حسبنا المتوسِّط الحسابيّ للأركان الثلاثين: السلام عليكم أجرَيْنا استبيانًا عن المدارس في بلاد المسلمين: هل تُحقِّق الأركان التربويَّة التعليميَّة المطلوبةَ أم لا؟ سنستعرض معكم النتائج، ونرى دلالتها، ثم نرى معًا ما الذي أوصل التعليم إلى هذا الوضع، وسنمرُّ على البرامج الدوليَّة والمدارس التي تُقدِّم نفسها على أنَّها إسلاميَّةٌ؛ لنرى بعدها ملامِحَ الحلَّ للمشكلة التربويَّة التعليميَّة. في الاستبيان رشَّحنا (30) رُكنًا من أركان التربية والتعليم، والتي هدفُها بناءُ الإنسان: بناءُ عقيدتِه وفكرِه ونفسِه وعاطفته وشخصيَّته، وقُدرته على النَّقد والتحليل والتوازن وتحقيق السعادةِ واكتسابِ المعرفة النافعةِ، والتمتُّع بالحصانة أمام المؤذيات بأشكالها، وتحرُّره من الاستعباد لغير الله، وسنضع لكم الأركان الثلاثين في التعليقات لمن لم يطَّلع عليها بعد. هذه الأركان مُنطلِقةٌ من الملامح الخمسة للتعليم في المنظومة الإسلاميَّة، والتي عرضناها في الحلقة الماضية، فهي تنطلق من مرجعيَّة الوحي، وتهدف لبناء إنسانٍ يحقِّق الغايةَ من وجوده، ويَسْعَد في الدنيا والآخرة. عبَّأ الاستبيان حوالي (21600) مُستَجيب، الغالبيَّةُ العظمى منهم من دول العالم الإسلامي، وتلقَّوا تعليمَهم في المدارس، وليس التعليم الحر أو المنزلي، والنسب التي سنذكرها هي لهؤلاء الَّذين يشكِّلون الغالبيَّةَ العظمى. في الاستبيان سألنا: هل البنود التربويَّة التعليميَّة الثلاثون المذكورةُ هي من وجهة نظرك في مُجمَلها مهمَّةٌ؟ أم مفيدة لكن ليست أساسيَّة؟ أم غير مهمَّة؟ فأجاب (95%) منهم بأن هذه الأركان التربويَّة التعليميَّة مهمَّة بالفعل. إذا فنحن لا نقيِّم المدارس بناءً على وجهة نظرنا الشخصية بل على بنودٍ يتَّفق عامَّةُ المُستجيبين على أنها مهمَّةٌ. سألنا: لِكُلٍ من هذه الأركان الثلاثين؛ نرجو اختيار ما إذا كانت المدارس التي تلقَّيت التعليم فيها تحقِّق هذا البند بشكلٍ كبيرٍ، أو بشكلٍ جزئيٍّ غير كافٍ، أم لا تحقِّقه، أم على العكس لها أثرٌ سلبيٌّ على هذا الركن التربويِّ أو التعليميِّ، نعم بشكلٍ كبير -أن المدارس تحقق بشكل كبير: 12%؛ أي أنَّ متوسِّطَ نسبةِ الذين يرَون أن المدارس تحقِّق الأركان التربوية بشكلٍ كبيرٍ مُرضٍ هو 12% فقط من المشاركين. بشكلٍ جزئيٍّ غير كاف: 31% لا تحقِّقُه: 46% تؤثّر سلبًا عليه -أنَّ المدارس تؤثّر سلبًا على هذا الركن التربوي أو التعليمي: 11% إذا جمعنا (لا) -أنَّ المدارس لا تحقِّق هذا الركنَ- مع (التأثير السلبي) فإن نِسبةَ (57%) مقارنةٌ بـ(43%) لـ(نعم بشكل كبير) أو (بشكلٍ جزئي غير كاف). في 16 رُكنًا من الـ(30) كان التأثير السلبي للمدارس أكبرَ من تحقيقِها بشكلٍ كبيرٍ، أعلى ركن تربوي تحقيقًا كان: تعليمَ الطالب التوحيدَ وتجنيبه كلَّ ما يشوب التوحيد، ومع ذلك فالذين رأوا أن المدارس تحقِّقه بشكلٍ كبيرٍ هم 22% أي حوالي الخُمُس. أقلُّ ركنٍ تربويٍّ تحقيقًا حسب المشتركين كان التالي: (تعليمُه -أي الطالب والطالبة- المهاراتِ الحياتيَّة التي يحتاجُها بحسب دوره -أو دورها- في الحياة: كيف أستعدُّ للزواج، كيف أختار أو أقبل بشريك الحياة، كيفَ أُربّي، ولماذا أُربّي، كيف أكون أُمًّا، وكيف أكون أبًّا)، الذين رأَوا أنَّ المدارسَ تحقِّق هذا بشكلٍ كبيرٍ كانوا 5.25% فقط؛ أي حوالي 1 من 20، وحوالَي الضِعفُ رأوا أن المدارس لها أثرٌ سلبيٌّ على هذا الركن التربويِّ، ولعلَّنا لن نتفاجأَ إذا قرأْنا واقِعَ العوائل والزيجات والاستقرارِ الأُسريِّ على ضوء هذه النسب. عددٌ من الإخوة والأخوات علَّقوا بأنهم أصيبوا بالصدمة من مجرَّد تعبئةِ الاستبيان وأحسُّوا بالتَحسُّر على أنفسهم والخَوف على أبنائهم. إذن فالتعليم المدرسي -حسب الذين عَبَّأُوا الاستبيان- لا يُسهم إلا بنِسب ضعيفة جدا في بناء عقيدة الإنسان وفكرِه ونفسِه وعاطفته وشخصيته، وهي الأركان التي يراها المشاركون مهمَّةً بالفعل، بل وأحيانًا يؤثِّر على هذه الأركان بشكلٍ سلبيٍّ، وهذا يجعلنا نتساءل: ما الذي أوصَل التعليم في بلاد المسلمين إلى هذا الوضع؟ بيَّنَّا في حلقةِ (المدارس تعليم أم تعليب) تاريخَ نشأةِ المدارسِ عالميًّا، وأنَّها وُجدت في الأساس للسيطرة على المجتمعات وللـ(Indoctrination)؛ تكريسِ الأفكار والقِيَم التي تريدُها مجموعاتٌ متحكِّمَةٌ، ولتنتجَ أشخاصًا مُؤهَّلينَ للعمل في المنظومة الماديَّة، وليسَ لبناءِ إنسانٍ متحرِّرٍ من العبوديَّة للبشرِ، مُنسجمٍ قلبًا وعقلًا وروحًا وعاطفةً، يعملُ للغايةِ التي أُوجِد لها، ويُحقِّقُ سعادةَ الدنيا والآخرة -كما في مفهومِ التعليم في الإسلام. الأركان التربوية التعليمية الثلاثون مبنيَّةٌ على مفهوم التعليم في الإسلام، ولذلك فلا نتوقعُ أن تكون محقَّقةً في منظومة التعليم المدرسيِّ لا عالميًّا ولا في بلاد المسلمين؛ ففلسفةُ التعليم ببلاد المسلمين مستنسخةٌ من الفلسفة العالميِّة؛ (Indoctrination)، وإنتاج أشخاص ليعملوا في منظومة مادية، فالإنسان أشبه ما يكونُ بمنتج على خط إنتاج: مدرسة، ثانوية عامة، جامعة، شهادة، سوق عمل، وظيفة، راتب. اعتناءٌ بالجسد والدنيا دون إعطاءِ أولويَّةٍ للروحِ والآخرةِ، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [القرآن 30: 7]. لذلك فلا غرابةَ أن تفشل هذه المنظومة في بناء الإنسان عالميًّا وفي بلاد المسلمين، شكلٌ من أشكالِ هذا الفشل عالميًّا هو ما عرضناه من تعاسة المرأة في حلقة (تحرير المرأة الغربية)، وهو ما يتم استنساخه لبلاد المسلمين. في بلاد المسلمين خلاصةُ ما جرى للنظام التعليميِّ هو هَدْمُ نقاطِ التميّز؛ هدْمُ الأركان الخمسةِ، فَلم يَعُد التعلُّم تَعَبُّديًّا ولا المسؤوليةُ فيه مشتركةً، بل أَمسكَ الاحتلالُ -ومِن بَعدِه الدولُ التابعة له- بزمام المناهج وتحكَّموا بها، والمنظومةُ المعرفيَّة لديهم واضحةٌ ومنسجمةٌ، وليست مرجعيَّتُه الوحيَ ولم تعُد مراكزُ الثقل الماليِّ موزَّعةً في المجتمع، ولا مخرجاتُ التعليمِ تقاسُ بتحقيقِ أهدافِ الوحي؛ بل تُقاس بالعلامة والتأهُّل للعمل بالمعايير المادِّيَّة. لكن بالاضافة إلى ذلك فمشكلة التعليم ببلاد المسلمين مُرَكَّبةٌ وأعقَدُ منها في الغرب؛ فهناك عوامل فسادٍ أخرى، منها: توسيدُ الأمر إلى غير أهله، إدارات ولجان تطوير ومراقبة تُختَار بناء على معايير ولائيّة انتفاعيّة، وليس على أسُسِ الأهليَّةِ والكفاءة، إضافةً إلى الحرص الشديدِ على تَطْويعِ الأجيال لمجموعاتٍ مُتحكِّمةٍ أكثرَ من الحرصِ على تعليمها، إضافةً إلى عدمِ تأهيلِ المعلِّمينَ وإلى احتياجِهم ماديًّا، إضافةً إلى تدخُّل ممنهَجٍ في المناهجِ لعزل الأجيال عن تاريخها وثقافتها وقدواتها، وإفراغِها من مخزونِها الفكريِّ والحضاريِّ وطمسِ هُويَّتِها، كما في مقرراتِ دراساتِ مؤسَّساتِ التخطيطِ الاستراتيجيِّ الغربيَّة -كمركزِ راند- وفي الفيديوهات التي تخرج بين الحين والآخر عن مناقشات في الدوائر السياسيَّة الغربيَّة حولَ التغييرات التي يجب إجراؤُها للمناهجِ في العالم الإسلامي. نظام التعليم المدرسيِّ في الدول الغربيَّةِ -على ما فيه- إلا أنه يعزِّز لدى طُلَّابه الانتماءَ إلى تاريخِهم والافتخار برموزهم، الأمر الذي لم يتمَّ استنساخُه لدولِ العالم الإسلامي، بل حُذف الكثيرُ من تاريخهم، ويُدرَّس الطلابُ محطَّاتٍ محدودةٍ على مبدأِ الـ(Normal Saline) الذي تكلَّمنا عنه في حلقة (بس تربية)، بحيث يتحقَّق وهم التعلُّم ويظنُّ الأولاد وأهلهم أنَّهم يتعلَّمون تاريخَ الإسلام والمسلمين. بعد انهدام عوامل القوَّة ووجودِ عوامل الفسادِ في التعليم لا حاجةَ لخُطَّةٍ تفصيليَّةٍ للدَّمار ولا للتدخُّلِ في كلِّ التفاصيلِ ولا لطَمسِ كلِّ معالم الإسلام من التعليم، بل يكفي ما تقدّم لئلا تقوم للتعليم المنشود قائمةٌ إذا بقي الحال على ما هو عليه. والمهم جدًّا هنا -إخواني- أن ندرك أنَّ هذا الفسادَ كان قد تسرَّب إلى المنظومةِ التعليميَّة في العالمِ الإسلاميِّ قبل تَعرُّضه للاحتلال العسكري المباشر، ولولا أنَّ هذا الفسادَ قد أصابنا لما كان فينا قابليَّةٌ أصلًا للاحتلال، ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [القرآن 3: 120] فالحلُّ ينطلِقُ منَّا، وبدايتُه فَهْمُ واقعِنا، لا للتَّشكِّي والإلقاء باللَّوم على الآخرين، بل لنصلح هذا الواقع. أخطرُ ما في واقع التعليم اليومَ أنه لم يعُدْ يستند إلى مرجعيَّة الوحي، قد تتساءل: ماذا نعني بأن يكون الوحي هو مرجعيَّةَ التعليم؟ في عصور الازدهار الإسلاميِّ كان التُّقاةُ من العلماء المسلمين يستدلُّون بفطرهم وعقولهم السليمة على أن الوحي حقائقُ مطلقةٌ، فالقرآن والسنّة الثابتة علومٌ خبرية منسجمة مع العلوم الطبيعية والاجتماعية، لا تعارض؛ بل مصادرُ المعرفة -ومنها العقل- لا تكتسِب موثوقيَّةً إلا في ظلّ الاعتراف بخالقٍ مُطْلَقِ الكمال كما أثبتنا بالتفصيل في (رحلة اليقين)، يتقرَّب العالم إلى الله بدراسته وإسهامه في علوم الطبيعة، ويعبد الله بقراءة آياته المنظورة في الكون والحياة كما يعبده بقراءة آياته المسطورة في القرآن، يوَظِّف العلوم لنفع الناس، ويتعوَّذُ بالله من علم لا ينفع، ومن بابِ أَوْلَى يتوَرَّع عن توظيف العلم لأذيَّة الناس، وإذا أشْكلَ عليه شيء قام فصلى ركعتين ودعا ربَّه؛ لأنَّه خالقُ الكون وموجدُ قوانينه، فيستزيد من علمه الذي قال فيه: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [القرآن 2: 255]، فروح العالِم وعقلُه وعقيدتُه وعلومُه منسجمَةٌ جميعًا، لا يزور العلم ليحقّق مآرب شخصيّة ولا يطوعه لأجندات أحد، بل يعلمُ أنه مستأمنٌ عليه، فالوحيُ محرِّكٌ لاستكشاف العلوم: ينسجِِم معها، ويُضفِي المصداقيَّةَ على أدوات استكشافها (كالعقل)، ويحرِّم تزوير العلوم والغشَّ فيها، ويجعلُ توظيفَها في ما ينفع الناسَ، ويحرِّم توظيفَها فيما يَضرُّهم. عندما أصابنا الوهَن، وتمَّ استنساخُ النظام التعليميِّ الغربيِّ لبلاد المسلمين، استُنسخت معه الخصومةُ بين الكنيسة والعلوم الطبيعية، كانت الكنيسة تمثّل عائقا عن التقدم الحضاري بتدخُّلاتِها غير المرحّب بها في العلوم دون مرجعيِّة وحيٍ محفوظ، فزوى الغربُ الدين في حصص مخصوصة ومنعه من التدخُّل في العلوم، والشيءُ ذاتُه تمَّ استنساخُه لبلاد المسلمين في التعليم النظاميِّ، أُلغيت مرجعيّة الوحي، فأصبح الوحي ممثلا في مادة في المدرسة اسمها (التربية الإسلامية)، وتَخَصُّصٍ في الجامعة اسمه (الشريعة)، ولم يَعُد الوحي مرجعيَّة العلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة والروحَ المبثوثة فيها جميعا، يدرس الطالبُ في حصَّة الدِّين أن الرِّبا محرَّم ممحوقُ البركة، ثم يدرس في غيرها أنه من أركان الاقتصاد، يدرس في حصَّة الدين عن رابطةِ العقيدة ومرجعيَّة الشريعةِ ما يعارَضُ في غيرِها بِجَعْلِ الولاءِ على أساس حدودٍ وضَعَها المُستعمِرُ وبمرجعيَّةِ القانونِ المستورد غير المحكوم بالشريعةِ، يدرسُ ما يهيِّئه لأن يتخصَّص في الجامعة في الطب والصيدلة والهندسة والمحاسبة والمحاماة لكنه لا يدرس لا في المدرسة ولا في الجامعة فِقهَ هذه المِهن ولا ضوابطَها الشرعيَّة، بل وقد لا يعلم أن لها فقهًا وأحكامًا خاصّة أصلًا، ولا يُعلَّم معها مراقبةَ الله فيها. فينتج من ذلك شخصيّة مُفكّكة ترى الدين أحدَ الموادَّ الدراسية التي يدرسها لينجح فيها؛ لا نظامَ حياةٍ ولا حقائقَ مطلَقَةً، تَنتُجُ شخصيَّةٌ لا تستطيع التَوفيقَ بين الوحي والعلم الرصديِّ التجريبيِّ؛ بل تراهما متعارضين، ولا تستطيع التوفيق بين عالم الغَيب وعالمِ الشَّهادةِ، شخصية تقبل بمعايير مخالفة للوحي في الحكم على الأشياء بأنها حق أو باطل، صواب أو خطأ، ولا ترى في ذلك تعارُضًا مع انتسابها للإسلام، تَقولُ له: (هذا الفعل محرَّمٌ)، فيجيبك: من حقِّ من يفعلونه أن يفعلوه ما دام لا يؤذيك. إلى جانب ذلك انتشرت في العالم الإسلاميّ في أواخر القرن التاسع عشر -وأثناء الاحتلال- ظاهرةُ الإرساليَّات التنصيريَّةِ، وكان من أوائلِ المدارس ظهورًا في بلاد المسلمين المدارسُ التنصيريَّةُ، والتي درَسَ فيها عددٌ من أبناء المسلمين، وتبوَّأَ عددٌ منهم مناصبَ عاليةً في الدول، لم يتنصَّرْ هؤلاء، لكن كان لديهم انفكاكٌ واضحٌ عن الهويَّةِ الإسلاميَّة. كرَدَّةِ فِعْلٍ على انتشار هذه المدارس التنصيريَّةِ وتأثيرِها وكذلك -على قُصور المدارس النظاميَّةِ- ظهرت فكرةُ ما يُسمَّى بـ(المدارس الإسلامية)، هل هي مدارسُ نشأَتْ لتُعيدَ بناءَ التعليم على القواعدِ التي ذكرْنا فيكون تعليمًا باسم الله، ينطلق من مرجعيَّة الوحي كحقيقةٍ مُطلَقَةٍ حاكمةٍ على العلوم، هدفُه إنسانٍ متكامِلُ المكوناتِ يعمل للغاية العُظمى ويُحقِّق الأركانَ التربويَّة التعليميَّة -التي ذكرنا؟ ولا يُظنُّ أنَّ هذه المدارسَ كانت لديها الكفاءاتُ اللَّازمةُ والرؤيَةُ الواضحةُ التي تُمَكِّنها من ذلك مع حالة الوهَنِ العامَّة في الأُمَّةِ، وإنَّما كان هدفُها حمايةَ الهُويَّةِ الإسلامية للأبناء، فأضافتْ هذه المدارس حصصَ تلاوةٍ، أعطَت جوائزَ لمن يحفظون القرآن، أقامت أنشطةً لتَحبيب الدين إلى الأبناء، استقطَبت معلِّمين ومعلِّمات محبِّين للدين، يُحاولون غرسَ قيمه في الأبناء ضمنَ المتاح، وهذه كلُّها أشياءُ طيّبةٌ ذاتُ أثرٍ مهمّ، لكنَّها لا تجعَل التعليم إسلاميًّا بالفعل، ولا تحقّقُ أركانَ بناء الإنسان التي ذكرنا. إدراك ذلك مهم؛ حتَّى يكونَ لدى المخلصين في هذه المدارس أهداف واضحة يسعَوْن لتحقيقها، وَمُهِمٌّ حتَّى لا يظنَّ الآباءُ والأمهاتُ أنّهم أبرؤوا ذمَّتهم بوضع أبنائِهم في مدارس تُقدِّمُ نفسها على أنَّها إسلاميَّة. مع مرور الوقت تحولت فكرة (المدارس الإسلامية) هي الأخرى إلى سلعة رأسمالية في بعض الحالات يُغرَى المستثمِر بأن سِلعةَ المدارس الإسلاميَّةِ رائجةٌ ومطلوبةٌ، يُعيَّن المعلمون والمعلمات الأقل تكلفة بغض النظر عن تحقُّقِ قِيَم الإسلام في ذواتِهم فضلًا عن قُدرتِهم على تَنْشِئةَ الأجيالِ عليها، لا يُعطى المعلِّم الراتب الذي يكفيه لتفريغِ ذهنه لمَهمَّة التربيةِ والتَّعليم، وقد تخلَعُ المعلِّمةُ الجلبابَ أو العبايةَ التي تفرِضُها إدارةُ المدرسةِ بمجرِّد وصولِها لمَصَفِّ السيارات، وتدْخُلُ هذه المدارسُ مِضمارَ المنافسةِ مع المدارس الأخرى بنفس معايير النجاح، فقلَّما تُفاخر بخرِّيجيها على أنّهم حقّقوا شيئًا من أركان بناء الإنسان التي ذَكَرنا؛ بل تُفاخِرُ بأن خرِّيجِيها حقَّقوا علاماتٍ في التسعينات في الثانوية العامة، وبالتالي يتأهَّلون للجامعة، الشهادةِ، سوقِ العمل، الوظيفةِ والراتبِ، وتَبقَى مع ذلك الإضافاتُ المعتادة لتسميَةِ هذه المدارسِ بـ"الإسلامية" كحصَّة التلاوة ورحلة العُمرةِ. ولا شكَّ أن المسؤوليَّةَ مُشتركَةٌ، فغيابُ منظومة التفكيرِ المرتبطةِ بالوحيِ ليست مُشِكِلَةَ المدرسةِ فقط، وإنما هي مشكلةٌ في المجتمع والأُسرَةِ أيضًا، والأهلُ شركاءُ مع المدارس في صُنعِ هُويَّة الأبناء، ومع هذا فللدّقَّة والموضوعيّة تبقى المدارس التي ترفع شعار القيم الإسلاميّة بالعموم أقلَّ ضعفًا من غيرها في تحقيق الأركان التربوية المتعلقة بهويّة الطالب الإسلامية كما ظهَر ذلك أيضًا في نتائج الاستبيان، وكثيرًا ما يعتمد ذلك على وجود معلمٍ أو معلمة أصحابِ رسالةٍ يتأثَّر بهمُ الأبناء، ومع ذلك فوَضْعُ هذه المدارس دُونَ المأمولِ بكثير. عالميًّا ظهرتْ فكرةُ برامجِ التعليم الدوليةُ (International) مثلَ الـ(IG) البريطانية ثم الـ(IB) والـ(SAT) الأمريكيين، وهي بالعموم -على تباينٍ فيما بينَها- أفضلُ من المناهجِ الحكوميَّةِ في بلادِ المسلمين من حيثُ تنميَةُ القدرةِ على الربطِ والتحليلِ والتطبيقِ وبناِء جوانبَ من الشخصيِّة ومواكبةِ المُستَجِدَّات العِلميَّة، وهو ما تَدُلُّ عليه نتائج الاستبيان أيضًا، وعلى تباين فيما بينها صُمِّمتْ هذه البرامج ضمن منظومة العولمة (Globalisation)، منظومةٍ تريدُ أن توجِدَ لغة تعاملٍ مشترَكة بين الناس من مختلف الثقافات والأديان لغايات الانفتاح الاقتصادي والعملِ المشترَك في آلة المنظومةِ الماديَّة الرأسماليَّة، وبعضُها يهتَمُّ أيضًا بتأهيل الطالب للحياة الاجتماعيَّةِ ويرفع شعارَ تعزيزِ السِّلم العالميِّ من خلالِ التعليم. هذه البرامج التعليميَّة تضعُ أُطُرًا (Frame works) لتحقيق نتاجات تعليميّة معينة، وتصوغُ اختبارات لقياس النتاجات، دُور النَّشر تَدرُس النتاجات أو الأهداف المطلوبة، وتُصدِرُ كُتُبًا لتحقيقها، هذه البرامج التعليميَّة والمناهجُ الموجودة لتلبيتها تتجنّب مصادمة الأديان بشكل مباشر؛ لئَلَّا يُحدَّ من انتشارها، فهي حريصةٌ على الربح والانتشار، عدمُ المصادمةِ المباشرةِ هذا قد يبدو جيِّدًا، لكن ما الذي حصل؟ الذي حصَل أن هذه المناهج تجاوزَتِ الأديانَ حقَّها وباطِلَها، ليست فيها مرجعيَّةٌ دينيَّةٌ، وإنْ تكلَّمت عن الأديان فإنَّما تتكلَّم عنها كجزء من ثقافات الأمم، والمسلمون لم يقوموا بعمل مناهجَ خاصَّةٍ بهم تنطلق من مرجعيَّة الوحي، تَجاوزُ الأديان كان لا بُدَّ له أن يُحدث فراغًا علميًّا وفراغًا قِيميًّا أخلاقيًّا، فسدَّت المناهجُ هذا الفراغَ بتفسيراتٍ للحياة على اعتبارِ أنَّها (علميَّةٌ)، وبِقِيَمٍ على اعتبار أنَّها (إنسانيَّةٌ) يَجِبُ أن يَتَّفِقَ عليها الجميعُ. - كيف نشأت الكائنات؟ سؤال يحتاج جوابًا. =لا تُحدّثني عن خالق؛ فالخَلقُ أمرٌ غيبيّ، = لا تفرِضْ عليَّ معتقداتِك، ولا أفرِضُ عليك معتقداتي، = نحترم معتقدات بعضنا، لكنَّ هذا ليس عِلمًا، تعالَ نصطلحْ على تفسيرٍ (علميٍّ) فوُضِعَ الغيبُ كلُّه في سلَّةٍ واحدةٍ مع أنَّ منه ما هو بلا دليلٍ بالفعل، ومنه ما يدلُّ على صحَّتِه العقل والفطرة و(الساينس)، وعلى رأس ذلك وجودُ الخالقِ كما بيَّنَّا بالتفصيل في (رحلة اليقين). لكنَّ هذه المناهج حصرَت العلم بـ(الساينس)، وبالتالي أُخرِجَ الغَيبُ من دائرةِ العلم بمفهومه الشامل، وسُلِّطت التفسيرات الماديّة على ما لا يدخل في اختصاصها كنشأة الكون والحياة، ودُرِّسَت "نظريةُ التطوُّر" على أنها علْمٌ يفسِّر وجودَ الكائناتِ، مع أنها -بنسخَتِها الشائعةِ المفترِضَةِ لظهور الكائنات صدفةً- هي الأخرى غَيبٌ لكن غَيْبٌ غَبِيٌّ مصادِمٌ للعقل والفطرة و(السّاينس)، كما بينَّا في (رحلة اليقين). الفراغ القيميّ الأخلاقيّ الناشئ عن تنحِية الأديان تم تعويضه بقِيمٍ أخلاقيَّةٍ عولمية مرجعيَّتُها بشريَّةٌ وليسَتْ من الوحي، فيُعلَّم الطالبُ أن يكونَ ذا مبادئَ، منها: تقبّل الآخر، وأن يحترمَ حقوقَ الإنسان، ويرفعَ قِيَمَ الحريَّة والمساوَاة والعدالةِ الاجتماعية (Social Justice)، ويكونَ مواطِنًا عالميا (Global Citizen)... شعارات برّاقة، لكن هذا الآخر المطلوب تقبله قد يكون شاذّا جنسيّا أو من عبدة الشياطين. حقوق الإنسان مَنْ يُعرِّفها؟ إذا لم يِكُنِ الوحيَ المحفوظَ من خالق الإنسان فحقوقُ الإنسانِ والعدالة الاجتماعية قابلةٌ للتغيُّر والتنازعِ وتشملُ ما حرَّمه اللهُ وتؤدِّي في النهايةِ إلى الاعتداء على حقوق الآخرين. الحرية والمساواة إذا لم يكونا مضبوطَيْن بضابط الحقِّ والعدل من وحيٍ محفوظٍ فإنَّهما ينتهيَان بمعارضةِ الحقِّ والعدلِ والحريَّة والمساواةِ كما بينا في حلقة (تحرير المرأة) مثلا، وكما رأينا -مثلا- من حوادث تجريم كاتبي المحاكم تسأله: كيف ستغرس في ابني هذه القِيَم والمعاني؟ إذا امتنعوا عن كتابةِ عَقد قِران رجلين على بعضهما لمخالفة ذلك لدينهم، يُجرَّمون لأنَّهم بذلك لا يحترمون حرِّيَّة الشواذِّ ومساواتَهم، وتنتهي المسألةُ بحريَّةٍ لفئةٍ على حسابِ فِئَةٍ، ولا يوجد حدٌّ فاصلٌ في ذلك لتمييز الحقِّ من الباطل؛ لعدم وجودِ مرجِعيِّةٍ من الوحي. لا يتعلَّم الطالبُ ذلكَ في هذه البرامج الدولية، بل تُكَرّسُ قِيم الحرية والمساواة على أنَّها المِسطَرةُ التي يُقَاس بها والمرجعيةُ التي يُحتكمُ إليها، هل هو مكفيٌّ مادِّيًّا وتلقَّى التدريبَ اللازمَ لهذا كلِّه؟ ولا يَخطُر بباله أصلًا أن يُحاكِمَ هذه القِيَمَ والمعاييرَ إلى مرجعيَّةٍ غيرِها، خاصَّةً وأنَّ هذه القِيم مُخْتَلطة بقِيَمٍ جيِّدة بالفعل يتعلَّمها في هذه البرامج، مثل: الاهتمامِ بالبيئة واللاجئين، ومشكلةِ الفقر… لكنَّه لا يتعلَّم تحقيق العبوديَّة بمعناها الشامل والمتضمِّنَةِ لكلِّ خير فيما سبق، ولا يتعلَّم إحقاق الحقّ -الذي أمر الله به- ولا إبطالَ الباطل ولا إنكارَ المنكر ولا العملَ للآخرة، فهذه مفرداتٌ مبنيَّةٌ على مرجعيَّةِ الوحي، وبالتالي تَشَكَّل من ذلك منظومةٌ كاملةٌ بديلةٌ عن الأديان ومنها الإسلام. هذه المنظومة هي في واقعها أشبه بدين جديد؛ دينِ العلمويَّة (scientism) والإنسانوية (humanism)، دينُ (Be a good person) كن شخصًا جيِّدًا بالتعريف المائع. الإسلام يقول عن الله -تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [القرآن 7: 54]، كما أنَّه هو الخالقُ فهو -سبحانه- الذي يأمُر وينهَى ويُحَلِّل ويحرِّم ويضَع للبشر المعايير الصحيحة في تقييم الأشياء، بينَما في هذا الدين العلموَيُّ الإنسانويُّ، الخلقُ مُفَسَّرٌ بلا خالقٍ، وبالتالي فالأمرُ والمعاييرُ والأخلاقياتُ يصوغها الإنسان في مَعْزلٍ عن الوحيِ. ما دَورُ الدين بعد ذلك إذن؟ ليس له دَورٌ في نَظَرِ الطالب، وإذا دُرِّس فإنه يَظهر مُقحَما إِقحامًا ومحشورًا حشرًا غيرَ مبرَّرٍ، وبالتالي لم تتمَّ مهاجمةُ الدين، ولا إنكارُ الغيب صراحةً، لكنَّه عُزِلَ وهُمِّش وتُرِك يذْبَلُ ويموتُ في نفوس الطُلَّاب، بل إذا تعلَّم الطالبُ من دينه شيئًا وقد أُسِّسَ بنظريَّةٍ معرفِيَّةٍ مشوَّهةٍ وبمعايير أخلاقيَّةٍ منقطعةٍ عن الوحي فإنَّ الطالبَ سيُحاكِم دينَه وشريعتَه وتاريخَه وقيمَه بِناءً على المعايير الخطأ، يُعلَّمُ الطالبُ مثلًا أن يكون مُتَسائلًا، جميل، التساؤلُ أمرٌ يحثُّ عليه الإسلامُ الذي يَمنَعُ من التقليدِ الأعمى، لكن حين يأتي الطالبُ المُسلم ليتساءلَ عن حقائقِ دينِه كوجود الخالق والنبوات والجنة والنار، فسيُحاكِم ذلك كلّه إلى المعيار المادي الذي تعلمه فيرى أن هذه الأمور ليست (scientific) وقد تكرَّس في نفسِه أن "العلمَ" محصورٌ في (السّاينس) فيتشكَّكُ في دينه، يتعلَّم الطالبُ أن دينَه يقولُ أن المشركين في النار، مع أن بعض هؤلاء المشركين هم في نظر هذا الطالب (good persons)؛ أشخاصٌ جيِّدون بالمعاييرِ الإنسانويَّة، فيشكُّ في عدالةِ دينِه اللغة التي يدرسُ بها الطالب هي الإنجليزية، والأمثلة والمحتوى والتطبيقات هي من تاريخ وثقافات وحضارات الأمم الأخرى، والأبطالُ والقدواتُ هم أبطالُ وقدواتُ الأمم الأخرى، هذه المناهجُ لا يُذكر فيها قدواتُ المسلمين ولا إسهاماتُ المسلمين في العلوم، فيتطبَّع الطالبُ المسلم بطباع الأمم الأخرى بعد أن تشرَّب ثقافتَها ونطَقَ بلسانها، وينْسَلِخ من لُغتِه، وبالتالي ينفصل عن فَهم القرآن والسنة ومعرفةِ تراثِه وتاريخه، ينسلخُ من هُويَّتِه وانتمائِه لدينه وأمتِه وتاريخِه، لن يكون همُّه بعد ذلك نهضةَ أُمَّتِه ولا إعزازَها، بل يضيقُ صدره بالعيشِ فيها؛ إذ يرى نفسَه جاء لعالم فيه إنجازات مادية ليس له إسهام فيه، لا هو ولا أجداده حسب ظنه، وتتوجَّهُ قِبْلةُ قلبه للبلاد التي درَسَ مِنْهاجَها، ومما يزيد تمسك الطالب بالتفسيرات الماديَّة والمعايير الإنسانويَّة واللغة الإنجليزيِّة وثقافةِ الأمم الأخرى اختلاطُ ذلكَ كلِّه بالمحتوى التعليميِّ القويِّ نسبِيًّا والمساعدِ على التفكيرِ والتحليلِ والتطبيق والابتكار في جوانب حياتيَّةٍ كثيرةٍ، وأسلوبُ التعليمِ الذي يُشَجِّعُ الطالب على الحوارِ، ويَزْرع فيه تقديرَ النفس، وهي العناصرُ الغائبةُ عُمومًا من عامَّة المدارس الأخرى. الأهالي يضعون أبناءهم في هذه البرامج، إما حرصا على تلقّيهم لتعليم قوي في هذه الجوانب، أو ليتكلَّموا باللغة الإنجليزية، أو لِتكونَ لهم فُرَصٌ أكثرُ في الجامعات العالميَّة أو ليدخُلَ الأهالي والأبناء في زُمرةِ الـ(Elite) [النخبة]، أو هروبًا من المناهجِ الحكوميَّةِ ومشاكلِها الكثيرةِ، ثم يأتي كثيرٌ من هؤلاء الأهالي -ممن عندَهم بقيَّةُ انتماءٍ للإسلام- يأتونَ بأبنائهم بعد أن ألحَدُوا أو انحرفوا سُلوكيًّا طالبينَ المساعدة -كما يخبرني أصدقائي العاملون في ملفِّ العلاجِ والإرشادِ النفسيِّ، ولا يَخفَى أن المُخرَج النهائيَّ للتعليمِ بهذه البرامج يتأثَّرُ كثيرًا بالمُدرِّس وبسياسةِ المدرسة، وكثيرٌ من مدرِّسيها في بلاد المسلمين هم من غير المسلمين أصلًا أو من الملحدين حتى. هل كلُّ مَن يدرُس في هذه البرامج الدوليَّةِ يصيبه ما ذكرنا؟ لا طبعًا، هناك مَن نجَّاه الله من الوقوع في هذه المشاكل الفكريَّةِ والعقَدِيَّة بتربية الوالدين أو بمصادرَ معرفيَّةٍ ومؤثِّراتٍ أخرى. قد تقول: حسنًا، أما كان ينبغي لنا أن نستفيد من هذه البرامج من المحتوى العلميِّ الحقيقيِّ والأساليبِ وطُرُقِ العَرض ونُطَوِّر نحن برامجنا المنطلِقةَ من مرجعيَّة الوحي؟ بلى، لكنَّ هذا لم يحصُل على نطاقٍ واسعٍ للأسف، المدارس التي تقدِّم نفسها على أنها إسلامية اعتمدَ بعضها برامج التعليم الدوليَّة، لكن يأتي هنا السؤال مرة أخرى: هل تضع هذه المدارس البرامج الدولية في إطار معرفي إسلامي؟ هل المُعلِّم قادرٌ على أن يلاحظَ مواطن الخللِ ويعالجَها بطريقةٍ صحيحةٍ؟ هل هو مُدرِكٌ لاختلاف فلسفةِ هذه المناهجِ ومنطلَقاتها وغاياتِها عما في ديننا؟ إذا مرَّ المُعَلِّم مثلًا بنظريَّة التطوُّر وقال لطلابه: (هذا مخالِفٌ لما في ديننا؛ لأنَّنا مسلمون ونعتقدُ بأنَّ الله -تعالى- خَلَقَ آدمَ) هل هذا كلامٌ شافٍ للطلَّاب أم أنه يجعلُهم يُحِسُّون بتعارض "العلم" مع الدين؟ هذه القضايا المتعلِّقةُ بنظريَّةِ المعرفةِ والتفريقِ بين العلم الزائف والحقيقيِّ نُعالِجُها في (رحلة اليقين)، وقد عبَّر عددٌ من المُعَلِّمين في البرامج الدوليَّةِ عن أنَّهم استفادوا منها في تدريس طُلَّابِهم -بفضل الله، لكنْ ماذا عن الغالبيَّة العُظمى منهم؟ وهل تُترك المسألة لاطِّلاع كلّ معلِّم على حدةٍ ولمجهودِه الشخصيِّ بدلَ أن تكون سياسةً تَعملُ عليها المدرسةُ التي تقدِّم نفسَها على أنها إسلامية؟ عددٌ من الطلَّاب الذين يُلحِدون أو يَتشكَّكُون يحصُل لهم ذلك بعد أن يدرُسوا في المنهاج الدوليِّ مساقاتِ نظريِّةِ المعرفةِ (Theory of Knowledge) والتي تُدرَّس بطريقةٍ تحصُر العلم بـ(الساينس)، وتستثني الغيبَ الذي يدلُّ عليه العقلُ والفطرة والـ(ساينس)، وتسد مكانه بغيبيات مفترضة معارضة لذلك كله. إذا أحسن المعلم المسلم فهم نظريَّة المعرفة الإسلامية وقدَّمها لطلابه بشكل مبرهِن رصين فإنَّه يبني لديهم القاعدةَ التي تُهيِّئُهم للانتفاعِ بما يدرُسونه من علوم بعدها. إذن فنحن أمامَ أزمةٍ تعليميَّةٍ مركَّبةٍ من غيابِ مناهجَ تناسُبنا كأمَّةٍ مسلمة تنطلق من مرجعيَّةِ الوحي ومن نظريَّةٍ معرفيَّةٍ متكاملةٍ رصينةٍ، ومن غيابِ تأهيلِ المدرِّسين لتقديم هذه المناهج، ومن غيابِ تبنِّي هذا المشروع على مستوى الدُول والمدارسِ بأشكالِها. حسنًا، ما الحلول المقترَحة لمشكلة التعليم؟ لا بدّ أن ندرك -إخواني- أنَّ مشكلة التعليم لا تُحلُّ بمَعزلٍ عن مشاكلِ الأُمَّة السياسيَّةِ والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ولا وهي في حالةٍ من التبعيَّة، ولا بدَّ أن ندرك أن تَرْكَ المنظومة المدرسيَّةِ دون وجودِ بديلٍ مُتَبَلْوِرٍ قد يكون ضَرُّه أكثرَ من نفعه، وعلينا أن نحذَر من الحماس في تجنيب أبنائنا هذه المضارَّ ثم نتركُهم في فراغٍ لا نملؤُه، مما قد يؤدي إلى انتكاسةٍ وفتنةٍ. ومع ذلك فما يمكن عملُه كثيرٌ وكثيرٌ جدًّا، وما بوُسعنا عملُه لا يجوز لنا التقصير فيه. - أوَّلًا: نشر الوعي:- أن ندركَ جميعًا خُطورَةَ الأمر، ونصحوَ من وَهْم التعلم الذي يُقدَّم لأبنائنا في عامَّة المدارس، ونجعلَ الأركان التربويَّة التعليميَّة الثلاثينَ التي ذكرناها في بُؤْرةِ تركيزِنا هي أو غيرها مما يؤدّي فكرتها، فنحن لا ندّعي كمالها وإنما نضع بذرة قابلة للنقد والتطوير علينا أن ننشرَ الوعي بهذه الأزمةِ التربوية وبهذه الإحصاءات وبهذه الأركان التربويَّة وبالملامح الخمسة المذكورةِ للتعليم في الإسلام، ونطالبَ بها على كلِّ مستوى، وعندما نأخذ أبناءَنا إلى المدارس نسأل إداراتِها: هل تقتنعون بضرورةِ هذه الأركان والمنطلقات؟ إن كان الجواب (نعم) فماذا بذلْتم في سبيل تحقيقِها؟ أرونا برامجَكم ووسائلَكم ونتاجَكم السابقة في هذا، مُفرداتُ هذه الأركان كثيرٌ منها غائبٌ من قواميسِنا، غائبٌ من ذاكرتِنا ووَعينا، فعلَينا إحياؤها من جديدٍ. - ثانيًا: إعطاءُ الأولويَّة:- أن نعطيَ لهذه الأركان الأولويَّة في أن تُزرَع في أبنائِنا ونتخذ شتَّى السبُل لذلك… أقبل على الروح فاستكمل فضائلَها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [القرآن 6: 66] ما ذكرْنا من أركانٍ تربويَّةٍ تعليميَّةٍ ينهض بدُنيا أبنائنا ودينِهم لا بدينهم فقط، وهو أَدعَى لأن يكونوا قُرَّةَ عينٍ لنَا، بارِّين بِنَا، طريقًا لنا إلى الجنة، رفقاء لنا فيها بإذن الله، عظّم هذه الأركان في نفس ابنك، وأعطِ للمدرسة حجمها المناسبَ. علينا أن نكفّ عن إشعار أبنائنا بأن مهمّتهم في الحياة الاختبارُ والعلامةُ والشهادةُ، وأنْ نعطيَ الأولويةَ للقراءاتِ والمطالعاتِ والدوراتِ والأنشطةِ التي تحقِّق هذه الأركانَ المذكورة، وأن نتمثَّلَها في أنفسنا لنكون لهم قدوةً. - ثالثا: سدُّ الفراغ:- نحن في زمنٍ أُتيح فيه التواصلُ عن بُعدٍ، ولم يعُد التعليم محصورا بين جدران المدرسة، فجديرٌ بنا أن نبدأَ العمل على تصميم برامجَ تنطلقُ من المنطلَقاتِ الإسلاميَّة وتُحقِّقَ الأركان المذكورَةَ، ونعملَ على التوفيقِ بين من يقدِّمونها -ممن يشاركوننا الهمَّ والرؤيةَ- ومن يتلقَّونها من أبنائنا، وهذا أيضًا سيكون فيه مُتَنَفَّسٌ للعوائِل المسلِمةِ في الدول الغربيَّة والذين يشتَكون بحُرقَةٍ قائلين: أبناؤنا يضيعون منا في المدارس. هناك جهود بُذِلت في هذا المجال، تحتاج تنسيقًا وأن يُثريَ بعضُها بعضًا بالخبرات. - رابعًا: إحياءُ مفهوم المؤدِّب:- كان الناس في عصور الازدهار الإسلامي يأتون لأبنائهم بمن يُعلِّمهم ويصقُل شخصيَّاتِهم، ليس المطلوبُ تحفيظَ القرآنِ فحسب؛ بل مؤدبٌ متكاملُ الشخصيَّةِ يتمثَّل ما ذكرناه من أركانٍ في نفسه؛ ليكونَ قادرًا على تنشئةِ ابنك علَيْه، يُرافقُه إلى السوقِ، إلى الأنشطةِ، يوجِّهُه عمليًّا، وكذلك مؤدِّبَةٌ لبناتِك، هذا لا يُعفي الأب أو الأمَّ من المهمَّة، لكنه يعينُهما، والأبناء يستجيبون للغريب عنهم أكثر من الوالدين المألوفين في كثيرٍ من الأحيان. الأركانُ الَّتي ذكرنا تَصلُح لأن تكون عقْدًا بينك وبين هذا المؤدِّب، أيَّ الكتبِ والسلاسلِ ستعتَمِدُ؟ أيَّ الدورات والمحاضرات والأنشطةِ؟ ولا تتوقعْ أن يقومَ المؤدِّب بهذه المهمَّة تطوُّعًا بلا مقابلٍ، علَينا أن نتوقَّف -إخواني- عن استرخاص إنسانيَّة أبنائنا، كما أنك تسخو لتحسّن لغة ابنك الإنجليزية أو لدروس خصوصيّة ليتميَّز في الثانوية العامة، فأَوْلى بك أن تسخوَ لصلاح دنياه وروحِه ونفسِه وآخرتِه، وما تبخلُ بإنفاقِه في ذلك ستنفِقُه على أمراضِه النفسيَّةِ وعلى طيشِه ووسائلِ ترفيهٍ ضارَّةٍ يُدمِنُ عليهَا لتملأَ روحَه الخاويةَ، وفوقَ ذلك خسارتُه وضياعُ دينِه. هل الشباب والفتياتُ المؤهلُّون لدور المؤدِّب موجودون؟ نعم، خاصَّة في آخر المرحلةِ المدرسيَّة وبداياتِ الجامعيَّة، لكن مع قِلَّة ذاتِ اليدِ سُرعانَ ما يدخلون -هم الآخرون- في دوَّامة الوظيفة والبحث عن لقمة العيش. - خامسًا: المزيج المطلوب:- إخوانَنا وأحبائنَا طلَّابَ الجامعات مِمَّن يحمِل همَّ أمَّته، أتقنوا تخصُّصاتكم! وفي الوقت ذاته اطلبوا العلم الشرعيَّ في دوراتٍ نافعة كدورة (صناعة المحاور)، والتي تؤسِّس المسلم فكريًّا وعقديًّا، وترسي له القواعد التي يبني عليها بالعلم النافع، فالأمَّة في أَمَسِّ الحاجة إلى من يحقِّقُون هذا المزيجَ المتناغمَ من التمكُّن في العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّةِ والشرعيَّة معًا ويكونون قدوات تبعث العزَّة في أبنائنا وعلى أكتافِهم يقومُ التعليم النافع -بإذن الله. -سادسا: [إلى المستثمرين في التعليم]: أيها المستثمرون في التعليم! أنتم تتعاملون مع أخطر استثمارٍ؛ الاستثمارِ في الإنسان، قد تعيِّنون معلِّمين ومعلِّمات بأدنى راتبٍ ممكنٍ، ثم تُنفقون من الأرباح في بناء المساجد ورفع المآذن والقِباب وزخرفتِها، لمن تَبنون والأجيالُ تُصَدُّ عن دينها؟! أولى بكم تخصيصُ مبالغَ لتأهيلِ المعلمين ليَتَشرَّبوا مرجعيَّة الوحيِ، ويتشرَّبوا منه نظريَّةَ المعرفةِ الإسلاميَّة، ويجعلوه بعد ذلك الروحَ السارية فيما يتعلَّمه أبناؤُنا وبناتُنا، وأن تَكْفُوهم ماديًّا برواتبَ جيِّدةٍ لتتفرغَ أذهانُهم لهذه المهمَّة، وهذا يحتاج أيضًا تفكيرًا على المدى البعيد بتبنِّي الأذكياء الأنقياء من الشباب في مراحلِ الدراسةِ المبكِّرة وقبل التخصُّصِ ليكتسبوا العلوم بهذه الرؤية، ولا تتوقَّعوا أن تواجهَ الجهودُ العالميَّةُ الجبَّارة ببعضِ المظاهر والأنشطة الإسلاميَّة وإن كانت نافعةً. -سابعا: [إلى المعلمين والمعلمات]: مع كل ما ذكرنا، لا نُنكِر أن هناك معلِّمين ومعلِّماتٍ في البرامج العادية والدولية لديهم هُويَّتُهم الإسلامية وغَيْرَتُهم على دينهم، فنُذكِّر هؤلاء بمهمَّتهم العظيمةِ والثغرِ الخطير الذي يقِفون عليه، ونسأل الله أن يوفقهم ويعينهم. ولنتذكَّر ختامًا -إخواني- أن الله لم يجعل مصائرَنا بأيدي غيرنا؛ بل بيدِه وحده -سبحانه، وهو القائل: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [القرآن 64: 16] ومن أعظم التقوى تقوى الله في تعليم أبنائنا، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [القرآن 65: 2]. كان هذا استطرادًا لازمًا في التهيئة لموضوع تعليمِ المرأة الجامعيِّ، والذي سنُناقشُه في الحلقة القادمة -بإذن الله. والسلامُ عليكم ورحمة الله.