مع تأكيدي مِرارًا على أنَّ الإشكاليَّة الكبرى هي في دعوى ظهور الكائنات من خلال التطوُّر الصُّدفيِّ بغير إرادةٍ مِن فاعلٍ مختارٍ يعلم ما يفعل، وبيَّنت أنَّ هذا انتحار عقليّ وغباوة شديدة لأنَّ هذا يدلُّ على مقدار الهِزَّة التي أحدثتها الحلقات في هؤلاء -والحمد لله، وبيَّنتُ بالتفصيل كيف تُروَّج هذه الغباوة على أبناء المسلمين. خاصَّةً عندما يرون سقوط مصداقيتهم لدى أتباعهم الذين لطالما سمعوا منهم تمجيدا لخرافة التطوُّر. حسنًا، أنا -يا كرام- منهجيَّتي هي أن أتحرَّى وأُدقِّقَ وأبذل جهدًا كبيرًا في إحكام ما أُصدِره من حلقاتٍ، طبعًا -إخواني- ليست قضيَّتنا هنا أنَّه خَلْقٌ مستقِلٌّ أم لا، وأعرضَ المصادر والأدلَّة أثناء حديثي من قبيل التوثيق، الملفت للنظر أنَّ هذه الحلقات أَثارت حفيظةَ كثيرين فبدأوا يردُّون عليها. ثمَّ بعد ذلك لا تتوقَّعوا أن أردَّ على كلِّ من يدَّعي أنَّه يردُّ على الحلقات، وليس متفرِّغًا للردِّ على كلِّ من يَعِنُّ على باله وإلا لضاع العُمُر في بيان ما هو مبيَّن، وتكرار ما هو مكرَّر، and not some unknown plan of creation وبين الحين والآخر هناك من يطالبني بالردِّ على هؤلاء الذين ينتقدون حديثي عن خرافة التطوُّر الصُّدفيِّ؛ ولن نستطيع أن نسير في السلاسل خطوةً واحدةً إلى الأمام، or the annunciation of general propositions" كثيرٌ من حلقات الرحلة كانت في بيان مغالطات العلم الزائف، ونظرية التطوَّر كنموذجٍ. وأخوكم له انشغالاتُه وتدريسُه وأبحاثُه ومشاركاتُه العلميَّة، طبعًا هنا الكاتب المذكور يقول: السلام عليكم ورحمة الله. إخواني الكرام، منذ انطلقتْ (رحلة اليقين) كان لها أصداءٌ واسعةٌ، وعلَّق كثيرون أنَّها كانت سببًا في رجوعهم إلى الإسلام بفضل الله تعالى. يا دكتور إياد فلان يردُّ عليك فردَّ عليه. فلانٌ يردُّ عليك فرُدَّ عليه… ليكُن في علمكم -إخواني، الذين أصدروا سلاسل أو مجموعة حلقات أو مقالات للرد على ما ذكرناه في (رحلة اليقين) وصلوا حتى الآن -فيما أعرف- سبع جهاتٍ، ما بين ملحدين أو مبهورين بعلماء الغرب -زعموا، نظرتُ في بعض هذه الردود فإذا أكثرها ما فيها إلا التحايلات اللفظية أو تكرارٌ لشًبهات رددنا عليها بالتفصيل. والحمد لله أنا أُسرُّ بكثرة الرادِّين على السلسلة؛ أن يُصدِر مقطعًا أو مقالًا في الردِّ على الحلقات. من آخر ما صدر في ذلك: مجموعة مقالاتٍ لأحد الكتَّاب، قرأتُ أوَّل مقالٍ منها وأودُّ أن أعرِض لكم بعض المواطن مِن مقاله ثمَّ تحكموا: هل هناك داعٍ أن نُكمل قراءة مقالاتِه الأخرى، التي يتكلَّم فيها عن (رحلة اليقين) أم لا داعي؟ الأخ المذكور يتَّهم العبد الفقير إيادًا بالكذب على منهج الخصم، حسنًا، تعالوا نرى الكذب... سآتي لكم بالنصوص من كلامه ومن كلامي. يقول الكاتب: "ماذا عن الاستنتاج الذي قدمه الدكتور قنيبي ضمن شرحه للأركان المفترضة لنظريَّة داروين؟ -أن الكائنات الحية نشأت دون قصدٍ ولا إرادة من فاعلٍ مريدٍ مختارٍ يعلم ما يفعل- هذا الاستنتاج لا يخصُّ نظريَّة داروين أو كُتُب داروين التي شَرح فيها نظريَّته"، إذن يقول الكاتب: هذا الاستنتاج -أنَّ الكون جاء أو الخَلْق جاء من دون إرادةٍ ولا قصدٍ- لا يخصُّ نظريَّة داروين أو كتب داروين التي شرح فيها نظريَّته، بل هو يخصُّ الدكتور قنيبي. إلى أنْ قال الكاتب: "داروين لم يتحدَّث عن الخالق أو عن أصل الخلق، بل تحدَّث عن مشاهداته في الطبيعة، يمكن لشخصٍ آخر أن يُدخل إيمانه في فَهْم ما قاله داروين سلبًا أو إيجابًا، لكنْ ليس مِن الإنصاف أنْ نخلِط بين استنتاجاتنا والنظريَّة". حسنًا، إذن فداروين لم يقل إنَّ الكائنات الحيَّة نشأت دون قصدٍ ولا إرادةٍ، بل هذه استنتاجات إيادٍ التي خَلَطها بكلام داروين، وإلَّا فداروين ما قال هذا في أيِّ كتابٍ من كتبه! - ممتازٌ، ممتاز. إذا كان كلام الأخ صحيحًا فعليَّ أن أعتذر عن كذبي على داروين، وإذا كان كلام الأخ خاطئًا فلنا أن نسأل: هل هو جهلٌ أم تدليسٌ مُتعمَّدٌ؟ أنا لا أدري حقيقةً هل الأخ شاهد حلقتي التي ينتقدها من أوَّلها؟ إن شاهدها فهل رأى العبارات التي عرضتُها بجانبي من كتاب داروين (أصل الأنواع) بدءًا من الدقيقة (1:32)، أي بعد دقيقةٍ ونصفٍ فقط من بدء الفيديو؟ في هذا الموضوع قُلت: أهمُّ ما في الموضوع أنَّ داروين افترض أنَّ الكائنات الحيَّة إنما نتجت عن هذه التغيُّرات بمجموع الصُّدف -يعني دون قصدٍ- وبتعبيره: لم يكن هناك خطةٌ للخلْق "plan of creation" في إيجاد هذه الأنواع الكثيرة، وهو ما أكدَّه في مواضِع عديدةٍ من كتاباته. هنا إخواني عرضتُ بجانبي خمس نُقُولاتٍ من كتاب داروين (أصل الأنواع) تُشير للصُّدفيَّة ونفي القَصْد عن الخَلْق بجانبي وأنا أقول هذه الجملة، اثنان مِن هذه النقُولات هي من الفصل (14) بعنوان: (conclusion) الاستنتاجات، إذن داروين سيعطيك استنتاجاته، استنتاجاته هو وليس استنتاجات إياد. حسنًا، تعالوا نسمع استنتاجات داروين التي عرضتُها في الحلقة التي يتكلَّم عنها الأخ، يقول داروين: community of descent is the unhidden bond" which naturalist have been unconsciously seeking يعني: "وحدة الأصل هي الرابط الخفيُّ الذي كان علماء الطبيعة يبحثون عنه لاشعوريًّا، وليس خُطَّةً ما مجهولةً للخَلْق، أو إبداءَ مُقتَرَحاتٍ عامَّةً". وعرضتُ أيضًا قوله الآخر في فصل الاستنتاجات (conclusions): ...Nothing can be more hopeless" than to attempt to explain ...this similarity of pattern in members of the same class, by utility "or by the doctrine of final causes يعني: "ليس هناك شيءٌ أكثر يأسًا من محاولة تفسير هذا التشابُه... بين أنماط الصنف الواحد بناءً على عقيدة وجود غاياتٍ نهائيَّةٍ محدَّدةٍ"، يعني: محاولةٌ بائسةٌ يائسةٌ أن تحاول أن تُقنعنا بأنَّ هناك غاية في هذا الخَلْق. إلى أن يقول داروين: On the ordinary view of the" independent creation of each being, we can only say so it is; that it has the Creator to construct all the animals and plants in each great class on a uniform plan: but this "is not a scientific explanation أيْ: "بناءً على وجهة النظر المعتادة مِن خلق كلِّ كائنٍ خَلْقًا مستقلًا فليس بإمكاننا القول إلا أنّ الخالق أراد أن يخلق كلَّ الحيوانات والنباتات في كلِّ صنفٍ بناءً على خطَّةٍ موحَّدةٍ، لكنَّ هذا ليس تفسيرًا علميًّا". لكنْ محلُّ الشاهد أنَّه ينفي وجود ما يسمِّيه (خطَّةً للخَلْق)، هذا الكلام هو كلام داروين في فصل الاستنتاجات (conclusion) من كتابه (أصل الأنواع) الذي بيَّن فيه نظريَّته، ومع ذلك فالكاتب المذكور يقول: هذا الاستنتاج -أنَّه ليس هناك قصدٌ في خَلْق الكائنات، وأنَّ الكائنات التي جاءت بالصدفة- لا يخصُّ نظريَّة داروين أو كُتُب داروين التي شرح فيها نظريَّته، بل هو يخصُّ الدكتور القنيبي، ويتَّهم القنيبي بالكذب على منهج الخصم. الأخ بعد أن عرض كلامي عن الانتخاب الطبيعيِّ الذي أقول فيه: إنَّ داروين ادَّعى أنَّ هذا الانتخاب أعمى ولا يعبِّر عن إرادة الخالق، قال الأخ: "للأسف هذا ليس ما يعنيه الانتخاب الطبيعيُّ، في الأساس بنسخته الأصليَّة على الأقلِّ، نظريَّة داروين لا تُعامِل الانتخاب الطبيعي باعتباره أعمى أو يعرف أو لا يعرف، كلُّ هذه تفسيرات وإسقاطات حَسْب فهمِنا له، وموقعنا المُسبَق من النظرية"، أها، إذن للأسف ليس هذا ما يعنيه الانتخابُ الطبيعيُّ، فنقول: بل للأسف يبدو أنَّ صاحبنا لا يعرف نظريَّة داروين، ولا اطَّلع على الحلقات التي ننقلُ فيها من كلام داروين نفْسه عن الانتخاب الطبيعيّ، ومع ذلك يأتي ليستنكِر ويتَّهم غيره بالكذب. في حلقة: (لماذا يلحد بعض أتباع عدنان إبراهيم) وهي حلقةٌ مهمَّةٌ للغاية، بيَّنتُ بالتفصيل وبالمراجع الموثَّقة كيف تدرَّج داروين ليُقنِع الناس بأنَّه لا علاقة للكائنات بالخالق، وكيف تدرَّج في نزع إرادة الخالق عن الانتخاب الطبيعيِّ، وكيف ذكر داروين أنّ كثيرا من علماء الطبيعة يعتبرون الطبيعة مَظْهرًا لخطَّة الخالق، واعتبر أنَّ هذا الظنَّ لا يُضيف شيئًا إلى معلوماتنا. لن أطيل عليكم ارجعوا إلى الحلقة، وفيها توثيق وصورٌ من كتاب داروين (أصل الأنواع). وذكرنا فيها أيضًا كيف غضِب داروين لمَّا كتب ألفريد والاس: أنَّه "يبدو أنَّ هناك قوَّة وجَّهت التطوّر باتجاهاتٍ محدَّدة لغايات مُعيَّنة"، واستخدم والاس عبارة: (higher intelligence- ذكاءٌ علويٌّ) قاد التطوُّر لغاياتٍ أنبل، فغضِب داروين وكتب بجانب عبارة والاس: "!!NO" بخطٍّ كبيرٍ مع علامات تعجُّبٍ، وأرسل لِوالاس يقول: "أخشى أنَّك تقتل طفلي وطفلك بشكلٍ كاملٍ"؛ يعني نظريَّة التطوُّر، هو ووالاس كانا في الوقت ذاته يتكلَّمان عن معالم ما يُسمَّى بنظريَّة التطوُّر، والاس كان يقول: "هناك شيء يوجِّه هذا التطور باتجاه غايات أنبل، هناك ذكاء علوي"، اعترض داروين تمامًا وقال: "أنتَ بذلك تقتل طفلنا المشترَك"؛ وكأنَّه يقول: أي توجُّه يا والاس؟! أي غايات؟! أي ذكاء؟! افهم يا والاس! هذا ما أريد نفيه تمامًا، كلُّ نظريَّتي هدفها أصلًا نفيُ الخالقيَّة، وظَهَرَ الخللُ الكبيرُ فيها من البداية، كما ظَهَر جليًّا من مكابَراته، كأنَّه يقول لوالاس: أنت بإشارتِك إلى تدخُّل الخالق تهدِم النظريَّة من أساسها، وتلغي ما صنعتُها من أجله. وكيف استماتَ داروين في الدفاع عن فكرة أنَّ العين نشأت بالصدفة، ولا يدلُّ إحكام تركيبها على قصدٍ وإرادةٍ مِن خالقٍ. ومع هذا كلِّه فالكاتب المذكور يقول: داروين لم يتحدَّث عن الخالق أو عن أصل الخَلْق، بل تحدَّث عن مشاهداته في الطبيعة. عفوًا حضرة الكاتب الكريم، صاحب المقال الذي تنتقد فيه إيادًا وسلسلة إياد، هل أنت قارئٌ لداروين؟ قرأت شيئًا لداروين؟ أو هل اطَّلعت على حلقات إياد؟ بل هل اطَّلعت عل ى الحلقة التي أخذتَ قُصَاصات منها ثم جئت تتهجَّم عليها؟! هل يُعقل أنّك قفزت عن أول دقيقة ونصف منها، والتي أحشُر فيها الشواهد على أنَّ داروين ينفي القصد والإرادة في ظهور الكائنات، ويؤكِّد أنَّها جاءت بمجموعة الصُّدَف؟! طبعًا الكاتب المذكور يبدأ مقاله بالإنكار على إياد أن يعرِّف أركان نظريَّة التطوُّر على أنها: كائنٌ حيٌّ تولَّد تلقائيًّا من الجمادات. طبيعةٌ تُكسِب صفاتٍ جديدةً. الصفات المُكتَسَبة تُورَّث. الطبيعة تنتخب وتُركِّب النُّظُم المعقَّدة. هذه الأركان التي ذكرتُها لنظرية داروين. يقول الكاتب: "داروين نفسه يختصر نظريَّته بالقول..." ثمَّ جاء بالكلام الإنجليزيِّ المنسوب لداروين وترجَمَه الكاتب، وقال: "داروين نفسه يختصِر نظريَّته بالقول: التنوُّع صفةٌ طبيعيَّةٌ ضمن أنواع، وكلُّ نوعٍ يُنتج نسلًا أكثر ممَّا تستطيع البيئة تحمُّله، من نتائج زيادة النسل أنَّ الأفراد مع أفضل الصفات المَوْروثة سيُنتِجون أفرادًا يتمكَّنون بنجاحٍ أكبر من البقاء في هذه البيئة، ثم يصبُّ جهده في محاولة إسقاط هذه الرحلة الجيل الناتج لاحقا سيمثل الأفراد مع الصفات الأكثر مناسبة للبيئة، النوع ككل سيتطور" ثمَّ يقول الكاتب: "هذه هي أركان نظريَّة داروين حسب داروين نفْسِه". آها، بدايةً أين سمَّى داروين هذه الأشياء أركانًا؟ أنا كدكتور جامعي أعرف أسس الكتابة العلمية، ولَدَيَّ عشرات المنشورات في مجلَّاتٍ مُحكَّمةٍ -بفضل الله، أضع مَصْدرًا لكلِّ نقلٍ في حلقاتي كما أفعل في أبحاثي، حضرتُك -أيُّها الكاتب المحتَرَم- مِن أين جئتَ بهذه العبارة لداروين أصلًا؟ بحثتُ كثيرا فلم أجدها لا في (أصل الأنواع)، ولا في أيِّ كتاب من كتب داروين، وإنّما وجدت هذه العبارة في بعض المواقع بعد كلمة: "Darwin was quoted to say"؛ أيْ نُسِب أو قِيل عن داروين أنَّه قال، وهناك في المواقع مَن ينفي نِسبتها إلى داروين أصلًا، فلو يسمح الكاتب المحترم يبيِّن لنا أين قال داروين هذه العبارة! الذي يقرأ لداروين يعلم أنَّه يستطرد ويتشتَّت بشكلٍ مُتعِب، ولم أطَّلع على أيِّ موضعٍ يقول فيه إنَّ هذه هي أركان نظريَّته. لا بأس، مع ذلك تعال لعبارة داروين المنسوبة إليه هذه والتي يعارض بها الكاتب حلقتي: أولا: حسب هذه العبارة التي ينسبها الكاتب لداروين: "التنوع صفة طبيعية ضمن الأنواع"، والله -يا إخواننا- هذه حقيقةٌ يعرفها الأطفال في الشوارع والعجائز في البيوت، أي ليست خافيةً على أحدٍ، لم يأتِ فيها داروين بجديدٍ إنْ صحَّت النسبة إليه. حسنًا، قال لك: "وكلُّ نوعٍ يُنتِج نسلًا أكثر ممَّا تستطيع البيئة تحمُّله"، أيضا هذا شيء معروف لا يحتاج كثير ذكاء؛ أن البيئة قد تضيقُ أحيانًا وتشتدُّ ظروفها. ثالثًا: "مِن نتائج زيادة النسل أنَّ الأفراد مع أفضل الصفات المَوْرُوثة سيُنتِجون أفرادًا يتمكَّنون بنجاحٍ أكبر من البقاء في هذه البيئة"، وهذا أيضًا شيءٌ مرئيٌّ معروفٌ قَبْل داروين وبعد داروين، لا جديد فيه. وبعد ذلك تقول لي: هذه هي الأركان! نقلٌ مجهولٌ لا يُعرف صحةُ نسبته لداروين، لا جديد فيه، يعارض به صاحبنا طرحنا العلمي! نحن يا كرام عندما نقول (الأركان) يهمنا كيف فسر داروين وجود هذه الكائنات بهذا التنوع، تسمِّيها أركانًا، تسمِّيها دعائم، تسميها تصوُّراتٍ، أركانَ النظريَّة، أركانًا لتفسيره لوجود المخلوقات... بغضِّ النظر عن الاسم، إذا سمحت لنفسك أن تستنتج مثل هذه العبارات، اسمح لي أن أستنتج، أن أضع إطارًا! في المحصِّلة داروين عندما أراد أن يُفسِّر وجود الكائنات... تصوَّر نفسك في حوارٍ مع داروين وقد نفى وجود قصد وإرادة، أو ما سماه (خطةً للخالق)، لنا أن نسأله: إذن يا داروين، كيف تفسِّر وجود هذه الكائنات بهذا التنوُّع والتكامل والإبداع؟ هذا ما فعلناه في الحلقة التي ينتقدها الكاتب (نظريَّة داروين بإنصاف)، تحاورنا مع داروين واستجوبناه حتَّى نفهم وجهة نظره، وقلنا: أوَّلُ ركنٍ -حسبَكَ يا داروين- كائنٌ حيٌّ تولَّد بطريقةٍ ما من الجمادات. "لم يذكر داروين أبدًا أيَّ شيءٍ عن تولُّد كائنٍ حيٍّ مِن جمادات في أيٍّ من كُتُبه، بل ذكر شيئًا مُقاربًا وليس مطابقًا البتَّة في رسالةٍ شخصيَّةٍ إلى صديقٍ له، أشار لها الدكتور قنيبي". حسنا، هذه الرسالة -يا كرام- ماذا يقول فيها داروين؟ التي نُقوّل فيها داروين ما لم يقل، أنَّك يا داروين تقول وتعتقد بنشوء الكائنات الحيَّة من الجمادات. يقول داروين حرفيًّا -طبعًا ما ترجَمَتُه: "إذا استطعنا تخيُّل بركةٍ صغيرةٍ دافئةٍ مع أنواعٍ مختلفة من أملاح الأمونيا والفوسفور، والضوء، والحرارة، والكهرباء، أنَّ مركَّبًا بروتينيًّا سيتشكَّل، ويمكنه أن يمرَّ بالمزيد من التغيُّرات المعقَّدة"، طبعًا قال هذا كلَّه في سياق أنَّه قد يكون تفسيرًا لنشأة الكائن الأوَّل. الآن سؤالي -يا كرام: الأمونيا والفوسفور إلى آخره، هذه جماداتٌ أم ليست جمادات؟ أي إن التفَفْنا أو تحايلنا ففي النهاية داروين يُشير إلى احتماليَّة تكوُّنِ الكائن الأوَّل من الجمادات، هذه حصيلة كلامه. ولمّا تكلمتُ عن طبيعةٍ تُكسِب صفاتٍ جديدة، قال الكاتب المذكور: "هذه النظريَّة سابقةٌ لداروين؛ فهي جزءٌ من نظريَّة لامارك في الوراثة"، بالله عليك؟! عفوا حضرتك تريد أن تعرِّفني ما تعلَّمتُه ربما في السادس الابتدائي أو الخامس الابتدائي؟! نحن نعرف أنَّ هذا كلام لامارك، ولهذا قلتُ في الحلقة: إنَّ داروين اتفق مع لامارك في هذه الجزئية، أنا لم أقُل أنَّ داروين هو أوَّل من جاء بهذه النظريَّة، بل قلت: داروين اتَّفق مع لامارك في هذه الجزئيَّة حين قال إن الطبيعة تكسب الكائن صفات جديدة، وإنه بذلك موافق للِامارك في هذه الجزئيَّة. قال داروين في الفصل الخامس من كتابه ما ترجمته للاختصار، ليس هناك داعٍ أن أقرأ كلَّ شيء بالإنجليزيَّة وأترجم، بإمكانكم الرجوع للحلقة لتروا النصوص بالإنجليزية وتُطابقوا مع الترجمة العربيّة. حسنًا، ماذا قال داروين؟ قال: "أظنُّ أنَّه لا مجال للشكِّ... في أنَّ استخدام الحيوانات المُستأنَسة لبعض أعضائها يقوِّي أعضاءً معيَّنةً منها، وأنَّ عدم استخدامها للأعضاء يُضعِفها، وأنَّ هذه التعديلات تُورَّث"، طبعًا تبين بعد ذلك أنّ هذا الذي لا يشك فيه داروين أنَّه صحيح، تبيَّن أنَّه خطأ تماما، وبالتالي جزءٌ من النموذج التفسيريِّ الذي رسمه داروين لنشأة الكائنات اعتقاد بالٍ سقط فيما بعد. أنا -إخواني- لا أريد أن أُطيل الكلام أكثر من ذلك، ولعلّنا نلحق صلاة الظهر إن شاء الله جماعة، وإلا فلو وقفتُ مع كلمةٍ كلمةٍ من مقال الأخ لتبيَّن ما فيه من جهلٍ أو تجاهل، وأنا أرجو أن يكون جهلًا أكثر من تجاهلٍ وكذبٍ وتدليسٍ؛ لأنَّ الجهل يمكن أن يُعالَج، خاصَّةً إذا أقرَّ الجاهل بجهله، وأنا أطلب من أخي هذا أن يُقرَّ بجهله، وإلا فسنُضطَرُّ إلى إساءة الظن. فسواءً أكان الأخ يتكلَّم فيما لا يعلم، أو يتعمَّد الكذب والمخادعة، فلن يستحقَّ أن أُضيع وقتي معه أكثر من ذلك، ولا تتوقعوا أن أُضيع عمري في تقرير ما هو مقرر، وتبيان ما هو مبين وتكرار ما هو مكرر. طبعًا هنا الشكوى المعتادة؛ سيقول قائلٌ: يا أخي لماذا لا تتكلَّمون أنتم مع بعضكم، وتتناصحون فيما بينكم كدعاةٍ أو متصدِّرين أو مشاهير وما إلى ذلك؟ يا أخي لماذا تزعجوننا بهذه الخلافات على الملأ؟ اذهبوا وتناقشوا فيما بينكم، ثمَّ ارجعوا لنا بالنتيجة! والله -يا إخواني- هذا السؤال لا يوجَّه لي؛ فأنا عن نفسي قد فعلتُ، بالفعل راجعتُ هذا الأخ وقديمًا من سنواتٍ؛ الكاتب المذكور مثلا -هذا الذي نتكلَّم عنه- كان قد بدأَ بنشْر سلسلةٍ على أساسِ أنَّها مضادَّةٌ للإلحاد، اتصلت بأخي الدكتور (عبدالرحمن ذاكر الهاشميّ) وقلت له: هل ترى يا عبدالرحمن ما يفعل فلان؟ قال: نعم، قلت له: أريد أن أنصحه وأعرف أنَّ بينكما معرفةً وعلاقةً، هل يمكن يا أخي عبدالرحمن أن تعطيني رقم هاتف فلان؟ أعطاني الدكتور رقم هاتف الشخص المذكور، فأرسلت له رسالةً لطيفةً للغاية: أخي الدكتور فلان، السلام عليكم ورحمة الله، تابعتُ المنشور من حلقاتك في سلسلة كذا، جزاك الله خيرًا وبارك فيك، عندي ملاحظات، هل تسمحُ لي بالتواصل معك لنقاشٍ أظنُّه سينفع كِلينا؟ لم يرد الأخ، أرسلتُ له مرّةً أخرى ولم يرد، وأخبرت الدكتور عبد الرحمن بما حصل، وقال إن نفس الشيء حصل معه، -الدكتور عبد الرحمن موجود، واستأذنتُه في أن أقول هذه التفاصيل. حسنًا، أردت أن أردَّ على المشاكل الكبيرة في طرح هذا الكاتب، فنشرت حلقةً من (رحلة اليقين) بعنوان: (الله غيبٌ، هل معناه أنّ وجوده غير يقينيّ؟) ورددتُ في هذه الحلقة على عبارات الكاتب مِن مِثل: أنَّ الإيمان هو أن تؤمن بشيءٍ دون وجود كلِّ الأدلَّة الحاسمة عليه، وأنَّ الإيمان يحتاج قفزةً شجاعةً في الفراغ، يحتاج (leap of faith)... ومِن مثل هذا الكلام الخطير الذي ينمُّ عن جهل الكاتب بمعنى الإيمان أصلًا، ثم تفاجأتُ بأنَّ أخي أحمد دعدوش كان قد نشر حلقةً بنفس المحتوى -حتى ظننت أنَّه اطَّلع على حلقتي، ثمَّ تبيَّن أنه ما اطَّلع على حلقتي، نشر حلقةً ينبِّه على هذا الكلام الخطير، أنا في حلقتي لم أذكر الشخص المقصود؛ لأن الهدف تصحيح المفاهيم ولا أحب الدخول في الحديث عن الأشخاص إلا إذا لم يكن هناك بدّ. بعد ذلك لما توفّيت ابنتي -رحمة الله عليها- بعث لي هذا الأخ المذكور الكاتب نفسه تعزية، فأكبَرتُها منه ورددتُ عليه شاكرًا ومتقبلًا لتعزيته، وبارك الله فيك وجزاك عنا خيرًا. وبعد فترة عرضتُ عليه أن نتناقش ولم يردَّ، ثمَّ إذا به مؤخَّرًا ينشر مقالاته في الردِّ على (رحلة اليقين)، فلا تسألوني أنا -يا كرام: لماذا تُدافع عن (رحلة اليقين) بل اسألوا من يتهرب من النقاش التي هدى الله بها خَلْقًا كثيرًا بفضله ومَنِّه وكَرَمِه، ويحاول إسقاطها بأيَّة طريقةٍ ولو بالجهل أو التدليس والكذب، اسألوه هو، ولا تقولوا لي: لماذا تدافع عن سلسلتك؟ ولمن يقول أيضا: يا دكتور هناك من يلمح عليك من ناحيةٍ فكريَّةٍ، ويتَّهمك بكذا وكذا...، أقول له: أنا لا أُضيع وقتي في الردِّ على تلميحاتٍ لا يُدرى ما المقصود بها ومن المقصود بها، فأنا -والله إخواني- لا أملك وقتًا لقراءتها فضلًا عن الردِّ عليها، وقد بيَّنتُ منهجي ومواقفي السياسية في كلمة (كشف الحقائق)، اكتب على اليوتيوب: (قنيبي - كشف الحقائق)، وتأمل ثمّ بعد ذلك من كان عنده الشجاعة الكافية لنقد فِكري أو منهجي فليواجهْني باسمي بكلامٍ قلتُه بنصِّه، وليأتِ بالدليل، وحينئذٍ فلَكُم عليَّ أن أردَّ بما يشفي صدوركم -إن شاء الله تعالى. ختامًا، أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يهدينا جميعًا لما يحبُّ ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.