من اثار رحمة الله ولهذا قال في اخرها كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون. ثم تدبر سورة الرحمن من اولها الى اخرها فانها عبارة عن شرح وتفصيل لرحمة الله تعالى ان يقوم به على وجه الكمال والتكميل علما وعملا وحالا وما لا يقدر عليه ينوي فعله لو قدر عليه وكذلك النواهي يأخذ نفسه في كل ما نهي عنه الا يقربه ولا يحوم حوله المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فصل سؤال ما هو الغيب الذي اثنى الله على المؤمنين به واخبر عن سعادتهم وفلاحهم واستحقاقهم النعيم المقيم. فلعل العبد يعرف ويتعرف محاله ومواضعه فيجتهد في تحقيق الايمان ليكون من المفلحين بل اكثر المؤمنين ليس عندهم في هذا الباب الا امور مجملة والفاظ غير محققة. وهذا نفعه دون نفع التنويع تفصيلي والتوضيح والتبيين بكثير كثير. فافتونا بحسب قدرتكم واستطاعتكم. فانا لا نطلب منكم شططا والا فقد تقرر ان هذه المسألة لا يتمكن خواص الخلق من ايفاء حقها وبيان امرها فافتونا مأجورين ان الجواب وبالله استعين واليه اضرع في الهداية فيها وفي غيرها الغيب هو خلاف الشهادة. ولهذا تقسم الاشياء قسمين غيبية ومحسوسة فالامور المحسوسة المشاهدة لم يعلق الشارع عليها حكما من احكام الايمان الذي يفرق به بين اهل السعادة وغيرهم وذلك كالسماء والارض وما فيها من المخلوقات المشاهدة والطبائع المعلومة المعقولة انما يذكر الله تعالى من هذا النوع الادلة والبراهين على ما اخبر به واخبرت به رسله القسم الثاني وهو الغيب الذي امر بالايمان به ومدح المؤمنين به في غير موضع من كتابه وضابط هذا القسم انه كل ما اخبر الله به واخبرت به رسله على وجه يدعو الناس الى تصديقه والايمان وذلك انواع كثيرة اجلها واعلاها وافضلها وانفعها وايسرها ما اخبر به في كتبه واخبرت به رسله من اسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونعوته الجليلة الجميلة وافعاله الحميدة وفي الكتاب والسنة من هذا النوع شيء كثير جدا بحسب الحاجة اليه. فانه لا اعظم حاجة وضرورة من معرفة النفوس بربها ومليكها. الذي لا غنى لها عنه طرفة عين. ولا صلاح لها ولا زكاء الا بمعرفته وعبادته وكلما كان العبد اعرف باسماء ربه وما يستحقه من صفات الكمال وما يتنزه عنه مما يضاد ذلك كان اعظم ايمانا بالغيب واستحق من الثناء والمدح بحسب معرفته وموضع هذا تدبر اسمائه الحسنى التي وصف وسمى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسله فيتأملها العبد اسما اسما ويعرف معنى ذلك. وان له تعالى في ذلك الاسم اكمله واعظمه وان هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى ويعرف ان كل ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فان الله تعالى منزه مقدس عنه لما كان هذا النوع هو اصل الايمان بالغيب واعظمه واجله. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ان لله تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدا. من احصاها دخل الجنة اي ضبط الفاظها واحصى معانيها وتعطلها في قلبه وتعبد الله بها وتقرب بمعرفتها الى رب العالمين فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه ان يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة اسماء الله وصفاته وتقديسه. ويجعل هذه المسألة اهم المسائل عنده. واولاها بالايثار واحقها بالتحقيق ضيق ليفوز من الخير باوفر نصيب ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الانصاري عن سبب ملازمته لقراءة سورة قل هو الله احد في صلاته فقال لانها صفة الرحمن فاحب ان اقرأ بها فقال حبك اياها ادخلك الجنة. ثبت ان حب العبد لصفات الرحمن وملازمة تذكرها واستحضار ما دلت عليه من المعاني الجليلة والتفهم في معانيها من اسباب دخول الجنة وطريق ذلك ان يجمع العبد الاسماء الحسنى الواردة في القرآن وهي قريب من ثمانين اسما وفي السنة زيادة على ذلك فيتدبرها ويعطي كل اسم منها عموم ذلك المعنى وكماله واكمله. فاذا تدبر اسم الله عرف ان الله تعالى له جميع معاني الالهية وهي كمال الصفات والانفراد بها. وعدم الشريك في الافعال لان المألوهة انما يؤله لما قام به من صفات الكمال في حب ويخضع له لاجلها والباري جل جلاله لا يفوته من صفات الكمال شيء بوجه من الوجوه او يؤله ويعبد لاجل نفعه وتوليه ونصره فيجلب النفع لمن عبده ويدفع عنه الضرر ومن المعلوم ان الله تعالى هو المالك لذلك كله وان احدا من الخلق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فاذا تقرر عنده ان الله وحده المألوه اوجب له ان يعلق بربه حبه وخوفه ورجاءه واناب اليه في كل اموره وقطع الالتفات الى غيره من المخلوقين ممن ليس له من نفسه كمال ولا له فعال. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ويتدبر مثلا اسم العليم. في علم ان العلم كله بجميع وجوهه واعتباراته لله تعالى. فيعلم تعالى الامور المتقدمة والامور المتأخرة ازلا وابدا. ويعلم جليل الامور وحقيرها. وصغيرها وكبيرها ويعلم تعالى ظواهر الاشياء وبواطنها غيبها وشهادتها ما يعلم الخلق منها وما لا يعلمون ويعلم تعالى الواجبات والمستحيلات والجائزات ويعلم تعالى ما تحت الارض السفلى كما يعلم ما فوق السماء العلى ويعلم تعالى جزئيات الامور وخبايا الصدور وخفايا ما وقع ويقع في ارجاء العالم وانحاء المملكة فهو الذي احاط علمه بجميع الاشياء في كل الاوقات ولا يعرض لعلمه تعالى خفاء ولا نسيان واتل هذه الايات المقررة له كقوله في غير موضع والله بكل شيء عليم وقوله ان الله عليم بذات الصدور وقوله تعالى يعلم ما في السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون. والله عليم بذات الصدور وكقوله سبحانه وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى وقوله تواء منكم من اسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار وكقوله الم تعلم ان الله يعلم ما في السماء والارض ان ذلك في كتاب. ان ذلك على الله يسير وقوله تعالى ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا اله الا هو العزيز الحكيم. وقوله ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان ان الله عليم خبير. وقوله وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين ويقول المتر ان الله انزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة ان الله لطيف خبير وكقوله سبحانه عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا الا من ارتضى من رسول. وقوله يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وقال ولو ان ما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده. والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات الله ان الله عزيز حكيم. وقوله الله بما تعملون خبير. وقوله سبحانه والله خبير بما تعملون وقوله عز وجل والله بما تعملون خبير وقوله والله خبير بما تعملون وقوله سبحانه المتر ان الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم. ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اينما كانوا. ثم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شيء عليم. وقوله فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة اعين وغير ذلك من النصوص الكثيرة على هذا المعنى. فان تدبر بعض ذلك يكفي المؤمن البصير معرفة باحاطة علم الله وكمال عظمته وجليل قدره وانه الرب العظيم المالك الكريم كذلك يتدبر اسمه الرحمن وانه تعالى واسع الرحمة له كمال الرحمة. ورحمته قد ملأت العالم العلوي والسفلي وجميع المخلوقات وشملت الدنيا والاخرة ويتدبر الايات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء وكقوله ان الله بالناس لرؤوف رحيم. وقوله فانظر الى اثار رحمة الله كيف يحيي الارض بعد موتها ان ذلك لمحيي الموتى وكقوله الم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وقوله وما بكم من نعمة فمن الله ثم اذا مسكم الضر فاليه تجأرون وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الله لغفور رحيم. ويتلو سورة النحل الدالة على اصول النعم وفروعها. التي هي نفحة واثر فكل ما فيها من دروب المعاني وتصاريف الالوان من رحمة الرحمن ولهذا اختتمها في ذكر ما اعد الله للطائعين في الجنة من النعيم المقيم الكامل الذي هو اثر من رحمته تعالى ولهذا يسمي الله الجنة الرحمة كقوله واما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون وفي الحديث ان الله قال للجنة انت رحمتي ارحم بك من اشاء من عبادي وقال وهو ارحم الراحمين. وفي الحديث الصحيح الله ارحم بعباده من الوالدة بولدها. وفي الحديث الاخر ان الله كتب كتابا عنده فوق عرشه ان رحمتي سبقت غضبي. وفي الجملة فالله خلق الخلق برحمته وارسل اليه الرسل برحمته وامرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته. واسبغ عليهم النعمة الظاهرة والباطنة برحمته ودبرهم انواع التدبير وصرفهم بانواع التصريف برحمته وملأ الدنيا والاخرة من رحمته. فلا طابت الامور ولا تيسرت الاشياء ولا حصلت المقاصد وانواع المطالب الا برحمته ورحمته فوق ذلك واجل واعلى وللمحسنين المتقين من رحمته النصيب الوافر والخير المتكاثر ان رحمة الله قريب من المحسنين وهكذا يتدبر العبد صفات ربه واثارها واحكامها حتى ينصبغ قلبه بمعرفته ويستنير فؤاده ويمتلئ من عظمة خالقه وشواهد ستاته ولنقتصر على هذا التنبيه اللطيف على هذه الاسماء الثلاثة ليحتذى في باقيها على هذا الحذو ويتدبر مثلا اية الكرسي واول سورة ال عمران واول سورة الحديد وغافر واخر سورة الحشر سورة الاخلاص ونحوها من الايات المشتملة على هذا العلم العظيم وما يتأيد بها من الاحاديث النبوية لينال حظا جزيلا من الايمان بالغيب وليكون من الذين يخشون ربهم بالغيب ومن الايمان بالغيب الايمان بجميع رسل الله الذين ارسلهم على وجه الاجمال والتفصيل باشخاصهم ولدعوتهم وشرعهم كذلك الايمان بجميع الكتب التي انزلها الله هداية للعباد على ما اجتباهم برسالته. ولهذا سمى الله الوحي الذي انزله على رسوله غيبا فقال وما هو على الغيب بضمير فيذكر تعالى من ادلة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الاخبار بوقائع الانبياء المتقدمين وما جرى لهم قل تلك من انباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها انت ولا قوم من قبل هذا ويقول وما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم ايهم يكفل مريم وما كنت لديهم اذ يختصمون ويقول سبحانه وما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الامر. وما اشبه هذا مما فيه التبيان لصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. حيث اخبر بهذه الغيوب فتمام الايمان بالغيب ان يؤمن العبد بجميع رسل الله ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الامر كذلك يؤمن بجميع الكتب خصوصا هذا القرآن العظيم الذي كلف العبد بالايمان به اجمالا وتفصيلا. وكيفية الايمان على وجه الاجمال والتفصيل ان يؤمن ويصدق بان ان كلام الله انزله مع جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللسان العربي لينذر الخلق ويهدي الى الحق في جميع المطالب. ويلتزم العبد التزاما لا تردد فيه تصديق اخباراته كلها وامتثال اوامره واجتناب نواهيه واحلال حلاله وتحريم حرامه ثم يحقق هذا الاصل بتفاصيله فيتفهم ما دلت عليه اخباره ويجعلها عقيدة لقلبه راسخة لا تزلزلها الشبه ولا تغيرها العوارض. ويجتهد في كل ما امر به من اعمال القلوب والجوارح امتثالا لامر الله ورجاء لثوابه. فبحسب قيام العبد بهذا يكون ايمانه بالغيب فمستقل ومستكثر ومتوسط ويدخل في هذا النوع الايمان باخباره بما كان من الامور الماضية. وما يكون من من الامور المستقبلة. ومن انواع الايمان بالغيب الايمان باليوم الاخر. وبما وعد الله العباد من الجزاء. فدخل في هذا الايمان بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر واحواله. ومن صفات يوم القيامة واهواله ومن صفات النار واهلها وما اعد الله لهم فيها ومن صفات الجنة واهلها. وما اعد الله فيها لاهلها فيفهمها فهما صحيحا مأخوذا من الكتاب ودلالته البينة ومن السنة الصحيحة ودلالتها الظاهرة فبحسب ما يصل الى العبد من نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب وفهمها على وجهها يكون ايمان العبد بالغيب واذا استقر الايمان بالوعد والوعيد في قلب العبد وحصل فيه من ذلك تفاصيل كثيرة او جب له الرغبة في فعل ما يقرب الى ثواب الله والرهبة من الاسباب الموجبة للاهانة وعلم ان الله تعالى قائم على كل نفس بما عملت من خير وشر وانه واسع الفضل كامل العدل. قال تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب. انه كان وعده مأتيا فقال سبحانه ومن اصدق من الله قيلا وقال ومن اصدق من الله حديثا. وقال عز وجل ان ان الله لا يخلف الميعاد ومن الايمان بالغيب الايمان بالملائكة الكرام الذين جعلهم الله عبادا مكرمين. لا يسبقونه بالقول هم بامره يعملون وانهم لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وانه تعالى جعلهم يدبرون بامره واذنه امور الدنيا والاخرة وهم رسله في احكامه الدينية واحكامه القدرية وان الله جعل للعبد منهم معقبات يحفظونه من امر الله ويحفظون عليه اعماله قال سبحانه ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد وقال كلا بل تكذبون بالدين. وان عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ولهم صفات وافعال مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الايمان بالغيب الا بالايمان بها فرجع الايمان بالغيب الى اصول الايمان الستة. الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. واليوم الاخر والقدر خير وشره على هذا الوجه الذي ذكرنا والاصل الذي نبهنا ادنى تنبيه عليه فمن حقق الايمان بذلك كله كان من المؤمنين بالغيب حقيقة. المتقين المفلحين فائدة. ما هو الخشوع الذي امر الله به ومدح اهله؟ وذم من قسى قلبه فلم يخشع. فما حقيقة ذلك وما علامته ودلالته قلت قد مدح الله الخشوع عموما في جميع الاوقات والحالات والعبادات مثل قوله تعالى والخاشعين والخاشعات وقوله الم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق وقوله سبحانه ان الذين امنوا وعملوا الصالحات واخبتوا الى ربهم اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون ومدح الخشوع خصوصا في الصلاة. مثل قوله الذين هم في صلاتهم خاشعون فخشوع القلب عنوان الايمان وعلامة السعادة كما ان قسوته وعدم خشوعه عنوان الشقاوة. فالخشوع انكسار القلب وذله بين يدي ربه. وان يبقى هذا الخشوع مستصحا اصحابا مع العبد في جميع اوقاته ان غفل رجع اليه وان مرح عاد اليه. وان شرع في تعبد وقربة من القربات خضع فيها وقام بالادب الذي هو اثر الخشوع خصوصا في ام العبادات والجامعة بين انواع التعبدات القلبية والبدنية واقوال اللسان. وهي الصلاة فانه يقوم فيها مراعيا للمراقبة ومرتبة الاحسان ان يعبد الله كانه يراه فان لم يره فانه يراه فيجهد نفسه على التحقيق بهذه العبودية الكاملة فيحضر قلبه فيناجي ربه بقلبه قبل لسانه ويستحضر ما يقوله ويفعله فتسكن حركاته ويقل عبثه ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وهو يعبث في لحيته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. وبهذا يعرف ان من اعظم علامات الخشوع تكون الجوارح والتأدب في الخدمة الذي هو اثر سكون القلب ولهذا وصف الله عباده الذين اضافهم الى رحمته في قوله وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا المراد خاضعين متواضعين ومن امارات هذا الخشوع ان يطمئن القلب بذكر الله ويخشع ويخضع للحق الذي انزل الله فيعتقد ما دل عليه من الحق ويرغب فيما دعا اليه من الخير. ويرهب عما حذر منه من الشر. كما قال تعالى الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب. وقال تعالى الم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما من الحق وقال تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله اولئك في ضلال مبين الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد. فالقلب القاسي لا تؤثر فيه الايات شيئا. ولا يزداد مع التذكير الا تماديا في غيه وطغيانه وضلاله. والقلب الخاشع لما كان حسن القصد متواطئا على الحق. طالبا له مستعدا قبوله لما وصل اليه الحق عرفة وعرف الحاجة بل الضرورة اليه ففرح به واطمأن به وزادت رغبته واثر في قلبه خضوعا وفي عينه دموعا وفي جلده قشعريرة ثم يلين قلبه ويطمئن الى ذكر الله تعالى فهذا من هداية الله لعبده وتوفيقه اياه الا من اعرضوا فاعرض الله عنهم وقال تعالى والذين اذا ذكروا بايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا. اي بالقروا سامعين حين مبصرين منقادين لها طوعا واختيارا وقال تعالى ان الذين اوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا فهذا تأثير ايات الله في اهل العلم الخاشعين يجمعون بين خشوع القلب وخضوع اللسان وتضرعه وخضوع الجوارح حيث خروا للاذقان يبكون وقال تعالى بعدما ذكر اصفياء الخاضعين اولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين من ذرية ادم. وممن حملنا مع نوح من ذرية ابراهيم واسرائيل وممن هدينا واجتبينا. اذا تتلى عليهم ايات الرحمن خر سجدا وبكيا ومن اعظم علامات الخاشعين ما ذكر الله بقوله وبشر المخبتين ثم وصفهم فقال الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما اصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون كون فلما اخبتت قلوبهم الى ربهم فذلت له وانكسرت فتبتلت اليه تبتيلا وجلت عند ذكره وصبرت على ما اصابها من ابتلاء الله وادت ما امرت به من الصلاة وانواع النفقات فجمع بين وصف المخبتين وبين اعمال القلوب وهو الصبر والوجل واعمال الجوارح كلها واقوال اللسان وهو الصلاة التي تجتمع فيها انواع التعبد والاعمال المالية وتقديم محبة الله على محبة المال فاخرجت المال المحبوب للنفوس في الوجوه التي يحبها الله تعالى ايثارا لربها فهذه اوصاف المخبت الخاشع التي لا يستحق هذا الاسم من لم يتصف بها كذلك وصفهم بانهم الذين يعرفون الحق في مواضع الشبه فيزدادون ايمانا الى ايمانهم. كما قال تعالى وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين امنوا الى صراط مستقيم وكما قال تعالى ان الذين امنوا وعملوا الصالحات واخبتوا الى ربهم يتضمن وصف المخبتين الخاشعين بالرجوع الى ربهم في جميع الحالات والانابة اليه في كل الاوقات بان تعدية الفعل بالى يدل على هذا المعنى فانهم لما اخبتوا الى ربهم وخضعوا لعظمته اخبتوا اليه في التعبد متذللين فتقبل منهم واوصلهم الى مقصودهم وجعلهم اصحاب الجنة خالدين فيها فلما خشعت قلوبهم خشعت اسماعهم وابصارهم والسنتهم وجوارحهم للرحمن ومما يدل على ان هذه الاشياء تابعة للقلب في خشوعه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه وقوله تعالى وكقوله تعالى وعنت الوجوه للحي القيوم وخشعت الاصوات للرحمن ولهذا فسر كثير من المفسرين الذين هم في صلاتهم خاشعون انه غض البصر وقلة الحركات وعدم الالتفات ولا شك ان هذا اثر الخشوع ودليله فالخاشع هو الذي سكن في قلبه تعظيم الله ووقاره وتصديق وعده ووعيده. فذل وخضع وانقادت جوارحه لما امرت به وترك الاشر والبطر والمرح المنافي للخشوع. فكلما بعد القلب عن هذا الوصف قسى وغلظ فلم يخضع لامر الله ولا اثر فيه الذكر بل ربما زاد خسارا وافتتن عند المحن والشبهات وفسق عن امر ربه يا لطيفا بالعباد لطيفا لما يشاء. الطف بنا في جميع الامور. ما معنى لطف الله بعبده ولطفه لعبده الذي تتعلق به امال العباد. ويسألونه من ربهم. وهو احد معنيي مقتضى اسمه اللطيف. فان اللطيف بمعنى الخبير للعليم قد تقرر معناه ولكن المطلوب هنا المعنى الثاني الذي يضطر اليه العباد ولنذكر بعض امثلته وانواعه ليتضح فاعلم ان اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال ولسان الحال هو من الرحمة بل هو رحمة خاصة فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها او لا يشعر باسبابها هي اللطف فاذا قال العبد يا لطيف الطف بي او لي. واسألك لطفك فمعناه تولني ولاية خاصة بها تصلح احوال الظاهرة والباطنة وبها تندفع عني جميع المكروهات من الامور الداخلية والامور الخارجية. فالامور الداخلية لطف بالعبد والامور الخارجية لطف للعبد فاذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير واعانه عليه فقد لطف به واذا قيض الله له اسبابا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه الصلاة والسلام تلك الاحوال وتطورت به الاطوار من رؤياه وحسد اخوته له سعيهم في ابعاده جدا واختصاصهم بابيهم ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة انفراده بتغييرها تبوئه من الارض حيث يشاء وحصول ما حصل على ابيه من الابتلاء والامتحان ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار وازالة الاكدار وصلاح حالة الجميع والاجتباء العظيم ليوسف عرف عليه الصلاة والسلام ان هذه الاشياء وغيرها لطف لطف الله لهم به فاعترف بهذه النعمة فقال ان ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم اي لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلا لذلك واهلا له. فلا يضعه الا في محله. والله اعلم حيث يضع فضله. فاذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى وسهل له طريق الخير وذلل له صعابه وفتح له ابوابه ونهج له طرقه ومهد له اسبابه فجنبه العسر فقد لطف به ومن لطفه بعباده المؤمنين انه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات الى النور من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي الى نور العلم والايمان والطاعة. ومن لطفه انه يرحمهم من طاعة انفسهم الامارة بالسوء. التي هذا طبعها وديدنها ها فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرف عنهم السوء والفحشاء فتوجد اسباب الفتنة وجواذب المعاصي وشهوات الغي فيرسل الله عليها برهان لطفه ونور ايمانهم الذي من به عليهم فيدعونها مطمئنين لذلك منشرحة لتركها صدورهم. ومن لطفه بعباده انه يقدر ارزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم وقد يريدون شيئا وغيره اصلح فيقدر لهم الاصلح وان كرهوه لطفا بهم وبرا واحسانا. قال تعالى الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. وقال سبحانه ولو بسط الله رزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء. انه بعباده خبير بصير ومن لطفه بهم انه يقدر عليهم انواع المصائب ودروب المحن والابتلاء بالامر والنهي الشاق رحمة بهم ولطفا وسوقا الى كمالهم وكمال نعيمهم وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وانتم لا تعلمون ومن لطيف لطفه بعبده اذ اهله للمراتب العالية والمنازل السامية التي لا تدرك الا بالاسباب العظام التي لا يدركها الا ارباب الهمم العالية والعزائم السامية ان يقدر له في ابتداء امره بعض الاسباب المحتملة المناسبة للاسباب التي اهل لها. ليتدرج من الادنى الى الاعلى ولتتمرن نفسه ويصير له ملكة من جنس ذلك الامر. وهذا كما قدر لموسى ومحمد وغيرهما من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم. في ابتداء امرهم رعاية الغنم ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم واصلاحه. الى رعاية بني ادم ادم ودعوتهم واصلاحهم. وكذلك يضيق عبده حلاوة بعض الطاعات. فينجذب ويرغب ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات اجل منها واعلى. ولم تكن تحصل بتلك الارادة السابقة. حتى وصل الى هذه الارادة والرغبة التامة ومن لطفه بعبده ان يقدر له ان يتربى في ولاية اهل الصلاح والعلم والايمان. وبين اهل الخير ليكتسب من ادبهم وتأديبهم ولينشأ على صلاحهم واصلاحهم. كما امتن الله على مريم في قوله تعالى فتقبلها ربها قبول حسن وانبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا. الى اخر قصتها. ومن ذلك اذا نشأ بين ابوين صالحين واقارب اتقياء او في بلد صلاح او وفقه الله لمقارنة اهل الخير وصحبتهم او لتربية العلماء الربانية فان هذا من اعظم لطفه بعبده. فان صلاح العبد موقوف على اسباب كثيرة. منها بل من اكثرها واعظمها نفع هذه الحالة. ومن ذلك اذا نشأ العبد في بلد اهله على مذهب اهل السنة والجماعة فان هذا لطف له. وكذلك اذا لا قدر الله ان يكون مشايخه الذين يستفيد منهم الاحياء منهم والاموات اهل سنة وتقى. فان هذا من اللطف الرباني ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في اثناء قرون هذه الامة وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزير وجهاد اهل البدع والتعطيل والكفر. ثم انتشار كتبه في هذه الاوقات. فلا شك ان هذا من من لطف الله لمن انتفع بها وانه يتوقف خير كثير على وجودها. فلله الحمد والمنة والفضل. ومن لطف الله بعبده ان يجعل رزقه حلالا في راحة وقناعة يحصل به المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم امل فليعينه على ذلك ويفرغه ويريح خاطره واعضاءه. ولهذا من لطف الله تعالى لعبده انه ربما طمح نفسه لسبب من الاسباب الدنيوية التي يظن فيها ادراك بغيته. فيعلم الله تعالى انها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها. فيظل العبد كارها ولم يدري ان ربه قد لطف به. حيث ابقى له الامر النافع وصرف عنه الامر الضار. ولهذا كان الرضا بالقضاء في مثل هذه الاشياء من اعلى المنازل. ومن لطف الله بعبده اذا قدر له طاعة لا تنال الا باعوان ان يقدر له اعوانا عليها ومساعدين على حملها. قال موسى عليه السلام واجعل لي من اهلي هارون اخي. اشدد به ازري. واشركه في امري. كي نسبحك كثيرا ونذكرك فكثيرا كذلك امتن على عيسى بقوله واذ اوحيت الى الحواريين ان امنوا بي وبرسولي قالوا امنا اشهد باننا مسلمون. وامتن على سيد الخلق في قوله هو الذي ايدك بنصره وبالمؤمنين وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته. ومن هذا لطف الله بالهادين اذا قيد الله من يهتدي بهداهم. ويقبل ارشادهم فتتضاعف بذلك الخيرات والاجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله بل هي مشروطة بامر خارجي. ومن لطف الله عبده ان يعطي عبده من الاولاد والاموال والازواج ما به تقرع عينه في الدنيا ويحصل له به السرور ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه ويعوضه عليه الاجر العظيم اذا صابر واحتسب فنعمة الله عليه باخذه على هذا الوجه اعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وتره الدنيوي منه. وهذا ايضا خير واجر خارج عن احوال العبد بنفسه بل هو لطف من الله قيد له اسبابا اعاده عليها الثواب الجزيل والاجر الجميل ومن لطف الله بعبده ان يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها فينيله درجات عالية لا يدركها بعمله. وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك. كما فعل بايوب عليه السلام. ويوجد في قلبه حلاوة روح رجاء وتأمين الرحمة وكشف الضر فيخف المه وتنشط نفسه. ولهذا من لطف الله بالمؤمنين ان جعل في قلوبهم واحتساب الاجر فخفت مصائبهم وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته. ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف ان افيه من اسباب الابتلاء التي تضعف ايمانه وتنقص ايقانه. كما ان من لطفه بالمؤمن القوي تهيئة اسباب الابتلاء امتحان ويعينه عليها ويحملها عنه فيزداد بذلك ايمانه ويعظم اجره فسبحان اللطيف في ابتلاءاته وعافيته وعطائه ومنعه. ومن لطف الله بعبده ان يسعى لكمال نفسه مع اقرب طريق توصله الى ذلك مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه. فييسر عليه التعلم من كتاب او معلم يكون حصول المقصود به اقرب واسهل. وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة. وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه. فهذا اذى من اللطف ومن لطف الله بعبده قدر الواردات الكثيرة والاشغال المتنوعة والتدبيرات والتعلقات الداخلة خارجة التي لو قسمت على امة من الناس لعجزت قواهم عليها ان يمن عليه بخلق واسع وصدر متسع وقلب كره بحيث يعطي كل فرد من افرادها نظرا ثاقبا وتدبيرا تاما وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها تفاوتها بل قد اعانه الله تعالى عليها ولطف به فيها ولطف له في تسهيل اسبابها وطرقها. واذا اردت ان تعرف هذا الامر فانظر الى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بصلاح الدارين وحصول السعادتين وبعثه مكملا نفسه ومكملا لامة عظيمة هي خير الامم. ومع هذا مكنه الله ببعض عمره الشريف بنحو ثلث عمره ان يقوم بامر الله كله على كثرته وتنوعه. وان يقيم لامته جميع دينهم ويعلمهم جميع اصوله وفروعه. ويخرج الله به امة كبيرة من الظلمات الى النور. ويحصل به من المصالح والمنافع والخير والسعادة للخاص والعام ما لا تقوم به امة من الخلق. ومن لطف الله تعالى بعبده ان يجعل ما يبتليه به من المعاصي سببا لرحمته. فيفتح له عند وقوع ذلك باب التوبة والتضرع والابتهال الى ربه. وازدراء نفسه واحتقارها توالي العجب والكبر من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات. ومن لطفه بعبده الحبيب عنده. اذ مالت نفسه مع شهواته النفس الضارة واسترسلت في ذلك ان ينغصها عليه ويكدرها. فلا يكاد يتناول منها شيئا الا مقرونا بالمكدرات محشوا بالغصص لالا يميل معها كل الميل. كما ان من لطفه به ان يلذذ له التقربات ويحلي له الطاعات ليميل اليها كل الميل ومن لطيف لطف الله بعبده ان يأجره على اعمال لم يعملها بل عزم عليها. فيعزم على قربة من القرب. ثم تنحل عزيمته لسبب من الاسباب فلا يفعلها. فيحصل له اجرها. فانظر كيف لطف الله به فاوقعها في قلبه وادارها في ضميره وقد علم تعالى انه لا يفعلها سوقا لبره لعبده واحسانه بكل طريق. والطف من ذلك ان يقيض لعبده طاعة اخرى غير التي عزم عليها هي انفع له منها. فيدع العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة اخرى. هي ارضى لله منها فتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية. واذا كان من يهاجر الى الله ورسوله ثم يدركه الموت تقابل حصول مقصوده قد وقع اجره على الله مع ان قطع الموت بغير اختياره. فكيف بمن قطعت عليه نيته الفاضلة؟ طاعة قد عزم على فعلها وربما ادار الله في ضمير عبده عدة طاعات كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد لكمال رغبته. ولا يمكن فعل شيء منها الا بتفويت الاخرى. فيوفقه للموازنة بينها وايثار افضلها فعلا. مع رجاء حصولها جميعها عزما ونية. والطف من هذا ان يقدر تعالى لعبده تليه بوجود اسباب المعصية ويوفر له دواعيها وهو تعالى يعلم انه لا يفعلها ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت اسباب فعلها من اكبر الطاعات كما لطف بيوسف عليه السلام لمراودة المرأة واحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال قال فقال اني اخاف الله رب العالمين. ومن لطف الله بعبده ان يقدر خيرا واحسانا من عبده. ويجريه على على يد عبده الاخر ويجعله طريقا الى وصوله للمستحق. فيثيب الله الاول والاخر. ومن لطف الله بعبده ان بشيء من ما له شيئا من النافع وخيرا لغيره. فيثيبه من حيث لا يحتسب. فمن غرس غرسا او زرع زرعا فاصابت منه وروح من الارواح المحترمة شيئا اجر الله صاحبه وهو لا يدري. خصوصا اذا كانت عنده نية حسنة وعقد مع رب به عقدا في انه مهما ترتب على ما له شيء من النفع فاسألك يا رب ان تأجرني وان تجعله قربة لي عندك وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرها وركوبها والحمل عليها او مساكن انتفع بسكناها ولو شيئا قليلا او ماعون ونحوه انتفع به او عين شرب منها وغير ذلك ككتاب انتفع به في تعلم شيء منه او مصحف قرأ فيه. والله ذو الفضل العظيم. ومن لطف الله بعبده ان يفتح له بابا من ابواب الخير. لم يكن له على بال. وليس ذلك لقلة رغبته في وانما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق فلم يشعر الا وقد وجد في قلبه الداعي اليه واللافت اليه ففرح بذلك وعرف انها من الطاف سيده وطرقه التي قيد وصولها اليه. فصرف لها ضميره ووجه اليها فكرة وادرك منها ما شاء الله وفتح. قوله تعالى ليس على الذين امنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا او وامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وامنوا ثم اتقوا واحسنوا. والله يحب المحسنين تأملت في فائدة تكرار التقوى في هذه الاية ثلاث مرات. فوقع لي احد وجهين. احدهما ان الاول للماضي تاني للحال والثالث في المستقبل. وبيان ذلك ان قوله تعالى ليس على الذين امنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ان جناح نكرة في سياق النفي. فتعم الماضي والمستقبل والحال. لانه نفى الجناح المؤمنين مطلقا وهذا النفي العام لا ينطبق الا على الاحوال الثلاثة. ويكون هذا التكرار من محترزات القرآن التي يحترز الباري فيها عن كل حال تقدر وتمكن. لانهم لو اتقوا في الماضي او في الحال او فيهما دون المستقبل لم يصدق عليهم نفي الجناح ولابد في كل حالة من الاحوال التي تقام فيها التقوى من الايمان والعمل الصالح. ومن الايمان والاحسان. يؤيد هذا الاحتمال قوله. فمن تعجل في يومين فلا اثم فعليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى واتقوا الله فان قوله فلا اثم عليه نظير قوله جناح ولما كانت هذه الاية لا يتصور فيها الماضي كما هو بين. لانه شرط وجزاء للمستقبل. ويصلح للحال قال فلا اثم عليه. يعني في الحال لمن اتقى الله فيها. ثم ذكر ما يصلح للمستقبل. فقال واتقوا الله فاذا قارنت هذه بتلك بانت لك فائدة التكرار وان ذلك لاجل عموم الازمنة. الوجه الثاني ان الاول في مقام الاسلام والثاني في مقام الايمان. والثالث في مقام الاحسان. والمؤمن لا تكمل تقواه حتى يترك ما حرم الله ولا يتم الا بهذه المقامات الثلاثة. لان مقام الاسلام يقتضي وجود الاعمال الظاهرة مع الايمان والتقوى. فقال فيها اذا ما اتقوا وامنوا وعملوا الصالحات ومقام الايمان لابد فيه من القيام باركان الايمان مع التقوى. فقال فيه ثم اتقوا وامنوا ومقام الاحسان لابد فيه من المقام بالاحسان مع التقوى. فقال فيه ثم اتقوا واحسنوا. فنفي الجناح العام لا يكون الا لمن قام بمقامات الدين كلها. وعلى هذين الوجهين ففي الاية الكريمة من بيان جلالة القرآن وعظمته واحكام معانيه ورصانتها. وعدم اختلالها واختلافها ما يشهد به العبد انه كلام الله حقا وصدقا وعدلا. وانه محتوي على اعلى رتب البلاغة. لا يقاربه فيها اي كلام كان وقد يقال ان كلا الوجهين مراد لان اللفظ لا يأباه والمعنى مفتقر اليه. وطريقة القرآن انه يحمل وعلى اعم الوجوه المناسبة لانه تنزيل من حكيم حميد. عليم بكل شيء. والله اعلم بمراده واسراره وكتابه. اللهم ذكرنا منه ما نسينا. وعلمنا منه ما جهلنا. واجعلنا ممن يتلونه حق تلاوته. اقول ولما ختم المؤلف رحمه الله كلامه على معنى لطيف. قال وارجو من الله ان يكون ما نحن فيه من هذا النوع. فان جنس هذه الفوائد المذكورة في هذه الرسالة قد كانت تعرض لي كثيرا اثناء القراءة لكتاب الله. فاتهاون بها ولم مقيدها فيضيع شيء كثير. فلما كان اول يوم من هذا الشهر المبارك اوقع في قلبي ان اقيد ما يمر علي من الفوائد والمعاني المتضحة التي لا اعلم انها وقعت لي قبل ذلك. فعملت على هذا النمط حتى كان الانتهاء الى لطف الله كما كان الابتداء بلطف الله بهذه الرسالة اللطيفة. وكان ذلك موافقا للثامن والعشرين من هذا الشهر المبارك. الذي اصل به الابتداء في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة سبع واربعين وثلاثمائة والف من الهجرة. والحمد لله اولا واخرا وظاهرا وباطنا حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. وصلى الله على محمد وسلم. وقد تمت هذه الرسالة على يدي جامعها الفقير الى ربه من كافة الوجوه. عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن سعدي المتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة في ليلة الخميس الموافق الثالث والعشرين من شهر جمادى الاخرة. غفر الله له وتغمده برحمته اخوانه واسكنه فسيح جناته انه سميع مجيب