المكتبة السمعية للعلامة المفسر الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. يسر فريق مشروع كبار العلماء ان يقدم قراءة تفسير السعدي. لما ذكر تعالى اتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس. وكان معروفا بذلك مقصودا. ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما الله فتنة لداوود وموعظة لخلل ارتكبه. فتاب الله عليه وغفر له وقيض له هذه القضية. فقال لنبيه محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم وهل اتاك نبأ الخصم فانه نبأ عجيب اذ تسوروا على داوود المحراب اي محل عبادته من غير اذن ولا استئذان ولم يدخلوا عليه مع باب هنا على بعض. فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة فزع منهم وخاف. فقالوا له نحن خصمان فلا تخف. بغى بعض هنا على بعض بالظلم فاحكم بيننا بالحق اي بالعدل. ولا تمل مع احدنا والمقصود من هذا ان الخصمين قد عرف ان قصدهما الحق الواضح الصرف. واذا كان ذلك فسيقصان عليه نبأهما بالحق فلم يشمئز نبي الله داود من وعظهما له. ولم يؤنبهما. فقال احدهما قال ان هذا اخي نص على الاخوة في الدين او النسب او الصداقة لاقتضائها عدم البغي وان بغيه الصادر منه اعظم من غيره له تسع وتسعون نعجة. اي زوجة وذلك خير كثير. يوجب عليه القناعة بما اتاه الله. ولي نعجة واحدة فطمع فيها فقال اكفلنيها اي دعها لي وخلها في كفالتي. اي غلبني في القول فلم يزل بي حتى ادركها او كاد. فقال داود لما سمع كلامه. ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما ان هذا هو هو الواقع فلهذا لم يحتج ان يتكلم الاخر فلا وجه للاعتراض بقول القائل لما حكم داود قبل ان يسمع كلام الخصم الاخر قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه وانك كثيرا من الخلقاء لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه. وهذه عادة الخلطاء القرناء الكثير منهم فقال وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض. لان الظلم من صفة النفوس الا الذين امنوا وعملوا الصالحات فان ما معهم من الايمان والعمل الصالح يمنعهم من الظلم. وقليل ما هم. كما قال تعالى وقليل من عبادي الشكور فاستغفر ربه وظن داوود حين حكم بينهما ان ما فتناه اي اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية لينتبه فاستغفر ربه لما صدر منه وخر راكعا اي ساجدا واناب لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة فغفر له ذلك الذي صدر منه واكرمه الله بانواع الكرامات فقال وان له عندنا لزلفى اي منزلة عالية وقربة منا اي مرجع وهذا الذنب الذي صدر من داوود عليه السلام. لم يذكره الله لعدم الحاجة الى ذكره فالتعرض له من باب التكلف. وانما الفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وانابته. وانه ارتفع محله. فكان بعد التوبة احسن منه قبلها احتسب الحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب يا داود انا جعلناك خليفة في الارض تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية. فاحكم بين الناس بالحق اي العدل. وهذا لا سيتمكن منه الا بعلم الواجب وعلم بالواقع وقدرة على تنفيذ الحق ولا تتبع الهوى فتميل مع احد لقرابة او صداقة او محبة او بغض للاخر فيضلك الهوى عن سبيل الله ويخرجك عن الصراط المستقيم لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. ان الذين يضلون عن سبيل الله خصوصا المتعمدين منهم فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم لم يميلوا مع الهوى الفاتن وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات والارض. وانه لم يخلقهما باطلا. اي عبثا ولعبا من غير فائدة ولا مصلحة. ذلك ظن الذين كفروا بربهم حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. فويل للذين كفروا من نار فانها التي تأخذ الحق منهم وتبلغ منهم كل مبلغ. وانما خلق الله السماوات والارض بالحق وللحق. فخلقهم ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة سلطانه. وانه تعالى وحده المعبود دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات والارض وان البعث حق وسيفصل الله بين اهل الخير والشر. ولا يظن الجاهل بحكمة الله ان يسوي الله بينهما في حكمه. ولهذا قال ام نجعل الذين امنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا ليدبروا اياته وليتذكر اولوا الالباب كتاب انزلناه اليك مبارك فيه خير كثير وعلم غزير فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء ونور يستضاء به في الظلمات. وكل حكم يحتاج اليه المكلفون. وفيه من الادلة القطعية على كل مطلوب. ما كان في اجل كتاب طرق العالم منذ انشأه الله. اي هذه الحكمة من انزاله ليتدبر الناس اياته فيستخرجوا علمها ويتأمل اسرارها وحكمها. فانه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه. واعادة الفكر فيها مرة بعد مرة بركته وخيره. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن. وانه من افضل الاعمال. وان القراءة المشتملة على التدبر افضل من التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود. اي اولو العقول الصحيحة يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب. فدل هذا على انه بحسب لب الانسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب لما اثنى تعالى على داوود وذكر ما جرى له ومنه اثنى على ابنه سليمان عليهما السلام فقال ووهبنا لداوود سليمان اي انعمنا به عليه واقررنا عينة نعم العبد سليمان عليه السلام فانه اتصف بما يوجب المدح وهو اي رجاع الى الله في جميع احواله. بالتأله والانابة والمحبة والذكر والدعاء والتضرع. والاجتهاد في مرضات الله وتقديمها على كل شيء اذ عرض عليهم العشي الصافنات لريادة فقال اني احببت حب الخير توارت بالحجاب. ولهذا لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات. اي التي من وصفها الصفون وهو رفع احدى قوائمها عند الوقوف وكأن لها منظر رائق وجمال معجب خصوصا للمحتاج اليها كالملوك. فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب فالهته عن صلاة المساء وذكره. فقال ندما على ما مضى منه وتقربا الى الله بما الهاه عن ذكره. وتقديما لحب الله على حب غيره اني احببته حب الخير وضمن احببت معنى اثرت. اي اثرت حب الخير. الذي هو المال عموما. وفي هذا الموضع المراد الخير ردوها علي فطفق مسحا بالسوق ردوها علي فردوها فطفق فيها مسحا بالسوق والاعناق. اي جعل يعقرها بسيفه في سوقها واعناقها ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم انابة. ولقد فتنا سليمان اي ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه. بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية. والقينا على كرسيه جسدا. اي شيطانا قضى الله وقدر ان يجلس على كرسي ملكه. ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان. ثم انا ابا سليمان الى الله تعالى وتاب فسخرنا له الريح تجري بامره رخاء حيث واخرين مقرنين فاستجاب الله له وغفر له ورد عليه ملكه. وزاده ملكا لم يحصل لاحد من بعده. وهو تسخير الشياطين يبنون ما يريد ويغوصون له في البحر. يستخرجون الدر والحلي ومن عصاه منهم قرنه في الاصفاد واوثقه. وقلنا له له هذا عطاؤنا ثمن او امسك بغير حساب. هذا عطاؤنا فقر به عينا فمن على من شئت او امسك من شئت. اي لا حرج عليك في ذلك ولا حساب. لعلمه تعالى بكمال عدله وحسن احكامه. ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الاخرة. بل له في الاخرة خير عظيم. ولهذا قال اي هو من المقربين عند الله المكرمين بانواع الكرامات لله فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داوود وسليمان عليهما السلام. فمنها ان الله تعالى يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اخبار من قبله ليثبت فؤاده وتطمئن نفسه ويذكر له من عبادته من شدة صبرهم وانابتهم ما يشوقهم الى منافستهم والتقرب الى الله الذي تقربوا اليه والصبر على اذى قومه. ولهذا في هذا الموضع لما ذكر الله ما ذكر من اذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به امره بالصبر وان يذكر عبده داوود فيتسلى به. ومنها ان الله تعالى يمدح تحب القوة في طاعته. قوة القلب والبدن. فانه يحصل منها من اثار الطاعة وحسنها وكثرتها. ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة وان العبد ينبغي له تعاطي اسبابها وعدم الركون الى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس. ومنها ان الرجوع الى الله في جميع الامور من اوصاف انبياء الله وخواص خلقه. كما اثنى الله على داوود وسليمان بذلك. فليقتدي بهما المقتدون وليهتدي بهداهم اولئك الذين هدى الله فبهداهم مقتضى. ومنها ما اكرم الله به نبيه داوود عليه السلام. من حسن الصوت العظيم الذي جعل الله بسببه الجبال الصم والطيور البهم يجاوبنه اذا رجع صوته بالتسبيح. ويسبحن معه بالعشي والاشراق. ومنها ان من اكبر نعم الله على عبده ان يرزقه العلم النافع ويعرف الحكم والفصل بين الناس كما امتن الله به على عبده داوود عليه السلام ومنها اعتناء الله تعالى بانبيائه واصفيائه. عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته اياهم وابتلائهم بما به يزول عنهم المحدود ويعودون الى اكمل من حالتهم الاولى. كما جرى لداوود وسليمان عليهما السلام. ومنها ان الانبياء صلوات الله وسلامهم وعليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى. لان مقصود الرسالة لا يحصل الا بذلك. وانه قد يجري منهم بعض مقتضيات في الطبيعة من المعاصي ولكن الله تعالى يتداركهم ويبادرهم بلطفه. ومنها ان داود عليه السلام كان في اغلب احواله محرابه لخدمة ربه. ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب. لانه كان اذا خلا في محرابه لا يأتيه احد. فلم يجعل كل وقته ناس مع كثرة ما يرد عليه من الاحكام بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه وتقر عينه بعبادته وتعينه على الاخلاص في جميع اموره ومنها انه ينبغي استعمال الادب في الدخول على الحكام وغيرهم. فان الخصمين لما دخلا على داوود في حالة غير معتادة من غير الباب المعهود فزع منهم واشتد عليه ذلك ورآه غير لائق بالحال. ومنها انه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء ادب الخصم وفعله ما لا ينبغي. ومنها كمال حلم داوود عليه السلام. فانهما غضب عليهما حين جاءه بغير استئذان وهو الملك ولا انتهرهما ولا وبخهما. ومنها جواز قول المظلوم لمن ظلمه. انت ظلمتني او يا ظالم ونحو ذلك او باغ علي لقولهما خصمان بغى بعضنا على بعض. ومنها ان الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير قدر جليل العلم اذا نصحه احد او وعظه لا يغضب ولا يشمئز بل يبادره بالقبول والشكر فان الخصمين نصحا داوود الم يشمئز ولم يغضب ولم يثنه ذلك عن الحق بل حكم بالحق الصرف. ومنها ان المخالطة بين الاقارب والاصحاب وكثرة تعلقات الدنيوية المالية موجبة للتعادي بينهم. وبغي بعضهم على بعض وانه لا يرد عن ذلك الا استعمال تقوى الله. والصبر على الامور بالايمان والعمل الصالح. وان هذا من اقل شيء في الناس. ومنها ان الاستغفار والعبادة خصوصا الصلاة من الذنوب فان الله رتب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده. ومنها اكرام الله لعبده داوود وسليمان بالقرب منه وحسن الثواب والا يظن ان ما جرى لهما منقص لدرجتهما عند الله تعالى. وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين. انه اذا غفر لهم وازال اثر ذنوبهم. ازال الاثار المترتبة عليه كلها. حتى ما يقع في قلوب الخلق. فانهم اذا علموا ببعض ذنوبهم وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الاولى. فازال الله تعالى هذه الاثار وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار. ومنها ان الحكم بين الناس مرتبة دينية تولاها رسول الله وخواص خلقه. وان وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى. فالحكم بالحق يقتضي العلم بالامور الشرعية. والعلم بصورة القضية المحكوم بها. وكيفية ادخالها في الحكم الشرعي. فالجاهل باحد الامرين لا يصلح للحكم ولا يحل له الاقدام عليه. ومنها انه ينبغي للحاكم ان يحذر الهوى ويجعله منه على بال. فان النفوس اتخلو منه بل يجاهد نفسه بان يكون الحق مقصودا وان يلقي عنه وقت الحكم كل محبة او بغض لاحد الخصمين ومنها ان سليمان كان عليه السلام من فضائل داوود ومن منن الله عليه حيث وهبه له وان من اكبر نعم الله على عبده ان يهب له ولدا صالحا ان كان عالما كان نورا على نور. ومنها ثناء الله تعالى على سليمان ومدحه في قوله نعم العبد انه اواب ومنها كثرة خير الله وبره بعبيده ان يمن عليهم بصالح الاعمال ومكارم الاخلاق. ثم يثني عليهم بها وهو المتفضل الوهاب ومنها تقديم سليمان محبة الله تعالى على محبة كل شيء. ومنها ان كل ما اشغل العبد عن الله فانه مشكور مذموم فليفارقه وليقبل على ما هو انفع له. ومنها القاعدة المشهورة من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه فسليمان عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس تقديما لمحبة الله فعوضه الله خيرا من ذلك بان سخط قال له الريح الرخاء اللينة التي تجري بامره الى حيث اراد وقصد. غدوها شهر ورواحها شهر. وسخر له الشياطين اهل الاقتدار على الاعمال التي لا يقدر عليها الادميون. ومنها ان تسخير الشياطين لا يكون لاحد بعد سليمان عليه السلام. ومن ان سليمان عليه السلام كان ملك النبي يفعل ما اراد ولكنه لا يريد الا العدل. بخلاف النبي العبد فانه تكون ارادته تابعة لامر الله. فلا يفعل ولا يترك الا بالامر. كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الحال اكمل