(مؤثِّرات صوتيَّة) صديق معاويةَ: معاوية. معاوية: نعم. صديقه: ماذا تعرف عن هولندا؟ معاوية: سيِّدي هولندا عندها فريق كرة قدم... صديقه: أقصدُ هولندا بلدًا وليس فريقًا؟ معاوية: في الواقع لا أعرف الكثير. صديقه: تعرف أنَّ هولندا مساحتها 41543 كيلومترًا مربَّعًا فقط! وعدد سكَّانها 17 مليونًا فقط! ومع ذلك هي ثاني أكبر بلدٍ تصديرًا للموادِّ الزِّراعيَّة والغذائيَّة في العالم كلِّه! معاوية: معقولٌ؟! صديقه: نعم، معقول، وبسنة 2011 منظَّمة التَّعاون والتَّنمية صنَّفوها البلد الأكثر سعادة، ومن ناحية مستوى دخل الفرد فهي كانت البلد العاشر من ناحية مستوى دخل الفرد. معاوية: صراحةً أحييك على هذه المعلومات صديقه: الله يسعدك -حبيبي-، أنا عشت في هولندا 5 سنين، في 5 السنين هذه تعلَّمت لغتهم، وقرأت كتبهم، قرأت عن أسرار نجاحهم، أي قرأت 12 كتابًا عن نجاحهم وسر الإبداع الذي هم فيه، حقًّا حضارة رائعة. معاوية: أنت مبهر صَراحة. صديقه: حبيبي، لكن الفكرة أنني لمَّا قرأت هذا الكلام أتيت بنظريَّة. معاوية: نعم. صديقه: نظريَّتي تقول أن سر نجاح هولندا هو البندورة. معاوية: البندورة؟! صديقه: نعم البندورة لأن... معاوية: لم البندورة تحديدًا؟! صديقه: هولندا تقوم بربع صادرات العالم من البندورة، وفي البندورة يوجدُ فيتامين النَّجاح كله. معاوية: نعم، سيدي أنا أحيِّيك لهذه المعلومات، صحيح أنا مصدِّقُ معلوماتِك، ولكن استنتاجك في النهاية ليس منطقيًّا. صديقه: كيف يكون استنتاجي غير منطقي؟! تريَّث قليلًا، الآن لمَّا سألتك عن هولندا، لم تكن تعرف عن هولندا شيئًا. أعني لأني أعرفُ أكثر منك عن هولندا فاستنتاجي هو الصّحيح. وهذا ما يمارِسه مروِّجو خرافة التَّطوُّر بمهارة، الخلطُ بين المشاهدات والافتراض بين الحقائق والخرافة، ساعاتٌ من الشَّرح المستفيض عن تفاصيل الأحياء والاكتشافات والأبحاث، ثُمَّ ذِكْرُ الخرافة في الثَّنايا ليَسهُلَ بلعُها، ليبدو وكأنَّ الحقائق المذكورة وخرافةَ التَّطوُّر جزءان لا يتجزءان، -(بالإنجليزي) حزمة، لا بدَّ من أخذهما سويَّةً، فتقولُ: "هذا الشَّخصُ كَلامُه علمي، ويتكلَّم بتجاربٍ وبملاحظاتٍ دقيقة" لكن حقيقةُ الأمر أنه حشر كذبةً أو سوء تفسير، وظَّف به كلَّ هذه المشاهدات في الاتِّجاه الخاطئ تمامًا. بغضِّ النَّظر عن إذا كان مقتنعًا بهذه الكذبة أم غير مقتنِع، لعلك تُناقِش أَحدَهم فيقول لك: ماذا تعرفُ عن طائر البرقش؟ ماذا تعرفُ عن سمك الجابي؟ عن السَّحالي الإيطاليَّة؟ عن مقاومة البكتيريا للمضادَّات؟ وعن البكتيريا الهاضمة للسَّيْترات؟ تَسألُه ما لها هذه الأمثلة؟ فيقول لك: هذه كلُّها حَصَل لها تطوُّر صغرويٌّ "micro evolution" نراه أمام أعيننا، طفرات عشوائيَّة في المادَّة الوراثيَّة أنتجت بالصُّدفة صفاتٍ نافعة للبرقش، سمك الجابي، السَّحالي، البكتيريا، فأصبحت أكثر قدرة على التَّكيُّف في بيئةٍ ما، فحَصَل لها انتخابٌ طبيعيٌ وهذا كلُّه في زمن محدود، ومن ثم فمع مئات ملايين السنين يمكن أن تكون البكتيريا قد تطوَّرت إلى كل أنواع الكائنات الحيَّة بالطَّفرات العشوائيَّة أيضًا، أي إذا أثبتنا حدوث التَّطوُّر الصُّغروي "micro evolution" في بضع سنين، فيمكننا تصوُّر أن يحدث التَّطوُّر الكبرويُّ "macro evolution"، الذي يَنْتُج عنه أنواعٌ مختلفةٌ من الكائنات في مئات ملايين السنين. ويُفيض صاحبنا في شَرْحِ التَّغيُّرات التي حَصَلت في تراكيب هذه الكائنات ثُمَّ يقول لك: لا تعرفُ عن هذه الأشياء وتأتي لتُنَاقش في التَّطوُّر يا جاهل! حتى تُحِسَّ أنَّك تتضاءل أمام هذا العالِم الذي يعرف أكثر منك بكثير، وأنَّه بنى قناعاته على علم. وعند التَّفحُّص العلمي تُفَاجَأ أنَّه -وببساطة- يكذبُ أو مكذوبٌ عليه، فكلُّ ما حشده من أمثلةٍ ليُوهِمَك أنَّها أمثلة على طفراتٍ عشوائيَّة وافقت البيئة بالصُّدفة، إنَّما هو في الحقيقة -حسب الأبحاث العلميّة- أمثلةٌ على التَّكيُّفِ بآلياتٍ دقيقة التَّصميم لا مكان فيها للعشوائيَّة أبدًا؛ فتجد في هذه الكائنات وفي مادَّتها الوراثيَّة وطريقة قراءتها القدرةَ على تغيير خصائصها؛ لتتأقلم مع التَّغيُّرات البيئيَّة بطريقةٍ دالةٍ على أنَّها وبيئتَها من تصميم عليمٍ، قديرٍ، حكيمٍ، قيومٍ على خَلْقِه، كما رأينا بوضوحٍ -إخواني- في حلقة البكتيريا الهاضمة للسَّيْترات، وكما سنشرح أكثر لاحقًا -بإذن الله- عن الأمثلة الأخرى التي يذكرونها. في حين يدّعي متَّبع الخرافة أنَّها طفراتٌ عشوائيَّة، أي أنه بَهَرَكَ بكثرة الأمثلة، وكذبَ في محلِّ الشَّاهد تحديدًا، وحقيقةُ الأمر أنَّ كلَّ ما ذكره من أمثلة حجةٌ لك لا عليك. خطأٌ كبيرٌ يقع فيه حتَّى بعضُ المعارضين للخرافة أنَّهم يقولون: "نحن لا نُنْكر التَّطوُّر الصُّغروي، لكنَّنا نُنْكر التَّطوُّر الكبروي، الذي يحوِّل كائنًا إلى نوعٍ آخر من الكائنات، فالبكتيريا تطوَّرت، لكنَّها بقيت بكتيريا، وعصافير داروين "Darwin" تطوَّرت، لكنَّها بقيت عصافير" لا إخواني، لا، التَّطوُّر هو تغيراتٌ عشوائيَّة وانتخابٌ طبيعيٌّ ترقيعيٌّ أعمىً، هكذا يُعرِّفونه، وهذه هي دلالة المصطلَح عند أصحابه، فعندما توافقهم على ما يسمُّونه التَّطورَ الصُّغرويَّ، أنت تقرُّ بأنَّ العشوائيَّة تُكْسِبُ الكائنات خصائصَ نافعة، وهو أمر باطلٌ عقلًا وعِلْمًا، وكلُّ الأمثلة التي يوردونها هي على تكيُّفاتٍ بديعةٍ دقيقةٍ لا مكان فيها للعشوائيَّة أبدًا، فليست ماكرو ولا مايكرو ولا نانو ولا فيمتو (بالإنجليزية) تطوُّر. لا يقال هنا "لا مشاحَّةَ في الاصطلاح"، "لا تهم التَّسميات"، بل كهنة الخرافة يراهنون كثيرًا على التَّلاعب بالتَّسميات، يريدون أن يبدوا متحرِّري الفكر، واسعي الخيال العلمي، عميقي النَّظرة حين يقولون: التَّطوُّر الصُّغرويُّ يحصل في سنين، فلماذا لا يحصل الكُبرويِّ في مئات ملايين السنين؟! لتبدوَ أنت -يا من ينكر قولهم- سطحيًا ضيَّق الأفق، في حين أن تسمية التَّكيُّفاتِ بالتَّطوُّر الصُّغرويِّ هي في الواقع قلبٌ للحقائق؛ فالتَّكيُّفات حقٌ، والتَّطوُّر الصُّغروي وهمٌ وكذبٌ؛ التَّكيُّفات تعني الحكمة والقَصْد والتَّصميم المقدَّر، والتَّطوُّر يعني العشوائيَّة والصُّدفيَّة، فتسمية التَّكيُّفاتِ التَّطوُّر الصُّغرويِّ هو كتَسْمِية العِلْمِ جهلًا والحكمةِ عبثيَّةً، هذا ما نَقْصِدُه بخلط الحقائقِ بالخرافة، خلطُ المشاهداتِ بالنَّظريَّة والتَّنبُّه له مهمٌّ جدًّا إخواني، مثلما خلط صاحبنا معلوماته الصَّحيحة عن هولندا بنظريَّتِه عن فيتامين النَّجاح في البندورة. الخلط بين الحقِّ والباطل طريقةٌ قديمةٌ أنكرها الله -تعالى- على أهل الكتاب، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [القرآن 3: 71]. وهكذا هؤلاء، يخلِطون الحقائق بباطلِ الخرافة ويكتمون الحقائق التي تهدم خرافتهم، بالإضافة إلى ذلك يتمُّ خلط المشاهدات الكونية الدَّالَّةِ على الله بالشَّهوات، فلا تكاد ترى فيلمًا وثائقيًّا إلا ويُحشَر فيه مشاهد تستدعي الغرائزَ وتَحْرِف العقل، وكأنَّه من وحي الشَّيطان إلى أوليائِه؛ حتَّى لا يتسرَّب الإيمان إلى القلوب عند مشاهدة بدائع الخلق، ولا يتحرَّكَ اللِّسان بقول: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [القرآن 3: 191] بل تطغى الشَّهوة وتَسْتَحكِم الغفلة باستحضارِ هذه المشاهد. إذن أوَّلُ أسلوبٍ تكلَّمنا عنه -إخواني- هو الخلط بين الحقيقة والخرافة، تستمع إلى كلام علمي ممتع تُحِسُّ أنَّه أضاف إلى حصيلتك المعرفيَّة الكثير حقًّا، فتنبهر ثُمَّ بلمسة سحرية يُوَظَّفُ هذا الكلام لترويج الخرافة. عوِّد نفسك -أخي- أن تَفْرِز بين المعلومة والاستنتاج، هذا الذي تُحَدِّثُني عنه -يا من تخاطبني-، هل هو معلومةٌ واقعية أم استنتاجٌ من عندك؟ إن كان معلومة فأعطني الدَّليل عليها، وإن كان استنتاجًا فعَلَيَّ أن أتحقَّق من صحَّة استنتاجك؛ لأن صحَّة المعلومة لا تعني بالضَّرورة صحَّة الاستنتاج. كن ناقدًا عميقًا وفرِّق بين الحقيقة والخرافة، والسَّلام عليكم. (مؤثرات صوتية)