السَّلام عليكم ورحمة الله حيَّاكم الله إخواني الكرام وبارك الله لكم في هذه الجمعة الصَّحيح أنِّي مع زحمة الأخبار والمشاغل سمعتُ عن (جريمة جَرَشٍ) متأخِّرًا، ولمن لا يعرف فباختصار... رجلٌ مجرمٌ أقدمَ على إفقاد زوجته البصر كليًّا عن عَمْدٍ، وبطريقةٍ وحشيَّةٍ، وأنا -إخواني- لا أحبُّ أن أذكر التَّفاصيل؛ لأنَّها مؤذيةٌ جدًّا وقد تَرْفع سقف الإجرام لدى النَّاس في سَوْرات الغضب، لكن -حقيقةً- لمَّا سمعتُ التَّفاصيل أصابني غمٌّ وحزنٌ، وقلت: لا بدَّ أن نقف وقفةً مع مثل هذه الحادثة ونُذكِّر بأمورٍ حتَّى لا تتكرَّر هذه البشاعات. بدايةً -إخواني- حُسن اختيار الزَّوج، قول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي نحفظُه جميعًا: «إذا أتاكُم من ترضَوْنَ دينَهُ وخلُقَهُ فزوِّجوهُ» (جامع الترمذي) إذن فالمعيار: الدِّين والُخلق، ليس ابن عمِّها، ولا قريبها، ولا غيره، ثمَّ صاحبُ الدِّينِ والخُلق تتساهل معه المرأةُ وأهلُها في النَّاحية المادِّيَّة. ثانيًا: نساءٌ متزوِّجات، وحدث ما حدث وانتهى، وما كان صاحبَ دِينٍ ولا خُلقٍ، بل تبيَّن أنَّه رجلٌ فاسقٌ مجرمٌ لا يخاف الله في زوجته، هل يقول الأهل للزَّوجة: "اصبري عليه، بدل أن تُلقَيْ بالشَّارع، تحمَّليه ثم يهديه الله"؟! هل مطلوبٌ مِن الزَّوجة أن تصبر على زوجٍ هذا حاله؟! لا بدهًا؛ بل هذا ظلمٌ لها، ويجب السَّعيُ في التَّفريق بينهما، فرقٌ -يا إخواني- بين رجلٍ يخاف الله لكن عنده حِدَّة أحيانًا؛ يُذكَّر بالله فيتذكَّر، يُنصح فينتصِح، مهما قسا فلقسوته حدٌّ؛ هناك دينٌ يرْدَعُه، هناك خُلقٌ يردُّه، وفي المقابل رجلٌ مجرمٌ عديم الرَّحمة، هذا لا يُقال للزَّوجة: "اصبري عليه" ولا يقال: "اصبري لأجل الأولاد" رؤيةُ الأولاد لأبٍ سيِّئ الخُلق فاجرٍ في التَّعامل مع أمِّهم أسوأُ تربويًا مِن عَيْشهم بين مطلَّقَيْن. حسنًا لماذا يستصعِبُ النَّاس الطَّلاق جدًّا؟! لماذا يستصعِب الناس الطلاق كثيرًا هذه الأيَّام؟! هذا ينقلنا إلى النُّقطة الثَّالثة؛ ألا وهي: موقف المجتمع السَّلبيِّ جدًّا من الطَّلاق والمطلَّقة؛ النَّظرة الدُّونية للمطلَّقة، الَّتي هي بخلاف شريعتنا كان يحدث طلاقٌ -يا جماعة- في عهد النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم تتزوَّج المطلَّقات، وتزوَّج نبيُّنا زينبَ وهي مطلَّقة، فمِن الظُّلم، مِن الظُّلم والجهل النَّظر إلى المطلَّقة نظرةً دونيَّةً، وهذا بشكلٍ عامٍّ: أنَّ هناك علاقاتٍ أُسريَّة الحلُّ هو في إنهائها، يأتي الأمر الرَّبانيُّ: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [القرآن 2: 229] إذا أردت أن تُبقيَ على الزَّوجة فبِالمعروف، وإذا أردت أن تطلقها فبِالإحسان، وللإمساك بالمعروف كنَّا قد نشرنا مادَّة (ندى تشتكي لعائشة) لنُظهِر ونُبيِّن كيف كان تعامل النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع أزواجه. حسنًا، حينما يكون النَّاس مُطيعين لله حقًّا وحينما يحصل طلاق، ماذا يحصل بعدها؟ قال الله -تعالى-: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ﴾ [القرآن 4: 130] وليست هنالك هذه العقد الَّتي جاءت بها الجاهليَّة الجديدة في تجريم الطَّلاق وظُلم المطلَّقة. النُّقطة الرَّابعة -يا كرام- هي أنَّنا نسمع بعض النَّاس يقولون بخصوص هذه الحادثة: "يجب تغليظ العقوبة" حسنًا سؤالٌ: هل -أصلًا- العقوبة متروكةٌ للتَّقدير البشريِّ؛ حتى نقول: نُغلِّظُها أو لا نُغلِّظُها؟! ألم تسمعوا قول الله -تعالى-: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [القرآن 5: 45] الحُكم الشَّرعيُّ هو القِصاص إذا أراد صاحب الحقِّ أن يتنازل طوعًا مِن تلقاء نَفْسِه فكما قال الله -تعالى-: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ [القرآن: 5: 45] أي يَحُطُّ اللهُ به من ذنوبه، لكنَّ الحقَّ يبقى له أن يقتصَّ أو يعفو هذه شريعةُ ربِّنا -عزَّ وجلَّ- -يا جماعة-، في الحديث الَّذي رواه البخاريُّ: أنَّ يهوديًّا عَدا في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على جاريةٍ -على بنتٍ- فأخذ أَوْضَاحًا كانت عليها - أي حُليًّا- ورَضَخَ رأسها -أي كسر رأسها هذا المجرم- فأتى بها أهلُها رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهي في آخر رَمَقٍ، وقد أُصْمِتَت -وهي لا تستطيع الكلام- فقال لها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن قتلكِ؟ فلانٌ؟" -أي شخص غير الَّذي قتلها- فأشارت برأسها أنْ "لا"، قال: فذكر لها رجلًا آخر، فأشارت أنْ "لا" فقال: "فلانٌ؟" عن قاتلها -القاتل حقًا-، فأشارت أنْ "نعم" ماذا فعل النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-؟ وفي رواية خارج البخاريِّ -روايةٍ صحيحةٍ- أنَّ اليهوديَّ اعترف، حسنًا، ماذا فعل به النَّبيُّ؟ "فأمر به رسولُ الله فرُضِخَ رأسُه بين حجرين" مثلما عمل بالبنت؛ القصاص بنت، ولد، امرأة، رجل؛ الحُكم هو القِصاص، وفي الحديث الَّذي رواه البخاريُّ أيضًا -يا كرام-: أنَّ الرُّبيِّع -وهي عَّمة أنس بن مالك- كسَرَت ثنيَّةَ جاريةٍ من الأنصار -سنٌّ، مجرَّد سِنٍّ!- فطَلَب القومُ القصاصَ، فأتوا النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فأمر النَّبيُّ بالقصاص، سِنٌّ؟! نعم! ومع ذلك أمر بالقصاص، لكن القوم قَبِلوا بالأَرْش بعد ذلك -أي بالعِوض-، المسلم مُكرَّم -يا جماعة- ذكرًا كان أو أنثى، وحقُّه محفوظٌ في الشَّريعة، ومن يرد أن يعتدي عليه فله رادعٌ يكفُّه عن بغيه وعدوانه، فيا كرام، هذه الجريمة المدمِية للقلب هي إحدى نتائج تغييب مجتمعاتنا لشريعة ربِّها -عزَّ وجلَّ- في أحكامها، في نظرتها للمطلَّقة، في اختيار الزَّوج، في التَّعامل مع المشاكل الأُسريَّة، في كلِّ شيءٍ، والله المستعان! فنسأل الله أن يردَّنا إليه ردًّا جميلًا لأنَّه -والله- ما نراه بشع جدًّا، بشع جدًّا، ومؤلم جدًّا، غير معقول، مرحلةٌ مِن التَّوحُّش غير مسبوقةٍ في التَّاريخ، والله المستعان! ونسأل الله -تعالى- أن يلطُف بهذه الأخت، أن يلطُف بها وبأبنائها، الَّذين شاهدوا هذا الحادث الأليم وأن يربط على قلوبهم، وأن يخفِّف عنهم ونسأله -تعالى- أن ينوِّر بصيرة هذه الأخت، ويعوِّضها خيرًا، وأن يرزقها النَّظر إلى نعيم الجنَّة، والله المستعان، والسَّلام عليكم ورحمة الله