بسم الله الرحمن الرحيم حياكم الله في الحلقة السادسة والعشرين من هذه الحلقات التي اشرح فيها معلق تمرين القيس كنت قد انتهيت في الحلقة السابقة الى شرح قول امرئ القيس وتعطوا برخص غير شثن كانه اساريع ضبي او مساويك اسحلي كبكر المقانة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل وقلت لكم ان امرئ القيس يقول هذه المرأة مثل بكر التي خلط بياضها بصفرة ونمت بماء النمير لم يحل الناس عليه فيكدروه او بماء محروز لا يحل لكل احد وروده وكنت قد ختمت الحلقة السابقة بهذا السؤال ما هي التي خلط بياضها بصفرة ونمت بهذا الماء للعلماء في الاجابة عن هذا السؤال ثلاثة اقوال القول الاول انه اراد بيض النعام لانه ابيض مخلوط بصفرة فيكون معنى البيت هذه المرأة كبيضة النعامة البكر المخلوط بياضها بصفرة وفي هذا عود الى ما بدأ به حين قال وبيضة خدر لا يرام خبائها فهو يؤكد على انها تشبه البيضة في نعومتها وملاستها ولونها وصفائها ونقائها وانعزالها وشدة الحرص عليها ولذلك نص على البيضة البكر لان حرص الام عليها اقوى واعظم. وعلى هذا القول يكون الشطر الثاني من البيت غذاها نمير الماء غير المحلل لا علاقة له ببيضة النعام. بل المراد به المرأة نفسها فهذه المرأة لا تشرب الا الماء العذب النمير الصافي ولذلك كان لونها ابيظ مخلوطا بصفرة نقيا صافيا كانها بكر بيض النعام وكانت العرب ترى ان البياض الذي شابته صفرة هو احسن الوان النساء. هذا القول الاول والقول الثاني انه اراد صدفة اللؤلؤ لان لو نهى ابيظ مخلوط بصفرة وبكر الصدفة هي الدرة فيكون معنى البيت هذه المرأة كدرة صدفة نمت في قعر ماء النمير عميق غير محلل. لان ايدي الناس لا تصل اليه فالماء المالح هو النمير بالنسبة الى الدرة لانها تنمو بمروحته كما ان الماء العذب هو النمير بالنسبة الينا لاننا ننمو بعذوبته فمراد امرئ القيس على هذا الوجه ان هذه المرأة في نقائها وصفائها وحصانتها وصونها كدرة بكر لا مثيل لها في جوف صدفة بيضاء مشوبة بصفرة في قعر ماء النمير لا تصل ايدي الناس اليه هذا هو القول الثاني والقول الثالث انه اراد قصب البردي لان لونه ابيض مخلوط بصفرة فيكون معنى البيت هذه المرأة كالنبتة الاولى من قصب البردي النامي في ماء عذب صاف لم يقصر حلول الناس عليه فسلم من الكدر فلما ارتوى البردي منه كان اصفى للونه وانقى والمعنى في الاقوال الثلاثة متقارب بقي ان انبه الى ان هذا البيت قد اختلفت مذاهب الرواة في ترتيبه. فالقرشي في عدد من نسخ جمهرة اشعار العرب. يثبته في هذا اوضع وهو الاظهر عندي والاقرب من حيث سبك القصيدة والاصمعي والزوزني يقدمانه عن هذا الموضع ويجعلانه بعد قوله مهفهفة بيظاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل. وقد سبق شرحه فيما مضى والانباري وابو جعفر النحاس والخطيب التبريزي والقرشي في بعض نسخ جمهرة اشعار العرب يؤخرون عن هذا الموضع ويجعلونه بعد قوله الى مثلها يرنو الحليم صبابة اذا ما استكرت بين درع ومجولي وسيأتي شرحه ان شاء الله تعالى. اذا هذه المرأة تعطوا برخص غير شثن كأنه اساريع ظبي او مساويق اسحلي. كبكر المقاناة البياض بصفرة ان غداها نمير الماء غير المحلل. وهي ايضا تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة موسى راهب متبتل تضيء الظلام بالعشاء. تضيء تفعل من قولهم اضاء المكان اذا اناره بمصدر للضوء تقول العرب ظاء السراج يضوء ضوءا وضوءا وظياء واضاء السراج يضيء اضاءة اذا انار واظاء فلان السراج يضيئه اذا اناره تضيء الظلام بالعشاء وروي تضيء الظلام بالعشي العشاء والعشي اول ظلام الليل وهو ما بين المغرب والعتمة فهذه المرأة تضيء الظلام وقت العشاء. اي تنيره بالضوء من وجهها النير المشع الوضيء كأنها منارة موسى راهب متبتل المنارة هنا السراج والممسى يجوز فيه ثلاثة اوجه هي ان يكون مصدرا فيكون المعنى ان وجهها سراج امساء راهب وان يكون اسم مكان فيكون المعنى كأن وجهها سراج مكان امساء راهب وان يكون اسم زمان فيكون المعنى كأن وجهها سراج وقت امساء راهب والمراد على جميع الوجوه واحد وهو ان وجهها وضيء كانه سراج راهب متبتل. الراهب هو المتعبد في صومعة من النصارى جمعه رهبان والمتبتل متفعل من قولهم بطل الشيء يبتله ويبتله بتلة وبتله فانبتل وتبتل اذا قطعه وابانه عن غيره فانقطع وتبتل الى الله انقطع لعبادته واخلص له فالتبتل والتبتيل هو الانقطاع عن الدنيا وقطع كل شيء الا امر الله وطاعته والتفرغ للعبادة ولذلك سميت مريم عليها السلام البتول وبه امر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى له واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا وانما خص سراج الراهب المتبتل. لان الراهب يتخذ صومعة في مكان منعزل عن احياء الناس ثم يضيء سراجه في عتمة الليل في ذلك المكان المنعزل. فسراجه حينئذ اشد وهجا واضاءة من سرج البيوت المتقاربة. وبهذا البيت يختم امرؤ القيس هذه الاوصاف العجيبة تلي بيضة الخدر التي غامر بحياته من اجلها. فهي كالبيضة المصونة المكنونة. ملساء ناعمة محفوظة وهي هظيم الكشح ري المخلخل بيضاء مهفهفة غير مفاضة ترائبها مصقولة كالمرآة او كسبيكة الذهب او الفضة خدها اسيل وثغرها شتيت ونظرتها واسعة تنحاني فيها خوف وترقب وارتباك وجيدها كجيد الريم منشأة في الحلية لها شعر اثيث متعثكل يغشي متنها ويزينه. منه ما هو مرسل ومنه ما هو مجعد ومنه ما هو مظفر. وخصرها كالحبل المفتول وساقها نقية ناعمة كانها ساق قصبة نابتة في الماء الدائم وهي منعمة يفك المسك في فراشها قبل ان تنام. وهي تخدم ولا تخدم. تنام الى وقت الضحى وليس لها ثوب عمل ولا نطاق كد فلها من يكفيها من الخدم والجواري. ولذلك بقيت اناملها رقيقة ناعمة غير خشنة كانها يرقات فراش او مساويك اسحلي. فهي كالدرة البكر في جوف صدفة في قعر ماء لا يبلغ او كقصبة بردي في ماء لم يكدره الناس بحلولهم عليه ووجهها مضيء كمصباح راهب متبتل في صومعته وبعد وصفه لبيضة الخدر بهذه الصفات الندر وصف موقفه النفسي من هذه العذراء بثلاثة ابيات اولها قوله الى مثلها يرنو الحليم صبابة اذا ما استكرت بين درع ومجول واكتفي بهذا القدر وابدأ من هنا في الحلقة القادمة ان شاء الله تعالى واستودعكم الله واسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد