السَّلامُ عليكُم إِخوانِي وأخواتِي، هذا المقطعُ مكمّلٌ لحلقةِ "عنزةٌ ولوْ طارَتْ"، وهيَ الحلقةُ (22) مِن رحلةِ اليقينِ. أتباعُ الخرافةِ يقولونَ لكَ: مُحرِّكُ التَّطوّرِ هو عمليَّاتٌ عشوائيَّةٌ أهمُّها الطَّفراتِ في المادَّةِ الوراثيَّةِ. البكتيريا مثلًا، يقولونَ: "طوَّرَتْ صِفةً جديدةً نافعةً لها بالطَّفراتِ العشوائيَّةِ في زمنٍ محدودٍ، ومن ثَمَّ، فمعَ ملياراتِ السَّنواتِ يُمكِنُ أنْ تكونَ البكتيريا قد تطوَّرَتْ إلى كلِّ أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ بالطَّفراتِ العشوائيَّةِ أيضًا". سنؤجِّلُ مناقشةَ ملياراتِ السَّنواتِ هذه ومدى صحَّتِها، وسنؤجّلُ افتراضَ أنَّه إذا ثبتَ أنَّ العشوائيَّةَ تعطي البكتيريا صفاتٍ نافعةً، فإنَّ هذا يعني إمكانيَّةَ أنْ تتحوَّلَ بالعشوائيَّةِ أيضًا إلى كلِّ الكائناتِ التي نرَى، سنؤجِّلُ هذا ونركِّزُ على أصلِ الموضوعِ. هل تُطوِّرُ البكتيريا صِفاتٍ جديدةً نافعةً لها بالعشوائيَّةِ حقًّا؟ أشهرُ تجربةٍ يستدلُّونَ بها على ذلكَ هي تجربةُ رِيتشارْد لِينسْكي "Richard Lenski" على البكتيريا المعويَّةِ إِسشيريشيا كولاي "Escherichia Coli" أو اختصارًا إيكولاي "E. Coli"، التي قامَ فريقُ لينسكي بتنميَتِها مَخبريًّا. وأكثرُ ما يركِّزونَ عليهِ في هذه التَّجربةِ، هو أنَّ بعضَ هذه البكتيريا استطاعَتْ بعدَ مرورِ سنواتٍ طويلةٍ على تنميتِها، أنْ تلتقطَ مادَّةَ السّيتراتِ "Citrate" لتتغذَّى عَليها. ما قِصَّةُ السّيتراتِ؟ بكتيريا الإيكولاي كأيِّ كائنٍ تحتاجُ إلى الغذاءِ. افترضْ أنَّ أمامَها جلوكوز "Glucose" وسيترات "Citrate"، أيَّهما ستستعملُ غذاءً؟ إذا كانَت البكتيريا موجودةً في مكانٍ فيهِ أوكسجين، كأمعاءِ الإنسانِ، فإنَّها تتغذَّى على الجلوكوزِ ولا تتغذَّى على السيتراتِ؛ لديْها النَّواقلُ اللَّازمةُ لإدخالِ الجلوكوز عبرَ غشائِها، وليسَ لديها النَّواقلُ اللَّازمةُ لإدخالِ السّيتراتِ لينسكي وضعَ هذِه البكتيريا في أنابيبَ مخبريَّةٍ، زوَّدَها بالجلوكوزِ والسّيتراتِ، وكانَ ذلكَ كلُّه في وجودِ الأوكسجين. إذنْ، يُفترَضُ أنْ تتغذَّى على الجلوكوزِ فقطْ. معَ ذلكَ، تفاجأَ لينسكي بأنَّ هذه البكتيريا في إحدى مجموعاتِ الأنابيبِ، وبعدَ مرورِ سنواتٍ طويلةٍ نمَتْ وزادَ عددُها بشكلٍ سريعٍ، أسرعَ منَ الأنابيبِ الأخرى. بحثَ عن السببِ، فوجدَ أنَّها استطاعَت تناولَ وهضمَ السّيتراتِ، إضافة إلى الجلوكوزِ، ونشرَ نتائجَه هذِه. ماذا استنتجَ أتباعُ الخرافةِ؟ استنتجوا أنَّ البكتيريا طوّرَتْ بالطّفراتِ العشوائيَّةِ النَّواقلَ اللَّازمةَ لنقلِ السّيتراتِ عبرَ غشائِها، لتهضمه بعدَ ذلكَ. ومن ثم، فها هيَ الطَّفراتُ العشوائيَّةُ تضيفُ صفةً جديدةً للبكتيريا تساعدُ في تطوُّرِها، وكلُّ هذا في بضعةَ عشرَ عامًا. ومن ثم، بمرورِ ملياراتِ السّنواتِ يمكنُ ألّا تكونَ البكتيريا قد طوَّرت صفاتٍ جديدةً فقطْ، بلْ وتطوّرَت إلى كائناتٍ جديدةٍ، وهذه تطوّرَت إلى غيرِها، إلى أنْ نتجَت عندَنا هذه الملايينُ مِن أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ، وكلُّ ذلكَ بفضلِ الطَّفراتِ العشوائيَّةِ التي انتخبَت منها الطبيعةُ. أقامَ أتباعُ الخرافةِ عرسًا على هذا، وطارُوا بالتَّجربةِ، وامتلأَتْ صفحاتُهم بعنوانِ: "ها هوَ التَّطوُّرُ يحصلُ أمامَ أعينِنَا!" قبلَ أنْ نكملَ القِصَّةَ، أتعلمونَ إخواني ما معنى أنْ يَنتجَ ناقلُ السّيتراتِ بالطَّفراتِ العشوائيَّةِ؟ ناقلُ السَّيتراتِ هذا مكوَّنٌ مِن (487) حامضٍ أمينيٍّ، ما يعني أن شيفرَتَه الوراثيَّةُ موجودةٌ في (1462) نيوكليوتيدٍ "Nucleotide". تَكوُّنُه بالعشوائيّةِ يعني أنَّ هذه النّيوكليوتيداتِ -هذه الوحداتِ- اصطفَّتْ عشوائيًّا بالترتيبِ المطلوبِ تمامًا، ثمَّ نتجَ عنْها النَّاقلُ المطلوبُ، واتّخذَ الشَّكلَ ثلاثيَّ الأبعادِ اللَّازمَ تمامًا، وتموضعَ هذا النَّاقلُ في المكانِ المطلوبِ من غشاءِ الخليَّةِ البكتيريَّةِ. وهذه العمليَّةُ العشوائيَّةُ تكرَّرَتْ هيَ نفسُها بنفسِ العشوائيَّةِ مرَّاتٍ كثيرةً جدًا. وكلُّ هذا حصلَ عشوائيًّا دونَ قصدٍ، دونَ أن نجدَ أيَّ أثرٍ لملياراتِ، تريليوناتِ، زيليوناتِ المحاولاتِ الفاشلةِ، الّتي يُفترَضُ أنَّ العشوائيَّةَ حاولَتْها في الطَّريقِ قبلَ الوصولِ إلى هذا البروتينِ النَّاقلِ، والتي لنْ يكفيَها كلُّ ما في الكرةِ الأرضيَّةِ مِن ذرَّاتٍ. لا أبالغُ، كما سنبيِّنُ بالتَّفصيلِ بإذنِ اللهِ، أنَّه لو كانَت البكتيريا بحجمِ مَجرّةِ دربِ التَّبَّانةِ، فإنَّها لن تتَّسعَ لنتائجِ المحاولاتِ الفاشلةِ مِن اصطفافِ النّيوكليوتيدات قبلَ الوصولِ إلى هذا الجين "Gene" المؤلَّفِ من (1462) نيوكليوتيدٍ بترتيبٍ معيَّنٍ، وما ينتجُ عنهُ مِن بروتينٍ بأبعادٍ ثلاثيَّةٍ معيَّنةٍ. فكيفَ إذا علمنَا أنَّ البكتيريا صغيرةٌ إلى درجةِ أنَّه يمكنُ وضعُ الملايينِ منها على رأسِ دبّوسٍ؟ إذنْ، يعلمُ كلُّ عاقلٍ أنَّ إنتاجَ ناقلِ السّيتراتِ بالعشوائيَّةِ مستحيلٌ عقلًا. لكنَّّ أتباعَ الخرافةِ يقولونَ لكَ: "هذا المستحيلُ عقلًا، ثبتَ علميًّا" أي اتّهمْ عقلكَ، وصدّقْ كهنةَ الخرافةِ، اتركْ عقلَك، وصَدِّقْ العلم التجريبي. هلْ يتعارضُ العقلُ معَ العلمِ التَّجريبيِّ الصَّحيحِ حقًّا، كما يحاولُ أعداءُ العقلِ هؤلاءِ أنْ يوهمونَا؟ تعالَوا نكملِ القصَّةَ -إخواني- لنعرفَ الجوابَ. بعدَما طارَ أتباعُ الخرافةِ فرحًا بالتَّجربةِ، اصطدمُوا بالجدارِ! عامَ (2012) نشرَ لينسكي صاحبُ التجربةِ نفسِهَا في مجلّةِ نَايْتْشرْ "Nature" ما حصلَ بالضَّبطِ في هذه البكتيريا. إنَّه (بالانكليزيةِ) مضاعفةُ الجينِ والتي تقرصنَت على بروموترْ ينشطُ بوجودِ الأوكسيجين لإنتاجِ ناقلٍ للسيترات كانَ موجودًا أصلًا ولكنَّه غيرُ مفعّلٍ. ووضّحُوا ذلكَ بهذا الرَّسمِ المهمِّ. ماذَا يعني هذا كلُّه؟ وانتبهوا معيَ -إخواني- جيّدًا لوْ تكرّمتُم؛ لو مثّلنَا بكتيريا الإيكولاي بهذا الشكلِ، وهذا جزءٌ مّن مّادَّتِها الوراثيَّةِ (الجينوم "Genome"). هذه البكتيريا في العادةِ إذا كانَت في مكانٍ فيهِ أوكسجين، فإنَّها تلتقطُ الجلوكوز، ولا تلتقطُ السّيترات كما قلنَا، لأنَّ الجلوكوز يُنتِجُ لها طاقةً أكثرَ من السّيترات. حسنًا، كيفَ تمكّنَتْ من التقاطِ الجلوكوز دونَ السّيترات؟ هناكَ موضع في جينوم ِالبكتيريا اسمُها برُومُوتَرْ "Promoter"، تتجمّعُ عندَها قارئاتٌ لتقرأَ الجينومَ بهذا الاتِّجاهِ -إلى اليمينِ- وبعدَ عمليَّاتٍ مُعقَّدةٍ، تُنتجُ بروتيناتٍ مُعيَّنةً مثلَ نواقل غلوكوز. الأوكسجين يُنشِّطُ هذا البروموتر في حين يُثبِّطُ هذا البروموتر، أي يمنعُ القارئاتِ من قراءةِ جين ناقلِ السّيترات. ومن ثَمَّ لنْ تستطيعَ البكتيريا في وجودِ الأوكسجين أنْ تستفيدَ مِن السّيترات. في تجربةِ لينسكي، كانَت البكتيريا تنمو إلى أنْ تستنفد الجلوكوز. البكتيريا بشكلٍ عامٍّ كائناتٌ في منتهى المرونةِ، موجودةٌ في كلِّ مكانٍ، تحلّلُ الجثثَ، تنظّفُ كوكبَ الأرضِ، هذِه مَهمّتُها، فتستطيعُ التَّأقلمَ معَ الظُّروفِ المختلفةِ. ماذا فعلَتْ بكتيريا إيكولاي لتتأقلمَ معَ ظرفِ نقصِ الجلوكوز؟ استطاعَ بعضُها أنْ ينسخَ جين ناقلِ السّيترات، ثمَّ يحشره بينَ الجيناتِ التي تُقرأ في وجودِ الأوكسجين، أي بعدَ البروموتر الحسّاسِ للأوكسجين. حشرته البكتيريا في المكانِ المناسبِ بالضَّبطِ، لأنَّها لو حشرته وسْطَ الجين (1) أو الجين (2) مثلًا، فسوفَ تخرِّبُه وتموتُ البكتيريا. ومن ثَمَّ، القارئاتُ قرأَتْ جين ناقلِ السّيترات، وأنتجَتْ منهُ نواقلَ السّيترات، ومن ثَمَّ أصبحَت البكتيريا قادرةً على التقاطِ السّيترات. حسنًا، التقطَتْهُ؛ ماذا تفعلُ بهِ؟ لا تخفْ، كلُّ ما يلزمُ من إنزيماتٍ للاستفادةِ من السّيترات موجودٌ أصلًا في البكتيريا. مؤكد أنّا نقولُ أن البكتيريا نسخَتْ الجين ووضعَتْ النُّسخةَ في المكانِ المناسبِ، هذه العباراتُ المختَصرةُ تعبِّرُ عن عمليَّاتٍ ما زالَ العملُ جاريًا على اكتشافِ تفاصيلِها، وما اكتُشِف أو اكْتُشِف شبيه له فهوَ في غايةِ التَّعقيدِ، والإحكامِ، والرَّوعةِ، كما دَرسْناها في مساقاتِ Bio-Chemistry الكيمياءِ الحيويَّة المتقدِّمةِ في الدكتوراه. ماذا نُسمّي ذلكَ؟ ماذا يسمّيهِ كلُّ عاقلٍ؟ ماذا يسمّيهِ كلُّ عاقلٍ؟! ألا يقولُ هو تكيّفٌ مذهلٌ يدلُّ على خالقٍ لا حدَّ لعظمتِه؟ ماذا سمّاه في المقابلِ لينسكي الذي اكتشفَهُ هوَ وأتباعُ "عنزةٌ ولو طارتْ" معَهُ؟ سمَّوْهُ تكيُّفًا مسبقًا "Exaptation"، وهيَ كلمةٌ اخترعَها أتباعُ الخرافةِ، بديلةً عن كلمةِ "Pre-adaptation"، أي (التكيُّفَ المقصودَ) لأنَّ هذِه الكلمةُ (بالإنكليزية) محملة لاهوتيًّا، أي أنها تدلُّ على القصديَّةِ والغائيَّةِ في الوجودِ. فحتّى لا تستنتجَ الاستنتاجَ الصَّحيحَ من كلمةِ (بالانكليزيةِ) التكيُّف ِالمقصودِ، وحتّى لا تستخدمَ عقلَك يُضلِّلونَك بالمصطلحاتِ. فاستنتجَ لينسكي أنَّ تجربتَه تدلُّ على أهميّةِ (التكيُّفِ المسبقِ) في حصولِ التطوّرِ. عنزةٌ ولو طارتْ... ونعوذُ باللهِ من علمٍ لا ينفعُ صاحبَهُ. هذه هيَ قصّةُ تجربةِ لينسكي. وبهذا تَفهمُ معنى قولِهِم: (بالانكليزيةِ) مضاعفةُ الجينِ والتي تقرصنَت على بروموترْ ينشطُ بوجودِ الأوكسيجين، لإنتاجِ ناقلٍ للسيتراتِ كانَ موجودًا أصلًا ولكنَّه غيرُ مفعّلٍ. مضاعفةُ الجين (بالإنكليزية)، والتي تقرصَنَتْ على بروموتر يَنشطُ بوجودِ الأوكسجين، لإنتاجِ ناقلٍ للسّيترات كانَ موجودًا أصلًا لكنَّه غيرُ مفعّلٍ. فأينَ العشوائيّةُ في هذا كلِّه؟ دُوكِنْز "Richard Dawkins" في كتابِهِ الذي سمّاهُ "أعظمُ استعراضٍ على سطحِ الأرضِ؛ أدلّةُ التطوّرِ" يَستدلُّ بهذِه التجربةِ ويكذبُ على قرّائِه، وهوَ دكتورُ البيولوجيا التَّطوُّريَّةِ، فيوهِمُهم أنَّ الإِسْرِيشْيَة ليسَت لديْهَا القدرةُ على التعاملِ معَ السّيترات، وليس لديْهَا أيُّ شيءٍ ممَّا يلزمُ لذلكَ، وأنَّ الذي حدثَ في تجربةِ لينسكي هوَ Random Mutations طفراتٌ عشوائيّةٌ، أَدخلَتْ معلوماتٍ جينيَّةً جديدةً إلى جينوم البكتيريا دونَ تدخُّلٍ مِّن مصمِّمٍ. قالَ حرفيًّا: (بالإنكليزية) "معلوماتٍ جديدةً أُدخلتْ إلى الجينومات دونَ تدخُّلٍ مِن مصمِّمٍ". كأنَّ نيوكليوتيدات جينوم البكتيريا اصطفَّتْ هكذا بعمىً عشوائيًّا، لتُنتجَ لنَا كلَّ ما يَلزَم للتعامل معَ السّيترات، التي لم يكُنْ لدَى الإيكولاي أيُّ أساسٍ يمكِّنُها من الاستفادةِ منها، في كذبٍ لا حياءَ فيهِ أبدًا، كما يفعلُ دوكنز في كلِّ كتابِه الذي سمَّاه "أعظمُ استعراضٍ". وقُرّاؤُه المساكينُ يظنّونَ أنّهُم يقرؤونَ علمًا يُنوِّرُ عقولَهم، في حين أن دوكنز يَضحكُ منهم، ويستخفُّ بعقولِهم. وتَرى مِن عرّابِي الخرافةِ مِن بني جلدتِنا؛ مَن لا يزالَ يصفُ تجربةَ لينسكي بأنَّها مِن أقْوى الأدلّةِ بيدِ التطوُّريّيِنَ الملحدين الذينَ يقولونَ: "الصدفةُ تأتي بتركيبٍ معقَّدٍ". إذنْ، فهذِه هيَ قصّةُ تجربةِ لينسكي، ونسألُ اللهَ أنْ ييسّرَ لنَا الوقوفَ معها مطوّلًا في محطّةٍ أخرى، لما فيها مِن دلائلَ عظيمةٍ على قدرةِ الخالقِ -سبحانَه وتعالى-. والسَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ.