لماذا أنا هنا في هذه الدنيا؟ ما الغاية من وجودي؟ إلى أين المصير بعد الموت؟ أسئلةٌ فطريَّةٌ غائيَّة؛ أيْ نتساءل بها عن الغاية من وجودِنا، أسئلةٌ تميِّزنا عن الحيوانات الَّتي لا تحرِّكها إلَّا الغرائز، هذا المكوِّن الفطريُّ: الشُّعور بالغائيَّة، هوَ رحمةٌ وعذابٌ كما سنرى في هذه الحلقة... الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله الشُّعور بالغائيَّة رحمةٌ وعذاب؛ رحمةٌ في المنظور الإيماني؛ لأنَّه يدفع الإنسان دفعًا إلى البحث عن الجواب، فينجذبُ إلى الدِّين الحقِّ، الَّذي يجيب عن هذه التَّساؤلات إجاباتٍ شافيةً، تروي العطش، تقنع العقل، فيتَّصل الإنسان بربِّه، ويستمدُّ مِن نور الوحي الخالص، ويصبح كمركبةٍ كانت تائهةً في الفضاء، ثمَّ اتَّصلت بمصدرها وغايتها، فأصبحت تسير وفق خطَّةٍ مرسومةٍ لترسوَ بأمان لكنَّ هذا المكوِّنَ الفطريَّ في المقابل عذابٌ للملحد؛ لأنَّه يثير تساؤلاتٍ لا جواب لها، وإذا حاول الجواب، فإنَّه سينتهي بالشُّعور بالعدَمِيَّة، واللَّامعنى، واللَّاقيمة في هذه الحلقة سنرى نموذجًا من هذا العذاب، ثمَّ نرى تخبُّطاتِ الملحدين في التَّهرُّب من هذا العذاب، ثمَّ نرى كرامة الإنسان في الإيمان، وحقارته في الإلحاد وليم بروفاين "William Provine"، بروفيسور تاريخ علم الأحياء، من جامعة كورنيل "Cornell University"، هو شخصٌ ملحدٌ، إلى ماذا قادَه إلحادُه؟ تعالوا نرَ... [لا آلهةً، لا حياةً بعد الموت، لا قاعدةً مُطلقةً للأخلاق، لا معنًى نهائيًّا للحياة، ولا إرادةً حرَّةً للإنسان هذه كلها مرتبطةٌ بعمقٍ بالمنظور التطوريِّ أنت هنا اليوم وسترحل غدًا، وهذا كلُّ ما في الأمر] إذن، بروفاين يقول لك مثل ما قال الأوَّلون: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [القرآن 45: 24] ويقرُّ بأنَّ هذا يعني انعدامَ أيِّ معنى أو غايةٍ للحياة بروفاين كان قد شُفي من سرطان الدِّماغ، لكنَّه يتوقَّع عودة المرض، إلى ماذا قادَه إلحادُهُ في التَّعامل مع هذا التوقُّع؟ تعالوا نرَ... [أنا لن أجلس يائسًا مثل ما فعل أخي الأكبر في السنة الماضية، وهو كان يموت من مرض لوجيرج، وأراد للغاية أن يموت، لكنَّنا لم نستطِع أنْ نساعده ليموت، أنا لا أريد أنْ أموت بهذه الطريقة، أنا سأطلق النار على رأسي قبل أنْ أصل إلى تلك المرحلة] هذه النَّتيجة إذن! بما أنّه لا غاية ولا معنى للحياة، فإمَّا أن تكون هذه الحياةُ جميلةً، جمالًا ماديًّا بهيميًّا، وإلَّا فمن الأفضل لي أن أُنهيها بنفسي لذلك نقول: سؤال الغاية عذابٌ لمنكِر وجود الله تعالوا نرى نماذج من تعامل الملحدين مع سؤال الغاية وعذابه، ومِن تهرُّبِهم مِن هذا السؤال... سُئِل الملحد ريتشارد دوكينز "Richard Dawkins"، عمَّا إذا كان العلم يجيب عن سؤال: (لماذا نحن هنا في هذه الحياة؟) فبماذا أجاب؟ فلنشاهد... [- عالمٌ فاز بجائزة نوبل بيتر ميدور "Peter Medawar" يقول: سؤال (لماذا نحن هنا؟) لا يمكن إجابته بالعلم، ولا أفهم كيف يمكننا أن نقول ذلك بثقةٍ! - ما سأقوله جوابٌ عن سؤالك (لماذا) هو: لماذا تظنُّ أنَّ مِن حقَّك أن تسأل هذا السؤال؟! إنَّه سؤال بلا معنى إذا سألت: لماذا توجد الجبال؟ إنَّ هناك أسئلةً هي ببساطةٍ لا تستحق جوابًأ! يمكنك أن تجيب عن سؤال (لماذا توجد الجبال؟) بالحديث عن العمليَّات الجيولوجيَّة التي تُوجِد الجبال، ولكن ليس هذا ما تريده، أنت تريد غايةً من وجود الجبال، إنه سؤالٌ سخيفٌ لا يستحقُّ جوابًأ] إذن، حَسْبَ دوكينز، سؤال: (لماذا نحن هنا في هذه الحياة؟) سؤالٌ سخيف، لا يستحقُّ جوابًا، وليس من حقِّ السَّائل أن يسأله عجيب! حتَّى الأطفال يسألون عن الغاية مِن كلِّ شيءٍ يرونه، أمَّا حَسْبَ الإلحاد: فمن السَّخافة أنْ تسألَ عن الغاية مِن وجود الإنسان، الَّذي يُفترض أنَّه أهمُّ شيءٍ في هذه الحياة العلم التَّجريبي يحاول معرفة الغاية من وجود الأشياء والظَّواهر الطَّبيعيَّة حولنا، حَسْبَ الإلحاد: استكشف كما تريد، واسأل كما تريد، لكن، ليس من حقِّك أن تسأل عن الغاية مِن وجودك أنت أيُّها المستكشِف عندما نتكلَّم في أحكامٍ شرعية، فكثيرًا ما يُعتَرَضُ علينا بمقولة: (الإنسان استكشف المريخ، وأنتم لا زلتم تتكلَّمون في هذه الأمور)، بل السُّؤال موجَّهٌ لكم أنتم أيُّها الجاهلون! هل يُعقل أن يستكشف الإنسان القمر والمريخ، ويتكلَّم عن المجرَّات التي تبعد عنَّا مليارات السَّنوات الضوئيَّة، ثمَّ يجهلُ نَفْسَه التي بين جنبيه، والغاية مِن وجودها؟! لكن -إخواني- هذا الجوابُ المتناهي في السَّخافة من دوكينز، هو في الحقيقة منسجمٌ مع النَّظرة الإلحاديَّة الماديَّة البحتة؛ فالصُّدفة العشوائيَّة لا تفعل شيئًا لغايةٍ، والعلم التَّجريبيُّ هو بالفعلِ لا يستطيع معرفة الغاية مِن الحياة لكن، بدلًا مِن أن يعترف الملحدون بأنَّ هذا يدُّل على قصور النَّظرة الماديَّة البحتة، فإنَّهم يستنتجون أنَّ سؤالَ: (لماذا نحن هنا؟) سؤالٌ سخيفٌ؛ لأنَّ مادِّيَّتهم لا تجيب عنه! لا تستغرب بعد ذلك أن يقول دوكينز: "الكون كما نشاهده يتمَّتعُ بالخصائص الَّتي نتوقَّعها تمامًا، إن كان في حقيقته بلا تصميمٍ، بلا غايةٍ، بلا شرٍ ولا خيرٍ، لا شيءَ سوى قسوةٍ عمياءَ لا مُباليةً" إذن، هذا أسلوبٌ يختاره بعض الملحدين في التَّعامل مع الشُّعور بالغائيَّة: تَسْخيفُ هذا الشُّعور الفطريِّ بينما يقول لك البعض الآخر: نعم، على المستوى النَّظريِّ، فالحياة ليس لها هدفٌ حقيقيٌّ ولا معنى، لكِنَّنا، لا يمكننا العيش وفق هذه الرُّؤية النظريَّة، فعلينا أنْ نسعى إلى تخليقِ المعنى، أيْ: لنُوهِم أنفسنا أنَّ هناك غايةً حتَّى نستطيع العيش وتجدُ مثل هذا المعنى في فرعٍ فلسفيٍّ يسمَّى (العَدَميَّة الوُجوديَّة) قد يَخدعُ الإنسان نفسه فترةً من الزَّمن لكن، ماذا بعد ذلك؟ ماذا اختار بعضهم بديلًا عن هذه المهمَّة الصَّعبة؟ مهمَّة إيهام النَّفس بأنَّ للحياة غايةً، وهي لا تؤمن بما بعد الموت؟ يجيبك أحد أكبر مُخرِجي الأفلام الأمريكيَّة، الملحد وودي آلن "Woody Allen" تعالوا نرَ ماذا يقول: [وبالتالي فإنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن أنْ تفعله كفنَّان حيال هذا الأمر هو أنْ تحاول أنْ تُقنع نفسك أنَّ الحياة جديرة بالعيش ولها معنى، ولكن لا يمكنك فعل ذلك إلا عن طريق خداعهم، فالحياة في النهاية ليس لها معنى بالفعل، نحن نعيش حياةً لا معنى لها في كونٍ عشوائيٍّ، ولذلك فهي مهمَّةٌ صعبةٌ جدًا أن تقنع الناس بأنَّ الحياة جديرةٌ بالعيش، وبالتالي أرى أنَّ الطريقة الوحيدة الممكنة للتعامل مع الأمر هي إلهاءُ وتشتيتُ الناس، فأنا أُشغِل نفسي بهذا، فصناعة الأفلام إلهاءٌ رائعٌ، وهذا ما تفعله تلك الممثلات أيضًا فهنَّ منشغلات بطريقة أدائهنَّ لشخصيات الفلم، ولولا ذلك: لكُنَّ في منازلهنَّ أو على الشاطئ يتساءلن: ما معنى الحياة؟ سوف أتقدَّم بالسنِّ وسأموت، ماذا سأفعل إذا مات مَن أُحبُّهم؟ ولذلك فإنَّ الأمر الوحيد الذي يمكن أن تفعله هو أن تلهي نفسك، حتى تقضي بعض اللحظات وحتى لا تواجه حقيقة الحياة، ولذلك يجب أن نُلهي أنفسنا ونشتِّتها] إذن، فهو يقول بأنَّ الإعلام يُخادع الناس، ويوهمهم أنَّ لحياتهم معنى مع أنَّها عديمة المعنى في الحقيقة، وأنَّ أفضل وسيلةٍ هي تشتيتُ النَّاس، وإلهاؤهم، حتَّى لا يسألوا أنفسهم عن معنى الحياة، ولا يواجهوا الحقيقة المُرَّة: أنَّه لا معنى لها، وأنَّ عليك أن تبقى تُلهي نفسك وتشتِّتُها؛ لأنَّك إن جلست مع نفسك قليلًا، فسيهجم عليك سؤال: ما مصيري بعد الموت؟ تذكَّر كلماتِه هذه وأنت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَاَلذِّين نَسُوا اَللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [القرآن59: 19] نسوا الله فأنساهم الغايةَ مِن خَلْقهم، وأنساهم العمل لما ينفعهم، واهتمُّوا بكل شيءٍ إلَّا بأنفسهم الَّتي بين جنبيهم، أسلوبٌ آخر للالتفاف على الشَّعور بالغائيَّة هو ما اتَّبعه البروفيسور الملحد لورانس كراوس "Lawrence Krauss"، كراوس هذا، نشر قبل شهورٍ كتاب (أعظم قصَّةٍ رويت حتَّى الآن: لماذا نحن هنا؟)، ويا للمفارقة بين العنوان والمضمون! فالكتاب هو محاولةٌ لتسهيل فكرة العَدَميَّة على الملحدين، محاولةٌ لتخفيف ألم سؤال الغاية من الوجود والمصير بعد الموت ألقى كراوس محاضرةً في جامعة كونواي "conway" بنفس مضامين الكتاب، وبعد أن شرح دقَّة القوانين الَّتي تحكم الكون، دقَّةً مذهلةً، قال: "العالَم الذي نتواجد فيه، استثنائيٌ جدًا، لكنَّه صدفةٌ"، ثمَّ ماذا استنتج كراوس في النِّهاية؟ تعالوا نرَ... [الكون ليس مجرَّدَ وهمٍ بل صدفةُ، ولا سببَ لوجودنا، لم يتمَّ تصميم الكون لوجودنا بأيَّة طريقة يمكن أنْ نراها، بل ويمكن أن يتلاشى هذا الوجود وهذا هو الجمال في الموضوع لأنَّه يعني أنَّنا محظوظون جدًا لأنَّنا هنا، وقد تطوَّرت لنا عقولٌ يمكنها التفكير بهذا ويمكنها الاستمتاع، وبالتالي فبدلَا من أن نشعر بالإحباط من ذلك، عليكم أن تستمتعوا باللحظة العَارِضَة] إذن، يقول لك لا تشعر بالإحباط مِن كونِ حياتنا بلا معنى، بل استمتع بهذه الصُّدفة، الَّتي أتت بك إلى الكون! كلُّ هذه محاولاتٌ للالتفاف على هذا الشعور بالغائيَّة؛ لأنَّه شعورٌ فطريٌّ عميقٌ، يجفِّف القلب، بحيث لا يرويه إلَّا ماء الوحي النَّقيُّ، كلُّ هذه حيلٌ نفسيَّةُ يخدع الملحدون بها أنفسهم، وَهُمُ الَّذين يقولون عن المؤمنين بوجود الله، أنَّهم يخدعون أنفسهم الملحد الفرنسي الشَّرِس جان بول سارتر "Jean-Paul Sartre" لم يتحمَّل الاستمرار في هذه المخادعة، وبعد سنواتٍ طويلةٍ أمضاها في محاربة مبدأ وجود الله، علا صوت فطرته وشعوره بالغائيَّة فقال: "لا أشعر أنِّي وليد الصُّدفة، نقطةٌ من التُّراب في هذا الكون، بل أرى نفسي شخصًا محسوبًا حسابُه، معَدًّا لغاية، سَبق تقديرُه باختصارٍ، كائنًا لا يمكن أنْ يُوجده في هذه الحياة إلَّا خالقٌ، وإنَّ ما أعنيه باليد الخالقة هو الإله"، ثُّم ترك سارتر إلحاده واعترف بوجود الله لكن، للأسف على غير ملَّة الإسلام نعود فنقول: أسئلة الشُّعور بالغائيَّة ضاغطةُ، ومواجهتها مؤلمةٌ جدًا للملحد، فالإنسان بلا غايةٍ يصبح تافهًا بلا قيمةٍ، وما أصعب أن تشعر بأنَّك تافهٌ! الملحد ستيفن هوكينغ "Stephen Hawking"، القائل -كما ذكرنا مِن قبل-: "الجنس البشري هو مجرَّد وسَخٍ كيميائيٍّ، موجودٍ على كوكبٍ متوسِّط الحجم"، هو أيضًا القائل في نفس السِّياق: "إنَّنا عديمو الأهميَّة تمامًا، بحيثُ لا يمكنني أن أُصدِّق أنَّ هذا الكون كُلَّه موجودٌ مِن أجلنا" كذلك تجد في مواقع الملحدين كلامًا نصُّه الحرفيُّ: "صورتنا الجديدة عن علم الكون تخبرنا أنَّنا أَتْفَه ممَّا كنَّا نتصوَّر في الكون، ليست لنا قيمةٌ على الإطلاق، فلماذا سيكون هكذا كونٌ -نحن فيه عديمو الأهمية لهذه الدرجة- قد خُلِقَ لأجلنا؟! في التَّصوُّر الإسلامي، نحن مخلوقون لغايةٍ عظيمة: عبادةِ الله تعالى، وتكوين علاقة المحبَّة بيننا وبينه، وأن تَظهر فينا آثار صفاته، آثار كرمه، وإنعامه، ورحمته، وعفوه، وهدايته وإحسانه، فغايةٌ كهذه تستحقُّ تسخير الكون لصالح مَن كُلِّفَ بها قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [القرآن 45: 13] بينما الملحدون يقولون لك: "لا، بل نحن أحقر وأحطُّ مِن ذلك"، ومع ذلك، يعتقد البعض أنَّ الإلحاد يحترم الإنسان لسانُ حالِ الملحدين يقول: غايُتنا في الحياة، أنْ نُقنع النَّاس بأنَّه لا غاية للحياة! الإنسان في ظِلِّ الإلحاد وسَخٌ كيميائيٌّ، تافهٌ، لا يستحقُّ أن يوجد الكون مِن أجله، أصوله حيوانيَّةٌ مُنحَطَّةٌ، عقله مشكوكٌ في مصداقيَّته -كما بيَّنَّا-، حياته بلا معنى، بلا أخلاقٍ مطلقةٍ، بلا غايةٍ، بَل مجرَّد تساؤله عن الغاية والمصير تساؤلٌ تافه ومَن قال بغير ذلك من الملحدين فإنَّه يخالف إلحادَه، ولا ينسجم مع نفسه، ومع ذلك، يعتقد البعض أنَّ الإلحاد يحترم العقل والإنسان! فالحمد لله الَّذي كرَّمنا بمقام العبوديَّة له، ولم يجعلنا مِن المُهَانين الَّذين امتنعوا عن هذا المقام، فأهانوا أنفسَهم بأنفسِهم ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ [القرآن22: 18] والسَّلام عليكم ورحمة الله