المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله الحديث الثاني عشر عن ابي هريرة رضي الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم المؤمن القوي خير واحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان اصابك شيء فلا تقل لو اني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فان لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم قال الشيخ السعدي رحمه الله في شرحه هذا الحديث اشتمل على اصول عظيمة وكلمات جامعة فمنها اثبات المحبة صفة لله وانها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودل على انها تتعلق بارادته ومشيئته وايضا تتفاضل فمحبته للمؤمن القوي اعظم من محبته للمؤمن الضعيف ودل الحديث على ان الايمان يشمل العقائد القلبية والاقوال والافعال كما هو مذهب اهل السنة والجماعة فان الايمان بضع وسبعون شعبة اعلاها قول لا اله الا الله وادناها اماطة الاذى عن الطريق والحياء شعبة منه وهذه الشعب التي ترجع الى الاعمال الباطنة والظاهرة كلها من الايمان فمن قام بها حق القيام وكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر فهو المؤمن القوي الذي حاز اعلى مراتب الايمان ومن لم يصل الى هذه المرتبة فهو المؤمن الضعيف وهذا من ادلة السلف ان الايمان يزيد وينقص وذلك بحسب علوم الايمان ومعارفه وبحسب اعماله وهذا الاصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة ولما فاضل النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول فقال وفي كل خير وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة وهي ان على من فاضل بين الاشخاص او الاجناس او الاعمال ان يذكر وجه التفضيل وجهة التفضيل ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول لان لا يتطرق القدح الى المفضول وكذلك في الجانب الاخر اذا ذكرت مراتب الشر والاشرار وذكر التفاوت بينها فينبغي بعد ذلك ان يذكر القدر المشترك بينها من اسباب الخير او الشر وهذا كثير في الكتاب والسنة وفي هذا الحديث ان المؤمنين يتفاوتون في الخيرية ومحبة الله والقيام بدينه وانهم في ذلك درجات ولكل درجات من ما عملوا واستعان الله على ذلك افلح وانجح وكان كماله بحسب ما قام به من هذه الامور ونقصه بحسب ما فاته منها واما الامور النافعة في الدنيا فالعبد لابد له من طلب الرزق ويجمعهم ثلاثة اقسام السابقون الى الخيرات وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات وكملوا ما باشروه من الاعمال واتصفوا بجميع صفات الكمال ثم المقتصدون الذين اقتصروا على القيام بالواجبات وترك المحظورات ثم الظالمون لانفسهم الذين خلطوا عملا صالحا واخر سيئا وقوله صلى الله عليه وعلى اله وسلم احرص على ما ينفعك واستعن بالله كلام جامع نافع محتو على سعادة الدنيا والاخرة والامور النافعة قسمان امور دينية وامور دنيوية والعبد محتاج الى الدنيوية كما انه محتاج الى الدينية فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد على الامور النافعة منهما مع الاستعانة بالله تعالى فمتى حرص العبد على الامور النافعة واجتهد فيها وسلك اسبابها وطرقها واستعان بربه في حصولها وتكميلها كان ذلك كماله وعنوان فلاحه ومتى فاته واحد من هذه الامور الثلاثة فاته من الخير بحسبها فمن لم يكن حريصا على الامور النافعة بل كان كسلانا لم يدرك شيئا بل كسله واصل الخيبة والفشل بل كسلان لا يدرك خيرا ولا ينال مكرمه ولا يحظى بدين ولا دنيا ومتى كان حريصا ولكن على غير الامور النافعة اما على امور ضارة او مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة وفوات الخير وحصول الشر والضرر فكم من حريص على سلوك طرق واحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه الا التعب والعناء والشقاء ثم اذا سلك العبد الطرق النافعة وحرص عليها واجتهد فيها لم تتم له الا بصدق اللجأ الى الله والاستعانة به على ادراكها وتكميمه والا يتكل على نفسه وحوله وقوته بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه فبذلك تهون عليه المصاعب وتتيسر له الاحوال وتتم له النتائج والثمرات الطيبة في امر الدين وامر الدنيا لكنه في هذه الاحوال محتاج بل مضطر غاية الاضطرار الى معرفة الامور النافعة التي ينبغي الحرص عليها والجد في طلبها فالامور النافعة في الدين ترجع الى امرين علم نافع وعمل صالح اما العلم النافع فهو العلم المزكي للقلوب والارواح المثمر لسعادة الدارين وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث وتفسير وفقه وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الانسان وتعيين ذلك يختلف باختلاف الاحوال والحالة التقريبية ان يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه فان تعذر او تعسر عليه حفظه لفظا فليكرره كثيرا متدبرا لمعانيه حتى ترسخ معانيه في قلبه ثم تكون باقي كتب هذا الفن التفسير والتوضيح والتفريغ لذلك الاصل الذي في عرفه وادركه فان الانسان اذا حفظ الاصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها صغارها وكبارها ومن ضيع الاصول حرم الوصول فمن حرص على هذا الذي ذكرناه واستعان بالله اعانه الله وبارك له في علمه وطريقه الذي سلكه ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة فاتت عليه الاوقات ولم يدرك الا العناء كما هو معروف بالتجربة والواقع يشهد به فان يسر الله له معلما يحسن طريقة التعليم ومسالك التفهيم تم له السبب الموصل الى العلم والامر الثاني وهو العمل الصالح فهو العمل الذي جمع الاخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو التقرب الى الله باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال وما يستحقه على عباده من العبودية وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر احضر به عما مضى وعما تقبل عن الرسل والكتب والملائكة واحوال الاخرة والجنة والنار والثواب والعقاب وغير ذلك ثم يسعى في اداء ما فرضه الله على عباده من حقوق الله وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات خصوصا المؤكدة في اوقاتها مستعينا بالله على فعلها وعلى تحقيقها وتكميلها وفعلها على وجه الاخلاص الذي لا يشوبه غرض من الاغراض النفسية وكذلك يتقرب الى الله بترك المحرمات وخصوصا التي تدعو اليها النفوس وتميل اليها فيتقرب الى ربه بتركها لله كما يتقرب اليه بفعل المأمورات فمتى وفق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل فينبغي ان يسلك انفع الاسباب الدنيوية اللائقة بحاله وذلك يختلف باختلاف الناس ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤونته وينوي الكفاف والاستغناء بطلبه عن الخلق وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية من الزكاة والصدقة والنفقات الخيرية الخاصة والعامة مما يتوقف المال ويقصد المكاسب الطيبة متجنبا للمكاسب الخبيثة المحرمة فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة وسلك انفع طريق يراه مناسبا لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب الى الله بها ومن تمام ذلك الا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته وحذقه بمعرفة الاسباب وادارتها بل يستعين بربه متوكلا عليه راجيا منه ان ييسره لايسر الامور وانجحها واقربها تحصيلا لمراده ويسأل ربه ان يبارك له في رزقه فاول بركة الرزق ان يكون مؤسسا على التقوى والنية الصالحة ومن بركة الرزق ان يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة ومن بركة الرزق الا ينسى العبد الفضل في المعاملة كما قال تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم بالتيسير على الموسرين وانظار المعسرين والمحاباة عند البيع والشراء بما تيسر من قليل او كثير فبذلك ينال العبد خيرا كثيرا فان قيل اي المكاسب اولى وافضل قيل قد اختلف اهل العلم في ذلك فمنهم من فضل الزراعة والحراثة ومنهم من فضل البيع والشراء ومنهم من فضل القيام بالصناعات والحرف ونحوها وكل منهم ادلى بحجته ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع وهو انه صلى الله عليه وعلى اله وسلم قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله والنافع من ذلك معلوم انه يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص فمنهم من تكون الحراثة والزراعة افضل في حقه ومنهم من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها افضل في حقه فالافضل من ذلك وغيره الانفع فصلوات الله وسلامه على من اعطي جوامع الكلم ونوافعها ثم انه صلى الله عليه وعلى اله وسلم حض على الرضا بقضاء الله وقدره بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع في الحرص على النافع فاذا اصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك الى ترك بعض الاسباب التي يظن نفعها لو فعلها بل يسكن الى قضاء الله وقدره ليزداد ايمانه ويسكن قلبه وتستريح نفسه فان لو في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص ايمانه بالقدر واعتراضه عليه وفتح ابواب الهم والحزن المضعف للقلب وهذه الحال التي ارشد اليها النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم هي اعظم الطرق لراحة القلب وادعى لحصول القناعة والحياة الطيبة وهو الحرص على الامور النافعة والاجتهاد في تحصيلها والاستعانة بالله عليها وشكر الله على ما يسره منها والرضا عنه بما فات ولم يحصل منها واعلم ان استعمال لو يختلف باختلاف ما قصد بها فان استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها فانها تفتح على العبد عمل الشيطان كما تقدم وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فانها مذمومة وصاحبها اثم ولو لم يباشر المعصية فانه تمنى حصولها واما اذا استعملت في تمني الخير او في بيان العلم النافع فانها محمودة لان الوسائل لها احكام المقاصد وهذا الاصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم وهو الامر بالحرص على الامور النافعة ومن لازمه اجتناب الامور الضارة مع الاستعانة بالله يشمل استعماله والامر به في الامور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقة ويشمل الامور الكلية المتعلقة بعموم الامة فعليهم جميعا ان يحرصوا على الامور النافعة وهي المصالح الكلية والاستعداد لاعدائهم بكل مما يناسب الوقت من القوة المعنوية والمادية ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله ودفع جميع ما يضاد ذلك وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة وقد جمع النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم في هذا الحديث بين الايمان بالقضاء والقدر والعمل بالاسباب النافعة وهذان الاصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة ولا يتم الدين الا بهما بل لا تتم الامور المقصودة كلها الا بهما لان قوله احرص على ما ينفعك امر بكل سبب ديني ودنيوي بل امر بالجد والاجتهاد في الحرص عليه نية وهمة فعلا وتدبيرا وقوله واستعن بالله ايمان بالقضاء والقدر وامر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى اه في جلب المصالح ودفع المضار مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك فالمتبع للرسول صلى الله عليه وعلى اله وسلم يتعين عليه ان يتوكل على الله في امر دينه ودنياه وان يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته والله المستعان