السَّلام عليكم نَعُود إليكم يا كِرام لِنَسير في رحلة اليقين. المحطَّة الرَئيسَة التَّالية هي مناقشة أصلُ الإنسان: تَطَوُّر، أمْ تَطوير، أمْ خلقٌ مباشر؟ قبْل الوُصول إلى هذه المحطَّة، سنعرض لكم حلقاتٍ تُلخِّص بعض المفاهيم المُهمَّة، نافعة للمتابعين من البداية، وللمُنضمِّين الجُدُد لرحلة اليقين. تُعينك على فهمٍ معمَّقٍ للعلاقة بين العِلْم، والعلم التجريبي، والإيمان، والغيب، وتُجِيب عن استفساراتٍ مُؤرِّقةً للكثيرين سننشر هذه الحلقات المركَّزة بشكلٍ مُتَتابع، ثم نطبِّقها على أصل الإنسان كدراسة حالة (case study) بإذن الله حلقة اليوم هي مناقشةٌ لمقولةٍ شائعة، خلاصتها: (لا تخلطوا الإيمان بالعلم التجريبي) فالإيمان يَقُوم على قناعاتٍ غيبيَّة؛ بينما العلم التجريبي يقوم على علومٍ مادِّيَّة. دعونا نناقش هذه العبارات. هل بالفعل العلم التجريبي مادِّي، ويجب عدم خلطه بالإيمان؟ إذن نحن في حلقة اليوم نحاول أن نرسم العلاقة بين الإيمان بالخالقيَّة، والمادِّيَّة، والعلم التجريبي. دعونا بدايةً نُعرِّف مصطلحات. أنّه لا بدَّ لكلِّ شيءٍ حادث في هذا الكون من سبب. الإيمان بالخالقيّة: هو الإيمان بأنَّ هناك خالقًا خَلَق الكون والحياة. المادِّيَّة: تعني استثناء الغيب -أيَّ شيءٍ خارج إطار المادَّة-، استثناؤه تمامًا من تفسير الكون والحياة، بما في ذلك استثناء وجود خالق للكون والحياة. والعلم التجريبي يعني العِلم التَّجريبي الرَّصدي؛ لا أختصره بالعِلم لأنَّنا سنبرهن على أنَّ العلم التجريبي ليس الشَّكل الوحيد للعِلم، فالعِلم أعم والعلم التجريبي شكلٌ من أشكاله. العلم التجريبي يشمل الاختراعات والاكتشافات النَّافعة للإنسان في الصحَّة، والاتصالات، والنقل، والعمران، وغير ذلك. تعالوا نر على ماذا يعتمد العلم التجريبي، ثُمَّ نر هل هذه الأشياء التي يَعتمِد عليها موجودة في منهج الإيمان بالخالقيَّة، أم في المادِّيَّة؟ لنحكم على العبارات التي ذكرناها. أوَّلًا: لا شكَّ أن العلم التجريبي يعتمد على العقل العقل الذي يحلِّل المعلومات، يستنتج، يتوقَّع، يربط، يصوغ الفَرَضيَّات، يحكم على أشياء بالصِحَّة والبطلان. ثانيًا: العلم التجريبي يعتمد على مُسَلَّمات، بَدَهِيَّات: أمور لا يختلف عليها العقلاء. هذه البَدَهِيَّات ينطلق منها العقل في الرَّبط، والتَّوقع، والاستنتاج؛ ولذلك تُسَمَّى الضَّرورات العقليَّة أو الأوَّليَّات العقلية. مِثْل ماذا؟ مثل مبدأ السببيَّة: أنَّ كلَّ شيءٍ حادث له سبب. يعني كلُّ شيءٍ وُجِدَ بعد أن لم يكن موجودًا لا بد أن يكون له سبب. كلَّما رأيت في العلم التجريبي كلمة (لماذا؟)، فأنت تبحث عن السَّبب. يعني (ما السَّبب لحصول كذا وكذا؟) كلَّما رأيت كلمة آليَّة (mechanism)؛ فهي وصفٌ للسَّبب. في علم الأدوية مثلًا -والذي هو مجالي الأصلي- ما هي استخدامات دواءٍ معيَّن؟ نعرفها إذا وجدنا أنَّ هذا الدواء كان سببًا للشفاء في هذه الاستخدامات والأمراض. حسنًا، كيف يعمل هذا الدواء؟ ما هي الآليَّة لعمله الـ(mechanism)؟ هنا نبحث كيف تسبَّب هذا الدواء في الشفاء؟ لماذا تَحْدث الأعراض الجانبيَّة الفلانيَّة من هذا الدواء؟ نبحث عن السَّبب لنتجنَّب هذه الأعراض. لماذا تتداخل هذه الأدوية مع أدويةٍ أخرى (interactions)؟ نبحث عن الآليَّة -أي السَّبب- لهذا التداخل. العلوم في مجملها بحثٌ عن علاقاتٍ سببيَّة، ونحن ننطلق من قناعةٍ مسبقة، بَدَهِيَّة، مُسَلَّمة، ونضحك إذا قِيلَ لنا في الجواب عن أيٍّ من هذه الأسئلة: "هكذا حصل بلا سبب". بل نوقن أنَّ هناك سببًا ونسعى في اكتشافه. ثالثًا: العلم التجريبي يعتمد على تراكُم المعرفة؛ أي على ما يُخبِر به الباحثون قبلنا من نتائج أبحاثهم واكتشافاتهم. لا يمكن لأي باحثٍ أن يعيد كل شيءٍ من البداية تمامًا (from the scratch). ليس عليه أن يعيد اكتشاف ما تَمَّ اكتشافه، بل يبني على إخبار الباحثين السابقين عن نتائجهم، مع مراعاة آليات التأكد من مدى موثوقية هذه الأخبار -يعني هذه النتائج- وأنها (reproducible)، أي قابلةٌ للإنتاج مرةً أخرى. أيُّ بحثٍ علمي جديد فإنه يقوم بخطوة مراجعة ما تم نشره (literature review) لِيُبيِّن أين وصل العلم التجريبي؛ ما الذي أَخْبر به الباحثون السابقون؟ فيبني عليه ويستفيد منه. ثم قد يُبيِّن ما هي المعلومات الناقصة التي لم يجربها أو يبحث فيها الآخرون ليجربها هذا البحث الجديد ويضيف إلى البناء المعرفي. رابعًا: العلم التجريبي يعتمد على الحِسّ، والذي يُدخِل مدخلات إلى هذه المنظومة المعرفيَّة. الحِسّ قد يرصد الأشياء وقد يرصد آثارها، فمِن تفاعل الحِسِّ مع العقل والبَدَهيِّات، يستنتج الإنسان وجود هذه الأشياء من آثارها، وإن لم تكن مرصودة بذاتها. سؤال يا كرام: حتى الآن، هل هناك عاقلٌ يخالف فيما ذكرناه؟ هل هناك عاقل يُنكر اعتماد العلم التجريبي على هذه الأشياء الأربعة؟ إذن دعونا نسميها مصادر العلم التجريبي: العقل، والمُسلَّمات البَدَهيَّة مثل أن لكل شيءٍ حادث في الكون سببا، والخبر: يعني الأبحاث السابقة، والحِسّ والذي يشمل رصد الأشياء أو رصد آثارها. العلم التجريبي ينتج عن تفاعل هذه العناصر الأربعة. أهذه المصادر الأربعة التي يعتمد عليها العلم التجريبي موجودةٌ يا تُرى لدى منهج الإيمان بالخالقيَّة أم لدى المادِّيَّة؟ تعالوا نر. أولًا: بالنسبة للعقل، الإيمان بالخالقية يعني الإيمان بأنَّ الكون والحياة والإنسان مخلوقاتٌ من خالقٍ كامل الصفات، أوجدها عن علمٍ وحكمة، وأعطى الإنسان عقلًا موثوقًا مهيَّئًا لاكتشاف الحقائق، وبالتالي يمكن الاعتماد على هذا العقل في التحليل، والاستنتاج، والحكم على الأشياء أنَّها صحيحة أو خاطئة، فيمكن استخدامه في إنتاج العلم التجريبي. في المقابل، المادِّيَّة ترفض هذه المقدِّمة (أنَّ الكون والحياة والإنسان هي مخلوقاتٌ لخالق)، وتفترض المادِّيَّة بديلًا عن ذلك أنَّها نتيجة الصُّدفة. كما في هذه الورقة مثلًا عن تاريخ العلم التجريبي الغربي، والتي تضع عنوان: افتراضات العلم الغربي عبر تطوره التاريخي، ثم تذكر من هذه الافتراضات أن العالَم المادِّي متجمِّعٌ بالصُّدفة من أصغر وحدةٍ فيزيائيَّةٍ فيه إلى أكبر التركيبات والعلاقات. إذن فحسب المادِّيَّة، الدماغ وأدوات الإدراك جاءت بالصُّدفة وبالتَّالي فالعقل جاء بالصُّدفة دون قصدٍ من أحد. حسنًا كيف أثق بعقلٍ جاء بالصُّدفة أن يدلَّني على الحقائق؟ كيف أثق باستنتاجاته وتحليلاته وفهمه إذا كان جاء بالصُّدفة ولم يُهَيَّأ أصلًا لاكتشاف حقائق الأشياء؟ بل ليس مُصمَّمًا، ولا مخلوقًا بقصدٍ أصلًا! هذا السُّؤال وحده كافٍ في إثبات القطيعة التامَّة بين المادِّيَّة والعلم التجريبي. واسمحوا لي أن أركِّز على هذه النُّقطة لأنَّها كافيةٌ في بيان تفاهة المادِّيَّة. بدايةً: قد تُفاجأُ إذا علمتَ أنَّ داروين "Darwin" نفسه طعن في مصداقية العقل، حيث قال في مراسلاته مع ويليام غراهام "William Graham": "ينتابني دائمًا شكٌّ فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، والذي بدوره تطوَّر من عقول حيوانات أدنى، تتمتَّع بأيَّة قيمة أو تستحقُّ أدنى ثقة." وستجد مثل كلامه هذا في ملحق كتابه (أصل الأنواع طبعة Ontario: Broadview) حيث يصف عقل الإنسان بأنَّه تَطوَّر عن عقلٍ كعقل أدنى حيوان وعليه يُشكِّك في مصداقيته. طبعًا عندما تسمع هذا الكلام لداروين، ستتصوَّر أنَّه كان صادقًا مع نفسه، يُبدِي حيرته هذه أمام الناس في سبيل الوصول إلى الحقّ. في الواقع، دارون كان يقول هذه العبارات على سبيل إنكار أن يكون للكون والحياة خالق. يقول: "الإنسان إذا نظر إلى الكون والكائنات الحيَّة فلا يمكن لعقله إلا أن يُقِرَّ بأنَّه لا بُدَّ لها من خالق، وأنَّه يستحيل عقلًا أن تأتي هذه كلها بالصُّدفة. لكن، لماذا نُصدِّق عقولنا وقد تطورت بالصُّدفة عن عقول كائناتٍ أدنى؟". حسنًا يا داروين، لماذا تشكِّك في صدق العقل عندما يدلُّك على وجود الخالق فقط؟ لماذا لا تشكِّك في عقلك عندما جاء بسيناريوهاتك عن التطوُّر الصُّدفي الأعمى؟ إذا كان عقلك غير موثوق فلا تصدقه في أي شيء. ليس لك أن تصدِّقه في شيءٍ وتكذِّبه في آخر. قد يقول قائل: يا أخي ما لي وما لداروين ومقولات داروين القديمة. مر على وفاة دارون حوالي قرن ونصف. حسنًا ماذا إذا علمت أنَّ كثيرًا من كبار المادِّيِّين بعده نَصُّوا على نفس النتيجة، أن العقل لا يمكن تصديقه والوثوق به لمعرفة الحقيقة. وسآتي لكم بمقاطع موثَّقة من محاضرة الدكتور سامي العامري (الداروينية حجةٌ للإلحاد أم حجةٌ عليه؟). [هل تعرف فرانسيس كريك (Francis Crick)؟ البيولوجي الشهير جدًّا، والملحد الشهير جدًّا، وهو حاصل على جائزة نوبل. هذا رجل من أشدِّ الملاحدة تطرُّفًا. يقول في كتابه (The Astonishing Hypothesis) يقول بالحرف الواحد: "لم تتطوَّر أدمغتنا المتقدِّمة للغاية تحت ضغط اكتشاف الحقائق العلمية ولكن فقط لتمكيننا من أن نكون أذكياء بما يكفي للبقاء على قيد الحياة".] تعالوا نر كلام علماء من رؤوس الماديين لا زالوا أحياء. يقول الفيلسوف جون غري "John Gray" بهذه العبارة: "إذا كانت نظرية دارون في الانتقاء الطبيعي صحيحةً، فإنَّ العقل البشري يخدم النجاح التطوري، وليس الحقيقة." وكذلك عالم النفس الملحد ستيفن بينكر "Steven Pinker" في كتابه (كيف يعمل العقل). يقول: "أدمغتنا شُكِّلت للمُلاءمة -يعني على مبدأ البقاء للأصلح أو الأكثر ملاءمةً للطبيعة- "وليس للحقيقة. أدمغتنا شُكِّلت للملاءمة وليس للحقيقة، (not for truth) أحيانًا تكون الحقيقة تكيُّفيَّة، ولكن أحيانًا أخرى لا تكون كذلك." يعني أثناء تطوُّرنا عن كائناتٍ أدنى، تطوَّرت عقولنا بما يكشف الحقيقة أحيانًا ويساعد على البقاء. وأحيانًا أخرى، نشأت لدينا أوهام ساعدتنا على التكيُّف مع الطبيعة. أوهام مخالفة للحقيقة، لكنها بقيت لدينا في عقولنا لأنها حقَّقت لنا البقاء. وهو ما يؤكده أيضًا دوكينز في جلسته مع كراوس "Krauss" وهما يحاولان إقناع الناس بأنَّ الكون أوجد نفسه بنفسه من لاشيء. طبعا البداهة العقلية جاءت مما كان ضروريا لبقائنا في أفريقيا. كان عليهم أن يعيشوا، أن يعرفوا كيف يصطادون جواميس البافلو، كيف يجدون نبع ماء كيف يتسلفون شجرة عندما يهاجمهم أسد أو ما شابه وبالتالي فالانتخاب الطبيغي لم يشكل عقولنا أبدا لنفهم نظرية الكم أو النظرية النسبية إنه حقيقة لإنجاز مدهش للعقل البشري أن يكون بعض البشر على الأقل قادرين على الفهم إذًا ببساطة يريد دوكينز أن يقول لك: إذا رأيت كلامنا عن كونٍ أوجد نفسه بنفسه وما شابه مُصادمًا لعقلك، فهذا لأنَّ عقلك تطوَّر فقط بالمقدار الذي يسمح لك بالبقاء كباقي البهائم، لا لِيدركَ الحقائق. فعليك أن تثق بمن تطوَّر عقلهم أكثر بدرجةٍ سمحت لهم أن يفهموا ما لم تفهمه أنت من نظريات، وبالتالي يستنتجوا عن الكون والحياة ما تظنُّه أنت جنونًا أو مصادمًا للعقل. سُئل أحد المروجين للإلحاد مات ديلاهنتي "Matt Dillahunty"، كيف تستطيع أن تثق بعقلك وأنت تؤمن أنه جاء صدفة بلا تصميم؟ هل تثق بعقلك لمجرد أن هذا العقل الذي جاء بالصُّدفة أخبرك أن تثق به؟ انظر إلى التخبُّط والتهرُّب في جواب هذا الملحد والذي سنضعه لكم في التعليقات. قد يقول أحد المادِّيِّين يا أخي ما لي وما لهؤلاء كلّهم لست ملزما بكلامهم ولا يمثُّلني، أنا مادِّي ومع ذلك أحترم العقل وأثق به. آها. نحن نأتي بكلام هؤلاء لأنَّهم يصرِّحون بما ينتج حتمًا عن المادِّيَّة، واستثناء وجود خالقٍ خَلقَ العقل عن حكمة. هذا ما ستؤدِّي إليه المادِّيَّة حتمًا، فهؤلاء المادِّيُّون ببساطة حاولوا الانسجام مع أسسهم المادِّيَّة فخرجوا بهذه النتائج الملغية للعقل. أنت عندما تقول أنا ماديّ ومع ذلك أثق بالعقل، أثق بعقلي ولا أقبل كلام هؤلاء، فأنت ببساطة تتنكَّر لمادِّيَّتك ولا تنسجم معها. ثقتك بعقلك ليس لها أي أساس، اضطررتَ أن تسرق ثقتك هذه من منهج الإيمان بالخالقية. فالذي يقول أنه مادِّي هو أمام أحد خيارين: إما أن يلتزم بأسسه المادِّيَّة وبالتالي يصل لنفس النتيجة التي وصلها هؤلاء، أنه لا قيمة لعقله، وإما أن يتنكر لمادِّيَّته حتى يستطيع أن يستخدم عقله ويثق به. أنتم يا إخواني متصورين ما معنى هذا الكلام؟ متصوِّرين كمِ الطرح المادِّي بائس ومنهار من أساسه؟ يعني حينما يبدأ أحد معك بمقدمة أنه: استثن لي وجود خالق ونحن نتكلم في االعلم التجريبي، فقل له: على أيِّ أساسٍ ستناقشني؟ سيقول: العقل. قل له: كيف جاء هذا العقل؟ ما دام لا خالق عنده سيقول: بالصُّدف، والطَّفرات العشوائيَّة، والانتخاب الأعمى. قل له: كيف ستثق بعقلك هذا إذن؟ عقلك هذا لا قيمة له، ولا لأحكامه، ولا استنتاجاته، ولا تحليلاته، ولا تفسيراته. عقلٌ غير موثوق لا يستحقُّ أن أناقشه. تصوَّر أنَّك تقبَّلت فكرة أن هناك طائرة تشكَّلت بمجموع الصُّدف دون أن يقصد أحدٌ صنعها، فهل أنت مستعدٌّ بعد ذلك أن تطير فيها؟ ونحن نسمع كيف يمكن لأدنى خلل في صناعة الطَّائرة أن يؤدِّي إلى سقوطها وتحطمها. هل تتصوَّرون بعد ذلك يا كرام ما معنى عقل تشكل بالصُّدف دون قصد؟ وبالتالي إلغاء قيمة العقل في الدلالة على الحقيقة. حسب المادِّيَّة وهو كذلك استقراءٌ ناقص. إذن فالمادية التي تستثني وجود خالق عليمٍ حكيمٍ من تفسير الكون والحياة تهدم قيمة العقل ومصداقيته تمامًا، وبالتالي تهدم قيمة الاستنتاجات، والتأمُّلات، والتحليلات التي يمارسها العقل في إنتاج العلم التجريبي. وهذا وحده كافٍ في إثبات أن العلم التجريبي لا يمكن أبدًا وصفه بأنه ماديّ، فهو يحتاج العقل الذي لا قيمة له إلا في منهج الإيمان بالخالقيَّة. مضحكٌ جدًّا أن يُوصَف العلم التجريبي بعد ذلك بأنه مادي. هل نكتفي بهذا القدر؟ لا. دعونا نتابع ونتكلَّم عن المصدر الثَّاني للعلم التجريبي! الأمور المُسَلَّمة البَدَهيَّة، مثل أن كلَّ شيءٍ في الكون والحياة له سبب. في العلم التجريبي، العقل يحلِّل المدخلات الحسِّية بناءً على مُسَلَّماتٍ بَدَهيَّة، فيخرج بالنتائج. تريد أن تعرف سبب حصول سرطانٍ ما؟ ممكن تأخذ عيِّنات من بعض المرضى المصابين بهذا السرطان، تحلِّلها، تكتشف فيها أشكال من الخلل، لكن ليس شرطًا أنَّ كلَّ هذه الاعتلالات تسبَّبت في حصول السرطان؛ لأنَّ الاقتران لا يعني التسبُّب بالضَّرورة. (correlation does not imply causation) كما بينَّا. فماذا تعمل؟ تصمِّم تجارب تجرِّب فيها إحداث واحدة واحدة من هذه الاعتلالات على حدة مثلًا وترى أيها السَّبب، وهكذا، ونستخدم عقولنا في هذا كلِّه. لكن، لماذا نفترض أساسًا أنَّ السرطان له سبب؟ لا، هذه مسلَّمةٌ بدهيَّة؛ ضرورة انطلق العقل منها مثلها مثل المسلَّمات الرياضيَّة أنَّ 1 + 1 = 2. هذه ليست أشياء يثبتها العقل بل هي مقدماتٌ بدهيَّة ضروريَّة ينطلق منها العقل. حسنًا، تعالوا نر. في منهج الإيمان بالخالقيَّة هذه المسلَّمات البدهيَّة هي من إيجاد خالقٍ حكيمٍ عليمٍ أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقه ثمَّ هدى. هذه المسلمات موثوقةٌ ويُعْتَمَد عليها. بِغَضِّ النظر هل ستعتبرها جزءًا من العقل، من الفطرة، أو من العقل الفطري كما يسمِّيه البعض. المهم أنها جزءٌ من تكوين كلِّ إنسانٍ سويٍ غير مجنون. حسنًا، في المادِّيَّة، هل هذه البَدَهيَّات موثوقة ويمكن الاعتماد عليها؟ لا؛ لأنها اعتقاد إنسانٍ جاء نتيجة الصُّدفة، اعتقاده بها جاء نتيجة الصُّدفة والتغيُّرات العشوائيَّة والانتخاب الأعمى. وحتى الذين يقولون إنَّها نتيجة استقراءٍ للمدخلات الحسِّية، هذا الاستقراء يتم بالعقل الذي لا يُعْتَمَد عليه في معرفة الحقيقة يقول دوكنز عن فكرة أن الكون أوجد نفسه بنفسه من لاشيء: [هذا يعارض بالفعل البدهيات لكن كما قلت سابقا لا يمكنك الاعتماد على البدهيات لو كان بإمكانك فعل الأشياء بالبدهيات لما احتجنا إلى فيزيائيين] وكذلك البروفيسور ريتشارد ليونتون "Richard Lewontin" الذي قال ما خلاصته: "أن التزامنا بالمادية يحتِّم علينا قبول ادِّعاءاتٍ تبدو سخيفةً متعارضةً مع البَدَهيَّات؛ لأن علينا أن لا نسمح لأيِّ قدمٍ إلهيةٍ بالولوج من الباب" يعني يجب استثناء فكرة وجود خالقٍ من العلم التجريبي، حتى وإن أدَّى ذلك لأقوالٍ مصادمةٍ للبَدَهيَّات، كما بيَّنَّا النُقُولات عنه وعن غيره في حلقة (إله فجوات الملحدين). بهذا المنطق الذي ذكرناه للمادِّيِّين يُسَدُّ باب العِلم، ويمكن أن يُجاب عن أيِّ سؤالٍ عن السَّبب والآليَّة بجواب: هذا المرض حدث بلا سبب، هذا التَّفاعل ليس له آليَّة. وقد بيَّنَّا في حلقة (كيف يهدم الإلحاد العقل والعِلم) إلى أين وصل إنكار الضَّرورات العقليَّة، وكيف أدَّى إلى القول بعدم وجود حقائق موضوعيَّة للأشياء. يعني حتى كلمة "حقائق علمية" لا يعود لها أيَّة قيمة بإنكار الضرورات العقلية. وبهذا رأينا كيف أنَّ المصدر الثاني للعلم التجريبي، ألا وهو الضرورات العقليَّة، ينهدم تمامًا في المادِّيَّة، ولا يسلم إلَّا بالإقرار بالخالقيَّة. المصدر الثالث لللعلم التجريبي هو أخبار الباحثين الآخرين. في منهج الإيمان بالخالقيّة، الخبر معتبرٌ بعد التحقُّق من صحَّته بالوسائل المناسبة. فإذا تضافرت أخبار الباحثين السابقين على نتيجةٍ معيَّنة، بما يجعل الكذب أو الخطأ فيها مستبعدًا، فإنَّ هذه النَّتيجة يُعْتَمد عليها ونستطيع أن نبني عليها ونوظفها في اكتشاف إضافةٍ جديدةٍ للعلم التجريبي. لكن لحظة، حتى إن كانت النتيجة صادقةً ودقيقة، لماذا أعتمد عليها؟ أليس من الممكن أن أقوم بنفس التجربة تمامًا، وبنفس الظروف تمامًا، وأحصل على نتيجة مختلفة لأنه ليس هناك قوانين ولا نظام ولا سُنَنيَّة؟ الجواب نعم؛ لأن الخالق الحكيم العليم جعل الكون يسير حسب سننٍ كونيَّة وقوانين ثابتة، بحيث تسلك الأشياء سلوكًا مشابهًا إذا وضعت في الظروف نفسها، وبالتالي أستفيد من علوم الآخرين وأبني عليها، ويصبح من السفاهة أن أشكِّك فيها وأعيد كلَّ شيء من الصفر قبل أن أضيف إضافة جديدة. أمَّا حسب المادِّيَّة، فلا يمكن التصديق إلا بالمحسوس بشكلٍ مباشر، وبما أني لم أقم بهذه التجارب بنفسي فلا يمكنني الاعتماد على أخبار الآخرين، بل عليَّ أن أقوم بها وأرى نتائجها بنفسي. طبعًا ليس هذا ما يقوم به المجتمع العلمي في الحقيقة؛ بعض التجارب المهمة قد تتناقلها آلاف الأبحاث، وتحيل عليها، وتستشهد بها مع أن الذين باشروها بأنفسهم واحد، أو اثنان، أو ثلاثة. أيضًا، حسب المادِّيَّة فلا ضمانة لثبات السنن وانتظامها ووجود قوانين ما دام الكون والحياة نتيجة الصُّدفة من أصغر شيءٍ فيهما إلى أكبر شيءٍ كما تفترض المادِّيَّة. لذلك إذا قمت أنت بتجربة وخرجت بمشاهدة، فمشاهداتك وتجاربك لا تعنيني ولا يمكن الاستفادة منها ولا البناء عليها. إذ ما الذي يضمن لي أنِّي لو أعَدْت تجربتك فسأخرج بالمشاهدات نفسها؟ هذا الادِّعاء يفترض أن هناك سننًا، قوانين، انتظامًا، وصدف المادِّيَّة لا تؤدي إلى أيِّ شيء من هذا. وبالتالي، فأخبار الآخرين عن تجاربهم ومشاهداتهم لا قيمة لها مهما كانوا موثوقين ومهما تكرَّرت مشاهداتهم. وبالتالي فلا مجال لتراكميَّة المعرفة ولا معنى للإحالة على الأبحاث السابقة (citations)، وقائمة المراجع (references) في أسفل كل بحث. ستقول: لكن ليس هذا ما يفعله العلماء المادِّيُّون، بل هم مقِرُّون بوجود قوانين ونظام. مرَّةً أخرى، المادِّيَّة نتيجتها الحتمية عدم وجود نظام ولا قوانين، فالصُّدف والعشوائية والعمى أبعد ما تكون عن النظام والقوانين. فالمادِّيُّ الذي يؤمن بوجود نظام وقوانين هو إنَّما يقول بلسانه أنه مادِّي ثم يتناقض مع نفسه عند التطبيق ويضطرُّ للسَّرقة من منهج الإيمان بالخالقيَّة. إذن، رأينا كيف تلغي المادِّيَّة المصدر الثالث للعلم التجريبي ألا وهو الخبر والذي لا قيمة له إلا في منهج الإيمان بالخالقيَّة. بقي المصدر الرابع للعلم التجريبي ألا وهو الحِسّ. قلنا أنَّ الحِسّ يرصد الأشياء ويرصد آثارها، وبتفاعل الحِسّ مع مصادر العلم التجريبي الأخرى يجزم الإنسان بوجود أشياء وإن لم يرها. فإذا رأيت إنسانًا يمسك طرف سلك فيُصْعَق ويسقط ميتًا، فإني أجزم بوجود كهرباء في السلك من أثرها وإن لم أرها. عندما أرى حركة أوراق الشجر وأستطيع التنفس، فإنني أستنتج وجود الهواء وإن لم أره؛ إذ لو عُدِم هذا الهواء لاختنقت. الأمواج الكهرومغناطيسية وُظِّفَت في الاتصالات وإن لم نرها، لكن نوقن بها من آثارها. الحرارة، الجسيمات الذَّرِّية، تركيب المواد الكيميائيَّة الذي نستنتجه من سلوك هذه المادَّة وإن لم نرها لكن من أثرها في التفاعلات والتحاليل وغيرها الكثير. أمَّا في منهج الإيمان بالخالقيَّة، فإن أعظم ما يُسْتدَلُّ عليه من آثاره هو وجود الخالق الذي يدلُّ الكون والحياة على وجوده، وعلى بعض صفاته. أمَّا المادِّيَّة، فقد تظنُّون أنَّه بقي لها هذا المصدر من مصادر العلم التجريبي سليمًا، فما نسمعه هو أنَّ المادِّيَّة تقوم على الإيمان بالمحسوسات؛ فلا بُدَّ أنَّ الحسَّ له قيمةٌ في المادِّيَّة. تعالوا نرى... المادِّيَّة ستقف مع الحسِّ أمام أحد خيارين: الخيار الأول: أن ترفض التصديق بوجود الأشياء من آثارها وتقول: بل أصدِّق بما أراه، أسمعه، ألمسه، وحينئذٍ ستلغي كل العلم التجريبي القائم على آثار الأشياء. والأهَمُّ من ذلك أنَّ المادِّيَّة أعطبت مصادر العلم التجريبي الأخرى، فلم يعد للحس أيَّةُ قيمة؛ لأنَّ العلم التجريبي لا ينتج من مجرَّد إبصار الأشياء وسماعها ولمسها. فالإنسان ليس مجرَّد آلةِ مسح، ولا كاميرا تلتقط الصُّور وحسب. بل لا بُدَّ من إعمال العقل بعد ذلك وفق ضروراتٍ عقليَّة لإنتاج العلم التجريبي. والخيار الثاني أمام المادِّيَّة مع الحس: أنْ تقبل بالاستدلال على أشياء من آثارها، كما هي الممارسة العلميَّة الحقيقيَّة. وحينئذٍ، فما المبرِّر العقليُّ الحقيقيّ لأن تنكر ما الكون كلُّه والحياة كلُّها آثارٌ دالَّةٌ عليه، ألا وهو وجود خالقٍ عليمٍ حكيم. بناء على ما سبق يا كرام، لا يَصِحُّ أبدًا وصف العلم التجريبي بأنَّه مادِّي؛ فهذا وصفٌ مضحكٌ جدًّا. ليس هناك شيءٌ اسمه علوم مادِّيَّة في الحقيقة، إن كنت تقصد أنَّها علوم تقوم على أسس ماديّة تستثني الغيب، فالمادِّيَّة لا تؤدِّي إلا إلى العدميَّة؛ لأنَّها تُلغي مصادر العلم. فالقواسم المشتركة بين الأبحاث العلمية هي: استنتاج وتحليل عقلّي، الانطلاق من ضروراتٍ عقليَّة، رصد علاقاتٍ سببيَّة، اعتماد أخبار آخرين بعد التوثُّق من مصداقيتها بناءً على أبحاثهم، افتراض أنَّ كلَّ شيءٍ يسير بنظام، حِسّ، تجريب، استنتاج وجود أشياء من رصد آثارها، وهذه كلُّها لا قيمة لها إلا في منهج الإيمان بالخالقيَّة الذي تسلم فيه مصادر العلم التجريبي هذه وتتناسق فيما بينها. لذلك فعبارة "لا تخلطوا الإيمان بالعلم التجريبي" عبارةٌ مضحكةٌ لشِدَّة جهلها، فالعلم التجريبي ابن الإيمان لا يستغني عنه أبدًا. نحن كثيرًا ما نردِّدْ "الإيمان لا يتعارض مع العلوم التجريبية، الإيمان يدعو إلى طلب العلوم التجريبية"، لكن إخواني، العلاقة بين العلم التجريبي والإيمان أعمق بكثيرٍ من ذلك، فالعلوم التجريبية لا وجود لها أصلًا لولا مصادر العِلم المستندة إلى الإيمان بالخالقيّة. إذن أيُّها الأحبَّة، من أهمِّ النقاط التي أثبتناها اليوم: أنَّ المادِّيَّة تلغي قيمة العقل، وأنَّ العلم التجريبي الـ (science) يعتمد فيما يعتمد على أخبار الباحثين الآخرين بعد التوثق من صحتها. وأنَّ الالعلم التجريبي هو ابن الإيمان بالخالقيَّة. لكن، كيف ندَّعي ذلك وكثيرٌ من العلماء المعاصرين ملحدون أو ماديون؟ ثم نحن نعيب على المادِّيَّة أنها تستثني الغيب من تفسير الكون والحياة، يعني يا إياد تريدنا أن نُجِيب عن أيِّ سؤالٍ علمي بِأنَّه هكذا أراد الخالق وحسب؟ لا داعي للبحث والاستكشاف؟ لاحظوا يا كرام، المأمول من هذه الحلقات أن تمثل ثورةً فكرية تخلصنا من مفاهيم مشوَّشة ومعتقدات باطلة، وتُحِل محلَّها بناءً فكريًا، مرتبًا، مبنيَّا على الدليل العلميّ. لذلك ستلاحظون أنها ستثير لديكم في البداية الكثير من التساؤلات. سنعتمد أسلوب فكرة واحدة لكلّ حلقة، وستلاحظون أنَّ هذه التساؤلات يُجابُ عنها شيئًا فشيئًا بإقناعٍ بإذن الله. وسنبدأ في الحلقة القادمة بالسؤال الأوَّل من هذه الأسئلة فتابعونا، والسلام عليكم ورحمة الله.