بسم الله الرحمن الرحيم حياكم الله في الحلقة الثامنة والعشرين من هذه الحلقات التي اشرح فيها معلقة امرئ القيس كنت قد ذكرت لكم في الحلقة السابقة ان امرأ القيس بعد ان فرغ من وصف بيضة الخدر انتقل الى وصف موقفه النفسي من حبها في ثلاثة ابيات شرحت لكم منها بيتين هما قوله الى مثلها يرنو الحليم صبابة اذا ما استكرت بين درع ومجول تسلت عمايات الرجال عن الصبا وليس فؤادي عن هواها بمنسلي والبيت الثالث هو قوله مخاطبا بيضة الخدر الا رب خصم فيك الوا رددته نصيح على تعذاله غير مؤتلي الا رب خصم فيك الوى رددته الا رب خصم فيك الوى رددته الا استفتاحية لتنبيه السامع واسترعاء اهتمامه بالكلام الاتي ورب حرف جر يرد للقلة او الكثرة حسب السياق والسياق هنا يصرف معناه الى الكثرة وسيأتي بيان ذلك. وكنت قد شرحت الا ورب عند شرحي الا رب يوم لك منهن صالح؟ يقول الا رب خصم فيك الوى رددته الخصم هو المخاصم من قولهم خاصمه مخاصمه اذا جادله فخصمه يخصمه خصما اذا غلبه بالحجة واختصم اختصاما تجادلا. والخصومة الجدل والخصم هو المخاصم والجمع خصوم وقد تسمي العرب الواحد والاثنين والجماعة من الذكور والاناث خصما ومن ذلك قول الله تعالى وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب اي وهل اتاك نبأ المتخاصمين اذ تسوروا المحراب الا رب خصم فيك الوى الو افعل من قولهم لو الشيء يلويه الي اذا ثناه وفتله وجدله وبرمه فالخصم الالوى هو شديد الخصومة الذي يلوي الحجج على خصمه ويفتلها عليه. ويلوي خصمه عن دعواه ويثنيه ويرده بقوة الحجة وغلبة البيان الا رب خصم فيك الوى رددته نصيح على تعداله غير مؤتل. وروي نصيح على تعداله غير مؤتلي نصيح فعيل بمعنى فاعل من قولهم نصحه ينصحه ونصح له نصحا ونصيحة ونصاحة ونصاحة ونصاحية ونصحا اي اخلص له في الرأي والمشورة والتنبيه وصدق والنصح ضد الغش والنصيح هو الناصح اي الصادق المخلص وجمعه نصحاء نصيح على تعذاله غير مؤتلي. التعذال اللوم تقول العرب عزله يعزله ويعزله عزلا وتعذالا اذا لامه فالعزل والتعذال الملامة غيري مؤتلي مؤتلي مفتعل من قولهم الا يألوا الوا والوا واليا والا يؤلي تألية وابتلى يأتل ائتلاء اذا قصر وابطأ فهو غير مؤتل اي غير مقتصر في نصحه وعزله غير متباطئ فيهما فهو لا يألو جهدا فلرب خصم فيك الوى رددته. نصيح على تعذاله غير مؤتلي يقول كم من خصوم اشداء في الخصومة اقوياء في الحجة لاموني في هواك فلم يدخروا في ذلك جهدا فرددتهم جميعا ولا شك ان هذا المعنى يقتضي صرف ربا الى الكثرة فعزاله الاشداء في الخصومة الذين عزلوه في حبها ناصحين مجتهدين كثير له حصر لهم ومع ذلك فقد ردهم جميعا. فهو رجل جليد اذا اجمع امرا لم يحل عنه ابدا الدهر ولا شك ايضا ان استعمال التعذال بدلا من العدل اوفق لهذا المعنى لان التعذال اكثر من العدل في معناه لما فيه من زيادة المبنى هذا البيت هو البيت الخامس والخمسون من المعلقة. وبه ختم امرؤ القيس والجزء الثاني من المعلقة الذي سرد فيه ذكريات اللهو واللعب والهوى والعبث. في ايامه الصالحة مع النساء ومهد به للانتقال الى الجزء الثالث من المعلقة وهو سرد ذكرياته الدالة على جده جلده وصبره وفروسيته وحتى لا ينفلت هيكل القصيدة من ايديكم اذكركم به فاقول بدا امرؤ القيس معلقته بمقدمة في اربعة عشر بيتا وقف فيها على اطلال حبيبة له في سقط اللواء ووصف ما الت اليه من الوحشة واستدعى ذلك في ذهنه ذكرى ارتحالها مع اهلها منه ووقع ذلك عليه ولكنه سرعان ما انتزع نفسه من هذه الذكرى الحزينة فشفا نفسه منها بالبكاء فالبكاء دواء مجرب عنده مع كل ذكرى مؤلمة فقد كان ذلك دأبه مع ام الرباب وام الحويرث بمأسل ثم تخلص من هذه المقدمة بالنزوع الى ذكرياته المبهجة مع النساء بقوله الا رب يوم لك منهن صالح ففتح به افقا جديدا في قصيدته استحضر فيه ايامه الصالحة مع النساء. فنص على ايام معينة هي يوم دارة جلجل وقد ذكره في شطر بيت ويوم عقر الناقة للعذارى وقد ذكره في اربعة ابيات ويوم خدرعنيزة وقد ذكره في سبعة ابيات. ويوم دلال فاطمة وقد ذكره في ستة ابيات ثم ذكر انموذجا من ايامه الكثيرة مع بيضات الخدور فوصف مغامرته في الوصول الى بيضة الخدر والخروج بها من الحي في ثمانية ابيات ثم وصف بيضة الخدر نفسها بالصفات التي شرحناها في اثني عشر بيتا ثم وصف موقفه النفسي من تلك المرأة في ثلاثة ابيات. كان في البيت الاخير منها تخلص للانتقال من هذا الحديث الطويل عن النساء الذي استغرق المقدمة والجزء الثاني من المعلقة للحديث عن جوانب جادة من حياته. لان ما مضى من القصيدة حتى الان يجعل السامع يظن ان امرئ القيس زيرو نساء لا هم له الا اللهو والعبث ولا بطولة عنده الا الوصول الى خدور النساء ولا تاريخ له الا كثرة محبوباته ومغامراته معهن وقد احسن امرؤ القيس التخلص من حديثه الطويل هذا عن النساء الى الجزء الثالث من القصيدة ببيت واحد الا رب خصم فيك الوى رددته. نصيح على تعذاله غير مؤتلي فهو صاحب موقف ثابت لا يتزعزع في هواها فكم من نصيح الوى قوي الحجة مبين مخلص لا يألو جهدا في نصحه عزله على حبه اياها ولامه ومع ذلك فقد رده ولم يستجب لنصحه ولم يرضخ لملامته. وهذا الثبات الذي وصف بهم القيس نفسه وان كان على هوى بيضة الخدر فيه تمهيد عجيب لما سيعقبه من ذكر ذكريات جلده وجده وصبره وفروسيته الا رب خصم فيك الوى رددته نصيح على تعذاله غير مؤتل. قال هنا الا رب ليتخلص من افق في قصيدته الى افق وكان بعد ان انهى مقدمته في الوقوف على الاطلال في سقط اللوا قد تخلص الى ذكر ايامه الصالحة مع النساء بالطريقة نفسها وباللفظ نفسه فقال الا رب يوم لك منهن صالح فجاءت الا في اول بيتي التخلص لما فيها من تنبيه السامع على اهمية ما سيعقبها من الكلام فكأنما جاء بها فاصلة بين نفثة ونفثة يستجمع فيها قواه على اعقاب النفثة الاولى لتنطلق بها ومعها النفثة الثانية قوية حرى بالمشاعر ملأى بالعواطف مطرعة بالحياة فهذا الرجل الثابت على هواه الذي رد كل عذال وغلب كل لوام في هواها صاحب جد وجلد وصبر وفروسية فكم صمد للهموم الثقال في الليالي الطوال وكم حمل مغارم القبائل على كاهله وكم قطع القفار الموحشة مع قلة الزاد والماء وكم بكر للصيد على فرس لا يعتسفه اي فارس وكم قضى من الايام في الصحاري بمواسم الامطار متنقلا في طولها وعرضها على ما فيها من الاهوال بهذه المعاني ملأ امرؤ القيس الجزء الثالث من المعلقة الذي ابدع فيه استحضار ذكرياته الجادة لتصبح المعلقة باكتماله مسردا لذكريات حياته وفيه رسا لجميع اهتماماته فالفكرة الجامعة لهذه المعلقة هي الذكرى التي قالها في اول شطر من معلقته كيف نبكي من ذكرى حبيب ومنزلي نقف عند هذا الحد وفي الحلقة القادمة ان شاء الله تعالى ابدأ شرح الجزء الثالث من المعلقة والى ذلك الحين استودعكم الله واسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد