بـ "الفئران محذوفة المورِّث" "Knockout Mice" مثلاً. حسنٌ، كاستثناءٍ، نرى دين هامر Dean Hamer لكنّ المَعِيبَ بالتأكيد، المَعِيبُ جدًا أن يُقِيمَ المادّيون تفسيرَهم للظّواهر الفطريّة السلام عليكم. في هذهِ الحلقة نجيب عن سؤال،: هل أيٌّ من الظَّواهر الفطريَّة ثَبت أنَّ لها أسبابًا تطوريَّة؟ أم أنَّ الملحدين والتطوّريين يؤمنون إيمانًا أعمىً يسدّون به فجواتهم المعرفيّة. أي: الملحدون حين أنكروا وجود الله، ومن ثم أنكروا أنَّ هناك فطرةً فطر الله الناس عليها، وقعوا في مأزق: أنَّهم لا يملكون تفسيرًا لأيٍّ من الظّواهر الفطريّة، كنزعة التّديّن، أو النّزعة الأخلاقيّة والشّعور بالغائيّة، والإرادة الحرَّة والغرائز. فهي ظواهرُ غيرُ ماديّةٍ في الظّاهر؛ لذا فقد بحثوا عن تفسيراتٍ ماديَّةٍ لها. وادّعوا أنَّ كلَّ هذه الظَّواهر لها أسبابٌ ماديّةٌ ضمن إطار التّطوَّر الدّاروينيِّ. فإمّا أن تكون الظَّاهرة الفطريَّة المعيَّنة ناتجةً عن جينٍ (مورِّث) معيّنٍ، أو مجموعةَ جيناتٍ(مورِّثات). وإمَّا أن تكون ناشئةً عن صفاتٍ أخرى متعلقةٍ بالجينات، انتخبتها الطبيعة، أو أنّ الظَّواهر الفطريّة، أو الظَّاهرة الفطريّة المعيّنة قد تَمّ انتخابها داروينيًا، دون أن نعرف كيف ظَهرت هذه الظّاهرة ابتداءً، لكنَّها ظهرت ثمّ انْتُخِبَت. والسّؤال: هل ادّعاؤُهم هذا عليه دليلٌ علميّ؟ أمَّا الاحتمال الثَّالث: لا نعرف كيف ظهرت، فإحالةٌ على مجهولٍ. عبارةٌ لا يَقْبلها الملحدون من المؤمنين بالله في تفسير الظّواهر. يبقى التَّفسير الذِّي يُمْكِن فحصه واختبارُ صحّتِه، هو ربطُ الظّواهر الفطريّة بالمورِّثات. حتّى تدّعي أنّ صفةً ما في كائنٍ ما لها علاقةٌ بمورِّث معيَّنٍ، فهناك طرقٌ علميّةٌ محدّدةٌ لإثبات وجود هذه العلاقة. الطّريقة الأولى: هي "إضافة مورّث" Gene Insertion، للبويضة المخصبة، أو "حذف مورَّث": "Gene Deletion"، ومتابعةُ ما إذا أدّى ذلك إلى ظهور أو اختفاءِ صفةٍ معيّنةٍ. وهذا ممكنٌ في الحيوانات، مثلَ ما يسمَّى لكن لم يَتّم إجراؤها في الإنسان، بالإضافة إلى أنّه يَدْخُلها عواملُ معقّدةٌ. "كالآليّات التعويضيّة" "Compensatory Mechanisms" والتّي قد تَعوّض المورِّث، المحذوف مثلًا. تبقى الطّريقة الممكنة في الإنسان هي أن تُجريَ مسحًا جينيًّا وتُثبِتَ أنّ المتّصفين بصفةٍ أو نزعةٍ معيّنة لديهم مورثُ ليس لدى الآخرين الذّين لا يمتلكون هذه الصّفة أو النّزعة، أو أنّ لديهم مورثات يحصل لها "تمْثيل"، "Expression" بشكل مختلفٍ عن الآخرين، فيما يعرف: "بالوراثة فوق الجينيّة" "Epigenetics" مثلًا. وهذه الطّريقة رَبَطت بعض الصّفات الجسميّة والأمراض بأسبابٍ جينيّةٍ. حسنٌ، نعود فنقول: الملحدون والدّاروينيّون أجْرَوْا عمليّةَ درونة Darwinization لكلِّ شيء. وكان ممّا درونوه الظَّواهرُ الفطريَّة. وهناك قائمةٌ طويلةٌ من الكتب التي قامت على هذا الأساس، مثل: (الجين الإلهي) ، (الأساس التطوّري للنّزعة الأخلاقيّة) (الأساس التّطوري للحريّة) (نظرة دارونيَّة للمَحبَّة من قِبَلِ الوالدين) (تطوُّر الرّغبة الجنسيَّة التَّزاوجيَّة) وغيرها الكثير. الآن، فلْنتجاوزْ دعوى الدّارونييّن: أن هناك صفاتٍ ظهرت بطرقٍ لا نعرفها، لكنّها انتُخِبَت؛ لأنّ عبارة (لا نعرفها) ليست عِلمًا يُخْتَبَر. يبقى الرّبطُ باالمورِّثات، فنقول: بِناءً على ما تقدّم من الطّرق العلميّة لإثبات العلاقة الجينيّة بالصّفات، هل أيٌّ من ادِّعاءات هذه المؤَلَّفَاتِ عليها دليل علميٌّ؟ هل تّم تحديد أيَّ مورّث مسؤولٍ عن أيّة نزعةٍ فطريّة؟ والجواب الصَّادم: لا. إنَّما هي ادّعاءاتٌ لا أساسَ علميًّا لها أي إيمانٌ أعمىً داروينيٌّ. فهذه المؤلّفات تتجاوز سؤال (هل يوجد سببٌ ماديٌّ بالفعل للظّاهرة الفطريّة). وتَعتبر الإجابةَ عنه محسومةً، ووجودَه حقيقةً مسلّمةً. وتنتقل إلى مواضيع مثل مناقشة فائدة وجود الظّاهرة الفطريَّة تطوريًّا، في كلامٍ إنشائيٍ عقيم. هذه الدّرونة لكل شيءٍ بلا دليل انتقدَها حتّى بعض الدّارونيين الملحدين أنفسِهم، ومنهم بروفيسور البيئة والّتطوّر الملحد الداروينيُّ جيري كوين Jerry A. Coyne، حيث في كتابه المعنون" (لماذا التطور حقيقة؟) قال كوين: "هناك ميلٌ آخذٌ في التّزايد بشكلٍ مزعجٍ من قبل علماء نفس وعلماء أحياء وفلاسفة لدرونة كل جانبٍ من الجوانب السلوكية للإنسان، لتتحوّل تلك الدّراسات إلى لعبةٍ علميَّةٍ جماعيَّة. إنّ إعادة تشكيل الطُّرق الَّتي يُحتَمَل أنّ الأشياء تطوّرت من خلالها، اعتمادًا على الخيال الواسع، ليست عِلمًا، إنّها مجرد حكايات." -وبخلاف باقي المؤلّفين- قد تكلّم عن مورِّث معيٍَّن لتفسير نزعة التّديّن لدى الإنسان. لكنَّ هامر هذا -كما سنرى- بطل الادّعاءات التّي لا دليل عليها، بل يُكَذّبها بقية الباحثين. أقام كتابه (الجين الإلهي) على دراسةٍ واحدةٍ مدّعاة، لم يَنشرها ولم تَتكرر نتائجُها مع أيّ باحثٍ بعده حاول تكرارها، كما نصّ كارل زيمر Carl Zimmer. حتّى أن بعض الملحدين أنفسِهم سخروا من ادّعاءاته قائلين: لا يوجد إله ولا مورِّث إلهي. والحقيقة أنَّ الذّين يدّعون، أنّه يمكن العثور على مورِّث معيّن مرتبطٍ بنزعةٍ فطريَّةٍ معيَّنة هؤلاء إمَّا أّنهم جاهلون بعلم المورَّثات جهلًا مخزيًا، مهما حملوا من ألقاب الدَّكتوراه أو أنّهم يُخادِعون جمهورهم. فمعلوماتُنا من سنوات عن ارتباط المورَّثات بالصّفاتِ أنّه أعقد بكثيرٍ مما كنَّا نظنُّ، كما في هذه الورقة العلميَّة المنشورة في مجلة (نيتشر) Nature المعروفة، عام 2008، والتّي تُبيّن أنَّ فكَّ الشّيفرة الوراثيّة في مشروع هيومان جينوم (المادة الوراثية الإنسانية) Human Genome Project خيّب آمالنا. حيث وجدنا أنّه حتّى الصِّفات الجسميَّة، كطول القامة والأمراضِ العقليَّة (بالإنجليزية) كانفصام الشخصية -والتّي يظهر أنّ لها ارتباطًا بالوراثة- حتَّى هذه لا يمْكِن عَزْوها إلى مورِّث، ولا حتَّى إلى مجموعة مورّثات معيّنةٍ، وأنّ الأمر أعقدُ بكثيرٍ ممَّا كان يُدرَّس في المدارس والجامعات. وتنصّ دراساتٌ أخرى على أنَّ صفةً سلوكيّةً واحدةً قد تكون مرتبطةً بآلاف المورِّثات، التّي يسهم كلٌّ منها في هذه الصّفة إسهامًا طفيفًا. وتعترف الدّراسات -مع ذلك- بعدم القدرة على تحديد هذه المورَّثات المُفْتَرَضة. هذا إن سلّمنا لهم بأنّ هناك ارتباطًا أصلًا. فالموضوع من الواضح أنَّه شديد التّعقيد والغُموض. ومع ذلك، يأتي أمثال هامر ليقولوا لك: الجينُ الإلهيُّ... وترى في الإعلام الغربي، عناوين مثل: هذا المورّث المحدّد [قد] يقرر، إذا ما كنت ستصوّت لصالح الجمهورييّن أو الدِّيمقراطييّن. في تسطيحٍ للموضوع واستسخافٍ واستغفالٍ لعقول الناس. وإن كنًا لا نستغرب أن تمرَّ هذه الادّعاءات المضحكة على عقول بعض الشَّباب البعيد عن الأجواء العلميَّة، فمن العجيب حقًا أن يتداولها أشخاصٌ لديهم أدنى مبادئ البحث العلميِّ أو أطباءُ أو طلابٌ في المجال الطبّيِّ والحيويِّ. وقبل أن أتابع أودّ أن أقول: لا أرَى مانعًا من الناحيّة النظريّة من أن يخلُق الله -تعالى- في الإنسان مورِّثات تعين على تكوين النّزعات الفطريَّة. وقد بيّنا في الحلقة الرّابعة من السِّلسلة لماذا إنْ وُجد هذا يُعدُّ دليلًا آخر على وجود الخالق وعظمته؟. على أساس وجود هذه المورِّثات، أو على طرقٍ تطوريّةٍ لم تكتشف بعد كبديلٍ عن وجود الخالق، وهم لا يملكون دليلًا عليها، فينفون ما قامت الأدلّةُ كلُّها عليه، بحجّة ما لا دليل عليه. المَعِيبُ هو أن ينكر علينا الملحدون إيمانَنا الغيبيَّ بوجود الله وقد دلت الأدلة عليه، بينما لا يجدون حرجًا من الإيمان الغيبيِّ، بوجود هذه المورِّثات أو التّفسيرات التّي لم تُكْتَشف بعد، ولا دليل لهم عليها. المَعِيبُ هو أن يدَّعيَ الملحدون أنَّ إيماننا بوجود الخالق هو من قبيل سدِّ الفجوات المعرفيَّة، أي أنَّنا لا نعرف سبب بعض الظَّواهر؛ فنفترض وجودَ الله لتفسيرها. وهذا ليس صحيحًا في المنظومة العَقَديّةِ الإسلاميَّة. بينما الملحدون يمارسون هذا الإيمان الأعمى الداروينيِّ لتفسير ظواهر فشِلت ماديَّتُهم في تفسيرها. نفَوْا وجود الخالق، فكان لا بدَّ من بديل، البديلِ الماديُّ، الذّي ينفي الرّوح والفطرة فبَنَوْا على هذا البديل قصورًا ومزاعم وقصصًا. وألّفوا كتبًا وأقاموا محاضراتٍ، على لا شيء، على وهمٍ كبير. فهل هناك إيمانٌ أعمى أكثرُ من هذا! هل هناك تأجير عقلٍ أكثرُ من هذا! هل هناك تحيزٌ علميّ وأحكام مسبقةٌ، أكثرُ من هذا! هذه التُّهم التِّي يرمون بها المسلمين. هل هناك من هو أولى من هؤلاء الملحدين والدَّارونيّين بها! يدَّعون خصومةً بين الإسلام والواقع وخصومةً بين الإسلام والعِلم التَّجريبيِّ، مع أنَّ في قولهم مثلًا: "لا إرادةَ حرةَ لدى الإنسان، بل تحرِّكه المورِّثات" تتجلَّى قمّة المصادمة للواقع، الذّي يفرض أنّ الإنسان لديه إرادةٌ حرةٌ، مهما أنكروا. ويتجلّى عدم احترام العِلم التّجريبيِّ في دعاوى المورِّثات بلا دليلٍ. وهذا كلّه، ضريبة معاندة الأدّلة الفطريّة على وجود الله -تعالى-. اقتربنا بهذا من نهاية الحديث عن الأدّلة الفطريّة، ولا نريد أن نستطْرد كثيرًا ونبتعد عن الموضوع. لكن نَوَدُّ أن نذكر مثالًا للتّضليل الذّي يمارسه الملحدون والدّارونّيون، باسم العلم، وهو تبْرير الشّذوذ الجنسيِّ بادّعاء وجود أساس جينيٍّ له. لنرى مثالًا أخيرًا، من ضرائب التَّنكُّر لفطريَّة الغرائز البشريَّة. ومحاولةِ تفسيرِها تفسيرًا ماديًّا بحتًا. وهو ما سنناقشه في الحلقة القادمة بإذن الله. والسّلام عليكم ورحمة الله.