قال المنصوح والله ما تعديت في وصفهم مثقال ذرة ولكني اريد ان تدلني على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الاخروية لان نفوس من تربى وتخلق باخلاق هؤلاء لا ترجعوا عما الفته الا بامر قوي. اما بترغيب يجذبها واما بترهيب وخوف يقمعها فقال له صاحبه الناصح والله لقد ادركت في هذا الدين مطلوبك وفيه والله كل مرادك ومرغوبك فانه الدين الذي جمع بين سعادة الدنيا والاخرة. وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية. ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية شيئا الا ادركته ولا من انواع المسرات شيئا الا حصلته. ففيه ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين. وسأوضح لك ذلك فاعلم ان اصول اللذات المطلوبة اولا راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها. وزوال همومها وغمومها ثانيا القناعة والطمأنينة بما اوتيه العبد من المطالب الجسدية ثالثا استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط فهذه الامور الثلاثة من رزقها واستعملها على وجهها فقد نال كل ما تعلق به طمع الطامئين فان جميع اللذات ترجع الى ما ذكرنا فاما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها فانما اصل ذلك بالايمان التام بما دعا الله عباده الى الايمان به. من الايمان بتوحده بجميع نقوت الكمال. وامتلاء القلب من تعظيمه ومن التأله له وعبوديته والانابة اليه. واخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الاعلى وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله. ومحبة الخير لهم وبذل المقدور من نفعهم. والاحسان والاكثار من ذكر الله والاستغفار والتوبة. فمن اوتي هذه الامور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور. وزوال الاكدار والهموم والغموم. ما هو نموذج من نعيم الاخرة واهل هذا الشال لا يغبطون ارباب الدنيا والملوك على لذاتهم ورياساتهم. بل يرون ما اعطوه من من هذه الامور يفوق ما اعطيه هؤلاء باضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبي لا يعرفه حق المعرفة الا من ذاقه وجربه. فانه كما قيل من ذاق طعم نعيم القوم يدريه. ومن دراه غدا بالروح يشريه فهذه اشارة لطريق هذا النعيم القلبي. الذي هو اصل كل نعيم واما الامر الثاني فان الله اعطى العباد القوة والصحة. وما يتبع ذلك من مال واهل وولد وخول وغير غيرها والناس بالنسبة لهذه الاشياء نوعان. قسم صارت هذه النعم في حقهم محنا ونقم وقسم صار في حقهم نعما وخيرات ومنحا اما اهل الدين الحقيقي فقد قابلوا هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله والاغتباط بفضله تناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم. وعلموا انها من اكبر الوسائل لهم الى رضا ربهم وخيره وثوابه. اذا استعملوها فيما هيأت له وخلقت لاجله. وقد رضوا بها عن الله كل الرضا فانهم علموا انها من عند الله الذي له الحكمة التامة في جميع اقضيته واقداره. وله الرحمة الواسعة في جميع تدابيره. وله النعمة السابغة في كل عطاياه. وهو ارحم بهم من الخلق اجمعين فحيث علموا العلم اليقيني صدورها ممن هذا شأنه قنئوا بما اعطوه منها من قليل وكثير كل القناعة وسكنت قلوبهم عن التطلع والتطلب لما لم يقدر لهم ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة والرضا عن الله بما اعطى. فقد حصلت الحياة الطيبة فاذا ادركت حق الادراك نعتهم هذا عرفت ان نعيم الدنيا في الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته. وان الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الامور وهي القوة والصحة والمال والاهل والولد وتوابع ذلك الا الشيء القليل لكان في راحة وسرور من جهتين جهة القناعة وعدم تطلع النفس وتشوقها للامور التي لم تحصل وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والاجل على هذه العبادة القلبية التي تزيد على كثير من العبادات البدنية فان التعبد لله بمعرفة نعمه. والاعتراف بها والرضا بها والرجاء لله. ان يديمها ويتمها وان يجعلها وسيلة الى نعم اخرى. وان يجعلها طريقا للسعادة الابدية. لا ريب ان هذه احوال القلبية من افضل الطاعات واجل القربات. فكم من فرق بين سرور هذا الذي تعبد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة وبين من تلقى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم وشقي بهمومها وغمومها وكان اذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به بل تشوق الى غيره وتطلع لسواه. فهذا ينتقل من كدر الى كدر اخر. لان قلبه قد تعلق تعلقا شديدا بمطالب الجسد. فحيث جاءت على خلاف ما يؤمله ويريده قلق اشد القلق. وهو لا يزال في قلق مستمر لان المطالب النفسية متنوعة جدا فلو وافقه واحد لم يوافقه الاخر. وربما اجتمع في الشيء الواحد سرور من وجه وحزن من وجه اخر فصفوه ممزوج بكدره وسروره مختلط بحزنه. فاين الحياة الطيبة لهذا؟ وان انما الحياة الطيبة لارباب البصائر والحجاب. الذين يتلقونها كلها بالقبول والقناعة والرضا واما الامر الثالث وهو جهة استعمال هذه النعم. فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه والفرح بفضله. وينوي بها التقوي على ما خلق له من عبادة الله وطاعته وينفقها محتسبا بها رضا الله وفضله. وخلفه العاجل والاجل ويعلم انه اذا انفق على نفسه واهله او ولده او من يتصل به. فانما نفقته صادفت محلها ووقعت موقعها. فلم يتثاقل كثرة النفقة في هذا الطريق. لانه يقول معتقدا هذا اولى ما بذلت فيه ما لي. وهذا الزم ما قمت به من الواجبات والفروض. وهذا فخير ما قمت به من المستحبات وهذا اعظم ما ارجو له الخلف من الله. حيث يقول وهو الكريم الوفي وما انفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ولا يزال نصب عينيه احتساب الاجر في سعيه بكسبه. وفي مصرفه اجناس ذلك وانواعه وافراده متفطنا لقوله صلى الله عليه وسلم على انك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا اجرت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك فمن كان هذا وصفه فان لذاته الدنيوية هي اللذات الحقيقية السالمة من الاكدار. مع ما يرجو من الثواب العاجل والاجل من الله. ومن كانت هذه صفته سهل عليه الاخذ من جلها. ووضعها في في محلها ويسرت له اموره غاية التيسير. واما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر في الاعتراف بفضل الله في كل الاوقات وبنعم الله. ولم يفرح بنعم لانها من فضل الله بل فرح بها فقط لموافقة عرضه النفسي. ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله. ولا احتسب في نيلها وصرفها على المنفق عليهم الاجر والثواب. فمن كان هذا وصفه فان الكدر والحزن له بالمرصاد فانه اذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزن. وان ادرك ما ادركه منها ولم يكن على ما في خاطره من كل وجه حزن. وان اراد منه ولده ومن يتصل به نفقة او كسوة واجبة او مستحبة من حزن ولم تخرج منه الا بشق الانفس. وان خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه لانه يحب بقاء ما له ويحزن لنقصه على اي وجه كان. وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الامر ان كان غير بخيل. فان كان شحيح النفس مطبوعا على البخل فان حياته مع اولاده اهله والمتصلين به. حياة شقاء وعذاب واكدار متواصلة. واحزان مستمرة. لا ايمان عنده يهون عليه النفقات ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات. فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر. فاين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياة الطيبة باكملها. هذا كله بالنظر الى هذه الامور الثلاثة التي هي اصل اللذات عند العقلاء. قد اتضح لنا ان صاحب الايمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية وسلم من المكدرات