السلامُ عليكم. جئنا إليها وهي منطلقةٌ كما في كلِّ يومٍ. - إلى أين يا فتاة؟ - إلى الجامعة، ثم إلى الوظيفة، إلى سوق العمل، إلى الإعلام - ماذا تريدين من ذلك؟ - أريد أن أثبت نفسي. - تثبتينها أمام مَن؟ - أمام نفسي، كي أحترم نفسي - كيف؟ - بالنجاح في الدراسة والعمل. - ماذا ستُثبتين لنفسكِ بذلك؟ - أنِّي لستُ أقلَّ من قريناتي ذكاءً ولا همَّةً ولا إنتاجيَّةً. - حسنًا، ومَن قال إنَّ هذه هي المعايير الصحيحة لتقييم نجاحكِ بصفتك امرأةً؟ مَن قال إنَّ الإنتاجيَّةَ هي الإنتاجيَّةُ في العمل الوظيفيِّ والمهنيِّ؟ - هذه هي المعايير التي يتعامل بها الناس. - إذن، فأنتِ تُثبتين للنَّاس وفقًا لمعاييرهم هُم! - نظرتي لنفسي ستتأثَّر -رغمًا عنِّي- بنظرة الناس إليّ. - هل أنت ناجحةٌ حقًّا وقويَّةٌ حقًّا إذا رهنتِ نظرتكِ إلى نفسكِ بنظرة الناس إليكِ وتقديرهم لنجاحكِ؟ هل ترهِنين سعادتَكِ بتحقيق النجاح وِفق المعايير التي يفرضها الناس؟ هل الناس هم الذين لهم الحقُّ أن يحدِّدوا متى تكونين ناجحةً ومتى تكونين فاشلةً؟ هل معاييرهم هي الحقُّ المُطلق لتشغلي بالك بها؟ ماذا إذا تغيَّرت معاييرهم -وهي حقًّا تتغيَّر مِن زمنٍ إلى آخر- هل ستحاولين تحقيق النجاح بمعاييرهم الجديدة؟ هل أنت تضمنين الاستقرار النفسيَّ بذلك؟ حسنًا، ماذا إذا لم تُثبِتي لهم أنَّكِ ناجحةٌ بمعاييرهم؟ - سأشعر بالفشل! - حسنًا، وإذا كنتِ ذكيَّةً صاحبةَ همَّةٍ، لكنَّ المجتمع ظلمكِ، نظامَ التعييناتِ ظلمكِ، اخْتِيرَت غيرُكِ للوظيفة؛ لأنَّها أجمل منكِ؛ لا لأنَّها أكثر كفاءة، هل ستشعرين بالفشل؟ لماذا ترْهنين حياتكِ بنظرة النَّاس لكِ؟ هل هدفكِ في الحياة نظرة الناس؟ بل هل تساءلتِ ما هدفك في الحياة؟ هل فكَّرتِ في: مَن أنتِ؟ لماذا أنتِ هنا في هذه الحياة؟ ماذا تريدين؟ إذا حدَّدتِ هدفكِ فإثباتُ النَّفس والبحثُ عن الذات يأتي تِلقائيًّا؛ لأنَّكِ ستجدينها في تحقيق هدفك. أنت -كونك مسلمةٍ- أليست لكِ أهدافٌ تميِّزكِ عن غيركِ؟ - لكن أنا أريد أن أحقِّق ذاتي بما لا يخالف ديني، فأخرج لميادين الدِّراسة والعمل وأنا ملتزمةٌ بحجابي. - هذه الطريقة هي أَسْلَمَةٌ سطحيَّةٌ لمفهومٍ مستورَدٍ، وكأنَّها خَتمٌ خارجيٌّ دون النَّظر في جذور الفكرة نفسها. القضيَّة ليست: (ماذا تلبسين) في المقام الأوَّل، بل المحرِّكُ الذي يدفعكِ إلى هذا العمل، وقيَمُكِ ومعاييركِ التي تقيِّمين بها الأمور. تحقيق الذات في الغرب مبنيٌّ على نظرتهم للحياة، النظرةِ الفرديَّة التي تُعرِض عن الله وما حدَّده للناس من أهدافٍ ومن أدوارٍ في هذه الحياة، ولا تحسِب حسابًا للآخرة، مرتبطٌ بسياقهم الاجتماعيِّ والثقافيِّ، مرتبطٌ بتعريفهم هم للسعادة والنجاح. أمَّا نحن فأمَّةٌ لها هدفها ومعاييرها، ولها قيمُها وتعريفاتها ونظرتها للكون والحياة، فلا أحقِّقُ ذاتي بعيدًا عن تحقيق غاية وجودي، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [القرآن 6: 162]، فكلُّ حياتي عبادةٌ، وأنا أسعى لتحقيق نجاحي في هذه العبوديَّة لله، وأنا مؤمنٌ تمامًا أنَّه متضمِّنٌ لسعادتي ونجاحي؛ إذْ أومن بوعد الله -تعالى- القائل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [القرآن 16: 97]. في مقابل المفهوم الغربيِّ الذي ألَّه الإنسان وشهواته وأعرض عن العبوديَّة، فانطبق عليه قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [القرآن 20: 124]. ألم يحدِّد خالقكِ -سبحانه- الذي تؤمنين به أهدافًا نهائيَّةً وقال: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [القرآن 83: 26]؟ وأعطاكِ خريطة الطريق لهذه الأهداف، فمَن له الحقُّ بعد ذلك في تحديد معايير النجاح وأولويَّاته؟ الناس أم ربُّ الناس الذي خلقكِ وخلقهم، ورزقكِ ورزقهم، وبيده سعادتكِ وسعادتهم، وشقاؤكِ وشقاؤهم، وإليه معادكِ ومعادهم؟ ماذا إذا كانت معايير الناس فاسدةً ولا تحقِّقين النجاح في نظرهم إلَّا بإغضاب ربِّ الناس؟ ماذا -في المقابل- إذا كنتِ ناجحةً مَرضِيَّةً عند ربِّ الناس، وقمتِ بأعمال لم يطَّلع عليها إلَّا هو -سبحانه- ولم يرها الناس ولم تُثبتي لهم بها أيَّ شيءٍ، هل ضاعت هذه الأعمال، ولن تُسْهِمَ في نظرتكِ لنفسكِ واحترامكِ لذاتكِ؟ إذا لم تراعي هذا كلَّه وأصررتِ على إرضاء الناس، هل تظنِّين أنَّكِ ستخسرين في الآخرة فقط، وتحقِّقين السعادة والطمأنينة في الدنيا؟ أم ستكونين كمن قال الله فيهم: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا... ...وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [القرآن 18: 28] فينفرِط عليكِ عقد الحياة فلا تطمئنُّ نفسكِ، ولا تُرضِين ربَّكِ، ولا تستقيم علاقاتكِ بالآخرين، كما رأينا في الحلقات عن المرأة الغربيَّة. أيُّهما الصواب: أن تقدِّري ذاتَكِ بعيدًا عن نظرة الناس لها؟ أم أن تجعليهم الحَكَم؟ أن تجعلي هدفكِ ثابتًا، أم مضطربًا تضْطَربين معه؟ أن تقيسي نفسكِ بميزانٍ ربَّانيٍّ عادلٍ، أم بنظرةٍ بشريَّةٍ قاصرةٍ؟ أن تجمعي قلبكِ على رضى الله، أم تُبعثريه في وديان الناس؟ أن تزكِّي نفسكِ وتجاهديها لتستقيمَ على هذا كلِّه؟ أم تستسلمي لها ولضعفها؟ قد تقولين: حسنًا، هذا الكلام ماذا يختلف فيه الرجال عن النساء؟ هل النساء هنَّ المطالَبَات به دون الرجال؟ بل هو للرجال والنساء على حدٍّ سواء، بل ولنفسي وللدُّعاة والموجِّهين كما لسائر الناس. وعندما يُقال: "إنَّ على من يتصدَّى للدَّعوةِ والتَّوجيه أن يعتنيَ بعلاقته بالله" فلأجل هذا؛ لأجل أن يخرُج بنفسٍ قويَّةٍ تَفيضُ على النَّاس بما يَلزمهم، لا بنفسٍ هشَّةٍ، فيُحاوِلَ إثباتَ نفسِه أمامَهَم، ويرهَن نظرته لنفسه بمديحهم فيُسمِعَهُم ما يشتهون لا ما يحتاجون، على طريقة إسلام السُّوق. فكلُّ ما سبق خطابٌ عامٌّ للرجال والنساء، لكنَّنا نرى شقاء المرأة وتعبها أكثر، من مخالفة ذلك، فخروجها للناس بمفاهيمَ غيرِ منضبطةٍ -تريد أن تثبت ذاتها لهم بالمعايير الماديَّة والرأسماليَّة المفروضة- يجعلها عُرضةً للإذلال والاستغلال، كما رأينا في حلقة (المرأة الغربيَّة). فتحتاج المرأة مزيد مجاهدةٍ وتزكيةٍ لنفسها، لتخرج -إن أرادت أن تخرج- بنفسٍ ممتلئةٍ تريد أن تفيض على الآخرين، لا بنفسٍ جَوْعى تنتظر مِن الآخرين أن يملؤوها بالتقدير والعاطفة. تخرج بنَفْسٍ مستغنيةٍ قويَّةٍ، كفى الإسلامُ حاجاتِها بنظام القوامة أو الأبوَّة الصالحة، لا هشَّةٍ محتاجةٍ قابلةٍ للاستغلال في زمنٍ يكثر فيه ظُلم القويِّ للضعيف، رجلًا كان أو امرأةً؛ لأنَّ القِيَم الماديَّة تحلُّ فيه محلَّ قيم الإسلام. تحتاج المرأة أن تُعِزَّ نفسها لتعامِل الناس بشروطها المستمَدَّةِ مِن دِينها، لا بالشروط التي يفرضها السَّاسةُ والرأسماليُّون والمستعبِدون للبشر ومن لا يحترمون دينها. قد تقولين: لكن أنا ليس في بالي موضوعُ أن أثبت نفسي ولا ما شابه، وإنما أريد الشهادة والعمل للأيَّام حتَّى لا أكون عالةً على أحدٍ، فأنا قد لا أتزوَّج، وإذا تزوَّجت فلا أريد أن يستغلَّ زوجي حاجتي له. أو قد تقولين: أنا أعمل لأنِّي بحاجةٍ إلى المال لأنفق على نفسي أو على عيالي كمطلَّقةٍ، أو حتى على والديَّ. هذا موضوع سنطرحه أيضًا -بإذن الله- ومع ذلك فما نذكره في حلقتنا اليوم يلزمنا جميعًا -ذكورًا وإناثًا- أيًّا كان دافعنا للعمل والنجاحِ فيه. عندما تتميَّز المرأة المسلمة عن غيرها بهويَّتها الإسلاميَّة وتجعلُ هدفَها تحقيقَ العبوديَّة لله بمفهومها الشاملِ، وتجمعُ قلبَها بهذا الاتجاه، فإنَّ هذا يعني التزامها بالأولويَّات والأدوار التي حدَّدها الإسلام بما يحقِّق مصلحتها ومصلحة المجتمع، بتوازنٍ دون تضييع حقِّ أحدٍ. فهناك مستويات من النجاح للمرأة: النجاح في الأساسيَّات، والإضافيَّات، والاستثنائيَّات. أولًا: النجاح في الأساسيَّات -وهي فروض العين التي تجب على كلِّ امرأة: علاقتُها مع الله بالتوحيد الصافي، والابتعادُ عمَّا يخدش التوحيد، بالخضوع والاحتكام لله في أمرها كلِّه وأداءِ الفروض. علاقتُها مع نفسها بتقبُّل نفسِها وحبِّها؛ بأن تحمِل نفسَها على الخير وتُجنِّبها الشر. أدوارُها الأسريَّة ابنةً كانت أو زوجةً أو أمًّا أو أختًا. طلبُ العلم الذي يُعينها على أداء واجباتها في هذا كلِّه. النجاحُ في هذا المستوى ممَّا يجب على كلِّ امرأةٍ وفتاةٍ بلا استثناء، ومِن جمال الحنيفيَّة السَّمحة التي بُعث بها نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ نجاح المرأة في صُلب الأساسيَّات -في ذاتها وعلاقتها بربِّها- هو نجاحٌ ميسَّر، يعبِّر عنه قوله -صلى الله عليه وسلم: «إذا صلَّتِ المرأة خَمْسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنَّة من أيِّ أبواب الجنَّة شئتِ» [مسند احمد]. نعم، عليها واجباتٌ بعد ذلك في التزكيَّة وبرِّ الوالدين والتربيَّة، والنجاح في هذا كلِّه أمرٌ عظيمٌ ليس بالسهل إلا على من وفَّقه الله، ولهذا فهي تقرأ في صلاتها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [القرآن 1: 5]. الرجل -بالمناسبة- مخاطَبٌ بنفس الأولويَّات، مطالَب بإعطاء الأولويَّة لنفسه وتزكيتها، ثم لأسرته، وهذا كلُّه ضمن المستوى الأوَّل الأساسي من النجاح، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [القرآن 66: 6]، «ابدأ بنفسك ثمَّ بمَنْ تَعُول» [المغني لابن قدامة]. لكنَّ الرجل له أدوارٌ إضافيَّةٌ؛ فهو مكلَّفٌ برعاية المرأة، أبًا كان أو زوجًا أو أخًا أو ابنًا، مكلَّفٌ بحمايتها والإنفاق عليها، وكفاية حاجاتها وتوفير السكن لها. وكذلك على أولاده؛ مكلَّفٌ بالإنفاق على أولاده وحمايتهم، فنجاحه في ذلك هو من الأساسيَّات التي يأثم إذا قصَّر فيها. فالأولويَّات للرجل والمرأة واحدةٌ، لكنَّ طبيعة الأدوار المحدَّدة من الخالق لكلٍّ منهما تختلف بما يناسب طبائع الجنسين. المهم جدًا هنا أن تعرف الأنثى أنَّها إنْ نجحت في هذه الأساسيات فعليها أن تشعر بالرضى والتقدير لنفسها، بغضِّ النظر عن إثبات نفسها للآخرين، عليها أن تشعر بتقدير نفسها لأنَّها بالفعل حقَّقت غاية خَلْقها، وأثبتت نفسها كما يحبُّ ربُّها، أمام نفسِها وأمام أهلها الذين هم بحاجتها حقًّا وهي بحاجتهم حقًّا كذلك. فهنا ميدان التنافس الأهمُّ، إن نجحتِ فيه فأنتِ بذلك علامتُكِ كاملةٌ، أي لستِ محتاجةً إلى النجاح حتى تبحثي عنه، ذاتُك ليست ضائعةً لتبحثي عنها، ولا منكَرَةً لتُثبتيها، إن نجحت في هذه الأساسيَّات. المستوى الثاني من النجاح: مساهمة المرأة مباشرةً -دون واسطةٍ- في النفع العام، بأن تكون معلِّمةً أو طبيبةً أو غير ذلك ممَّا يناسب طبيعتها. ونحن نسمِّي هذا الشكل (مساهمةً دون واسطةٍ) لأنَّ المرأة عندما تؤدِّي دورها الأسريَّ فإنَّ كلَّ نجاحٍ للرجال هو نجاحٌ لها، فهي من فريق عملٍ واحدٍ يهدف لإعلاء كلمة الله، ولتحقيق استقلاليَّةَ الأمَّة اقتصاديًا، والاستخلاف في الأرض، والتمكين للمسلمين فيها. فالمرأة تسند ظهور الرجال في ذلك، وتوفِّر لهم بيئة الاستقرار النفسيِّ والإنتاج، وتربِّي جيلًا ناجحًا، فنجاحهم نجاحٌ لها. إذا تحرَّرت المسلمة عن النظرة الرأسماليَّة فإنَّ عملها ضمن فريق عمل الأسرة هذا لا يقلُّ عندها أهميَّةً عن عملها الظاهر للناس؛ ففي الإسلام: «إنَّما الأعمال بالنيَّات» [صحيح البخاري]، والذي يحدِّد المعايير ليس البشر بل ربُّ البشر، وربُّ البشر -سبحانه- جعل الإعانة كالفعل، فالدالُّ على الخير كفاعله، فالمرأة التي تُعين الرجال على الخير وتحمي ظهورهم بالعناية بالبيت والأسرة لها مثل أجرهم، والله مطَّلعٌ على عملها، ويجزيها به. لكنْ في المنظومة الماديَّة لا بدَّ أن يرى الناس أرقامًا لتثبت المرأة نفسها لهم. حسنًا، فإذا استطاعت المرأة أداء واجباتها في الأساسيَّات، وأرادت بعد ذلك أن تعمل خارج نطاق الأسرة فيما يناسب طبيعتها من أعمالٍ مباحةٍ في ظروفٍ شرعيَّةٍ، وبإذنٍ ممَّن له قوامةٌ عليها؟ جميلٌ، وقد يدخل بعض ذلك في فروض الكفايات، وهو من أشكال عمارة الأرض وتحقيق العبوديَّة بمفهومها الشامل، لكنَّ النجاح في هذا المستوى يخاطب به قِسم من النساء، وليس واجبًا عليهنَّ جميعًا، فإن قام به قسم من النساء والفتيات تحقَّقت الفائدة، واللواتي يقمن به لا يقمن به لإثبات ذاتٍ ضائعةٍ، بل لتلبية حاجةٍ حقيقيَّةٍ. أين المشكلة إذن؟ المشكلة عندما يخاطَب بهذا المستوى الثاني من النجاح (100%) من الفتيات والنساء، هنا يحدث خلط الموازين واختلال الأولويَّات، عندما تُبنى ثقافة المجتمع على إقحام كلِّ الفتيات في هذه الميادين دراسةً وعملًا على أنَّها معيار النجاح الوحيد. المشكلة عندما تُبنى المنظومة التعليميَّة والإعلاميَّة بطريقةٍ عولميَّة تهدم الحدود الفاصلة بين أمَّة الإسلام وسائر الأمم لصالح الساسة والرأسماليِّين، فيأزُّونها أزَّ الشياطين لتشعر بالنقص والدونيَّة والفشل، ويروِّجون لها وللمجتمع معاييرهم الماديَّة في تقييمها بدل المعايير الربانيَّة. كلُّ هذا مع تهميشٍ تامٍّ لمستوى النجاح الأوَّل الأساسيِّ، ألا وهو بناء شخصيَّةِ أنثى سويةٍ مستقرَّةٍ مطمئنةٍ متوازنةٍ واثقةٍ، مصطلِحةٍ مع نفسها، مقدِّرةٍ لذاتها، ناجحةٍ في علاقتها مع ربِّها، وفي أداء أدوارِها الأسريَّة التي لا تقوم إلَّا بها. يهمِّشون هذا كلَّه، بل ويعملون على تدميرها نفسيًّا في مستوى النجاح الأساسيِّ، فيُشوِّهون علاقتها بربِّها وعلاقتها بنفسها، ويشحنونها شحنًا عاطفيًّا مشوَّهًا بمسلسلاتهم وأغانيهم وأفلامهم. وفي الوقت ذاته يشوِّهون لها مؤسَّسة الأسرة والزواج الحلال، ويزرعون فيها النِّديَّة مع أوليائها من الرجال، ويُهمِلون النجاحات والناجحات في المستوى الأوَّل، الناجحات في علاقاتهنَّ الأسريَّة وفي التربيَّة. ثمَّ يقولون للفتاة: اخرجي، تعالي إلى ميادين الجامعة والعمل، تخلَّصي من الإحساس بالنقص والفشل! فتخرج الفتاة لميادين الدراسة والعمل وهي هشَّةٌ، ضعيفةٌ، قلِقةٌ، ضائعةٌ، ويصبح العمل هدفًا تهدر لأجله مِن نفسها وإيمانها، فتزداد فشَلًا في مستوى النجاح الأساسيِّ، ويصبح عملُها مذلَّةً لها ووسيلةً لاستعبادها مِن قِبل الساسة والرأسمالييِّن، إذ تعمل في الظروف التي يُمْلونها هم، بالشروط التي يريدونها هم، لتحقِّق ذاتها التي أوهموها أنها ضائعةٌ وستجدها عندهم. فتعاني المرأة وتعاني الفتاة، ومع ذلك فالذين أزُّوها أزًّا لتخوض هذه الميادين يهمِّشون الآلام والمشاكل التي تتعرَّض لها الأنثى في هذه الميادين، من ناحيةٍ بدنيَّةٍ ونفسيَّةٍ وأسريَّةٍ ومجتمعيَّةٍ، ليقع المزيد من الضحايا في هذه الدوَّامة. المشكلة هي حينما تنطلق الفتاة إلى مستوى النجاح الثاني الاختياريِّ غيرِ اللازم لكلِّ الفتيات، وهي فاشلةٌ في المستوى الأساسيِّ الأوَّلِ، فتنطلق بلا نفسيَّةٍ محصَّنةٍ، ولا رؤيةٍ واضحةٍ، ولا معاييرَ منضبطةٍ، ولا دوافع صحيحةٍ، فتجني على نفسِها، وتبحث عن ذاتها الضائعة في المكان الخطأ. وقد تتزوَّج وتشكِّل أسرةً وهي بهذه الصفات، فتنتج للأمة المزيد من هؤلاء الأفراد على شاكلتها. هنا سيقول لنا كثيرٌ من الفتيات والنساء: لكنَّني أستطيع أن أجمع بين النجاحين في نفس الوقت؛ النجاح في الأساسيَّات، والنجاح في العمل المهني. لن أجيبكِ بتوقُّعاتٍ مستقبليَّةٍ بل بواقعٍ مشهودٍ، ما الذي يحصل من جرَّاء هذه القناعة في الواقع؟ عندما تدخل المرأة في دوامة العمل الوظيفيِّ النمطيِّ بدوام (8) ساعاتٍ وتوابعها، ماذا ستبقي لها من طاقةٍ؟ وعن أيِّ نجاحٍ في المستوى الأوَّل نتكلَّم؟ ألا يصبح كثيرٌ من واجبات المستوى الأساسيِّ بالنسبة لها أمانيَ مؤجَّلةً تنضم لقائمة (سوف أعمل)، في حين أن العمل الوظيفيَّ لا يسعُها تأخيره؟ وتمرُّ على ذلك الشهور والسنين. ألا نرى نتاج ذلك من نساء حاملاتٍ لمسؤوليَّاتٍ فوق طاقتهنَّ، متوتِّراتٍ نفسيًّا، مشتَّتاتٍ شاعراتٍ بالتقصير والضياع وعدم الرضا عن أدائهنَّ في كلِّ شيءٍ غالبًا، وما ينتج عن ذلك من مشكلاتٍ نفسيَّةٍ وتربويَّةٍ لديها ولدى أبنائها، وتفكُّكٍ أسريٍّ، ليس بالضرورة أن يكون طلاقًا، بل لطالما قامت بيوتٌ على جفاء وسوء علاقات قد يكون أسوأ من الطلاق. قد يستطيع بعض النساء التوفيق بين مستويي النجاح، ولكن هذه نُدرةٌ يصعب القياس عليها، ولا ينبغي أن تكون الأصل في المجتمع، ولا الثقافة التي يُخاطب بها الجميع. فما بالكم عندما يتوجَّه الإعلام إلى مخاطبة المرأة بالمستوى الثالث من النجاح، ألا وهو: النجاح في الاستثنائيَّات. كوني مكتشِفةً، مخترعةً، إعلاميَّةً مشهورةً، مديرة شركةٍ، وعندما يتم تقديم هذه النماذج كرموزٍ وقدواتٍ لكلِّ الفتيات، بحيث تقارن الفتاة نفسها بهنَّ، ثمَّ تشعر بالفشل والألم إذا لم تحقِّق مثل ما حقَّقنه، ولن تحقِّقه؛ إذ أنَّنا لم نُخلَق جميعًا استثنائيِّين. ما بالكم عندما تشغل الفتاة بهذا، ولا هي ولا هؤلاء الرموز حقَّقن المستوى الأساسيَّ الأوَّل اللازم من النجاح. في حين ينبغي أن تُبنى ثقافة المجتمع كلِّه على أن لا تنتقل المرأة من دائرةٍ إلى التي تليها إلَّا بعد إحكام الأولى، وإلا كانت كطبيبٍ يعرِّض نفسه لمرضى الأمراض المُعدية بأشكالها، وهو عديم المناعة وغير آخذٍ بوسائل الحماية، ويبرِّر بأنَّ علاج الناس خيرٌ ونفعٌ عامٌّ! نعم، كان في الأمَّة استثنائيَّاتٌ كخديجة -رضي الله عنها- التي كانت باللغة المعاصرة: امرأة أعمالٍ ناجحةٍ، ودعمت الدعوة بمالها، لكنَّها كانت في الوقت ذاته مثالًا للنجاح في الأساسيَّات. المرأة المؤمنة تستحضر قول نبيها صلى الله عليه وسلم: «فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه» [صحيح البخاري]، وقوله: «وهي مسئولةٌ عن رعيَّتها» [صحيح البخاري]، فلن تُقدِّمَ على النجاح في هذه المسئوليَّةِ نجاحًا لم تُكلَّفْ به، ولن تبحث عن نجاحٍ إضافيٍّ وهي لم تعطِ أصحاب الحقوق حقوقهم، وإلَّا كانت كمَدينٍ يتبرَّع بالمال. فالمرأة الناجحة في الأساسيَّات قد تعمل من بيتها أو بدوامٍ جزئيٍّ وضمن تحكُّمها، مع كون السيادة للمستوى الأوَّل وجُلِّ الوقت فيه، قد تؤخِّر هذا العمل إلى ما بعد وصولها حدًّا مُرضيًا من قوَّة النفس واستقلال أبنائها، وبعد أن قامت بما عليها واكتسبت خبرة التربيَّة وحِكمتها، ممَّا يؤهِّلها للنجاح في الإضافيَّات. ولا شيء يستعجلها في ذلك لأنَّها لا تنطلي عليها حيل من يأُزُّونها ويُشعِرونها بالدُّونيَّة والفشل. مرة أخرى: بماذا يختلف الرجل عن المرأة في ذلك؟ يختلف بأنَّ الإسلام أوجب عليه النَّفقة على المرأة وعلى الأبناء، وحمايتهم وتوفير السكن والعيش الكريم لهم، وفق ما حدَّده الإسلام من تقسيم الأدوار، فنجاحه في ذلك هو من الأساسيَّات التي يأثم إذا فرَّط فيها. فخطابنا له هو خطابنا للمرأة تمامًا من حيث التزام الأولويَّات كما شرعها الله، وعلى الرجل أن يسعى سعيه على الرزق لا من قبيل إثبات الذات للناس، بل أداءً لأمر الله -تعالى- وتحقيقًا للعبوديَّة بمفهومها الشامل. فإذا انهمك الرجل في العمل حبًّا في المال، أو إثباتًا للذات، أو منافسةً للآخرين، على حساب زوجته وأولاده وإعطائهم حقوقهم من عاطفته ووقته وتوجيهه فهو آثمٌ كالمرأة التي تنشغل عن الأساسيَّات. ربمَّا ما زالت لديكِ أسئلةٌ: هل تقولون لي هذا الكلام لتقنعوني بالزواج وتكوين أسرةٍ بدلًا من الدراسة الجامعيَّة والعمل؟ هل المطلوب من المرأة أن تكون شغَّالة البيت؟ ماذا إذا كنتُ لا أجد نفسي مع زوجٍ وأولادٍ، وإنَّما في العمل التطوُّعيِّ أو التثقيفيِّ، أليست هذه أهدافًا ساميةً وليست ماديَّةً كما تقولون؟ تقولون: (تربية الأولاد)، أليست العبارةَ إيّاها: "كوني شمعةً تحترق لتضيء للآخرين"؟ أليس في شهادة المرأة وعملها حمايةً لها؟ سنجيبك عن هذه الأسئلة كلِّها في ما يأتي بإذن الله. خلاصة ما قلناه اليوم: أنت مسلمةٌ، فلكِ تميُّزكِ وأهدافكِ، فحقِّقي ذاتك بالعمل لتحقيق هذه الأهداف ضمن الأولويَّات الصحيحة، هنا النجاح وهذا ميدان التنافس الحقيقيِّ، ومن هنا تنشأ شخصيَّتكِ أنثى سويةً مستقرَّةً مطمئنةً متوازنةً واثقةً، مصطلِحةً مع نفسها، مقدِّرةً لذاتها، ناجحةً في علاقاتها، ومُرضيةً لربِّها. والسلام عليكم ورحمة الله.