما خرج عن الاعتدال والوسط فان الوسط هو ان تأخذ بالسبب مع تعلق قلبك بالمسبب وان تنظر الى هذه الاسباب على انها ادوات متى شاء الله عز وجل جاءت بثمارها ومتى شاء لم تأتي بثمارها بل قد تكون الاسباب على نقيض مقصودها وتأتي بنقيض المطلوب منها متى شاء الله تعالى ذلك فان السبب انما يأتي بنتيجته بامر الله عز وجل وباذنه سبحانه وبحمده ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما تشاؤون الا ان يشاء الله فاذا شاء الله عز وجل جعل السبب الذي تطلب منه النجاة منتجا للهلاك وعلى العكس فقد يجعل السبب الذي ينتج عنه الهلاك سببا للنجاة فلذلك ينبغي للانسان الا يعلق قلبه الا بمسبب الاسباب ولا يعني هذا ان يعطل الاسباب بل يأخذ بالاسباب دون تعلق بها والتفات اليها واليك هذا النموذج الذي ذكره الله تعالى عن ابراهيم عليه السلام الذي جعله الله عز وجل قدوة للناس واماما في تحقيق العبودية والتوحيد لله عز وجل كما قال ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يكن كن من المشركين قال الله تعالى قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم. فالنار طبيعتها الاحراق والاتلاف والاهلاك لكن الله عطل ذلك فجعل النار على نقيض ذلك. كوني بردا وسلاما فجعل السبب الذي ينتج عنه العطب والهلاك موجبا للسلامة والنجاة وذاك بامره جل في علاه. وهذا معنى قوله رحمه الله في هذا المقطع فان التوحيد حقيقته ان ترى الامور كلها من الله واذا رأيت الامور كلها من الله انقطع نظرك الى ما سواه. وهذا معنى قوله رؤية تقطع الالتفات عن الاسباب والوسائل وانتبه قال تقطع الالتفات ولم يقل رؤية تعطل الاسباب تاب والوسائل فليس الامر فيما يتعلق بالتوحيد ان تعطل الاسباب والوسائل بل الاسباب يطلب وجودها لا يتنافى اخذها لا مع دين ولا مع عقل بل تركها وتعطيلها يتنافع مع الديانة والعقل فالنبي صلى الله عليه وسلم اكمل المتوكلين واعظم الموحدين ومع هذا كان يدخر قوت اهله لسنة وكان يظاهر بين درعين في قتاله صلى الله عليه وسلم لخصومه. وكان يلبس المغفر وكان يأخذ الاسباب صلى الله عليه وسلم. لكن لم يكن معلقا قلبه بالاسباب بل يفعل ما مكنه الله تعالى منها وقلبه معلق بالله عز وجل فلا مانع لما اعطى ولا معطي لما منع. هذا معنى قوله رحمه الله رؤية تقطع الالتفات عن الالتفات عن الاسباب والوسائل فخذ السبب لكن لا تعلق قلبك به. ابذل المقدمة والنتائج على الله. تبذر والذي ينبت هو الله جل وعلا وهكذا في كل ما يكون من الوقائع والاحداث ابذل السبب واما القلب فهو معلق برب الارباب مسبب الاسباب سبحانه وبحمده. ولذلك قال رحمه الله تأكيدا لهذا المعنى قال فلا ترى الخير والشر الا منه تعالى. لا ترى الخير اي حصولا ووجودا الا منه جل في علاه كذلك لا ترى الشر الا من الا بتقديره جل في علاه. فليس شيء في الكون الا بفعله وبمشيئته كما قال جل وعلا ان كل شيء خلقناه بقدر فالله تعالى خالق كل شيء سبحانه وبحمده بهذا يتم تنال تعلقك به وتألهك له وانظر الى هذا المعنى في الذكر الذي نردده بعد الصلوات فقد كتب المغيرة ابن شعبة رضي الله تعالى عنه الى معاوية ابن ابي الى معاوية ابن ابي سفيان رضي الله تعالى عنهما فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر الصلوات لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وهذا هو التوحيد الذي به تحصل النجاة ثم انظر الى ثمرته بي الاقرار والتأكيد لمقتضيات التوحيد السابق اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد اي ولا ينفع صاحب الغنى غناه عنك فالانسان اذا كان غنيا يظن ان غناس يبلغهما يريد من المطالب ويوصله الى ما يرغب من المقاصد وهو سبب من اسباب ادراك المطالب لكن الامر لله عز وجل فلا ينفع ذا الغنى غنى. فكم من غني لا يدرك بغناه مطالبه ولا يحصل ما يؤمله. فالاسباب وسائل لا تتعلق القلوب بها انما القلوب تتعلق بالله عز وجل