- هناك أكوانٌ لا حصر لها، ممّا يُفسّر الضّبط الدّقيق في معايير كَوْننا الفيزيائية - لكن أين هذه الأكوان يا هوكينغ؟ في نبتة غير موجودة، -لسببٍ ما- لَمْ تُتَابع عمليّة التطوُّر السَّلامُ عليكُم يُحكَى أَنَّّ رَجُلاً لبِسَ لِباس العُلماء ثُمَّ جاء إلى قَريةٍ وقال للنّاس: اسألوني فيما شِئتم وأنا أُجيبُكم وبالفِعل، ما سُئِل سُؤالًا إلاّ أجاب، وبشيءٍ من التفصيل حتَّى شكَّ الناس أنَّه يُؤلِّف أيَّ جَوابٍ من عندِه فقالوا: تعالَوا نسأله عن شيءٍ افتراضيّ نَخترِعُه ، وَلْنُسمِّه (الخُنْفُشَار) فَجاؤوهُ، وقالوا: عالِمَنا الجَليل، ما قولك في الخُنْفُشار؟ فقال: نَعَم، الخُنْفُشَار نباتٌ يَطلُع في أطراف جِبالِ اليمن، إذا أَكلَته الإبلُ انعقدَ لَبنُها، حتّى قال الشاعر اليمنيُّ الكبيرُ: لقد عقَدَتْ محبَّتُكم فُؤادي كما عَقدَ الحليبَ الخُنْفُشَارُ من سيستطيع أن يُثبِت خَطأ نَظَريّة هذا الشّيخ (الخُنْفُشاريّ)؟ من سيستطيع أن يَذهَب إلى أطرافِ جِبال اليمن كلِّها ويُثْبِتَ أنّ الخُنْفُشَار غَيْر موجود؟ من سيستطيع أن يَنفِي أن يكون هذا الاسم الذي ألَّفَه أهلُ القرية موجودًا بالفعل بالصُّدفة؟ أنا ما أخبرتُ أحدًا بهذه القِصّة إلاّ ضَحِك ولكن الغريب أنّ كثيرين يقرأون قِصّةً مشابهةً تمامًا ولا يضحكون إنَّها قصّةُ داروين في كتابه (أصْلُ الأنواع) تَحْت عِنوان: "حوْل عَدَم اكتمال السِجلّ الأُحْفوري" فتابِعوا مَعَنا (مؤثرات صوتية) ادَّعى داروين أنّ نَظَريّته تَتطلَّب ظُهورَأنواعِ الكائنات بِشكلٍ تدريجيٍّ بطيءٍ جدًّا وأنْ تَكُون طبقاتُ الأرض مليئةً بعددٍ لا حَصْرَ له من الكائنات الانتقالية وأنا أقولُ: (ادّعى) لأنّنا بيَّنّا بالتَّفصيل في حَلَقة (من سَرَق المَليُون) أَنَّ عِبَارة (لا حَصْر لها) قاصرةٌ عن وصْف العَدَد الخَيَاليّ الفَلَكيّ الّذي سيَنتُجُ دُوْن أن يَتَحوّل كائنٌ إلى كائنٍ آخر. على كلٍّ فَلْنَفترِض أنّه يُمْكن -بعددٍ لا حَصْر له من الكائناتِ الانتقاليّة- أنْ تَتَحقّّقَ خيالاتُ داروين. هذا يعني أنّ الكائنات سَتَظهر في طبقات الأرض بتدرّج وليس بشكلٍ فُجائيّ لأنّ ظُهورها بشكل فُجائيّ يعني أنَّها لَمْ تَتَطوَّر عن شيءٍ قَبْلها، لذلك قال داروين في الفَصْل العاشر مِنْ كتابه (أصلُ الأنواع): "إذا ظَهرَت بالفعل أنواعٌ كثيرةٌ من الكائنات للحياة في وقْت واحد فإنّّ هذا سيكون قاتلًا لنَظَريَّة التطوُّر بالانتقاء الطبيعيّ". بتَعبِيره: Would be fetal to the theory of" evolution through natural selection" حسنا يا داروين، أنت تَعْلم مِن أيّامِك أنَّ أنواعاً كثيرةً ظهرت فجأةً بَدءًا مِن طَبَقات العَهْد الكَامْبِري وتَعْلمُ أنَّ هذه الظّاهرة تَكرَّرت في طَبَقات أخرى حيثُ نرى أنواعًا عديدة تَظْهرُ فجأةً في نفسِ الطَّبقة غيْرَ مسبوقةٍ بكائناتٍ وسيطة -على حدِّ تعبيرِك أَقرَّ داروين أنَّ هذه الصُّعوبة تُواجهُ نَظَريَّته بَدَل أن يُقِرَّ بأنَّها حقيقةٌ تَهدِم خُرافَته وذَكَر أنّ بَعْض أَقْرانه اعتَرَض عليه بهذه الحقيقة لَمْ نجده خارج أوروبا وأمريكا بأعدادٍ لا حَصْر لها كما عشَّمتنا تُرى هل أَقَرّ داروين من قَبِيل الموضوعيَّة والنَّزاهة كما يَظُنّ البعض؟ أم ليُمارِس بعدها (خُنْفُشاريَّته) المعتادة؟ تعالوا نرى حَضْرةَ العالِمِ الكبير داروين، أين الخُنْفُشار؟ أين الكائنات الانتقاليّة التي لا حَصْر لها والتي تَسبِق ظهورَ أنواعٍ كثيرة من الكائنات دَفعةً واحدة في طبقةٍ من الطبقات؟ يُجيبك داروين: "نحن نَجْهل طبقات الأرض فيما وراء حدود أمريكا وأوروبا" يعني، رُبَّما توجد الكائنات الانتقاليّة التي لا حصْر لها -حسْب داروين والتي تعجُّ بها طبقات الأرض- هناك في أطراف جبال اليمن، والصين وموزمبيق، وهونولولو، والواقواق يقول لك داروين: "نَحْن ننسى كم العالم فسيح، فقد يكون الذي حصل تاريخيًّا هو أن الكائنات تطوّرت تدريجيًّا "else where" في مكان ما في مكان ما، وبالصُدْفة -بطريقةٍ ما- انتقلت نُسَخٌ من بعض الكائنات إلى أرض أمريكا وأوروبا ومؤكدٌ -إخواني- حتّى يُضبَط هذا التصوُّر (السيناريو)- علينا أن نفترض أنّ هذه الكائنات في أرض أمريكا وأوروبا، بل استمر التطوُّر خارج أمريكا وأوروبا وكُلَّ فترةٍ تنتقل نُسَخٌ من كائناتٍ أخرى -بطريقة ما- إلى أمريكا وأوروبا ولا تَتَطوَّر وبالتالي فطبقات الأرض في مكان ما خارج أمريكا وأوروبا يجب أن تَعُجَّ بالكائنات الانتقاليّة بِمِثل هذا التصوُّر (السيناريو) الواهي جدا تَفْهم قول داروين في خِتام مُنَاقشته "أنَّنا لا نمتلك إلاّ ما يُشبه المجلَّد الأخير لتاريخ السِجلّ الأُحْفوريّ محدوداً بِبلدين أو ثلاثة ومن هذا المجلّد لم يُحفظ إلاّ فصلٌ واحد ومن هذا الفصل لم تُحفَظ إلاّ سطورٌ قليلة من بعض صفحاته" حسنا يا داروين، إذا قبِلنا تفسيرك هذا للطبقات العليا فما ردُّك على طبقاتِ العهْد الكامبري السَحِيقة العَمِيقةِ في الأرض، هذه الطبقات ظهرت فيها أنواعٌ من الكائنات فجأةً أيضا، فيما يُعرف بـ(الانفجار الكامبري) دون وجود (كائناتٍ انتقاليّة لا حصْر لها) تحْتها فلا يُتصوَّر أن تُوجَد لهذه الكائناتِ كائناتٌ انتقاليّة سبقتها في مكان ما؛ لأنّها أعمقُ الطّبقات عمليًّا وليس تحتها طبقاتٌ ذات شأن. يقول لك داروين: "رُبَّما قبل أن تترسّبَ طبقاتُ العهد الكامبري السحيقة العميقة في الأرض، رُبَّما كانت هناك فتراتٌ من الزمن طويلةٌ جداً بطول الزمن من العهد الكامبري حَتَّى الآن أو أَطْول، وهذه الفترات كانت تعُجُّ بالكائنات الحيّة" - لكن يا داروين هل يُعقَل أنَّ هذه الفتراتِ الزمنية الطويلة كانت تَعُجُّ بالكائنات الحيّة المتنوِّعة ولم نجد من هذه الكائنات شيئًا يُذكَر؟ - هل تستطيع أن تُثبِت خطئي؟ هل نَزلْتَ عميقاً، وثَقَبتَ الأرض إلى أن وَصَلتَ إلى النّاحية الثانية من الكرة الأرضية، لتُثبتَ أنَّه ليس هناك طبقاتٌ كهذه؟ - بصراحة، لا - إذًا، اسْكت بل ولَدَى داروين رَدٌّ ثالثٌ، يقول لك فيه: - "رُبَّما في الزّمان السَحِيق كانت الظُروف البيئيّةُ عنيفةً بحيث أنتجت تَغيّراتٍ سريعة في الكائنات الحيّة؛ فلم يَلحَق السّجلّ الأحفوريّ أن يحتفِظ بالكائنات الوسيطة". إذًا، أحالَك داروين على المجهولِ جغرافيًّا خارج حدود أمريكا وأوروبا في مكانٍ ما، وعلى المجهول في أعماق الأرض وعلى المجهول في عُمْق التّاريخ، ولسان حاله: (أتحدّاك أن تُثبت خطأ نظريّتي) إذًا، أحالك داروين على المجهول جغرافيًّا خارج حدود أمريكا وأوروبا في مكان ما وإلى المجهول في أعماق الأرض وإلى المجهول في عُمْق التّاريخ ولسان حاله: "أتحدّاك أن تُثبت خطأ نظريّتي". النّاسُ يضحكون من العالِم (الخُنْفُشاري) الذي أحالَ على أطراف جبال اليمن، ولا يَضحكون من داروين الذي يُحيل على مَجاهيل الزّمان والمكان، في كائنات يقولُ هو أنّه يجب أن تكون لا حصر لها، وأن تَعُجَّ بها طبقات الأرض كلّها، بل وأن تمتلئَ بها الحياة على سطح الأرض. لا عَجَب، فنُكتة داروين قد وُضع قبلها كلمة (بالإنجليزية) نظرية إذًا، فبمِثل هذا اللّفّ والدوران عالَج داروين قضيةَ السّجلِّ الأُحفوري في 11 ألف و 660 كلمةً من كتابه (أصل الأنواع)، ليخلُص في آخر هذا الفصل إلى عبارته: "بهذا المنطق، فإنّ الصّعوبات التي تمّ نِقاشها أعلاه، تَتَضاءل بشكل كبير أو أنّها تختفي تمامًا". تختفي. تختفي كما يُخفِي الساحر الأشياء بعصاه السحريّة. هذا درسٌ جيّدٌ جدًّا -إخواني- لمن يظنُّ أنّ داروين كان عالمًا موضوعيًّا يَعترف في كتابه بالصّعوبات التي تواجه نظريّته. فرقٌ بين عالمٍ يطرح نظريّةً مُتماسكة، لها أساسٌ تقومُ عليه، ثمّ يَعترفُ بنقاط الضّعف، ويناقشُها بموضوعيَّة، وفي المقابل من يطرح خًرَافات، ثمّ يَنزِع فتيل الاعتراض بتهزيل الحقائق المًصَادمةِ لخًرَافاته والالتفافِ عليها. فقد تعامل داروين أوّلاً مع الكائنات كلُعبةٍ مَعجًونيَّة، ثمّ أحال على مجاهيل الزّمان والمكان تصوُّرات (سيناريوهات) مُضحِكة عند التحقيق، ثم خَلُصَ إلى أنّ مناقشته هذه حَلَّت الإشكال بشكلٍ كامل، أو شبه كامل. لكن لاحظوا إخواني أنّه كان في خنفشاريّة داروين ثَغرة. من المستحيل الوصول إلى أعماقِ أعماقِ الأرض ومن المستحيل العودة إلى الزّمان السّحيق، لكن ليس مستحيلًا أن نبحثَ عن الكائنات الانتقاليّة خارج أمريكا وأوروبا. وبالفعل، انطلق أتباع داروين بحثًا عن هذه الكائنات التي تَكلّم عنها أستاذهم، عن (الخُنْفُشار)، لِيُثبتوا صِحَّةَ تنبّؤات عالِمِهم الكبير. مَهمَّةٌ لا بُدَّ وأن تكون ليست بالصّعبة جدًّا؛ لأنّ طبقاتٍ من الأرض في مكان ما يجب أن تعُجّ بخُنْفُشار داروين، وإنْ خَلَت منه أميركا وأوروبا لأسبابٍ مجهولة. في الوقت الذي كان أبطالُ الأفلام، ورسوم الكرتون يبحثُ أحدُهم عن أمِّه في كلِّ مكان، أو عن الكنز المفقود، أو عن بطلةِ الفيلم أنفق أتباع داروين 170 عامًا في البحث عن الخُنْفُشار في كلّ مكان. وصلوا في رِحلتهم هذه إلى الصّين فما وجدوا غيرَ عِظامٍ مُلَفّقةٍ مُلَزّقةٍ سَمَّوها حَفريّة الأركيورابتور (Archaeoraptor)، والتي ما لبِثت أنْ تَبيَّن أنّها مُزَيَّفة، كما شرحنا في حلقة (نظريّة البانكيك) وصلوا فيها أُثيوبيا في عُمق إفريقيا فوجدوا فيها بقايا عظامٍ تَهَشَّمتْ أجزاءٌ منها تحت أيديهم، فكادت قلوبهم تَتَهشَّم معها وسارعوا إلى لَمْلَمَتها، وسَمُّوها حفريّة آردي (Ardi) و اعتبروها أهمَّ اكتشافاتِ القرن في عالم تطوُّر الإنسان، وأيقونةً من أيقونات تطوِّر الإنسان الكبرى. ثمّ عادت كُبْريات مجلاّتهم مثل نيتشر "Nature"، وسَيَنْس "Science" وكِبار مواقعهم مثْل سَيَنتيفك أميركان "Scientific American" فشكَّكَت في أن يكون لـ (آردي) أيَّة علاقة بالإنسان أصلاً، وهم الآن مختلفون في تفسيرها. ولك أخي أن تَتَصوَّر حَجْم المأساة والوَضع المُزري لأتباع الخُرافة عندما يحتفلون ببقايا حفريّةٍ مُهترِئة، وينشرون أبحاثًا كثيرةً عنها ثُمَّ يختلفون حَوْلها، مع أنَّ خُرافَتهم تَتَطلَّبُ أعدادًا لا حَصْر لها من المراحل الانتقاليّة، حتّى لو تنازلنا لهم كثيرًا وغيرُها من القِصَص البائسة التي ذَكَرنا عدداً منها في حلقة (في سبيل الخُرافة) ومع ذلك كلِّه لا زال ريتشارد دوكينز يقول "بأنّ التّطوّر لا بدّ وأن يكون قد حصل وأنّ علينا أن نحفرَ بحثًا عن الكائنات الانتقاليّة في مكان ما آخر" "on the other side of the mountain" على النّاحية الأخرى من الجبل تذكّروا الخنفشار الذي في أطراف جبال اليمن إذًا، أين خنفشارك يا داروين؟ كانت هذه ثغرةً لا أقول في نظريّة دارون، بل في خنفشاريّة نظريّته، ثغرةٌ تَعلَّم منها أتباعُه، فسَعوا إلى سدّ الثّغرات من بعده. لذلك عندما تسمع أنّ العلماء من بَعْد داروين يسدُّون الثّغرات، فهذا صحيح، لكنّهم لا يسدُّون ثغرات النَّظريّةٍ بل يسدّون ثغرات خُنفشاريّة النَّظريّة، يعني يحاولون (خَنْفشة) التّنبّؤات بحيث لا يتكرّرالإحراج الذي أوقعهم فيه داروين فيما يتعلّق بالحفريات خارج أمريكا وأوروبا. فعندما ترى فرانسيس كريك ثُمَّ ريتشارد دوكينز يقولان لك: "ربّما كائناتٌ فضائيّة، هي التي بَذَرت بذْرة الحياة على الأرض" فهُم، لم يحيلوك على أطراف جبال اليمن، ولا على خارج أمريكا وأوروبا في مكان ما، بل على أطراف الكون، وما أدراك؟ ألا يمكن أن تكون الكائنات الفضائيّة التي بَذَرَت الحياة، تبعد عنّا (تريليونات) السّنوات الضوئيّة في زاوية ما من زوايا الكون؟ هل تستطيع أن تُثبت خلاف ذلك؟ فلا تستغربوا إن قال أتباع داروين في المستقبل أنّ التّطوّر حصل في كوكبٍ آخر، ثمّ جاءتنا الكائنات -التي نعرف- بالأطباق الفضائيّة، وبَقِيَت الكائنات في الكوكب X، يعُجّ بأعدادٍ -لا حصر لها- منها ثمّ تتطوّر الخنفشاريّة وتدخل عالم الفيزياء والفلك، لتنقل الخنفشار لا إلى أطراف جبال اليمن، ولا إلى أطراف الكون، بل إلى خارج الكون كله. حتّى يقول لك هوكينغ: - هل خَرَجْتَ من كوننا لتثبت أنّ نظريّتي خطأ؟ وأنّه ليست هُناك أكوانٌ متعددة؟ - حسنًا، كيف نراها بالعلم التجريبيّ؟ - في المستقبل، ربّما الثّقب الأسود سينقلنا إلى هذه الأكوان الأخرى. إحالةٌ على مجهول المستقبل، كما أحالوا على مجهول الماضي. بل وهذه المرّة خارج حدود الكون كلّه. إذًا إخواني، هذا هو أسلوب الخَنْفَشة، الإحالة على المجهول الذي لا يمكن التحقق منه، أسلوبٌ يستخدمه أتباع الخُرَافات كثيرًا وفي مجالاتٍ كثيرةٍ، فانتبهوا له في مناقشاتكم. والسلامُ عليكُم.