فهذا الخالق عدلٌ، حرَّم الظُّلم على نفسه فمفهومٌ أن يُحرِّمه على عباده فقال: ما لم تستند إلى قيمٍٍ مُطلقة على أساس وجود الله، فعلى أيِّ أساسٍ تُخطِّئ زِنا المحارِم مثلًا؟ فماذا كان جوابه؟ تعالوا نرَ: إذن يقول لك: ليس واضحًا لديَّ أنَّه خطأ أي يا كراوس فلا معنًى للرَّحمة ولا للصِّدق ولا للوفاء ولا لبرِّ الوالدين ولا حسابَ أُخرَويَّ عليها، أمر عباده بأخلاقٍ تنسجم مع صفاته يقول عالم الفيزياء الملحد ستيفن هوكينغ "Stephen Hawking" الجنس البشريُّ هو مجرَّد وسخٍ كيميائيٍّ موجودٍ على كوكبٍ متوسِّط الحجم. والسُّؤال: هل هذا رأيٌ شخصيٌّ أو مبالغةٌ من هوكينغ؟ أم أنَّها النَّتيجة الحتميَّة للإلحاد؟ هل للإنسان قيمةٌ معنويَّةٌ بدون وجود الله؟ هل للأخلاق أيَّة قيمةٍ بدون وجود الله؟ سنُجيب عن هذه الأسئلة في حلقة اليوم ونرى نماذج مخيفةً من التَّردِّي الأخلاقيِّ الَّذي يقود إليه الإلحاد. الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، تصوَّر أنَّه جاءك على جهازك الخلويِّ رسالةٌ من أخيك تقول: "ندعوك للغداء" هل هذه الرِّسالة لها معنًى؟ طبعًا، هل هي حقٌّ أم وهمٌ؟ بل حقٌّ، هل لها قيمةٌ؟ نعم، هل تتصرَّف على أساسها؟ نعم، تقول لزوجتك وأولادك: نحن مدعوُّون على الغداء عند دار أخي، ثمَّ لن تُحضِّروا طعامًا، إلى آخره. تصوَّر في المقابل أنَّك نسيت جهازك الخلويَّ مفتوحًا في جيبك، مع مفاتيح البيت، فطَقْطَقَتْ المفاتيح على لوحة أحرف الجهاز، في ذهابك وإيابك وقيامك وجلوسك بعد ساعات، استخرجت جهازك لتجري مكالمة فرأيت آلاف الأحرف العشوائيَّة وفي وسطها جملة "ندعوك للغداء" هل هذه الجملة لها كاتبٌ يعلم ما يفعل؟ لا هل لها قيمة؟ لا هل تتصرَّف على أساسها؟ لا أيضًا؛ لأنَّه حتَّى لو ظهر شيءٌ له معنى في هذه الخربشات فإنَّه لن يكتسب قيمة. بالنِّسبة لمُنكر وجود الله، كلُّ القيم الأخلاقيَّة الَّتي يُحسُّ بها الإنسان الأصل فيها أن تكون مثل هذه الخربشات لا قيمة لها ولا معنًى لها فلا يَتصرَّف على أساسها فقد جاءت بها -حسب معتقده- العشوائيَّة الَّتي لا تدري ما تفعله ولا تعِد بشيءٍ، ولا تلتزم بشيءٍ في الإلحاد الَّذي يفسِّر الكون ووجودَه، تفسيرًا ماديًّا بحتًا لا مكان للقيم المعنويَّة أصلًا لا حقٌّ ولا باطل، لا خير ولا شرٌّ فهذه قيمٌ معنويَّة لا تُفسِّرها المادَّة وعندما يكون الإنسان ابن المادَّة لا شيء إلَّا المادَّة، الإحساس بهذا كلِّه، إنمَّا هو نتيجة طَفَراتٍ جينيَّةٍ عشوائيَّةٍ، كخربشات الجهاز الخلويِّ. في الإسلام، يوجد خالقٌ كامل الصِّفات «يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسيِ وجعلتُهُ بينَكُمُ محرمًا فلا تَظَالموا»(صحيح مسلم) رحيمٌ وأمرَ عباده أن يتراحموا وقد فطر الخالقُ الإنسان على محبَّة هذه القيم، وكراهية ما يُضادُّها: كالشَّرَّ والظُّلم قد يُغطِّي على الفطرة أهواءُ الإنسان في إشباع رغباته وحبُّ التَّسلُّط لكنَّ هذا لا يُعارض أنَّ الفطرةَ السَّويَّةَ هي الأصلُ فيه. إذن في الإسلام وجود هذه القيم مُفسَّر، كونها لها قيمةٌ مُفسَّر، حُبُّ الإنسان لها وكراهيَّتُه لضدِّها مُفسَّر والتَّفسير لهذا كلِّه هو وجود الله. عندما يُنكر الإنسان وجود الله تعالى فإنَّه يدخل في مسلسل التَّخبُّط الإلحاديِّ البائس كالَّذي رأيناهُ في الحلقة الماضية عن البدهيَّات العقليَّة لدى الملحد، لا خالقٌ ولا صفات كمالٍ، ليس إلَّا طبيعةٌ أوجدت الإنسان وهذه الطَّبيعة مادِّيَّة، ليس لها صفات كمالٍ معنويَّة فلا يمكن وصفها بالعدل أو الحكمة مثلًا وبالتَّالي، فلا مكان للقيم المعنويَّة في إنسانٍ مُتولِّدٍ عن هذه الطَّبيعة. لكن ماذا عن شعور الإنسان بمحبَّة الخير وكراهية الشَّرَّ؟ هي حسب الإلحاد طفراتٌ جينيةٌ عشوائيَّةٌ جعلته يتوهَّم أنَّ هناك خيرًا، ويحبُّ ذلك الخير الوهميَّ وأنَّ هناك شرًّا، ويكره ذلك الشَّرَّ الوهميَّ. قيل لأحد كِبار الملحدين ريتشارد دوكنز "Richard Dawkins" في النِّهاية، هل اعتقادك أنَّ الاغتصاب خطأ، أمرٌ اعتباطيٌّ تمامًا؟ كواقع أنَّنا تطوَّرنا بخمسة أصابع بدل ستَّة؟ فقال دوكنز: نعم، تستطيعُ قول ذلك. أيْ كان يمكن للصُّدفة العمياء الَّتي يدَّعونها أن تَسير مسارًا آخر، يَنتجُ عنه شعور الإنسان أن لا خطأ في الاغتصاب والأمر اعتباطيٌّ تمامًا فلا يمكن وصفُ أيٍّ من الشُّعورَيْن بأنَّ الاغتصاب خطأ أو مقبول لا يمكن وصفه بأنَّه حقٌّ أو باطل، فهذا الشُّعور إنَّما هو وليد الصُّدفة العشوائيَّة. إذن فالنَّزعة الأخلاقيَّة عند مُنكر وجود الله لا يُعرَف مصدرُها، ولا يمكن وصفها بحقٍّ أو باطل، ولا هي متوافقةٌ مع صفات موجودٍ أعلى، فهي ليست مُطلقةً إذن، أي لا يمكن وصف أيِّ خُلقٍ بأنه ممدوحٌ بإطلاق أو مذمومٌ بإطلاق. إلى أين وصل الملحدون نتيجةً لذلك؟ تعالَوْا نرى نماذج من كلام مشاهيرهم ومُنظِّريهم في مناظرةٍ بعنوان: (الإسلام والإلحاد، أيُّهما أكثر منطقيَّةً؟)، سُئل البروفيسور لورانس كراوس "Lawrence Krauss" عن سبب كون زِنا المحارِم خطأً، بالنِّسبة له كملحد، علَّق دوكنز في تغريدةٍ له، على ما جرى للورانس كراوس في تلك المناظرة، بقولِه: "سأل أحدُ الإسلاميِّين: لماذا زنا المحارم خطأ؟ حاول لورانس كراوس أن يستعمل المنطق في جوابه، المنطق؟ الُّلؤلؤ ملقًى أمام خنزير" إذن أصبح منطقُ كراوس لؤلؤًا في نظر دوكنز لكنَّ مشكلته: أنَّ الَّذي يستهجنه خنزيرٌ لم يُقدِّر قيمة هذا المنطق. دوكنز هذا هو نفسه الَّذي قال في كتابه (وهم الإله، فصل: أخلاق روح العصر) "نحن لا نغشّ، لا نقتل، لا نرتكب زنا المحارم" فهو إذن يرى مسألة زنا المحارم نسبيَّةً اختياره الشَّخصيُّ: ألَّا يمارسَ هذا الزِّنا لكن يدافع عن وجهةِ نظرِ زميله كراوس، ويعتبرها منطقًا تعالوا نرى نماذج أخرى من التَّردِّي الأخلاقيِّ للملحدين جمَعها الأخ رشاد القرنيّ في برنامج (ارجع لأصلك) كخطوةٍ أكثر جرأةً ووقاحةً، يطالب البروفسور جريف "Greve" بعدم تجريم زنا المحارم بل، وحذف المادة اللي تعاقب على ذلك من القانون ولا تتعجَّب إن عرفت أنَّ أحد الدُّول الأوروبيَّة قد ذهبت إلى أبعد من ذلك لمناقشة تشريع زنا المحارم داخل البرلمان ضلال! وكيف أنَّ الأب سيستطيع أن ينجب من ابنته بطريقة ما يعاقب عليها القانون الحمد لله على نعمة الإسلام فالملاحدة حقيقةً يدفعون بالأخلاق نحو الهاوية فهذا الملحد الدكتور دان باركر "Dan Barker" يقول أنَّ الاغتصاب قد يكون أمرًا أخلاقيًّا إن دعت الحاجة إليه، أمّا الملحد البروفسور بيتر سينجر "Peter Singer"، فحكايةٌ ومهزلةٌ أخرى! لا يرى هذا الأخير بأسًا ولا مانعًا حقيقيًّا من البهيميّة "Bestiality"، فيقول: "يمكن أن يُقيم البشر والحيوان علاقةً جنسيَّةً مُرضِيةً للطرفين" هذا عدا عن دفاع سام هـاريس "Sam Harris" عن الاغتصاب واعتباره جزءًا من الاستراتيجيَّة التَّطوُّريَّة ودفاع دوكنز عن الخيانة الزَّوجيَّة ورفض تسميتها خيانةً أصلًا على اعتبار أنَّه ليس لأحد الزَّوجين أن يدَّعي ملكيَّةً خاصَّة في جسد الآخر كما يؤيِّد البروفسور بيتر سينجر قتل المواليد الجدد المصابين بإعاقة إذا كان هذا لصالحهم وصالح والديهم أيضًا ديفيد سيلفرمان "David Silverman" رئيس جمعيَّة الملحدين الأميركيِّين صرَّح في مناظرةٍ له بأنّ القيم الأخلاقيَّة كلَّها نسبيَّة، ولا وجود لقيمٍ أخلاقيَّةٍ مُطلَقةٍ قيل له: بناءً على ذلك فإنّ تعذيب الأطفال وأكلَهم مثلًا ليس خطأً بإطلاق وإنّما هو بالنِّسبة لشخصٍ معيَّنٍ، أليس كذلك؟ فأقرَّ سيلفرمان بذلك. يعني ممكن واحد يعذِّب طفلًا ويَشويه حيًّا ويأكله ولا يكون بذلك مخطئًا سيلفرمان يعلمُ أنَّه إن قال بأنَّ هذا خطأٌ بشكلٍ مُطلقٍ فإنَّ ذلك يتطلَّب منه التَّسليم بوجود معانٍ مُطلقةٍ وهي بدورها تستلزم وجود الله كما بيَنَّا. يَنتُج عن الإلحاد: أنَّ الطَّفَرات الجينيَّة العشوائيَّة قد تُنتج أُناسًا مختلفين جينيًّا وبالتَّالي، فمشاعرهم مختلفةٌ جدًّا تجاه سلوكٍ واحد: كالاغتصاب أو التَّعذيب والسَّببُ: مادِّيٌّ بحت ولا يمكن وصف أيٍّ من مواقفهم بأنَّه حقٌّ أو باطل وبالتَّالي، فلا يمكن تجريمُ أو تخطئة إنسانٍ، مهما كان فعله لا أخلاقيًّا لأنَّ بإمكانه أن يقول: هو لا أخلاقيٌّ بالنِّسبة لك لكنَّه أخلاقيٌّ بالنِّسبة لي. هناك أناسٌ في مجتمعاتنا المسلمة يستخدمون في مجال الأخلاق عباراتٍ نسبيَّة، وأنَّه لا مكان للحقيقة المُطلقة ويظنُّون أنَّه حتَّى النُّصوص الشَّرعيَّة الواضحة في مجال الأخلاق والقيم كلُّها محلُّ خلافٍ وليس فيها قطعيَّاتٍ. قد يكون من هؤلاء من يشمئزُّ من مقولات الملحدين الَّتي ذكرناها لكنَّه لا يُلاحظ أنَّها النَّتيجة الطَّبيعيَّة لفكرة النِّسبيَّة الأخلاقيَّة الَّتي يتكلَّم بها إن لم تكن القيم مستندةً إلى نور الوحي، فالضَّياع! ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النّور:40] طرح الملحدون التَّساؤل التَّالي: كيف يمكن تحديد الخير والشَّرِّ والقيم الأخلاقيَّة الفاضلة دون الإيمان بإله؟ وسؤالهم هذا مغالطةٌ منطقيَّة لأنَّه بلا إله فليس هناك قيمٌ معنويَّة لا خيرٌ ولا شرٌّ ولا فضيلةٌ ولا رذيلةٌ لكنَّهم تهرَّبوا من هذه الحقيقة فهم يعلمون أنَّه لا الإنسان ولا المجتمعات، تستطيع العيش بلا أخلاقٍ ومع ذلك، بدؤوا بتأليف كتبٍ للإجابة عن سؤالهم الخاطئ أصلًا منها كتاب "The Moral Landscape: How Science Can Determine Human Values" "المنظور الأخلاقيُّ: كيف يمكن للعلم أن يحدِّدَ القيم الإنسانيَّة" وكتاب "The Science of Good and Evil" "علم الخير والشَّرِّ" وغيرها كتبٌ كثيرةٌ لكنَّها كلَّها محاولاتٌ بائسةٌ لأنَّها بمادِّيَّتها البحتة وبتهرُّبها من حقيقة أن لا مكان للقيم المعنويَّة بغير إله فكأنَّها تقول: ما هو التَّفاعل المخبريُّ المناسب لمعرفة الخير من الشَّرِّ والعدل من الظُّلم؟ لعلَّه أصبح واضحًا بعد هذا العرض أنَّ ستيفن هوكينغ حين قال: "الجنس البشريُّ هو مجرَّد وسخٍ كيميائيٍّ موجودٍ على كوكبٍ متوسِّط الحجم" أنَّه كان منسجمًا مع إلحاده وأراح نفسه من البحث عن أخلاقٍ لهذا الوسخ قارن ذلك بقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70] كرَّمهم ليكونوا لائقين بمقامِ العبودية لإلهٍ كامل الصِّفات في هذه الحلقة بيَّنَّا دلالة النَّزعة الأخلاقيَّة على وجود الله تعالى وأنَّه لا أساس للأخلاق في ظلِّ إنكار وجوده سبحانه لكن، ليس هذا فحسب بل في الحلقة القادمة سنُبيِّن أنَّ الإلحاد لا يترك أتباعَهُ محايدين تجاه الأخلاق بل يضعهم على مفترق طريق فإمّا أن يختاروا بعض الأخلاق الحميدة فيُناقضوا أنفسهم ويخونوا إلحادهم وداروِنيَّتهم أو أن ينسجموا مع إلحادهم وداروِنيَّتهم فيتحلَّوا بأسوأ الأخلاق وأشدِّها إجرامًا. حقائقُ مهمةٌ صادمةٌ، فتابعوا معنا، والسَّلام عليكم ورحمة الله.