انه تابع لهم ومخلوق. كما ان جميع صفاتهم مخلوقة. واما الذي يرجع الى الله ويضاف اليه فانه كلامه منه غير مخلوق. وهذا الفرق من اوضح الفروق. والتلاوة قد يعنى بها المتلو المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبد الرحمن ابن ناصر السعدي رحمه الله توضيح معاني الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية. لشمس الدين ابن القيم. تعليق واختصار الشيخ علامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. بسم الله الرحمن الرحيم. مقدمة المؤلف الحمد لله والصلاة والسلام على محمد واله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. اما بعد فقد اردت ان استعين الله تعالى على توضيح معاني الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لشمس الدين ابن القيم على وجه الاختصار وحل نظمها الى معناه المنثور فقط من غير زيادة على ذلك. الا اذا اقتضت حال الزيادة ولم اشتغل بحل لفظها لتيسر حلها على الراغب من كتب اللغة ومعاجم العربية. لان الكتاب المذكور حوى من علم الاصول الدينية والعقائد الشرعية والاخلاق المحمدية والعلوم الاخروية والدلائل للقواطع والبراهين السواطع ما لم يحتوي عليه كتاب وارجو الله تعالى ان يعينني على ما قصدت. وينفعني واخواني بما اوردت. ويجعل عملنا خالصا لوجهه. موافقا مرضاته. وان ينزل علينا من بركاته وخيره وجوده. ما تصلح به امورنا ويسر لنا الطريق الموصل الى رحمته وكرامته. انه جواد كريم فصل. اما مقصود هذا الكتاب ومضمونه فهو معرفة الله تعالى باثبات ما لله من صفات الكمال ونعوله الجلال وتنزيهه عن كل نقص وعيب ومشابهة المخلوقات. وتقرير هذا الاصل العظيم بادلته من الكتاب والسنة والعقل والفطرة عبودية الله ومحبته والانابة اليه ودفع ما يعارض هذا الاصل. والرد على المبتدعين المعارضين. وذم الغافلين المعرضين. ومدح اهل السنة القائمين بهذا الامر علما وعملا وحالا ودعوة. وما لهم عند ربهم من الكرامة ولا ريب ان هذا اصل العلوم كلها واساسها وقاعدتها. كما انه افضلها وافردها واشرفها وانفعها ولما كان هذا الموضوع لهذا الكتاب ومبناه على تقرير صفات الكمال ونعوت ذي العظمة والجلال وكان هذا اقوى الدواعي الى محبة الله. ذكر المصنف رحمه الله في الفصل الاول منها ان حكم المحبة ثابت الاركان لتوفر شروطه وانتفاء موانعه. وانه لا سبيل للعزال واللوام الى نقضه. لانه قد تم وانبرم ونفذ فلم يبقى طريق الى حله بل هو على الدوام في نمو وازدياد. ثم شبب رحمه الله بالمحبة كعادة شعراء يشببون باعلى محبوباتهم. ثم ينتقلون منها الى الاغراض التي يقصدونها في غاية اللطف. فيقع او ذلك من الحسن في اعلى المراتب واعذب المشارب فان كان الغرض مدحا انتقلوا اليه من المحبوب الموصوف بالصفات التي يذكرونها فيكون مضمون ذلك ان الغرض انتقل اليه اعلى واشرف من المنتقل منه وان كان الغرض الذي يقصدونه ذما وقدحا وتخلصوا اليه من وصف ذلك المحبوب كان ذلك المنتقل اليه في فيه من القبح والذم والقدح ابلغ مما في هجر المحبوب وصده المنتقل اليه منه. فلذلك سلف المؤلف هذا المسلك فلما شبب بالمحبوبة المذكورة وشدة تعلق القلب بها وتمنى وصلها في الخيال وان محبها اندهش في جمالها وهام في حبها وانها منته الوصال. وظن ذلك صدقا وحقيقة. والحال انه خيال رآه في المنام. او تخيله في الوهم فقال لها في تلك الحال ان كنت كاذبة الذي حدثتني جهم بن صفوان وشيعته الاولى. فعليك اثم الكاذب الفتان. ثم جعل يذكر مذهب الجهمية الى ذلك الرجل المسمى بجهم بن صفوان وكان معروفا بين الامة والائمة بهذه البدعة الشنعاء. الجامعة لشرور كثيرة. اعظمها نفي الصفات لله الله تعالى التي تواترت في الكتاب والسنة. واتفق عليها جميع اهل السنة الا هؤلاء المبتدعة ومن سلك سبيلهم حيث زعموا ان الله معطل عن صفات الكمال. وانه ليس على العرش رب يعبد. وان حظ العرش منه حظ الارض السابعة السفلى. تعالى عن قولهم علوا كبيرا. وانه ليس له سمع ولا بصر. ولا قدرة ولا علم ولا ارادة ولا رحمة ولا وجه ولا يدان ولا له صفة تقوم به. انما هو ذات مجردة عن الاوصاف خالية عن النعوت وهذا مجرد تصوره يعلم بطلانه ومخالفته للسمع والعقل. وزعموا مع هذا انه ليس له خليل من خلقه فنفوا محبة الله وخلته لمن يختاره من خلقه. وانه لم يتخذ ابراهيم خليلا. ولا كلم الله موسى تكليما. فانكروا صريح الكتاب والسنة. وفسروا الخليل خليل الله بانه الفقير الى الله. ومن المعلوم ان هذا الوصف يدخل فيه الابرار والفجار. واهل الجنة واهل النار. فكلهم مفتقرون اليه. ليس لاحد غنى عنه طرفة عين. فلزم من هذا مساواة خليل الرحمن ابراهيم عليه الصلاة والسلام. في الخلة لكل احد وهذا من ابطل الباطل ولما كان هذا القول متقررا قبحه عند سلف الامة وائمتها وامرائها وعامتها واظهر الجعد ابن درهم شيخ الجهم ابن صفوان هذا القول. طلبه ولاة امر المسلمين فاخذه خالد بن عبدالله القصري فاوثقه وخرج به للمصلى يوم عيد الاضحى فقال ايها الناس اذبحوا تقبل الله ضحاياكم. فاني مضح بالجعد ابن درهم. فانه زعم ان الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولا كلم الله موسى تكليما. ثم نزل فذبحه بالمصلى فشكر الناس له ذلك ثم تمم المؤلف مقالة الجهمية في الفصول التي بعد هذا. فذكر ان مذهبهم الجبر وان العبد ليس بفاعل على الحقيقة وان فعله بغير اختيار. بل هو بمنزلة هبوب الرياح وتحرك الاشجار وحركة نائمة ونحوها من الحركات الحاصلة بغير اختيار العبد. ومن المعلوم الفرق بين الحركة الاختيارية الواقعة بقدرة العبد وارادته والحركة القسرية التي لا ارادة له فيها ولا اختيار. وان هذا الفرق ثابت بالشرع والعقل والحس وان من سوى بين ذلك فقد خالف الشرع والعقل والفطرة. وانه يلزم من قوله ان الله يعاقب العبد على ماله ليس من فعل العبد بل هو من فعل الله ولكنهم يجيبون عن هذا بجواب باطل. فانهم اذا قيل لهم هذا ظلم ينزه الله عنه ويتحاشى فسروا الظلم بانه التصرف في ملك الغير. واما الله فانه مالك كل شيء. متصرف في العباد ليس سيظلم على اي وجه كان. فيكون الظلم عندهم محالا غير ممكن. ويكون تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد تنزيها عن امر غير ممكن. وهذا معلوم البطلان بضرورة الشرع والعقل. فان الظلم الذي تنزه الله عنه ان يهضم احدا من حسناته. او يعذبه بغير جناياته. لانه حكم عدل على صراط مستقيم. في اقواله وافعاله وثوابه وعقابه فهذا التنزيه الحقيقي المتضمن الثناء على الله بالعدل الكامل والحمد. لا ما يقوله الجهم فانه لا يتضمن المد بل يتضمن القدح هذا هو المعقول. ثم ذكر في الفصل الذي بعده ان الجهمية كما نفوا صفاته انهم نفوا حكمة الله وغاياته المقصودة في امره وخلقه. فان الله تعالى حكيم ووصف نفسه بالحكمة. فاتفق السلف والائمة ان حكمته تعالى وصف قائم به كسائر صفاته. وانها وضع الاشياء مواضعها وتنزيل الامور منازلها. وان الله احسن ما خلقه. واتقن ما صنعه. وله في ذلك من الاسرار والحكم ما لا يدركه الوصف ولا يحيط به الفكر. وخالف الجهمية ومن تبعهم في ذلك. فلم يثبتوا لله حكمة حقيقية. بل جعلوا حكمته هي مشيئته. وانه يجمع بين المختلفين من كل وجه. ويفرق بين متماثلين من كل وجه. وانه يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ومع هذا فهذه الحكمة التي يثبتونها ليست صفة قائمة بالله. بل اما انها مجرد الذات العارية عن صفات وانها راجعة الى المفعولات كما قالوا ذلك في كلامه. وان كلامه مخلوق خلقه في بعض الاجسام كسائر المخلوقات. لان كلامه على قولهم غيره. وما كان غيره كان مغايرا له مخلوقا له وهذا معلوم البطلان. فان صفات الله التي من جملتها الكلام داخلة في ذاته. فهو تعالى باسمائه وصفاته الخالق وما سواه مخلوق. وسيأتي ان شاء الله الكلام في الغيرية هل تطلق على الصفات ام لا ومن مقالة الجهمية التي لم يسبقهم اليها احد من سلف الامة وائمتها. قولهم في مسألة الايمان. وان ايمانه واقرار العبد بان الله خالقه ومدبره. وان اعمال القلوب من محبة الله وخوفه ورجائه اليه والتوكل عليه واعمال الجوارح واقوال اللسان في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من امور الطاعات غير داخلة في مسمى الايمان. فلزم من قولهم هذا ان ايمان اصلح واكملهم ايمانا وايمان افسق الناس واقلهم ايمانا على حد سواء. فمن لوازم هذا القول الفاسد المعلوم فساده بالضرورة ان من عرف الله خالقه فهو مؤمن فايمان ابليس وفرعون وقارون وعاد وثمود وابي جهل وسائر الكفرة الذين يعرفون ان الله خالقه ايمان تام ليسوا كفارا. وهذا اللازم معلوم انه منكر باطل عند جميع الامة. حتى الجهمية بانفسهم. ينفون الايمان عن هؤلاء المذكورين. ويعتذرون عن هذا بانه ليس في قلوب من حكم الشارع بكفرهم شيء من الاعتراف. وانما هم جاهلون بربهم غير مقرين وهذا من ابطل الباطل هو نوع من المكابرة والسفسطة وقول المؤلف هم عند جهم كامل الايمان اي هذا لازم قوله. والا فلو قال ذلك وصرح به كان كفره ظاهرا لكل احد. ولكن يستدل بفساد اللازم على فساد القول الملزوم. واما الايمان عند الصحابة والتابعين وائمة المسلمين. فانه الذي فسره الله ورسوله بالاقرار والاعتراف. واعمال القلوب اعمال الجوارح كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسنة وعلى هذا القول الصحيح الصواب المقطوع به. فان الناس يتفاضلون في الايمان تفاضلا عظيما. ولهذا كان من اصول السلف ان الايمان قول وعمل. قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح. وانه يزيد وينقص بالمعصية. وان المؤمن الفاسق ناقص الايمان. مؤمن بما معه من الايمان. فاسق بما معه من المعاصي تتجاذبه الاوصاف. وله من الثواب. وعليه من العقاب بحسب ما قام به من الخير والشر وهذا كما انه القول الذي اجمع عليه السلف الصالح. مستندين فيه الى نصوص الكتاب والسنة. فانه القول الموافق للعقل والفطرة التي فطر الله عليها عباده. وتفريقهم بين المؤمن المطلق وبين من معه مطلق الايمان وسيأتي التنبيه على ذلك ان شاء الله تعالى ثم ذكر المؤلف في الفصل الذي بعد هذا ان الجهمية ومن تبعهم ان مذهبهم في افعاله الاختيارية المتعلقة بمشيئته وقدرته من افسد المذاهب وابعدها عن الصواب فزعموا ان الله كان معطلا في الازل عن الافعال. والفعل ممتنع على الله غاية الامتناع. ثم استحال عن هذا الامتناع فصار قادرا على الفعل من غير صفة تقوم بالله. ومن غير موجب لحدوث هذا الامكان وان حاله قبل ذلك ومعه وبعده على حد سواء والذي قادهم الى هذا القول الباطل نفيهم للتسلسل في افعال الله. زعما منهم ان اثبات التسلسل تقضي قدم المخلوقات وانه لا يمكنهم اثبات حدوثها الا بهذا الاصل الذي اصلوه. وخالفوا به الكتاب والسنة واقوال سلف الامة فطردوا اصلهم هذا فقالوا كما ان التسلسل منفي في الماضي فانه منفي في المستقبل فان افعال الله على قولهم في المستقبل تعدم كما كانت معدومة عندهم في الماضي ستفنى الجنة والنار. واهلهما وما فيهما والنعيم والعذاب. وزعم ابو الهذيل العلاف المعتزلي ان الفناء يكون في الحركات لا في الذات. وان اهل الجنة والنار سيأتي عليهم زمان تنقطع حركاتهم ويبقون في سكون ابدا. وهذا مما يضحك السفهاء. فلذلك صور المؤلف قوله هذا وانه مجرد تصوره يكفي الانسان معرفة بسخافته وهجنته وانه اذا جاء الوقت الذي يزعم العلاف واتباعه ان من هو في الجنة والنار يكونون كالحجارة والصور وان من صادفه ذلك الزمان وقد امتدت يده الى ثمرة في الجنة طبقا ممتدة على الدوام. ومن رفع لقمة الى فمه فابى عليه ذلك الوقت بقيت يده مرفوعة فيها اللقمة وفمه مفتوحا مستعدا لتناولها. وكذلك من كان في تلك الحال واقعا لاهله وزوجته بقيا حجرين متناكحين على الدوام. فتبا لهذه العقول والاذهان. والحمد لله على نعمة السنة والقرآن اما مذهب اهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة فهي ما دل عليه الكتاب والسنة والعقول السليمة ان الله الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال كاملا متصفا بجميع صفات الكمال. فيما لم يزل ولا يزال لم يزل تبارك وتعالى يفعل ما يشاء في الوقت الذي يشاء. فانه لم يزل فعالا لما يريد. والفعل من اعظم صفاته الكمال. فكيف يمكن ان يكون في وقت من الاوقات خاليا من هذا الكمال. وهذا يقتضي انه ما من مخلوق الا وقبله مخلوق. وما من محدث الا وقبله حوادث صادرة عن كمال قدرة الله وارادته وهذا لا يقتضي كون شيء من اعيان العالم قديما. بل هذا الاصل اكبر دليل على حدوث العالم. فالتسلسل الباطن باتفاق العقلاء هو التسلسل في العلل والمؤثرين. هذا المحال الممتنع. واما التسلسل في الاثار فانه ثابت بالادلة السمعية والادلة العقلية. لا يمكن غيره. فالله تعالى لم يزل قادرا على الفعل. ولم يزل يفعل ولا يزال يفعل ثم ذكر المصنف في الفصل الذي بعد هذا مذهب الجهمية في المعاد. وانه مذهب باطل. فانهم زعموا ان الله تعالى يعدم الخلق عدما محضا. العالم العلوي والسفلي وما فيهما من المخلوقات. كما يزول الظل شمس ثم يعيد هذا المعدوم ثانيا. فيكون المعاد بعينه هو المثنى وقالوا هذا القول الفاسد الذي مجرد تصوره يعلم به بطلانه. ونسبوه للقرآن. فجرأ ذلك الفلاسفة الملاحدة المنكرين للميعاد كابن سينا. ومن قال مقالته على الكفر به. والتكذيب بما جاء به الرسول ان الاذهان لا تقبل هذا القول. ولا تتصوره بل تحيله. فلما ظنوا ان الرسول جاء بهذا القول اوجب لهم التمسك بما هم عليه من الكفر وانكار المعاد رأسا فليس هذا القول الذي قاله جهم واتباعه في كتاب الله. ولا سنة رسول الله. ولا قاله الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون لهم باحسان. فالمذهب سلف الامة وائمتها ما دل عليه الكتاب والسنة. ان حقيقة المعاني اعادة الله ما تفرق من اجزاء الاموات. ورد ما استحال منها من عين الى اخرى. فانه جل جلاله لما كان واسع العلم يعلم ما تنقص الارض منهم ولا يخفى عليه ما تفرق في ظلمات الارض قرار البحار ولا ما استحال في الفيافي والقفار. ولا ماء احالته بطون السباع والطيور والنار. وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ المشيئة. انما امره اذا اراد شيئا قال له كن سيكون فانه يعيد العالمين بجمع ما تفرق. ورد ما استحال فيكونون هم باعيانهم. وهذا القول هو الذي تقبله الازهان وتعترف به العقول بان المعادين هم باعيانهم الذين اماتهم الله ثم احياهم. وهو الذي دل عليه الوحي فانه صرح بانه يغير هذه الاكوان. وينقلها من صفة الى صفة. لا يفنيها فناء محضن ثم يعيدها. فاخبر تعالى انه يبدل السماوات غير السماوات والارض. وهذا تبديل لصفاتها لا لذاتها كما يبدل الله جلود اهل النار اذا احترقت واستحالت فحما. يعيدها كما كانت واخباره تعالى انه يقبض السماوات والارض بيده وهما السماوات والارض المعروفة. لانهما لو كانتا ثانيتين لم يتصور ان يخبر انه يقبضهما. بل يخبر انه يقبض غيرهما. وكذلك اخبر ان الارض يومئذ تحدث اخبار دارها وتشهد بما عمل عليها من خير وشر. فلو كانت غيرها من كل وجه لم يكن الخبر على حقيقته. وكان يتحدث ويشهد غيرها. انما الله تعالى يسويها ويبسطها ويبدل صفتها. ويكون لها احوال متنوعة وعى وصفات متعددة وكذلك السماوات يحصل لها تغير في الصفات. وتنوع في الهيئات. فتكون الجبال كثيبا مهيلا. ثم كونوا كالعهن وكالهباء المبثوث. ويمد الله الارض فيجعلها صفصفا مستويا. لا ترى فيها عوجا ولا انت وتخرج كنوزها من الذهب والفضة كالاسطوان العظيم. وتسجر بحارها فتجعل بحرا واحدة وكذلك يأذن الله للشمس والقمر. فيجتمعان وجمع الشمس والقمر. الشمس تكور والقمر ويطرحان في النار ليعلم عبادهما انهم كانوا كاذبين. وانهما مخلوقات مسخرات مدبرات لا مدبرات وكذلك تنشق السماء. فتكون وردة كالدهان. وتمر مورا فتنثر كواكبها وهذا كله تغير لصفاتها. خلاف ما يقوله جهم واصحابه. ومما يدل على بطلان قول جهم ان جميع العالم العلوي والسفلي يفنى ثناء محضا. انه قد دلت الادلة الشرعية ان العرش والكرسي والجنة وما فيها من الولدان والحور. كل ذلك مخلوق للبقاء. لا تفنى ولا تبيد. وهذا متفق عليه عليه بين سلف الامة الا الجهمية. فانهم زعموا ان الجنة والنار لم تخلقا. وانهما لا يخلقان الا يوم القيامة وبعد ذلك يثنيان. وهذا من ابطل الباطل ومما يدل على فساد قول الجهمية ان الانبياء عليهم الصلاة والسلام لا تأكل الارض اجسامهم. وان عجب بلا يبلى كما يبلى الجسد بل يبقى منه يركب الله خلقة الانسان. فلو كان الفناء يعم الاشياء. لضمحلت اجساد الانبياء. وعجب الظهر من الانسان. فعلم بذلك بطلان قولهم ومما يدل على فساد قولهم ما تواترت به النصوص من بقاء الارواح بعد الموت في البرزخ منعمة او معذبة الى يوم القيامة ياما فاذا كان يوم القيامة واراد الله اخراج الموتى من قبورهم امطر على الارض مطرا عظيما اربعين يوما مطرا غليظا كمني الرجال لا يكن منه بيت ولا مدر ولا بيت شعر فينبت الخلق من ذلك كنبات التراث. فاذا استتمت الاجساد نفخ الروح بالصور. فدخلت كل رح في جسدها الذي كانت تعمره فهذا هو المعاد الذي دل عليه القرآن والنشأة الاخرى. وهذا الذي تتصوره الاذهان. فلم يقل الله فهو رسوله ان الله يعدم خلقه عدم المحض كما قالته الجهمية. ولذلك لما كان هذا القول هو الذي عليه سلف الامة وائمتها. وكانت ادلته وبراهينه النقل المؤيد بالعقل. لم يمكن ملحدا ولا زنديقا ان يقاوم هذا القول او يورد عليه اشكالا. وتمكن اهل السنة من كسر الفلاسفة وابطال قولهم والحمد لله رب العالمين. ثم ذكر في الفصل الاخير مذهب الجهمية في افعال الله وافعال العبيد وان مذهبه في الحقيقة نفيهما. فان قوله في افعال الله ان الله لا تقوم به صفة ذات. ولا صفة فعل وان فعله عين مفعوله وان فعل العبد غير حقيقة كما تقدم بل هو مجبور على افعاله. واقعة بغير اختياره وبذلك تجرأ العصاة على المعاصي. حيث حمل الجهمية افعالهم على الله. وانها افعال الله لا افعال العبيد مع ذلك ما قضوا للناس بالامان من عذاب الله. بل يعاقبهم على فعله بهم. والعبد قد كلفه الله ماله فلا يطيق. والعبد على قولهم يشبه النعامة التي تكلف بحمل الاثقال. وبالطيران كما تطير الطيور الجوية قوية بان صورتها تدل على الامرين كبيرة الجسم تكلف بحمل الاثقال. وذات اجنحة فتكلف بالطيران. ومع ذلك لا قدرة لها على واحد منهما فكذلك العبد على قولهم يكلف بفعل الطاعات وهو لا قدرة له على فعلها. وعلى ترك المعاصي وهو لا قدرة له على تركها فاذا كان الامر كما زعموا لزمهم امران باطلان ونفيان فاسدان. تنفى قدرتهم عليها صدورها منهم. فيصح ان يقال لم يقدروا على الاسلام والايمان والصلاة والصيام وغيرها من الطاعات. كذلك ما صدرت منهم ولا وقعت منهم على وجه الحقيقة. بل ذلك كله مجاز يصح نفيه. لانها قامت بهم كما فيوصف المحل بانه اسود وابيض ونحوهما من الالوان لقيامه به التصور هذا القول بهذه اللوازم التي يعلم فسادها بادنى تأمل يكفي العبد في ردها فاذا اجتمعت مقالتاه وهما نفي افعال الله على الحقيقة ونفي افعال العبد لان الافعال واقعة من العبد لا يمكن انكارها وهي ليست افعاله ولا افعال الله عرفت ان هذا من الامور الممتنعة. لان وقوع اعلم من غير فاعل يعلم بطلانه ببداهة العقول فعلم من مجموع اقوال الجهمية المذكورة وهي نفيهم وهي نفيهم لصفات الله ولكلامه ولافعاله. وكذلك افعال الانسان انه يلزم منه بطلان الخلق والامر والوحي والشرع والتكاليف واذا ضممت الى ذلك قول غلاتهم بنفي الاسماء الحسنى عرفت ان هذا القول مفض الى تعطيل رب العالمين والكفر به فهذا حقيقة هذا القول ولكنهم موهوا هذا النفي والتعطيل. وكسوه العبارات المزخرفة التي يغتر بها ضعفاء العقول. وزعموا ان قصدهم ومرادهم بها تنزيه الله عن المماثلة فافتتن بمذهبهم من افتتن لهذا السبب. والا فلو اصور هذا المذهب بحقيقته. لم يقبله احد وعرض وعرف كل احد انه كفر برب العالمين. ولكن نظير افتتان المعطلة بهذا المذهب. حيث زخرفت له العبرة نظير افتتان بني اسرائيل بالعجل. لما اخرج لهم السامري عجلا جسدا له خوار. فافتتنوا عبادته كما افتتن هؤلاء بعبارته. واكثر الناس تغرهم الالفاظ وتخدعهم. فلذلك اخذ كل طائفة من طوائف المبتدعة من قول جهم شعبة وطائفة منهم من اثبت الاسماء والصفات الذاتية دون الصفات فعلية فنفوها كالاشعرية ومنهم من اثبت الاسماء ونفى الصفات والافعال كالمعتزلة ومنهم من نفى الجميل كغلاة الجهمية. ونجى الله اهل السنة المحصنين من هذه الاقوال الباطلة والمذاهب الفاسدة وتبرأوا منها كما تبرأ موسى ابن عمران. من اليهود الذين يزعمون انهم اتباعه هم من اكبر اعدائه وكما تبرأ علي ابن ابي طالب من الرافضة الذين هم اخوان اليهود الذين يزعمون انهم اتباعه وشيعته فاهل السنة من الله عليهم بما دل عليه الكتاب والسنة. من اثبات ما لله من الاسماء الحسنى والصفات العظيمة العليا وما له من الافعال المتعلقة بمشيئة الله وقدرته. التي حقيقتها انه فعال لما يريد. ومع ذلك قالوا فقد جعل الله للعباد قدرة ومشيئة تقع بها افعالهم بالاختيار لا بالاضطرار. وقدرتهم شيئتهم مخلوقة لله تعالى. فاثبتوا الشرع والقدر والحكمة. وصدقوا بكل ما اخبر الله به ورسوله عن الله اه وعن مخلوقات الله والحمد لله رب العالمين فصل في مقدمة نافعة قبل التحكيم. وذلك ان المؤلف رحمه الله جعل هذا الكتاب حكما بين اهل السنة والجماعة المثبتين. وبين الجهمية وغيرهم من المعطلين. ولا يمكن الانسان ان يحكم بالحق والعدل ولا يقبل ذلك حتى يتخلق بالاخلاق الحميدة. ويتخلى عن الاخلاق الرذيلة. فاعظم الاخلاق الجميلة الواجبة خصوصا في هذا المقام هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله. وان يكون هذا الامر هو قاعدة العبد تخبيته التي يرجع اليها. ويرد ما تنازع فيه المتنازعون اليه فما وافق ذلك فهو الحق المقبول. وما ناقضه فهو الباطل المردود. وما لا يعلم موافقته ولا مناقضته وقف فيه حتى يتبين امره فاذا بنى العبد اقواله وافعاله ونظره ومناظرته على هذا الاصل افلح وانجح. وكان على ثقة من امره ويقينه من براهينه ولكن لا يصلح هذا الامر الا لمن كان عارفا بالادلة الشرعية ومراتبها واما لجاهل فما يصلح اكثر مما يصلحه. فعليه ان يتعلم ليتكلم. فالجاهل المركب الذي لا يدري ولا ايدري انه لا يدري. والجاهل البسيط الذي لا يدري وهو يدري انه لا يدري. كلاهما اذا تكلم بلا علم كان مع تحريم كلامه ضرره اكثر من نفعه. سواء انتسب الى الحق والباطل فاذا وفق العبد للعلم ورزقه الله الخشية والانصاف بان يعطي ما كان عليه كما ياخذ ما له. ويقبل الحق دليله معه ومع مناظره هذا الموفق المحمود. فاذا رزق مع ذلك الهجرة الى الله كل وقت بالاخلاص في سره وعلنه. واقواله وافعاله هذه الظاهرة والباطنة الهجرة الى الرسول صلى الله عليه وسلم في متابعته ودورانه مع سنته فقد تم فلاحه وتحقق نجاحه وحينئذ لا يبالي بكثرة الخصوم. وكلما تكاثروا عليه ازدادت شجاعته. وعرف ان ما معه من الحق لا تثبت له الجبال الرواسي وذلك ان الصحابة رضي الله عنهم وحزب الله المفلحين لا يقاتلون بكثرة عدد ولا قوة عدد. وان قتال لهم بالايمان والاعمال الصالحة. لذلك نصرهم الله على اعدائهم وهم اضعاف اضعافهم ففتحوا القلوب بالعلم والايمان. وفتحوا البلدان بالسيف والسنان. لانهم جمعوا بين انواع الشجاعة. فان الشجاعة حقيقتها هو الزهد في النفس. فالجبان لعدم زهده في نفسه لا يكاد يقدم في موضع واحد. واما من هانت عليه نفسه وزهد فيها في جانب الحق. وعرف ان اهانتها هو عين اكرامها. فانه تسهل عليه المشقات ويهون عليه اقتحام الكربات. فاذا جمع مع هذا الزهد في الثناء الباطل. ولم يبالي بلوم اللائمين للعادلين وقدح القادحين. وكان عنده كل مدح سوى مدح الله ورسوله باطلا. وكل ذم غير ذم الله ورسوله سدا عاطلا. حصل على الشجاعتين وفاز بالسعادتين. وكان في جميع اوقاته في سير وسرر الى يا رب ووصل بذلك الى اعلى المقامات وغاية الغايات. ولكنه لابد ان يبتلى بالمعرضين. والمعارضين له الراضين لما قاله. فاذا تيقن ان ما هو عليه هو الحق. وان ما معهم باطل ما بين بدعة وفرية او رأي مخالف للشرع او تشكيك يشكك في الايمان اوجب له ان يصدع بامر الله والا لا يخشى الا الله ولكنه يحتاج مع ذلك الى صبر جميل وصفح جميل. والجميل من ذلك ضد القبيح. فهو الخالص لوجه الله الموافق لمرضاة الله. الخالي من هوى النفس. وحمية الشيطان. والتسخط والشكاية الى المخلوقين. بل اذا اشتكى فالى رب العالمين. ويستعمل الهجران في محله. حيث كان فيه مصلحة ونصر للحق وتخفيف للباطل. ويحمد الله تعالى على الهداية الى الصراط المستقيم. فيعلم الحق ويرحم الخلق فانه اذا نظر الى اقدار الله عليهم حيث خذلهم وولاهم ما تولوا وابقاهم في ضلال الهم يعمهون. وفي غيهم يترددون. رحمهم ودعا لهم وحرص على هدايتهم. وبذل ما استطاع في ذلك اذا نظر اليهم بعين الامر والشرع اقام عليهم الشرع وحملهم على احكامه وخشي مع ذلك على ايمانه. فان الله مقلب القلوب فما استبقيت نعم الله بمثل حمده والثناء عليه. والخوف منه والحذر من زوالها. والسعي في الاسباب لها والبعد عن كل معصية تزيلها. خصوصا الشر المنطوية عليه النفوس. فيستعيذ من نفسه التي بين جنبيه. ويهين نفسه واياه والانتصار لها. فانها تقوى وتستفحل على صاحبها حتى يعجز عنها. فتجره الى شرور عظيم واذا جمع الله للعبد هذه الامور التي اوصى بها المؤلف ووثق بربه واحسن ظنه به. وعلم ان الله الله ينصر دينه وكتابه وعباده المؤمنين. وان من عمل خيرا فله. ومن عمل سوءا فعليه نشطت همته وقويت عزيمته. والله تعالى هو المعز المعين الموفق. لا رب غيره ولا اله سواه فصل وهذا اول عقد مجلس التحكيم ذكر المصنف رحمه الله في هذه الفصول حقيقة مذاهب المبتدعين من انواع المعطلين على وجه الشرح لها والتصوير ليكون ذلك داعيا لاولي الالباب الى معرفتها على وجه الحقيقة. فانها اذا عرفت مذاهبهم بلوازمها لم يكن ان تروج على من له ادنى مسكت من عقل. وهذا احد الادلة على ابطال المذاهب الفاسدة. فان الله فطر عباده وعلى قبول الحق وايثاره على رد الباطل. اذا تبين لهم بطلانه وانما يروج الباطل اذا بقي ملتبسا محبسا فيه غير مكشوف على حقيقته ثم ذكر بعدها مذهب اهل السنة والجماعة. فضرب لذلك مثلا بركب اتفقت مقاصدهم اولا. وافترقت طرقهم ومذاهبهم ثانية. وكل سلك طريقا ورضي لنفسه مذهبا. ورجعوا من سفرهم ورجعوا من سفرهم وعرضوا ما معهم وما اداهم به سيرهم وجدهم واجتهادهم على الحاكم العادل وما بينهم بالحكم الموافق للنقل والعقل والفطرة وجميع انواع الادلة فذكر مذهب الاتحادية الذين هم في الحقيقة ائمة الجهمية المعطلين. الذين ينتسبون الى ائمتهم كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيرها من المصنفات المشحونة بالاتحاد والتعطيل وابن سبعين التين والعفيف التلمساني. ونحوهم ممن يجمعهم هذا المذهب الخبيث. وهو ان الوجود شيء واحد ما تم خالق ولا مخلوق. ولا رب ولا مربوب. لان الخالق عندهم هو عين المخلوق. والرب عين المربوب فليس موجود سوى الله. وانما تكثر الموجودات على وجه الوهم والغلط. وتارة يطلقون هذه العبارات اثارة يقولون انها مظاهر للتجليات. فيتجلى الحق في اصناف المخلوقات. فهو فقير الى لاجل ظهور وتجليه فيها. وهي فقيرة اليه لكونه هو ذاتها وهي صفاته. فتارة يلبس الموجودات. وذلك هو الاتحاد وتارة يخلعها هذا اذا عدمت فالموجودات قد لبسها والمعدومات قد خلعها بحسب المظاهر والتجليات وتكثر الموجودات على قولهم كتكثر اعضاء الحيوان. فهو حيوان واحد واعضاءه متنوعة وكذلك الخالق عندهم هو واحد بالعين. والموجودات من السماوات وما فيها والاراضين وما فيها صفات له وان ذلك شبيه بالقوى النفسية. اما ان يكون كلا واجزاؤه الموجودات او كليا وجزئياته هذا جود فهذان قولان لهذه الطائفة. ولم يرفض التلمسان هذين القولين. بل قال هذا غلط وان الجميع شيء واحد ليس فيه تقسيم ولا تجزئة ولا تعدد. فالاكل والمأكول شيء واحد. والواطئ والموطوء شيء واحد وقالت طائفة رابعة منهم كل هذا غلط. وانما الموجودات مظاهر للذات الواحدة بالعين. ومضمون كلام جميع هذه الطوائف الخبيثة ان وجوده تعالى العالق في الذهن والخيال لا حقيقة لوجوده ولا وجود له في الخارج. وهذا هو التعطيل المحض وهذا القول مجرد تصوره كاف في رده ان هؤلاء القوم ما صانوه عن المحال التي يرغب عن ذكرها. فهذا مضمون توحيدهم وعقيدتهم. عندهم ان العابد هو المعبود شيء واحد. فالكفار عندهم لا يذمون الا على تخصصهم. والا فلو عبدوا كل شيء لكانوا مهتدين فالكفر عندهم هو التخصيص لبعض المعبودات دون بعض. وعندهم ان قول فرعون انا ربكم الاعلى ليس بكفر وتغريقه في البحر تطهير له من الوهم والحسبان الذي ظنه بسبب رياسته وعلو منصبه وزعموا ان موسى عليه الصلاة والسلام لما انكر على اهل العجل حين عبدوه انما انكر على من لا يعبده حين انكر عليهم لم يكن انكاره على العابدين للعجل. ولذلك جر بلحية اخيه هارون ورأسه. حيث انكر عليهم وهذا القول من المكابرة وقلب الحقائق وجحد الضروريات ما لا يخفى على احد الا على ملبوس عليه. وتنتهي بهم الحال الى انهم يتظاهرون بالسجود لكل شيء. حتى ان بعض اكابرهم رأى ابليس فسجد له فانكر عليه من معه. فقال لهم ما سجدت الا لله. فليس موجود سوى الله. فان شئتم فاسجدوا شمس او للقمر او للاصنام او للشيطان لان الجميع عين الله عند هذا المحقق منهم سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا. ولعنهم الله لعنا كثيرا. فلقد تجرأوا على الله وقالوا مقالة ترتضيها اليهود والنصارى وغيرهم من الملل الكافرين. فحقيقة الامر ان كل طائفة من طوائف الكفار والمشركين جزء من اجزاء كفر هذه الطائفة الملعونة وانما راج مذهبهم على كثير من الناس لانتسابهم للصوفية والتأله والتعبد والزهد. والا فلو علم الناس حقيقة امرهم لرجموهم بالحجارة. نسأل الله العافية ونحمده على نعمه الظاهرة والباطنة ثم ذكر المصنف في الفصل الثاني ركبا اخر. وهو ركب الجهمية الاولى. الذين في زمن الامام احمد اصحابه وان حقيقة مذهبهم ان الله جل جلاله في كل مكان وانهم لم يصونوه عن بئر ولا قبر ولا حش ولا اعطان. بل هو عندهم حال في كل مكان. حلول الروح البدن ولم يصرح هؤلاء الجهمية بما صرح بهم من بعدهم من الجهمية. بانه لا داخل العلم ولا خارج ولا مبينا له. لانهم لم يتجاسروا على هذا القول في ذلك الزمان. خوفا من السيف. لقد ذكر من مقالة هؤلاء في اول نظمة كما سبق التنبيه عليه واما الركب الثالث فهم الجهمية المتأخرون. الذين نفوا علو الله على خلقه. ومع هذا قالوا فليس بداخل العالم ولا خارجه ولا بائن عنه. وليس على العرش عندهم الا العدم المحض. وحظ العرش من الله كحظ ما تحت الارض السابعة السفلى وقالوا انما قلنا ذلك لانه لو كان فوق العرش لكان جسما وذلك محذور. فنفعوا ما تواترت النصوص القرآنية والاحاديث النبوية من علو الله على خلقه. واستوائه فوق عرشه حظرا بزعمهم من تشبيهه بالمخلوقات. فنفوا الضدين وكأن حقيقة قولهم تشبيهه بالمعدومات ولذلك يقول بعض الفضلاء لو قيل صفوا لنا العدم المحض لم يمكن ان يوصف بازيد مما قالت الجهمية النافون لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه. ومن الغرائب العجائب استدلال بعض فضلاء الجهمية بقصة يونس عليه السلام. وان النبي صلى الله عليه وسلم عرج به الى فوق السماوات السبع ويونس في قرار البحر. ومع ذلك فكلاهما في القرب من الله على حد سواء. وهذا قد بلغ من تحريف وتفسير اللفظ بما لم يدل عليه بوجه من الوجوه الى اسقط درجة ثم ذكر في الفصل الرابع الركب الرابع. وهم طائفة من اذكياء الفلاسفة. مضمون مذاهبهم وخلاصتها انهم لما رأوا مذهب الجهمية والمتكلمين متناقضة متضاربة ينفون الشيء ويثبتون نظيره ويقطعون بالشيء في موضع وينفونه في موضع اخر ويتناقضون فيما يثبتونه وينفونه من اسماء الله وصفاته واحكامه ووردت مذاهب اهل السنة والجماعة محكمة متناسبة دائرة على ما قاله الله وقاله رسوله فعرفوا ذكائهم وفطنتهم ان القول الحق هو قول اهل السنة والجماعة. وما سواه فمعروف بطلانه ببداهة العقول ولكن حال بينهم وبين اتباع هذا القول الحق. تنفير الناس عنه. وتلقيبهم اهله بانهم مجسمون حشوية ممثلة ونحوها من الالقاب التي ينفر عنها. ويهابها اكثر الخلق. فلم يرتضوا لانفسهم ان يتبعوهم. وقد عرفوا بطلان قول الجهمية ونحوهم. فانحلوا من الشرائع كلها. وصرحوا بمذاهب القدماء من الفلاسفة الدهرية ومن على شاكلتهم من التعطيل التام. وقالوا اذا لم نتبع المجسمة المثبتة للاسماء والصفات والافعال حال ونقول بقولهم فلا نرضى لانفسنا التناقض وقالوا اذا لم نتبع المجسمة المثبتة للاسماء والصفات والافعال. ونقل بقولهم فلا نرضى لانفسنا التناقض اتأمل كيف صارت البدع خصوصا بدعة التجهم سببا لتمسك الملحدين باديانهم. ولظنهم ان ما عليه اهل البدع والذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. بانهم رأوا من تناقضهم وفساد كثير من اقوالهم ما لا يمكن ان يأتي به الرسول وصار المتكلمون يخضعون لبعض اصول هؤلاء الملاحدة فنشأ من ذلك لزومهم لمذهبهم. وتمسكهم بالكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر الا فلو قابلهم اهل السنة المحضة بالادلة النقلية الموافقة لصرائح العقول لقامت عليهم الحجة لدى من اراد الهدى بما اشتمل عليه من الحق المبين. وقواطع البراهين. هذا مضمون ما ذكره وبسطه المؤلف فيه هذا الفصل ثم ختم هذه الفصول بذكر ركب الايمان وعسكر القرآن. وانهم اخبروا ان مذهبهم وعقيدتهم مبنية على على الحق والصدق واليقين. حيث كان اساسها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان عليه فيه الصحابة والتابعون لهم باحسان. وذلك موافق للعقل الصريح والفطرة. فتوافق في ايمانهم وعقد عقيدتهم جميع الادلة النقل والعقل والفطرة. وهاك حاصل عقيدتهم. فانهم يشهدون ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله. وان الله تعالى متفرد بالخلق والملك والسلطان والتدبير. فليس له في ذلك مشارك تارك ولا معاون وانه الاله الحق الذي لا معبود سواه. وان كل معبود سواه من ملك مقرب او نبي مرسل او غيرهما من ابطل الباطل واعظم الشرك. ويعبدون الله تعالى بكل ما يحبه ويرضاه من الاعمال والاقوال الظاهرة والباطنة يخلصونها لله ويتابعون فيها رسول الله ويتقربون بها الى ربهم على وجه المحبة التامة والذل بالكامل فان عبودية الله تعالى مبنية على هذين الاصلين العظيمين. الاخلاص للمعبود والمتابعة للرسول الناشئين عن محبة الله وتعظيمه. فجميع العبادات تدور على هذا الاصل. ولا سبيل الى النجاة من سخط الله وعذابه والفوز برضاه وثوابه. الا لمن اتصف بما ذكر. ويرون اعظم القربات لرب العالمين. احسان الاعمال وبذل الجد والنصيحة في ايقاعها على اكمل الوجوه واتمها. مع استحضار مقام المراقبة ان تعبد الله كانك انك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك. فيجتهدون على تنقية العمل واتقانه واحسانه اذا اجتهد الجهال على كثرته. ويعلمون ان هذا مراد الله منهم. كما قال تعالى ليبلوكم ايكم احسن عملا ويقرون ويعتقدون بما ثبت به الكتاب والسنة من اسماء الله وصفاته. فيقولون انه علي على خلقه مستو على عرشه يراهم ويسمعهم ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. ويرى خائنة الاعين. ويسمع ضجيج الاصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات. لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه كثرة السائلين. ولا يتبرم بالحاح الملحين وهو العليم الذي احاط بكل شيء علما. فيعلم ما توسوس به الصدور. ويعلم الخفيات والجليات والامور ظاهرة والباطنة. ويعلم ما فوق السماوات السبع. وما تحت الاراضين وما تحت الاراضين السبع والقريب والبعيد عنده على حد سواء. ويعلم العالم العلوي والعالم السفلي. فلا تسقط ورقة الا ولا حبة في ظلمات الارض. ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين. ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهو القدير على كل شيء. وكل الاشياء منقادة لقدرته سعة لمشيئته لا تستعصي عليه. ولا تمتنع منه. قالوا وهذا العموم يتناول كل شيء. ويدخل في ذلك افعال العباد. انها داخلة تحت قدرة الله من الطاعات والمعاصي. كما انه هو القادر عليها الخالق لها فهم الفاعلون لها الواقعة بقدراتهم ومشيئتهم. لكن الجبرية والقدرية لم يوفقوا للجمع بين اثبات القدر والقضاء. وبين اثبات افعال العباد وانها فعلهم حقيقة. بل لم تتسع عقولهم للجمع بين الامرين. فالجبرية اثبتوا عموم القدر ولم يثبتوا الحكمة وان افعال العباد هي افعال لهم حقيقة. وقابلهم القدرية فزعموا ان قدرة الله لا تتناول افعال العباد وهاتان الطائفتان نظرت كل واحدة منهما نظرا قاصرا. ولو امنوا بالكتاب كله الدال على اثبات مشيئة الله وقدرته. والدال على ان الافعال واقعة من العباد بقدرتهم ومشيئتهم لهدوا الى الرشد ولذلك قال الامام احمد رحمه الله القدر هو قدرة الله. واستحسن هذا الكلام ابن عقيل من الامام احمد لما حكاه عنه وقال انه شفى بهذه الكلمة وكفى. فان هذه الحقيقة هي التي افترقت الناس فيها كما الحاصل ان اهل السنة اثبتوا عموم قدرة الله. وتمام حكمته والشرع والقدر. ويقولون ان الحي القيوم الذي له صفات الحياة كلها باجمعها من السمع والبصر والعلم والقدرة وغير ذلك من المعاني العظيمة والنعومة الكاملة التي لا تتم الحياة الكاملة الا باثباتها لله على اكمل الوجوه واتمها. فلا يعرض لها ما يضادها من الممات والعجز والنقص لوجه من الوجوه. والقيوم الذي له العظمة كلها الذي قام بنفسه وقام به كل شيء الفعال لما يريد. الذي اذا اراد شيئا قال له كن فيكون. وكذلك لله تعالى كل صفة مجد عظمة وجلال وجمال وكمال. ومرجع صفات الكمال كلها الى الحي القيوم. ولذلك ورد الحديث بانه اقوى لهم. ونهاية ما يريده المبطل في هذا الموضع انما هو شبهات وشكوك. لا تعارض العلم واليقين فان علوه تعالى معلوم بالضرورة نقلا وعقلا وفترة. وما يعارض هذا نهايته شبهة اسم الله الاعظم. الذي اذا دعي به اجاب. واذا سئل به اعطى. لاشتمالهما على جميع الكمالات كلها. تصف الذات ترجع الى الحياة. ومعاني الافعال ترجع الى القيوم. ويعتقدون ان له الارادة النافذة في الموجودات خصص بها من شاء من المخلوقات بانواع التخصصات. وانه يحب الصالحين من عباده ويحب الاعمال الصالحة ويكره الكفر والفسوق واهله وان ارادته ومشيئته غير كراهته ومحبته. فالارادة عامة لكل ما وجد من محبوب او مكروه. والمحبة والكراهة خاصتان كما تقدم. وان له الرحمة الواسعة والاحسان العظيم. الذي ملأ العالم العلوي والسفلي فهو الجواد المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات. وله الكمال المطلق التام الكامل الذي لا يعتريه نقص يشابه ولا يماثله او يقاربه في كماله احد. فانه الكامل الذي ليس كمثله شيء في كماله وتفرده به ومن الادلة العقلية على كماله انه تعالى خلق اجناس المخلوقات. واودعها بما اقتضته حكمته وحمده من الكمال اللائق بها ومن المعلوم ان من اعطى الكمال احق بالكمال من المعطى. فهل يتصور ان يكون قد اعطى عباده الكمال وهو خال منه؟ هذا من امحل المحل الان فكيف يعطي الله الانسان الحياة السمع والبصر والعلم والقدرة والكلام والافعال والله خال من هذا لا يكون ابدا. وهذا بخلاف اللوازم البشرية. التي لا ينفك الانسان عنها. كالنوم والاكل والشرب والجماع والحاجات ونحوها من لوازم المخلوق المحدث. ان الله تعالى يتقدس عنها ويتنزه عن جميع خصائص البشر ومن اقوال اهل السنة والجماعة. قولهم في الكلام ان الله لم يزل ولا يزال متكلما. فان الكلام من صفات جمال والله تعالى لم يزل ولا يزال له الكمال المطلق. فكلامه تعالى هو المقروء المحفوظ المسموع. وهو من جملة صفاته وليس مخلوقا له. لان الكلام صفة المتكلم وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا. صدقا في الاخبار وعدلا في الاوامر والنواهي. ولو ان ما في الارض من شجرة اقلام. والبحر يمده من بعده سبعة ابحر. ما نفدت كلمات الله. وهذا الوصف لا يكون للمخلوق. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بكلمات الله التامة. من شر ما خلق الله والاستعاذة لا تكون بالمخلوق. بل استعاذ بالخالق وصفاته. فدل ذلك على ان الكلام صفة متعلقة بمشيئة وقدرته. القرآن كلام الله غير مخلوق. الفاظه ومعانيه. فهو كلام رب العالمين. وتنزيله وحيه. واما افعال العباد كاصواتهم ومدادهم الذي يكتبون به القرآن فانها من جملة المخلوقات. ولذلك يقولون الكلام كلام الباري. والصوت صوت القارئ هذا اذا كانت القراءة بواسطة المخلوق. فانه يفرق هذا التفريق. فاما اذا سمع الكلام من الرب الذي تكلم به كما سمعه موسى ابن عمران عليه الصلاة والسلام بلا واسطة. فان المخلوق في هذه الحال هو سمع العبد. واما سلام صوت المتكلم به. فانه من نعوت الله وصفاته. وهذا الفرق ثابت عند الامام احمد ومحمد ابن الى البخاري وغيرهما من ائمة السنة. اتفق على ذلك اصحابهم واتباعهم. وخالفهم في هذا الامر طائفتان من الناس. احداهما الجهمية كما تقدم عنهم انهم يزعمون ان القرآن مخلوق الفاظه ومعانيه. والثاني الكلابية ومن تبعهم من الاشعرية القائلين بان القرآن نوعان الفاظ ومعاني فالالفاظ مخلوقة وهي هذه الالفاظ الموجودة والمعاني قديمة قائمة في النفس. وهي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد. ولكنه معنى واحد ان عبر عنه بالعربية كان قرآنا. او بالعبرية كان توارة او بالسريانية كان انجيلا. ونحو ذلك مما يقولونه ويزعمون ان لهم دليلا على هذا القول الباطل. الذي يعرف بطلانه بادنى تأمل. وهو بيت نسب للاخطر النصراني ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلا تركوا لاجل هذا البيت ما هو المعروف المفهوم من الكلام في العربية والمخاطبات العرفية. وكثير من اهل العربية لا هذا البيت للاخطر. وعلى تقدير ثبوته عنه. فليس قول الاخطل معيارا وميزانا لكلام الله وكلام رسوله ويردون لاجله النصوص الشرعية. فان النصارى برمتهم لا يستغرب عليهم الغلط. حتى انهم غلطوا في اوضح الاشياء تعالى اجل واعظم من ذلك. فان الجهات كلها تنعدم بالنسبة اليه. فانه قد بان عنها كلها واحاط وبها وليست تحيط به. وبعضهم يرى ان فيه بمعنى على. ولكن الصحيح الاول واجلاها وهو الله تبارك وتعالى حيث قالوا في المسيح انه ابن الله وثالث ثلاثة حيث سمعوا قوله كلمة الله تزعموا ان الكلمة حلت في عيسى وسيرته الها فيه معنى اللاهوت. فصار عيسى مشتملا على اللاهوت بما فيه من الكلمة والناسوت بما فيه من البشرية. فهو على قولهم قديم محدث بالنظر الى هذين الامرين ونظير قول النصارى في عيسى عليه السلام هذا القول قول هذه الطائفة في القرآن ان شطره مخلوق وشطره قديم. وهو المعنى النفسي ولكن اختلف القائلون بهذا القول هل هو معنى واحد؟ وانه يتنوع بحسب ما يظهر فيه كما تقدم او انه خمس معان الامر بكل مأمور والنهي والاستفهام والاخبار. ومعنى خامس جامع لهذه الامور الاربعة. فتكون هذه الاقسام انواعا للكلام. وعلى قول الاولين تكون اوصافا له. ولكن اتفقت الطائفتان ان الذي جاء به جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم مخلوق خلقه اما في اللوح المحفوظ او ان جبريل هو الذي الهمه الله اياه اياه فانشأه او انه محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة هذا القول موافق لمذهب المعتزلة. فانه لا فرق بينهم وبين المعتزلة من هذه الجهة الا بالاختلاف اللفظي واما اهل الحق فانهم يقولون كما قال الله ورسوله ان كلام الله حقيقة غير مخلوق. نزل به جبريل من عند الله وسمعه من الله فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم. فصل في مجامع طرق اهل الارض واختلافهم في القرآن ذكر المصنف في هذا الفصل اصلا جامعا تبنى عليه جميع اقوال اهل الارض في القرآن. وانها ستة اقوال او سبعة تدور على اصلين الاصل الاول هل قوله يتعلق بمشيئته وقدرته ام لا والثاني هل قوله في ذاته قائم به؟ ام هو خارج الذات منفصل عنه فبهذين الاصلين ينشأ اختلاف الناس في القرآن. فالقائلون انه لا يتعلق بمشيئته ولا ارادته طائفتان احداهما الكلابية ومن تبعهم من الاشعرية كما تقدم مذهبهم قريبا. وانه معنى واحد قائم بالنفس. او خمسة معان عبر عنها بهذه الالفاظ المخلوقة عندهم. كي تدل على تلك المعاني او المعنى. وتعبر عنه. فتارة يقولون ان هذه الالفاظ عبارة عن القرآن وتارة يقولون حكاية. فالحكاية قول ابي سعيد بن كلاب. والعبارة قول ابي الحسن الاشعري وبعض اصحاب هؤلاء يقولون هذا الخلاف لفظي لا طائل تحته. الطائفة الاخرى من القائلين بانه لا يتعلق وبمشيئته قالوا ان الفاظه ومعانيه قديمة قائمة بالنفس لا تقبل الحدوث. ومع ذلك فالحروف كلها قديمة ما زالت موجودة في الازل والقدم. فلما قيل هذا مخالف للمحسوس المعلوم بالبديه ان الحروف بالطبع لابد ان يسبق بعضها بعضا قالوا انما ترتبها هو بالنسبة الى سمع الانسان. والا فهي ما زالت متصاحبة مقترنة. الباء من بسم الله والسين مع الباء. وهكذا بقية الحروف. ولا شك ان هذا القول في التخليط والهذيان اقرب منه الى التحقيق والبرهان. وهذا القول قول طائفة من اصحاب الائمة واتباعهم. خالفوا به اصل الائمة ووافقوا بعض قول الكلابية وذكر المصنف ان ابن الزاغوني المشهور فرق بين ذوات هذه الحروف ووجودها. وزعم انها مقترنة مترتبة بوجودها. وهذا قول باطل. فانما ذات الشيء وحقيقته ووجوده. وماهيته شيء واحد لا فرق بين هذه الحقائق سواء قدرت في الاعيان او في الاذهان. ولكن اذا اختلف التقدير امكن افتراق التعبير فاذا قيل ان الحقائق الخارجية غير الوجود الذهني فهذا امر معروف عند العقلاء. فان ما في الاذهان فقط ليس له حقيقة خارجية. وبهذا التفريق تزول اشكالات المتكلمين في قولهم هل وجود الله غير ذلك او غير حقيقته ام لا. وانه يقال اذا اتحدت الاعتبارات فهما شيء واحد. واذا اختلفت الاعتبارات اختلفت من جهة الفرق بين الوجود الذهني والخارجي واللفظي والرسمي فصل. واما القائلون بان القرآن متعلق بمشيئة الله وارادته. فهم ايضا طائفتان احداهما الجهمية المعتزلة. القائلون بان القرآن مخلوق. خلقه الله كما خلق السماوات والارض. وانه خارج عن ذات الله لا يقوم بالله من الكلام شيء. فلما قال الناس لهم هذا امر معلوم بطلانه الكلام صفة للمتكلم. والله تعالى قد اضافه لنفسه. زعموا ان اضافته اليه اضافة تشريف علو مرتبة كاضافة البيت الى الله. وناقة الله ونحوها من الاعيان. فاجابه الناس بما هو ومعروف ومتقرر عند كل احد ان الاضافة نوعان. اضافة اعيان فهذه الاضافة تقتضي التشريف كبيت الله وناقة الله ونحوها. واضافة معان واوصاف. كعلم الله وقدرته وكلامه. فهذه الاضافة صفة الى من اتصف بها تقتضي قيامها به واتصافه بها. ومن خالف هذا الفرق فهو مكابر منكر للمحسوسات. وهذه قال مقالة الجهمية ومتأخر المعتزلة. واما متقدمو المعتزلة عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء واصحابهم الذين اعتزلوا عن مجلس الحسن البصري حين قرر مذهب الجماعة في الايمان ولم واعتزلوا عن مجلسه لذلك كما سيأتي ان شاء الله وسماهم الحسن البصري المعتزلة. فانهم لا يقولون بهذا القول الباطل. بل يوافقون الناس على قولهم في القرآن انه كلام وصفته غير مخلوق كما هو الحق الذي لا ريب فيه. وسيأتي ان شاء الله كلام المؤلف في القول وتفصيله في تكفير اهل البدع. والفرقة الثانية من القائلين انه يتعلق بمشيئة الله وارادته. فانهم ايضا طائفتان. احداهما الكرامية قالوا ان الكلام متعلق بمشيئته الله وقدرته. وهو مع ذلك حادث النوع. وقصدهم بهذا الحذر من التسلسل في الاثار. وانهم اذا التسلسل افسدت عليهم الطريق التي احتجوا بها على اثبات وجود الخالق. وجعلوا كلام الله وافعاله وفي هذا على حد سواء. كلها حادثة بعد ان لم تكن. ولكنها لا تزال فيما لا يزال من المستقبل فلهذا مبتدأ وليس له منتهى قالت الكرامية ولم تنصف الكلابية والاشعرية. حيث شنعوا علينا هذا القول واقاموا علينا بسببه قيامة فانهم جعلوا الفعل عين المفعول والقول عين المقول. فهذا هو التعطيل في الحقيقة لافعال الله حيث قالوا لم يقم بالله لا فعل ولا قول. فهذان التعطيلان ابطل من قولنا بحلول الحوادث. حيث عبروا بهذا اللفظ البشع وحقيقة الامر ان الكرامية في هذه المسألة مسألة الكلام والافعال اقرب الى الحق من الجهمية ومن تبعهم في هذا الاصل من الكلابية والاشعرية. ولم يبق عليهم من الصواب الا مرتبة لو قالوها واعتقدوها لهدوء الرشد وهو قول اهل السنة والحديث كالامام احمد والبخاري وبقية الائمة. وهم الطائفة الاخرون من القائلين بان القرآن يتعلق بمشيئة الله وارادته. فانهم قالوا ان الله لم يزل متكلما ولا يزال متكلما اذا شاء وكيف شاء. فان الكلام صفة كمال للمتكلم. والله تعالى لم يزل كاملا موصوفا بكل صفة كمال فكيف يخلو الله في وقت من الاوقات من هذا الكمال في زمن من الازمنة الماضية او المستقبلية. ويعود ممكنا بعد ان كان ممتنعا هذا محال. بل القول الحق الذي دل عليه النقل وايده العقل ان الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلما. وانه يتكلم بكلامه بمشيئته شيئا بعد شيء. وان تعاقب الكلمات ثابت لذواتها مثل ثبوت تعاقب الازمنة. فكل زمان قبله زمان وقبل هذا الزمان الى غيره في غاية ونهاية فالكلام كذلك. وان الاحرف مترتبة في مسمع الانسان. فان هذا من لوازمها صفاتها الثابتة لها. خلاف ما يقول الاقترانية. فان الاقتران كما تقدم غير معقول. كما ان القائلين بان القرآن مخلوق خلقه الله في بعض الاعيان يقتضي ان صفة الكلام قائمة بذلك المحل. وانه هو الذي يتكلم هذا ايضا محال في العقل. كما انه باطل في النقل. فلا يعقل الكلام الا لمن قام به وتكلم به حقيقة كما انه لا يكون حيا عالما سامعا مبصرا الا لمن قامت به هذه الصفات. فلو وصف المحل بحياة او علم او سمع او بصر قائم بغيره لعلم الناس احالة هذا الكلام. وهكذا سائر الصفات والله تعالى موصوف بانه متكلم باجماع الانبياء والمرسلين واتباعهم الى يوم الدين. وقد شهدت بذلك يقول الصحيحة والفطر المستقيمة والبراهين والادلة القواطع. وكلامه من جملة صفاته قائم بذاته. فلو كان لم يقم بذاته لم يكن في الحقيقة متكلما. وقد وصف الله نفسه بالكلام والتكلم والتكليم والقول. والنداء الذي يعقل هو الذي يسمع بالاذان. فالنداء الصوت الرفيع والنجاة ضده وكلاهما من الكلام والاصوات. وانه تعالى موصوف بجميع ذلك على وجه الحقيقة. القرآن سور وايات وكلمات وحروف كما وردت بذلك الاثار كما هو معروف بين الناس فصل في الزامهم القول بنفي الرسالة اذا انتفت صفة الكلام. هذا الفصل مشتمل على امرين. احد احدهما ان الرسالة والنبوة من اكبر الادلة على انه تعالى متكلم. لان حقيقة رسالة الرسل عليهم الصلاة سلام تبليغ كلام الله للخلق. فجميع انواع الكلام من الكلام والقول والخبر والخطاب والتحذير والاستفهام ونحوها حقيقة الرسالة تبليغ هذه الامور للناس بواسطة الرسل. فيلزم من ثبوت الرسالة ثبوت صفة الكلام. ويلزم ومن انتفاء الرسالة انتفاء صفة الكلام. وهذا الامر الثاني وهو الزام من نفى عن الله صفة الكلام. وزعم انه مخلوق من مخلوقاته وانه لا يتعلق بمشيئته وارادته يلزم من قوله نفي الرسالة. ومن المعلوم ان فساد الملزوم دليل على فساد اللازم. ويوضح هذا ان حقيقة الرسالة هو خطابه سبحانه للمرسلين ما بغير واسطة كخطابه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وجبريل عليه السلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب لانه في الدنيا لا تراه العيون. واما خطابه بواسطة وهو ايضا نوعان اما وحي واما ارسال الملك الى الانبياء كما ذكر الله ذلك في قوله وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا الا وحيا او من وراء حجاب. او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء فصل في الزامهم التشبيه للرب بالجماد الناقص اذا انتفت صفة الكلام. وهذا الالزام الذي الزمه اهل السنة السنة والجماعة للجهمية ومن تبعهم معروف مشهور وهو واضح. فانه اذا انتفت صفة الكلام وصار الله بزعمهم غير متكلم لزم منه ان الحيوان الذي يتكلم اكمل منه. ولزم من ذلك مشابهته للجمادات ففروا من تشبيهه بزعمهم بالكلمات التي تتكلم ووقعوا في شر مما فروا منه. ولكنهم يقولون ان الكمال انما يكون صفة كمال. وضده صفة نقص اذا كان من نفى او اثبت له يقبل الكلام ويصح منه اما من لا يقبله ولا يصح منه فليس في اثباته ونفيه من نقصان. فيقال كلامهم هذا اوجب لهم ان وقعوا في شر مما فروا منه. وهذا الوهم الفاسد الذي اوجب لهم الفرار من اثبات صفات الله وافعاله وكلامه ظنوا ان اثبات ذلك يقتضي التشبيه بالانسان فنفوها. فوقعوا في تشبيهه بالجماد الكامل النقصان. فبطل قال قولهم عقلا كما هو باطل فطرة ونقلا قال المصنف رحمه الله فصل في الزامهم بالقول بان كلام الخلق حقه وباطله عينك لا الله قد قامت الادلة والبراهين من وجوه متعددة كثيرة جدا ان افعال العباد خلق الله وان الله هو الذي خلق افعالهم الظاهرة والباطنة واقوالهم وجميع احوالهم. فيلزم على قول الجهمية ومن تبعهم انك كلام الله خلقه في بعض الاجسام ان يكون كلام الخلق كله حقه وباطله هو عين كلام الله لانه على قولهم مخلوق وهذا مخلوق. فكل كلام انطق الله به مخلوقا فانه كلام الله على زعمهم. لان انه منسوب الى الله من جهة خلقه. وان نسبته اليه كنسبة بيت الله ونحوه من الاعيان. التي يعلم ان نسبتها نسبة تشريف وتكريم. وهذا اللازم من اقرب اللوازم والزمها لقولهم واوضحها. وهو افسد ما يكون. ويلزم منه اشر الاقوال وهو قول الاتحادية. ولذلك التزموا بهذا القول الباطل الذي هو كفر بالله العظيم فان قالوا ان هذا غير لازم لقولنا فاننا خصصنا الاضافة كما خص بيت الله وناقة الله. فيقال هذا التخصيص لا ينافي التعميم. كما في تخصيص ربوبيته بالعرش في قوله رب العرش العظيم. او بالبيت فل اعبدوا رب هذا البيت فانه لا ينفي ربوبيته لجميع الخلق كرب العالمين. هكذا قولهم ان اضافة القرآن اليه لا تعدى الى غير القرآن لا يمنع التعميم من الاضافة. وهذا واضح جدا. فلم ينج من هذا الا اهل السنة. القائلون بان القرآن صفة حقيقة لله تعالى. قائم به متعلم بمشيئته. والله اعلم قال المصنف فصل في التفريق بين الخلق والامر. مذهب سلف الامة وائمتها بان الخلق غير الامر وان الفعل غير المفعول. فالفعل صفة الله. والمفعول هو المخلوق المنفصل عن الله تعالى. وعند تهمية ومن تابعهم من طوائف البدع ان الخلق والامر شيء واحد. وان الفعل هو عين المفعول. والكتاب والسنة يدلان على مذهب السلف دلالة لا تقبل الريب. قال تعالى ان ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام. ثم استوى على العرش الليلة النهار يطلبه حثيثا. والشمس والقمر والنجوم مسخرات الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين تتدبر هذه الاية الكريمة تجدها مصرحة بان الخلق غير الامر. كما هو الاصل في العطف ان المعطوف تغير المعطوف عليه. والجهمية يقولون باتحاد المعطوفين. وان عطف الامر على الخلق من باب عطف الخاص على العام وهذا ممتنع امتناعا ظاهرا. فانه صرح بان الشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره وذلك بعدما اخبر بخلقها فدل على ان الامر غير الخلق والامر سواء كان مصدرا او مفعولا من المأمور غرض حاصل فان كان مصدرا كان وصفا ظاهرا. وان كان مفعولا فان المأمور ناشئ عن الامر وحاصل عنه ناشئ عن الصنعة وحاصل عنها. فلزم من وجود المأمور وجود الامر ومن انتفاء المأمور انتفاء الامر. كما يلزم من وجود المخلوق وجود الخلق. وفي نفيه وتدبر في هذه الاية سرا عجيبا. فانه ذكر في اولها خلقه للسماوات والارض خصوصا. وتسخيره الشمس والقمر والنجوم بامره خصوصا. وصرح بالفعل فيهما. وذكر في اخرها الوصف والتعميم في قوله له الخلق والامر فجمع بين فعله ووصفه على وجه الخصوص وعلى وجه العموم. فالمثبتون للخلق والامر المفرقون بينهما قولهم هو الحق المحكم الذي يصدق بعضه بعضا. وقول الجهمية قول باطل تناقض فاسد عقلا او نقلا ثم ذكر المصنف رحمه الله فصلا وقاعدة في التفريق بينما يضاف الى الرب من الاعيان والاوصاف. وكذلك اخبر تعالى بانه منه يحاصر ذلك انما يضاف الى الله نوعان. اعيان تدل اضافتها الى الله على شرفها وفضلها. كما يقال بيت الله وناقة الله وروح الله فهذه اعيان قائمة اضافها الى نفسه. واختصها بين مخلوقاته بخصيصة الاضافة. فتكتسب وفضلا بذلك. واما اضافة الاوصاف الى الله تعالى كعلم الله وحياته وقدرته وارادته وكلامه فهذه اضافتها الى الله تقتضي قيامها بالله واتصافه بها. وانها داخلة في ذلك ومن جملة اوصافه. ونظير هذا ما اخبر بانه منه. فان كانت اعيانا كانت مخلوقات منفصلات عنه كما قال وروح منه. وقال سبحانه وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه. وان كانت صفات كما قال في القرآن تنزيل في الكتاب من الله دل على الصفة. فهذا الفرق يحصل به الفرق بين الحق والباطل في هذا المقام. ولذلك لم يهتدي الجهمية لهذا الفرق وجعلوا ذلك واحدة ففاتهم الحق وحرموا الوصول حين ضيعوا الموصول. والحمد لله رب رب العالمين. ذكر المؤلف في هذا الفصل قول ابي محمد ابن حزم الظاهري في القرآن. وانه ابتدع فيه قولا لم يوافقه عليه احد. فزعم ان مسمى القرآن يطلق على اربعة اشياء. يطلق على المصحف الذي جمعه عثمان كان ابن عفان امير المؤمنين ويطلق على هذا الذي نتلوه ونقرأه. ويطلق على ما هو محفوظ في الصدور. فهذه الثلاثة عنده مخلوقة يطلق على المعنى القديم القائم بذاته. كقيام علمه بحيث لا يتعلق بالمشيئة. فهذا غير مخلوق. وذكر يؤلف ان الظاهر ان الذي اوجب له هذا القول انه لما انه رأى مراتب الوجود اربعة للمعينات وجود في الخارج ووجود في اللفظ ووجود في الرسم ووجود دود في الذهن. فوجود الشيء يطلق على احد هذه الامور الاربعة. وان اولاها بالقرآن الوجود الخارجي. وهذا المعنى القديم. وان وجوده الرسمي كوجوده في المصحف واللفظي كما نقرأه ونتلوه. والذهني كما نحفظه انه عبارة عنه ووسيلة ليست مقصودة. وخالفه ابو عبدالله الرازي. فزعم ان الاولى بهذه المراتب جود الذهني وهذا غلط وقلة فرقان. والا فالشيء واحد في نفسه حيثما تصرف. القرآن كلام الله حيث التالون او حفظه الحافظون او كتبه الكاتبون. او قام بالله وتكلم به بمشيئته. فهو في هذه المراتب شيء واحد فليست مرتبة منها عبارة عن الاخرى. وانما هو حقيقة في الجميع. ولذلك اخبر الله تعالى انه تكلمت الوحي وقام به واخبر انه محفوظ بصدور اهل العلم. وانه مكتوب في صحف مطهرة. وانه متلو مقروء وكل ذلك على وجه الحقيقة. وهذا بخلاف تلاوة العبد. فانها غير المتلو. فالتلاوة مخلوقة والمتلوة العاشر اخبار النصوص باختصاص بعض المخلوقات بانها عند الله كقوله ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله كتب كتابا فهو عنده على العرش. ان كلام الله غير مخلوق. ولذلك فرق ائمة اهل السنة بينما هو كلام الله حقيقة وما هو افعال للعباد فقال القرآن المكتوب كلام الله والمقروء كلام الله والمحفوظ كلام الله واما كتابة العباد واصواتهم وامدادهم والراق الذي يكتب به فانه مخلوق. لان الذي يرجع ويعود الى صفة العباد فهو كلام الله غير مخلوق. وقد يعنى بها اصوات العباد واداؤهم للقراءة فهذه مخلوقة. وهذا الفرق الذي ذكره البخاري ووضحه وحيث لم يفهم مراده بعض اهل العلم انكر ذلك عليه. وجرى ما هو معروف مشهور ونظير هذا لما قال الامام احمد من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع ومنع من الاطلاقين. اشكل قوله على بعض الائمة. ومراد الامام احمد رضي الله عنه ان اللفظ له اطلاقان. يطلق على الملفوظ الذي هو كلام الله ويطلق على فعل العبد الذي هو مخلوق. فلما كانت العبارة يدخل فيها حق وباطل منع الاطلاق. وهذا من احسن المقاصد ومن اعظم الادلة على نصح الائمة وكمال علمهم ومعرفتهم بمراتب الامور. فرضي الله عنهم وجزاهم عن الاسلام والمسلمين خيرا. ونحمد الله تعالى على منته بهم ورحمته وحفظ دينه فصل في مقالة الفلاسفة والقرامطة في كلام الرب جل جلاله. ذكر المصنف في هذا الفصل مضمون قول الفلاسفة منتسبين للاسلام وهم من ابعد الناس عنه كابن سينا واحزابه. ممن حقيقة مذهبهم مذهب فلاسفة الدهريين الذين لا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. لكنهم دلسوا وموهوا على الناس. وتلطفوا بعبارات الى موافقة العبارات الاسلامية. لكن لهم فيها مرادات كفروا بها وهذا في جميع اصول الدين. ومن جملتها مسألة النبوة والكلام. فانهم بنوها على اصلهم الذي هو اعظم المسائل بطلانا وقولهم بقدم العالم وان العقل الفعال وهو فلك القمر او غيره من الافلاك التي يعينونها هو المحدث لكل ما وانه دائم الفيض على المحال للمستعدة للفيض. ففيض الوجودات واوصافها وافعالها واثارها. ويفسرون كلام الله على هذا الاصل الباطل. ويقولون ان العقل الفعال افاض هذا الكلام الذي اتى به محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان كلاما من ارقى الكلام وهو رجل ذكي قابل لهذا الفيض. فتلقاه واتى به للعالمين الفاظا. وخطابة ومواعظ خيالية من رهين لم تصرح بالحق بل اشارت اليه ورمزت اليه. وانهم لم يمكنهم مخاطبة جمهور الناس الا بهذه الطريق. طريقة التخييل والمثال وان هذه الطريق اصلح للناس بزعمهم. ولذلك يحرمون تأويل النصوص. لانها تخالف ما قصده الرسول الا لمن بلغ مبلغهم من التحقيق. فانهم يؤولونها بتأويل يعلم بالضرورة وبداهة العقول فساد وحقيقة الامر عندهم ان الرسل كذبوا لاجل المصلحة. وعندهم ان الفيلسوف اعلى رتبة من النبي. فان النبي نبي العوام والفيلسوف نبي الخواص وانما راج امر هؤلاء على كثير من الناس لما فيه من التمويه والتلبيس والانتساب للاسلام والا فهم اعداء الاسلام. واهله يعرفون ذلك من خبر حقائقهم وتتبع طرائقهم فصل في مقالات طوائف الاتحادية في كلام الرب جل جلاله. ذكر المصنف في هذا الفصل مضمون قول الاتحادية في كلام الله تعالى وهو مبني على اصلهم الفاسد الذي هو افسد الاقوال وابطالها. بان الوجود قل له وجميعه واحد. وان الرب غير العبد والخالق غير المخلوق. فبناء على هذا الاصل ان جميع كلام في الموجودات هو كلام الله. لانه هو عينها لا غيرها هذا حاصل قولهم. فهذه المقالات التي اشرنا اليها قال المصنف فيها هذه مقالات الطوائف كلها لا تكاد توجد مجموعة في غير هذا الموضع ثم ان المصنف عطف يرد على الجهمية في انكارهم لصفات الله تعالى. وان قوله مناقض للمنقول والمعقول واهل اللسان انه من المعلوم والضرورة بالدلالات المذكورة انه لا يصح وصف الشيء بوصف مشتق عنه وثابت غيره. يقال هذا عالم والعلم وصف غيره وهذا سميع وبصير والسمع والابصار قام بغيره. صبار شكور باوصاف لغيره. هذا من ابطل الباطل فانه هم اذا قالوا ذلك لزم منه محذوران. احداهما نفيه عمن اثبتته النصوص له. والثاني اثبات لمن لم تقم به. فان هذا من باب قلب الحقائق ومكابرة الامور المحسوسة. فنظير هذا في المكابرة كاخوين مبصر واعمى. اذا سمي المبصر اعمى. وسمي الاعمى بالبصير. فان قالت الجهمية ان هذا ثابت في الافعال انه يوصف بانه الخالق وانما خلقه قائم بغيره. لانه لو قام به لكان محلا للحوادث وذلك محال. فاثبتوا له الخالق والخلق قام بغيره. فكذلك الكلام هو فاعل للكلام وخالق ده وهو قائم بغيره. وايدوا هذا في الايراد بردهم لمذهب من قال ان كلامه قديم. الكلمات والحروف مقترن بعضها ببعض. وردهم ايضا لمذهب الكلابية والاشعرية القائلين بانه معنى واحد او معان خمسة قديمة قائمة بالله. وانه ليس للقرآن كل ولا بعض ولا فيه تعدد. وان الامر عين النهي. والاستفهام عين الخبر. وان قيام الكلام بذات المتكلم كقيام الحياة فان هذين المذهبين باطلان مخالفان للعقل والنقل كما تقدم انه بمجرد تصورها يجزم بفسادها قالوا واما نحن فقد قلنا قولا يوافق العقل اننا قلنا ان كلامه كلمات وحروف مرتبة. وانه متعلق بمشيئته وارادته بمنزلة فعله قالوا فلاي شيء ينكر علينا ويرجح المرجح احد المذهبين مذهب الاقترانية والكلابية. فنحن احق بالعقل والنقل منهما. واذا كان لا بد من الترجيح فرجحوا بالدليل والفرقان. لا بمجرد الدعاوى فانها لا تسمن ولا تغني من جوع. هذا مضمون ايرادهم. وتأصيل الجواب عن هذا الايراد ان الخلاف المذكور مبني على اصلين تكررا ذكرهما. وهما هل الفعل عين المفعول او غيره؟ وهل هو قائم بذاته او منفصل عنه؟ فانهم توهموا ان هذا يقتضي حلول الحوادث بالله. ووصفه بالحدوث. لكن اذا قالوا هذا ونفوا الفعل القائم بالله ولم يثبت الا المفعول المنفصل لزم منه ان يكون الله معطلا عن افعاله وهذا محال لانه اذا لم يمكن فعل قائم به. فباي شيء وجد المفعول؟ ولزم ان تكون المحدثات حدثت بانفسها من دون محدث وهذا معلوم البطلان. واما القائلون بان الفعل غير المفعول فهم طائفتان. احداهما قالت ان الفعل قديم وعبروا عن ذلك بمسألة التكوين. وان تكوين الله تعالى قديم قائم بذاته كقيام قدرته. متعلق كل ما اكون مخلوق. وهذا مذهب الحنيفية وبقي عليهم بقية. وهي ان الفعل مع قيامه بالله متعلق بمشيئته وقدرته. والطائفة الاخرى من القائمين بان الفعل غير المفعول قالت ان الفعل له ابتداء وافتتاح. ولا يقولون انه لم يزل يفعل خوفا من التسلسل وهذا مذهب الكرامية الطائفة الاخرى اهل السنة والجماعة والحديث. فانهم قالوا ان صفات الفعل قائمة بالله. فالله منعوت بها فيما لم يزل ولا يزال. وهي متعلقة بمشيئته. انه لم يزل ولا يزال يتكلم اذا شاء ويفعل ما يشاء فقد نص الامام احمد رضي الله عنه على هذا سبقه اليه ابن عباس وجعفر الصادق وغيرهما. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي. ان الفعل ملازم للحياة. وصدق رحمه الله فان الحياة الكاملة تمامها القدرة على الفعل. وكون الحي يفعل ما يريد الا اذا كانت الحياة ناقصة. والله جل جلاله كامل الحياة كامل الصفات. فانه فعال لما يريد امانع لما اراده ولا صعب على قدرته واذا كان من المعلوم ضرورة ان الرب تعالى لم يزل على كل شيء قدير. ولم يزل نافذ الارادة فلاي شيء يمتنع الفعل عن الله في وقت من الاوقات وهذا الذي فطر الله عباده عليه. فكل مؤمن يقول يا دائم الاحسان يا قديم البر يا دائم السلطان والجود والامتنان من غير ان ينكر بعضهم على بعض. بل هذا هو الحق الذي لا يقبل الريب. اذا كانت افعال الله تابعة لكماله ونعوت جلاله. ان الله لم يزل كاملا. ومن كماله دوام افعاله. فانه تعالى كمل ففعل وخلقه لافعال العباد وللمخلوقات حصل به كمال اخر ومجد وعظمة. قال اهل الحديث وقد خالف المعقول والمنقول من قال ان الفعل يمتنع عليه في الازل. ثم صار بعد ذلك ممكنا. فما الموجب لهذا الامكان؟ وما الذي لتجدد له من الكمال حتى تمكن. فان الرب فعال غير معطل عن كماله وفعله في كل وقت. فكل يوم هو في شأن يدبر الامور ويفعل ما تقتضيه حكمته ومن المتقرر انه لو فرض وجود القدرة على الكلام والتكوين. وعدم القدرة على ذلك لكان الاول هو الكمال وان كان هو الكمال فكيف يتخلف التأثير بعد وجود موجبه وسببه ومقتضيه. واذا كان الله تعالى لم يزل موصولا بتمام القدرة ونعوت المشيئة واحاطة العلم والحياة الكاملة. لانها اوصاف ذاتية لله. ومع وجودها امتنعوا امتناع الفعل لان تمام الفعل بوجودها فلاي شيء قد تأخر فعله مع وجود سببه التام. فالفعل لم يمتنع على الله بل لم يزل ممكنا ولا يزال. لان الله جعل عدم الفعل نقص ونعت به الهة المشركين. فكيف يتصف بها رب العالمين؟ وهو ينعي عليهم اتخاذ الاصنام الهة تعبد وهي لا تسمع ولا تبصر. ولا لها كمال ولا فعال. فيدل على انها لا تستحق من الالوهية شيء واما الله تعالى فلم يزل هو الاله الحق. فهل يمكن ان يسلب عنه الفعل والتكليم؟ فاذا كان الله لم يزل اله فكذلك لم يزل فاعلا متكلما هذا وليس في العقل ما ينافي هذا. بل ليس في العقل الا ما يطابقه ويؤيده. ان هذا القول من اعظم الادلة على حدوث ممكنات وحدوث افعالها وصفاتها. وان الله بصفاته قديم وما سواه محدث. والله تعالى الاول الذي ليس قبله شيء. السابق لكل شيء فليس شيء من مفعولاته مقارنا له كما يقوله الزنادقة الدهرية من الفلاسفة وغيرهم فانهم يقولون لم يزل هذا العالم المشاهد قديما. وصرحوا بذلك. واتى بعدهم ابن سينا وهو موافق لهم على قولهم ولكنه اراد مصانعة المسلمين وتقريب مذهبهم من الاسلام. فعبر بالعبارات الاسلامية عن الكفرية وتلطف بجده واجتهاده. وزعم ان العالم ممكن بمعنى انه معلول عن العلة التامة التي مقارنة معلولها بحيث لا يتأخر عنها. وزعم ان هذا معنى الامكان ونحوه من الالفاظ الدالة على الحدوث وفعل ذلك ليقرب المذهب الاسلامي الى المذهب الدهري وهذا من العجائب الغرائب ان يقرب بين مذهبين متباينين غاية التباين. مذهب الرسل الذي هو دين الحق في الاولين والاخرين المبني على الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. والقدر خيره وشره. والتوحيد القوي والعملي وعبادة الله وحده لا شريك له والاعتراف بانفراده تعالى بالخلق والاحداث والتدبير والسلطان والملك والربوبية. من مذهب الفلاسفة الدهرية المباين لهذا المذهب في جميع هذه الاصول هذا امحل الاشياء وابعدها. ولم تزل الحرب بين الانبياء واتباعهم وبين اهل هذا مذهب الملعون فكيف يمكن الجمع والاصلاح بينهما؟ وجرى على مذهب ابن سينا كل قرمطي وباطني ملحد. ومن اعظم من نصر قوله النصير الطوسي. الذي كان كالوزير لملك التتار حين خرجوا على المسلمين قتلوا ملوكهم وخلفائهم وعلماءهم. ورأى الفرصة في الاسلام. فعمر المدارس لتعليم الالحاد والفلسفة وصرف لها الاوقاف الاسلامية. واراد ان يجعل اشارات ابن سينا محل القرآن. وان يقرر من القواعد والنواميس سيكون هادما للدين الاسلامي وعلم ان مقصوده لا يتم بدون اتلاف رؤساء الدين. فاشار على التتر بوضع السيف فيهم. فقتلوا من القضاة والعلماء والخلفاء وغيرهم ما لا يعد ولا يحصى. وجرى على الاسلام من المصائب والرزايا ما يفجع القلوب حفظ الله لدينه لجرى عليه ما جرى على الاديان السابقة من لضمحلال والحمد لله رب العالمين واعلم ان ادلة الخلق والحدوث على هذا العالم المشاهد ظاهرة واضحة عقلا ونقلا. وجميع الادلة الدالة على توحيد الله بصفات الكمال وبديع الافعال تدل على حدوث كل ما سواه. فلو كان مع الله شيء قديم لزم ان اوي الله في غناه. فيكون رباني متكافئان متمانعان مستقلان. وهذا امحل المحال. فان استقلالهما ينافس استقلالهما واستقلال احدهما ينافي استقلال الاخر. فيلزم واحد من احد ثلاثة امور. اما ان يستقلا كما نعاني ويتساقطان وهذا محال باطل. واما ان يذهب كل واحد منهما بما خلق ويستقل بتدبير ملكه ويبقى الامر هكذا. فهذا ايضا باطل. لانه يلزم من ذلك المغالبة. وان يعلو بعضهم على بعض. واما ان يكون الرب واحدا قاهرا لكل شيء. والكل مقهور بقهره. داخل تحت نفوذه وتدبيره. وهذا هو الحق قال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله. اذا لذهب كل اله فيما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحانه وتعالى عما يشركون. ولذلك اخبر تعالى بانه الواحد القهار في عدة مواضع من القرآن لان الوحدة والقهر متلازمان فلا يكون منفردا بالوحدانية حتى يكون منفردا بالقهر. ومن انفرد بالقهر فقد تفرد بالوحدانية. فمحال ان توجد الصفتان وتجتمعان في ذاتين. وانما هما لله الواحد الواحد القهار فصل في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية الرب وكلامه. والجواب عليه ذكر المؤلف في هذا الفصل ان الذي حمل المتكلمين من الكلابية واتباعهم على القول بعدم دوام فاعلية الرب وان افعاله حادثة بعد ان لم تكن هو خشية التسلسل وحاصل الجواب عن هذا الايراد التزام القول بالتسلسل في الماضي. كما قالوا بجوازه. بل وقوعه في المستقبل ففي الحقيقة لا فرق بين الامرين. فمن زعم ان لفعل الله مبتدأ وهو يقول ليس له منتهى. فقد تناقض لانه لا فرق بين الامرين في النقل والعقل والنظر والدليل. فكلاهما متساويان في الامكان والوجوب. وقد طرد هذا القول الجهمية ونفوا التسلسل في الماضي والمستقبل. وبنوا على هذا بناء الجنة والنار كما تقدم. فالجهم شيخ الجهمية افنى ذاتهم والعلاف شيخ المعتزلة افنى حركاتهما تقدم شرح مقالهم. واما ابو الحسن الاشعري وابو علي الجبائي وابنه. وابو بكر بن الطيب ومن بعدهم من اهل الكلام الباطل فانهم فرقوا بين الامرين فابطالوا التسلسل في الماضيات واعترفوا به في المستقبلات. وزعموا ان الماضي يقتضي الحدوث. لو قلنا به ويلزم حلول الحوادث في الله. والمستقبل لا ينافي ذلك. وهذا ما الفرق فيه من التلبيس والتمويه ما لا يخفى. فانه لم يقل احد من اهل السنة والجماعة المثبتين للتسلسل في الماضي المستقبل ان شيئا من الاعيان والافراد قديم. وانما التسلسل الذي لا يدل النقل والعقل الا عليه ان نوع الفعل لله تعالى لم يزل ولا يزال فلم يزل الله يفعل. وكل فرد من مفعولاته قبله فرض. وقبل ذلك فرض الى غير نهاية. وكذلك كل طرد بعده فرد الى غير نهاية. فالأفراد تفنى ولها مبتدأ ومنتهى. واما النوع فلا له منتهى كما انه ليس له مبتدأ. لانه كما تقدم انه من صفات الكمال. والله تعالى لا يمكن ان يخلو بوقت من الاوقات عن الكمال من كل وجه. ونظير تعاقب الاعيان المخلوقة نظير تعاقب الازمان المخلوقة. كل وقت قبله وقت الى غير نهاية كما ان كل وقت بعده وقت وزمان الى غير نهاية. وهذا معروف بادنى تأمل وتفكر فان قالوا اننا نمنع التسلسل ايضا في الازمنة. فيقال لهم ما تعنون بالازمنة. هل تعنون بها المدة والزمان الكائن خلق الله هذا العالم السماوات والارض وهذا مرادهم او انه لم يكن قبلها شيء من المخلوقات. فهذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا نقل ولا عقل. ولا نقل ولا عقل بل الدليل منها يدل على ان الله تعالى قد خلق مخلوقات قبل السماوات والارض. فان الله اخبر انه خلق السماوات في ستة ايام. وهذه الايام التي خلق الله بها السماوات والارض مقدرة بزمان غير هذا الزمان المقدر بسير الشمس والقمر. فان في هذه الايام الستة خلق الله في ضمنها الشمس والقمر. فده دل على انه مقدر بحركة اخرى غير سير الشمس والقمر. وذلك دليل على وجود زمان ومخلوقات قبل ذلك ان الازمنة تقدر فيها الحوادث. وقد ثبت في الحديث الصحيح ان الله لما خلق القلم قال له اكتب كلما اكتب قال اكتب ما هو كائن الى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن الى يوم القيامة. وذلك قبل خلق السماوات والارض بخمسين الف عام كما ثبت به الاثر. وهذا وعرش الرب قبل ذلك فوق المال كما في اخر الحديث. فكان عرشه على الماء. وهذا صريح في وجود مخلوقات قبل السماوات والارض وقد اختلف الناس اي العرش والقلم خلق اولا. على قولين حكاهما ابو العلاء الهمذاني. الراجح ان العرش قبل لانه اخبر في الحديث الذي فيه اول ما خلق الله القلم الى ان قال وكان عرشه على الماء. فهذا ظاهر في تقدم عرش ان الحديث صريح في ان العرش قبل الكتابة والكتابة تعقبت ايجاد القلم من غير مهلة. فهذا ونحوه من الاثار يدل على ان الله تعالى لم يزل يفعل. ومما يدل كل عليه عقلا وفطرة ما تقدم من القاعدة التي تكررت مرارا. وهو انه تعالى موصوف بالكمال المطلق من الوجوه في جميع الاوقات ومن كماله تمام القدرة ونفوذ المشيئة. فهذا الكمال محال وممتنع ان يخلو الله منه في وقت من الاوقات وهذا ظاهر لا يقبل الريب والشك ولكن اهل الكلام لما اصلوا اصولا فاسدة وقواعد باطلة اعتقدوها وبنوا عليها النصوص وردوا لاجلها ما خالفوا من النصوص او تأولوه اوجب لهم ان يشتبه الامر عليهم. والا فاتصاف الباري بانه على الدوام فعال لما يريد لا يحتاج الى كثير نظر. لان اهل الكلام يتوهمون انهم لو قالوا بهذا القول انسد عليه الدليل الذي استدلوا به على التوحيد وحدوث العالم. وهذا مجرد توهم واشتباه. لذلك عقد المصنف بعد هذا فصلا رد ففيه دليلهم على هذا وابطله. وذكر انه لم يزل امر الناس مستقيما حتى ابتدعوا هذا الدليل الباطل. فتمكن من القلوب وعز عليها التخلص منه ورفعوا لاجله كثيرا من قواعد الايمان وزعموا انهم ينصرون الاسلام وهم في الحقيقة في هذه الابواب ضرر محض على الاسلام خذلوا اولياءه وتجرأ عليهم اعداءه ورأى الملاحدة والزنادقة فساد ادلتهم. وتناقض احوالهم ومخالفتها للمعقول. وظنوا ان هذا الذي جاء به الرسول فاغراهم بلزوم ما هم عليه من الالحاد والقدح في الدين الاسلامي واهله. ولولا ان الله ناصر دينه ومقيم له حفظة يحفظونه لجرى عليه ما يحزن القلوب. هذا ومن اعظم المحال واكبر الدليل على بطلان هذا الدليل ان يكون ايمان القرون المفضلة الصحابة والتابعين وتابعيهم باحسان. وهم اكمل الخلق ايمانا. غير مبني عليه. ولم اعرف الله بالاجسام والاعراض والجواهر ونحوها. ويفوز به هذا الخلف السوء. فيكون امام السابقين مبنيا على النصوص القرآنية والاحاديث النبوية المؤيدة بالعقل. وايمان هؤلاء على هذا الدليل الباطل. دليل الاعراض الذي ليس يذكر في كتاب ولا سنة ولا اثر عن احد من السلف. بل قد اعترف كثير من فضلائهم كالاشعري وغيره انه دليل مبتدع وصرح بعضهم بالحق وانه دليل باطل مفسد للدين محبط للايمان الله ورسوله قد بين جميع الطرق المعرفة بالله ونوعها. ولم يذكر الله ورسوله هذا الدليل. فلو كان حقا نافعا الا ذكره الله ورسوله فعلم انه باطل ضار. ولذلك لما اطلع الائمة على حقيقة هذا الدليل انكروا على اهله غاية الانكار. وحذروا منه غاية التحذير. لعلمهم بما يفضي اليه فصل في الرد على الجهمية المعطلة القائلين بانه ليس على العرش اله يعبد ولا فوق السماوات رب يصلى له ويسجد وبيان فساد قولهم عقلا ونقلا وفطرة قد علم ان الله تعالى كان وليس شيء غيره من المخلوقات. ثم خلق الله المخلوقات واوجدها. فيقال للمعطل هل خلق المخلوقات بائنة عنه ام خلقها حالة فيه؟ فلابد من احد الامرين الا ان يزعم ان الخالق عين المخلوقات. كما قال ذلك غلاتهم اهل الوحدة. فان قالوا خلق الله المخلوقات في ذاته حال فيها حلول الروح في الجسم فقد زعموا انه محتاج ومفتقر اليها وان قالوا لا داخل العالم وخارجه فقد حكموا عليه بالعدم لانهم اذا رفعوا النقيضين لم يكن ذلك الا معدود وان قالوا ما هو الحق وهو انه خلقها بائنة عن ذاته وهو بائن عنها فقد اقروا بالحق ويلزم على ان يكون عليا على خلقه مستويا على عرشه. فان قالوا ان هذا النفي لدخوله في العالم وخروجه منه انما يكون يطلق عليه حد المعدوم اذا كان يقبل الدخول والخروج. واما الله فليس بقابل لواحد منهما اذ هذا من خصائص الاجسام. والله منزه عن هذا فيقال اولا هذه دعوة مجردة عن الدليل. فهي ممنوعة فلا تقبل. فان هذه دعوى المذهب والاصطلاح الذي اصطلح عليه هؤلاء المتكلمون فتكون الدعوة باطلة. ويقال ثانيا بل يصدق الشيء على القابل وغير القابل لغة وشرعا فان نفي الظلم عن نفسه وهو محال عند الجهمية. لانه تقدم قولهم انه من باب نفي الممتنع. هذا وان كان تفسيرا باطلا فانهم يعتقدونه. فيذكر في محل الالزام. وكذلك نفى عن نفسه النوم سنت والطعم والولادة والزوجية. وهذه ممتنعة على الرحمن. وكذلك نفى عن بعض الجمادات السمع والبصر والنطق والشعور. وانها لا تخلق شيئا وليست بقابلة لشيء من ذلك ويقال ثالثة لو صح ما قالوه ان الشيء لا ينفى الا عن المحل القابل. فانما ذلك في الضدين الذين لا يجتمعان وقد يرتفعان. لا في النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان. والمسألة من هذا الباب من باب ويقال رابعا نفيكم لقبوله للدخول والخروج يزيل وصفه بانه واجب الوجود بل يزيل امكانه بانه اذا لم يقبل الدخول والخروج كان ممتنعا عقلا وفطرة. فان قال المعطل ان لعلوه ولما فطر الله عليه عباده فانه ما توجه متوجه من البرية الا رأى في قلبه طلبا لربه العلو وهذه الفطرة لا يستطيع المعطلون تبديلها حتى هم بانفسهم. لو رجعوا الى حالهم لرأوها الامرين القيام بالنفس والقيام بالغير باطل اذ لا يقبل احد الامرين الا الممكنات. والله ليس بقابل للامرين كان هذا من اعظم نعوت العدم الممتنع فلو قيل صفوا لنا المعدوم ما وصف بابلغ من هذا. وهذا في الحقيقة نفي لوجود الله تعالى. فلا يمكنه التفريق بين الامرين ابدا وان طارد الامرين ظهر الحاده وكفره والله اعلم فصل في سياق هذا الدليل على وجه اخر وهذه العادة في ادلة الحق وشواهده. حيث صرفت واديرت الى وجه ومن عبارة الى عبارة. فان دلالتها واحدة الا ان العبارات تختلف في زيادة الوضوح وخفائه. لان المعنى الحق هو الثابت المستقر الموافق اقول بكل وجه بخلاف ادلة الباطل فانها لا تكاد تقبل الا اذا نظمت بعبارة مخصوصة ممولة وهات مزخرفة. فاذا اديرت الى سياق اخر بان بطلانها بمنزلة الشيء المغشوش يظهر غشه ادنى اختبار فتقدم الالزام للمعطل واستخباره هل برأ الله البرية في نفسه او خارجا عنه او ينفي الامرين وانه يلزم الاعتراف بانه خلقها بائنة منه. وهو بائن عنها عال عليها. وانه اذا قال في غير هذا فقد كابر وغالط. وهذا سؤال اخر فانه يقال للمعطل اولا هل الرب تعالى ثابت في اذهان ام لا؟ فان قال لا. فهو جاحد لرب العالمين. فان الذي لا وجود له في الاذهان. لا وجود له حقيقة فان قال نعم هو موجود في الاذهان. فانه يقال له ثانيا هل هو هذه الاكوان او غيرها؟ فان قال هو هي وهي هو فقد قال بقول الاتحاديين الذين هم اكثر الناس برب العالمين. فان قال بل هو غيرها. انه يقال له هل هو حال في الاكوان؟ وهي حالة فيه اذا اقر باحد الامرين وقد اشبه النصارى القائلين بالهية المسيح. وان اللاهوت حل بالناسوت. وهؤلاء ابلغ فانهم انه حال في جميع المخلوقات ان نفى الامرين وقال لم يحل فيها ولم تحلل فيه. فيقال له رابعا هل هو قائم بنفسه غني عن الاكوان والخلق ام هو قائم بغيره كقيام الاكوان والاعراض بمحالها. فاذا اقر بالحق وقال بل هو قائم بنفسه غني عن الاكوان والخلق. ام هو قائم بغيره كقيام الالوان والاعراض بمحالها فاذا اقر بالحق وقال بل هو قائم بنفسه مستغن عن جميع خلقه فيسأل خامسه. ويقال له هل ذاته تماثل ذوات او تضادها او تغايرها. وعلى هذه التقادير الثلاثة فانه لولا انه بائن عنها لم يكن شيئان متماثلين او متضادين او متغايرين. لان كل واحد من ثلاثة بالنسبة الى قسيمه يكون غيره لا يمكن ان يتحد فيه. فتعين عليه ان يختار. اما انه هو هذه المخلوقات وينفي التماثل والتضاد والتغاير. ويصرح بقول الاتحاديين وينسلخ من ربقة الدين واما ان يعترف بالحق الواضح هو ان الخالق غير المخلوق. وانه بائن عن مخلوقاته. متوحد في منفرد بربوبيته والوهيته على جميع بريته فهذه اشارة الى تقاسيم عقليته تلجأ المنصف الى الاعتراف بالحق. ويعلم ان من خالف الحق فهو هو مكابر للعقل. كما انه مخالف للنقل. ولذلك عقد المؤلف هذه الفصول في الاشارة الى الادلة النقلية فقال له فصل في الاشارة الى الطرق النقلية الدالة على ان الله فوق سماواته على عرشه فذكر منها احدى وعشرين نوعا من الادلة. كل نوع تحته من الافراد ما لا يعد ولا يحصى. الاول الاخبار بانه تعالى استوى على عرشه في سبعة مواضع من القرآن معروفة. كلها اطردت بعلى الدالة على العلو والارتفاع وهذا نص لا يقبل الاحتمال في معناه فانها لو كانت بمعنى اللام على العرش استوى. اي لو كان معنى استوى استولى لاتت في موضع فاكثر من اجل ان يحمل المطلق منها على مقيد النظائر. فلما لم تجئ في موضع واحد بلفظ استولى كانت نصا صريحا في العلو والفوقية فان العرب تضمر بعض القيود في بعض المواضع وتذكره في اخر فيحمل المطلق على المقيد واما في مثل هذه المواضع فالحمل متعذر وقد ابطل شيخ الاسلام ابن تيمية تفسير الجهمية ان معنى على العرش استولى بعشرين وجها. كل واحد كاف شافي الثاني التصريح بلفظ العلو. وقد تكرر في الكتاب وصفه بالعلي. وبالاعلى وذلك يدل على انه العلي الاعظم اعلى بكل وجه واعتبار علو الذات والصفات وعلو القدر والعظمة وعلو القهر والجبروت. لكن المعطلة على اصلهم الفاسد ينفون عنه علو الذات. ويفسرون علوه بعلو القدر والقهر. وهذا اهضم للمعنى وانكار منهم وكلام مموه لا يعارض المعلوم. فاذا تقابل ما يعلم ببداية العقول. وهذه الشبهات لم تقاوم الشبهات للبدايات والبينات. الثالث التصريح بالفوقية لله تعالى تارة مقرونة بمنبر كقوله يخافون ربهم من فوقهم. وتارة غير مقرونة كقوله وهو القاهر فوق عباده فالمجرور بمن نص في معناه لا يقبل التأويل واما الذي لم تدخل عليه منه فهو ظاهر ايضا بمجرده في المراد. واصل فيه. وقد يقبل التأويل على وجه ضعيف لكن لابد فيه من الدليل ولكن هذا بالنظر الى مجرد الالفاظ والا فاذا اتى الكلام بسياقه ونظمه وتعبيره عن المراد والمقصود فانه يكون نصا قاطعا في المراد لا يقبل التأويل لسياقه نظمه ان كان يقبله اذا جرد عن ذلك. وهذه حالة فردية غير موجودة في كلام الله وكلام رسوله وانما المدار على السياق. فان سياق الكلام مثل شواهد الاحوال تدل على معناها دلالة قاطعة. فالتأويل اذا اتى بعد سياق الكلام يكون في غاية الهجنة كالكتمان اذا اتى بعد رؤية شواهد الاحوال كان كتمانا قبيحا. والفوقية وصف ثابت لله لا يمكن ان يكون الا كذلك وله الفوقية المطلقة بكل وصف واعتبار. فوقية الذات وفوقية القدر وفوقية القهر. فمن انكر واحدا من هذه الامور كان مبطلا مكابرا متناقضا كما هو قول المعطلة النافينة لفوقية الذات وان المراد بفوقيته فوقية القدر كما يقول الناس. الذهب فوق الفضة. وهذه دعوة بلا دليل بل قام البرهان على نقيضها الرابع التصريح بعروج بعض المخلوقات اليه. كقوله تعرج الملائكة والروح اليه. وذكر المؤلف كلام المفسرين على هذين الموضعين من القرآن. قوله تعالى في سورة ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة. وقوله تعالى في سورة السجدة يدبر الامر من السماء الى الارض ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره الف سنة مما ما تعدون. فقيل ان تقرير خمسين الف سنة. المراد به يوم القيامة وتقديره بالالف في الدنيا وقيل انهما يعودان الى يوم واحد. ويكون التقدير بالالف من اوجه الارض الى سماء الدنيا ثم من كل سماء كذلك كما وردت به الاثار. وتقدير الخمسين الف سنة في المركز الذي هو اسفل الاراضين الى ما فوق هذا العالم ومنتهى العرش. وقال بعضهم ان هذا التفاوت يرجع الى اختلاف السير والله اعلم الخامس التصريح بصعود بعض المخلوقات والاعمال الى الله من العمل الصالح والكلم الطيب والكسب طيب والملائكة والارواح والاعمال. كما وردت بذلك النصوص الكثيرة. وكذلك تواتر معراج الرسول صلى الله عليه وسلم الى ما فوق السماوات العلى وان عروجه الى الله. وكذلك رفع عيسى عليه السلام الى الله. وكذلك دعوات المضطرين والمظلومين وذلك كله صريح في علو الله تعالى على خلقه ومباينته لهم السادس والسابع. اخباره تعالى ان القرآن العظيم نزل منه. وانه تنزيل منه كما هو في عدة ايات ومن المعلوم ان النزول لا يكون الا ممن هو فوق عباده. وعال عليهم مباين لهم. وكذلك ما به الاحاديث من نزوله تعالى الى السماء الدنيا اذا بقي ثلث الليل الاخير فيقول من يسألني فاعطيه من يدعوني فاجيبه. من يستغفرني فاغفر له. فهذا دليل على علوه وارتفاعه فوق خلقه. وعند الجهمية انه لا ينزل وانما ينزل امره. وهذا باطل لا يدل عليه بوجه من الوجوه وانما هو نص في نزوله تعالى حقيقة نزولا يليق بجلاله. وانه هو الذي يقول من يسألني فاعطيه الى اخر الحديث ولا يمكن ان ياتي تصريح ابلغ من هذه الالفاظ النبوية. الثامن ما اخبر به في سورة غافر في قوله رفيع الدرجات. فان فعيلا فيها بمعنى مفعول. وان معناه مرفوعة درجات كماله وارتفاعه وعلو شأنه وعظمته. كما في قوله في سورة سأل سائل ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه. فان هذه فسرت تلك وازالت ما فيها من الاشتباه. ودلت على كمال رفعته عظمته وسلطانه التاسع اخباره بانه في السماء كقوله اامنتم من في السماء ونحوها فانها لا تدل على ان الله محصور في السماء عقلا ولا عرفا ولا لغة. وانما معناها باجماع المفسرين معنى فوق او معنى العلو. اي امنتم من هو عال على خلقه؟ وان الرب في العلو وليس يحصره العلو. لان الله سبقت غضبي. ان هذا دليل وبرهان على علوه تعالى على عباده. لانه لو لم يكن كذلك لك انا جبريل وابليس في هذه العندية سواء وجميع الذوات في القرب منه سواء. كما قال ذلك الجهمية. ومن تمام قولهم ان محبة الله عندهم عين ارادتهم فكل ما اراده فقد احبه. والكون كله مراده فيكون محبوبا لله. وتأولوا النصوص المتواترة فالمخبرة باختصاص محبة الله ببعض الاعمال والاشخاص تأويلات فاسدة. فاذا كان من قولهم ان الجميع بالنسبة الى محبة الله سواء وجميع الذوات في القرب منه سواء. كان هذا الباطل البالغ لنهايته وغايته. فان قالوا المراد بالعندية عندية التكوين. كانت الذاتان كلاهما مخلوقتين. وان قالوا المراد بالعندية عندية التقريب والشرف. فالمحبة عندهم هي الارادة. فيستحيل هذا التأويل. ويتبين انه مكابرة المعقول كما هو مخالفة للمنقول الحادي عشر اشارته صلى الله عليه وسلم الى العلو باصبعه حين خطب الناس بعرفة وقال هل بلغت؟ قالوا نعم. فاشار باصبعه نحو السماء. مستشهدا لربه تعالى وذلك برهان لعلوه وارتفاعه تعالى الثاني عشر ان الله وصف نفسه بالظاهر وهو العالي فوق مخلوقاته. كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وفيه انت الاول الذي ليس بعده شيء. والاخر الذي ليس بعده شيء قاهر الذي ليس فوقه شيء. والباطن الذي ليس دونه شيء. هذا تفسير صريح من المعصوم الذي لا انطق عن الهوى وقرر ذلك واكده بنفي ضده حيث قال الذي ليس فوقه شيء. وهو المفهوم من هذا اللفظ. فانه كلما علا الشيء ظهر وبان كما انه كلما سفل خفي استتر. كما هو مشاهد في مركز هذا العالم وسفله وانه اخفى الامكنة واضيقها ومحيطه اظهرها واعظمها واوسعها. فالله جل جلاله اعظم من ذلك واعلى. فالعلو والظهور كل منهما مقتض للاخر. فهما متلازمان الثالث عشر ما تواترت به الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مع دلالات الايات القرآنية في رؤية اهل الجنة ربهم تبارك وتعالى. فان هذه النصوص من اعظم البراهين على علو الله تعالى. ولذلك لا يمكن المعطل ان تثبت الرؤية اثباتا على وجه الحقيقة المفهومة. حتى يثبت علو الله على خلقه. فانه اذا اثبت الرؤية ونفى العلوم كقول بعض الاشاعرة فانه يسأل ويقال من اين يرى؟ هل يرى من تحتنا او يمينا او يسارا او خلفا او اماما؟ فانه طبعا يقول لا ولابد ان يقول بل يرى من فوقنا. لان الرؤية تقتضي مقابلة الرائي للمرئي. فمتى زعم خلاف ذلك فقد كابر المحسوس وغالط في امره. ولذلك عرف المحققون من اهل هذا القول انه لا فرق بين مذهبهم ومذهب المعتزلة النافين لرؤية الله تعالى. وهذا في الحقيقة لازم لهم. اذ لم يقروا بالحق الذي هو علو الله على خلقه ورؤيتهم لله من فوقهم تبارك وتعالى وعظم شأنه وتقدست اسماؤه وصفاته. الرابعة عشر انه قال صلى الله عليه وسلم للجارية اين الله؟ واجاب السائل له لما قال اين الله بجواب اين فقال في السماء. ولم يجبه بجواب من الله كما هو قول الجهمية. وهذا الذي اراد صلى الله عليه وسلم وفهمه السائل والمجيب. فدل ذلك دلالة قاطعة على علو الله تعالى على خلقه ان الجواب لمن قال اين الله ان يقال فوق عرشه عال على خلقه بخلاف قول الجهمية فان الاين عندهم على الله فلا يصح السؤال عندهم بالاين ولا بالجواب. وان ورد ذلك كان معناها معنى من الاستفهامية. وهذا معلوم البطلان فانهم يصرحون بنفيه. الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح باثباته فعلا واقرارا. فعلم مباينتهم للرسول ومخالفتهم للمعقول. فان الرسول مع كمال علمه ونصحه وبيانه محال ان يعدل عن لفظ من وهي اخصر واوضح وافصح الى لفظ اين وهي بخلاف ذلك. هذا ممتنع شرعا. الخامس عشر اجماع الرسل عليهم السلام. والكتب السماوية على التصريح بعلو الله على خلقه وفوقيته. حكى ذلك غير واحد من العلماء المعتبرين. كالشيخ عبدالقادر الجيلاني في غنيته وابي الوليد ابن رشد وكذلك شيخ الاسلام ابن تيمية صاحب الاطلاع الواسع الذي لا يوجد له نظير فيه وكذلك المؤلف قطع باتفاق الرسل على اصول الدين. التي اصلها اثبات صفات رب العالمين. علوه على خلق وانه المتكلم حقيقة. وان الله تعالى المعبود وحده. وان القضاء خيره وشره من الله والايمان باليوم الاخر حق. فجميع الانبياء والمرسلين متفقون في اصول الدين والشرائع التي لا تختلف باختلاف الازمنة وهي الشرائع الكبار كاصول الايمان وشرائع الاسلام والعدل في معاملات الخلق وتحريم الظلم والكذب والغيبة والنميمة والفحشاء. ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق. والقول على الله بغير علم. فكل هذه الاصول والشرائع قد اتفق عليها الانبياء المرسلون لانه محال وممتنع ان تأتي شرائعه الالهية بخلاف ذلك. فهذه الاصول الحقة التي هي اصول نافعة لاهلها واما اصول مذهب المعتزلة فانها منافية لهذه الاصول. فعندهم اصول خمسة من خصائص مذهبهم القول بخلق القرآن وجحودهم لصفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الدار الاخرة والذي سموه العدل الذي مضمونه ان افعال العباد من الطاعات والمعاصي لم يخلقها الله ولم تتعلق بقدرته مشيئته وبنوا على ذلك ان اهل المعاصي الكبار الذين لم يتوبوا منها ونفيهم للشفاعة فيهم وقالوا ان الله لا يقدر على اصلاح العاصين ولا هداية الكافرين. ولاجل هذه الاصول قالوا بوجوب الصلاح والاصلح على الله. بحسب ما اقتضته عقولهم. وقد علم ضرورة منافات هذه الاصول للشرع والعقل السادس عشر اجماع اهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم من ائمة المسلمين المعتبرين الذين اجماعهم هو الحجة والعصمة واما من سواهم ممن هو معروف ببدعة والحاد ومخالفة لطرائق المسلمين فوجود خلافهم لا يقدح في الاجماع. وقد ترى هذا الاجماع كثير من الائمة بالنقل المتواتر عنهم بالالفاظ المتنوعة على علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتتبع ذلك كثير جدا في كتب الاصول والتفسير والاثار والفقه. لم يخالف منهم مخالف. بل كلهم مقرون فلذلك منكرون على من تأول وانكر وتنكر فيه. وطال المؤلف في ذكر هذا الاجماع من الائمة. وسرد اقوالهم على وجه الاشارة وذكر انهم اهل العقول الكاملة. المؤيدة بنور الوحي. اهل البصائر. فهل يساوي هذه العقول التي ترجح بالجبال الرواسي عقول سفهاء الاحلام ارباب الكلام الباطل وقشور الفلسفة. الذين كذبوا بالحق فهم في امر مريج الذي لا يفرح بوفاقهم ولا يحزن على خلاقهم. السابعة عشر ما اخبر به تعالى عن موسى عليه السلام وفرعون اللعين. لما دعا موسى الى ربه وانكر دعوته وموه على قومه. وقال لوزيره هامان على وجه التهكم بموسى ابن لي صرحا لعلي لابلغ الاسباب. اسباب السماوات فاطلع الى اله موسى فكزب موسى في قوله انه فوق عباده علي على خلقه. وتبعه على قوله هذا الجهمية الفرعونية رموا ببلائهم اهل السنة والجماعة وقالوا ان مذهبهم مذهب فرعون. المعتقد لعلو الله تعالى هذا من العجائب وقلب الحقائق. فانه لا يشك احد ان معنى ذلك ان هذا الفعل انكار من فرعون. لما قال يا موسى وانه اراد ان يموه على قومه ويصعد السماء ليصل الى اله موسى الذي قال له موسى عنه ودعاه الى عبادته وموسى عليه الصلاة والسلام امام المثبتين لعلو رب العالمين. وفرعون امام كل معطل لرب العالمين فرعون قبحه الله تكذيب موسى في علو رب العالمين. كما كذبه برسالته وانكر تكليم الله لموسى المسألة اوضح من ان تحتاج الى كل هذا التقرير. فان اعداء الرسل كفرعون وقومه ونحوهم قد ايقنوا ان الرسل جاءوا بهذا الاصل العظيم وصار ظهوره لكل احد لا يخفى الثامن عشر ان الله تعالى قد نزه نفسه عن النقائص والعيوب وعن التمثيل والتشبيه. كما نزه نفسه عن الشريك والعويل والظهير والوزير والولد والصاحبة والحاجة. وان يوالي احدا من الذل. وكذلك نزه نفسه ان يكون احدا يشفع عنده الا باذنه. بل نزه نفسه عن الامور التي ما قالها احد من المكذبين خوفا من وقوعها في وهم احد فانه نزه نفسه عن الطعم ولم ينسب له احد ذلك. وعن الموت والنوم والسنة والنسيان. ولم ينسبه احد بشيء من ذلك. وكذلك نزه نفسه عن الظلم وارادته عن العبث والباطل. وعن التعب والعجز المنافي لقدرة الله وعن كل ما لا يليق بجلاله. ونزه نفسه عن مقالة بعض طوائف اليهود. القائلين ان الله فقير ونحن اغنياء وقول من قال ان العزير ابن الله ومع ذلك فاكثر اليهود على خلاف هذا القول فكل نقص او تمثيل ونحوهما قد نفاه عن نفسه. فلو كانت مقالة هؤلاء المعطلين النافين لعلو الله على خلقه ومباينته لهم حقا لنزه نفسه عن العلو والفوقية بل هو دائم يبدئ ويعيد في ذكر علوه وفوقيته ويقرر ذلك بكل دليل وبرهان. فلو كانت النصوص خالية من ذكر العلو والفوقية بالكلية لكان تركه تنزيها عن ذلك اكبر دليل على تقرير ذلك ورضاه به. والعلم بانه غير مناف لكماله فكيف مع هذا؟ والادلة الشرعية على هذه المسألة اذا بسطت افرادها زادت على الف دليل فان كان يمكن تأويلها وانكارها مع هذا البيان والوضوح. وتنوع الادلة امكن تأويل الدين كله وانكاره ما فعل ذلك الملاحدة الزنادقة من القرامطة والباطنية والاسماعيلية فاذا كان قولهم باطلا في تأويلهم للشرائع والمعادن والتوحيد معلوما بطلانه ضرورة. فكذلك قول المتأولين علو ولا فرق في الحقيقة بين الامرين والحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة. التاسع عشر ان يقال للمعطل هل تعترف بان محمدا يعرف ربه؟ فلابد ان يقول نعم فيقال هل كانت نصيحته لامته كاملة تامة لا يمكن ان يساويه فيها احد فلابد ان يقول نعم فيقال له هل كان بليغا مقتدرا على التعبير عن المعاني المقصودة بالالفاظ الجلية الفصيحة ومعاني كلامه اجل المعاني والفاظه افصح الالفاظ. فلابد ان يقول نعم بان هذه الامور الثلاثة لا يمكن ان ينازع فيها مسلم يعظم الرسول. فاذا كان معلوما بالضرورة ان هذه الاشياء الثلاثة قد كملت فيه صلى الله عليه وسلم على اتم الوجوه واكملها. كان من اعظم المحال ان يكتم صلى الله عليه وسلم فيجب لله من العلو والفوقية وصفات الكمال ويفسح بضد ذلك. بل لما كان صلى الله عليه وسلم كامل العلم بربه ودينه فهو اعلم الخلق واخشاهم كان بالمؤمنين رحيما. ارحم بهم من ابائهم وامهاتهم. بل ومن انفسهم. وابلغ الخلق افصحهم علمهم صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا يعلمون. وقد بين للناس جميع ما يحتاجون اليه. خصوصا الامور مهمة والعقائد الدينية والاصول الايمانية. وقد فعل صلى الله عليه وسلم فلو كان الحق فيما يقوله والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح بشيء منه بل صرح بضده وكان ذلك موكولا لعقول الناس وارائهم الضعيفة لزم انتفاء هذه الامور الثلاثة او بعضها عنه. وهذا لا يفوه به مسلم يؤمن بالله ورسوله بل لما كان هذا الباب انفع اصول الايمان وافرضها والناس محتاجون بل مضطرون اليه احوج من كل شيء صرح صلى الله عليه وسلم بانواعه وتفاصيله حتى ان كثيرا من العلماء لم يقل جميع ما قال صلى الله عليه وسلم لا كتمان منهم بل مراعاة لاحوال وقتهم. وان اهل زمانهم لا تكاد عقولهم تحتمل كثيرا من الدقائق الايمانية فلم يخبروا به للمصلحة. فالعلم يجب بيانه الا اذا اقتضت المصلحة السكوت عن بعضه. مراعاة ما هو اهم؟ فان الشرع دائر مع اكبر المصالح واهمها. والله تعالى اعلم العشرون من البراهين الدالة على علو الله تعالى على خلقه. واستوائه على عرشه. الدليل العظيم والبرهان القاطع وهو ما يحصل من مجموع الادلة السابقة وغيرها فانه يحصل من سردها وتنوعها ونصوصها وقواطعها الانواع والافراد ما يوجب اليقين الاضطراري والعلم الضروري. الذي لا يمكن دفعه بالجزم بعلو الله وارتفاعه واستوائه على عرشه واشار المؤلف اليها اشارة لطيفة في هذا الموضوع. وذلك ان الادلة كل واحد منها يفيد دلالة على المقصود ثم الاخر كذلك. ثم يستفاد من انضمام احدهما للاخر دلالة اخرى. ثم من مجموع الجميع دلالة هي اقوى انواع الدلالات. فتزايد شواهد الايمان وتعاون ادلته حتى يكون الايمان في القلب ارسخ من الجبال الحادي والعشرون انه ورد في الكتاب والسنة ذكر مجيء الله للفصل بين عباده كما في قوله تعالى هل ينظرون الا اه ان تأتيهم الملائكة او يأتي ربك او يأتي بعض ايات ربك. الاية فهذا والتقسيم الصريح بمجيء الملائكة ثم مجيء الله ثم مجيء بعض اياته يمنع تأويل ذلك بانه يأتي امره او ملك من ملائكته. ويعلم ان هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه لان الامرين صرحا بذكرهما وصرح بينهما بذكر مجيئه. فلم يبق للاحتمال موضع بوجه. فاذا ثبت وتقر مجيئه كان من المعلوم انه يأتيهم من فوقهم لا من باقي جهاتهم كما تقدم. فصل في الاشارة الى ذلك من السنة اشار المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الفصل الى بعض ما تضمنته الاحاديث النبوية من علو الله تعالى واستوائه على عرشه وقد بسط الادلة في ذلك والاثار في كتابه الجيوش الاسلامية. فليرجع اليه من احب الوقوف فعلى ذلك وذكر في اخر الفصل ان هذه الادلة الكثيرة المتنوعة لا تقبل التأويل بوجه من الوجوه وان تأويلها من باب تحريف الكلم فصل في جناية اهل التأويل على ما جاء به الرسول والفرق بين المردود منه والمقبول ذكر المصنف رحمه الله واشار الى المصائب الحاصلة في صدر الاسلام وبعد ذلك. وان سببها التأويل الباطل كما هو معروف لمن تتبعها وعرف الدواعي والاسباب الجالبة لها. فكان التأويل الباطل سبب الفتنة في الاقوال البدع الباطلة وفي الافعال كالفتن الواقعة. حتى انه لم يزل التأويل يتوسع وكل بدعة. حتى انه لم للتأويل يتوسع. وكل بدعة متأخرة تحدث من التأويلات الباطلة غير ما احدثت التي قبلها. حتى وصلت النوبة الى ابن سينا واتباعه. فتأولوا جميع الشرائع العلمية والعملية. وابطل القرامطة جميع الشرع وفسروا شرائعه الكبار بتفاسير وتأويل يعلم بطلانها الصبيان. فهذه البدع ونحوها اساسها التأويل الباطل المردود واما التأويل الذي يراد به تفسير مراد الله ومراد رسوله بالطرق الموصلة الى ذلك. فهذه طريقة الصحابة التابعين لهم باحسان. وهي التي امر الله ورسوله بها. ومدح الله اهلها. وكذلك التأويل الذي هو بمعنى ما تؤول اليه الامر من العمل بامر الله. ومن وقوع نفس ما اخبر به. فان هذا هو المراد بلفظ التأويل في اكثر نصوص الكتاب والسنة فتبين ان التأويل المردود والباطل الذي اصطلح عليه اهل البدع الذي يراد به صرف النصوص عن معناها الذي اراده الله ورسوله الى بدعهم وطرائقهم. وجعلها تابعة لها. وان المحمود المقبول الذي كان السلف يعبرون به وهو تفسير كلام الله وكلام رسوله على الوجه الذي يوصل الى معرفة مراد الله ورسوله. وكذلك يراد بالتأويل الصحيح العمل بالشريعة فان العمل يراد به ويطلق عليه انه تأويل امر الله ورسوله. كذلك يراد بالتأويل نفس حقيقة ما اخبر الله به ورسوله من الوعد والوعيد والجزاء. فهذا باتفاق الائمة انه التأويل الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة. وهذا من تمام فهم ما انزل الله على رسوله واما التأويل الباطل تأويل اهل الباطل. فمع بطلانه يتضمن عدة محاذير. الكذب على الله وعلى رسوله القول على الله بلا علم. وكذلك الكذب على الفاظ العربية. وحملها على اصطلاحهم الحادث. وكل من دعا تأويلا يخالف ظاهر اللفظ لم تصح دعواه الا باربعة امور لو اختل منها واحد فتأويله باطل احدها ان يأتي بدليل يدل على قوله لانه خلاف الاصل لان الاصل حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته فمن ادعى سواه فعليه البرهان فاذا اتى بدليل على الفرض والتنزيل طولب بامر ثان وهو ان هذا اللفظ الذي تأوله الى ذلك المعنى فيه احتمال له. لانه لابد ان يكون بين الالفاظ والمعاني ارتباط وتناسب. لان الله ورسوله انما كلما باللسان العربي ليعقل العباد معاني تلك الالفاظ. وينتقل من اللفظ الى المعنى المراد بايسر طريق فان اتى بما يدل ويحتمل ذلك المعنى وهيهات له ذلك طولب بامر ثالث. وهو تعيينه المعنى الذي تأول اللفظ له. فهب ان ظاهره غير مراد. فلابد من دليل يعين المعنى الذي صرفه اليه. ويخصص به. فان تخصيصه من دون دليل من باب التكهن والتخرص. لان اللفظ لا يدل عليه بخصوصه وقد يكون القصد به معنى غير الذي عينوه. وقد يكون اللفظ متعبدا بتلاوته ولفظه مجردا عن المعاني وهذا اولى من تحريفهم واتيانهم بمعان ما انزل الله بها من سلطان. وان كان الامران ينافيان حكمة الباء لكن التعبد اهون من التحريف فان فرض انه تأول على غير ظاهره واتى بدليل على الاحتمال وعلى التعيين طولب بامر رابع وهو الجواب عن المعارض لان الدعوة لا تتم الا بذلك. والمعارض للنفي هو جميع الادلة النقلية من الكتاب والسنة دال على العلو والظهور. فان الاستواء حيث عدي بعلى. فانه يدل على العلو والظهور. واما اذا عدي بالى نحو قوله تعالى ثم استوى الى السماء فانه يدل على القصد. واذا قيل استوى كذا وكذا دل على معية سنة والعقلية والفطرة كما تقدمت الاشارة الى بعضها. ومن المحال ان يعارض قول الله ووحيه وتنزيهه وقول رسوله واصحابه والتابعين لهم باحسان باقوال النفات البانين مذاهبهم على المحال فتبين ان المعطلين النافين لا سبيل لهم الى اثبات قولهم ابدا بوجه من الوجوه وهو المطلوب فصل في شبه المحرفين للنصوص وارثهم التحريف منهم وبراءة اهل الاثبات مما رموهم به من هذه الشبهة ذلك ان المحرفين من الجهمية ونحوهم رموا اهل السنة انهم ممثلون. بانهم مشابهون لليهود. لان اليهود على زعمهم ممثلون لله وكذلك اهل السنة ممثلون مشبهون عندهم حيث اثبتوا لله صفات الكمال التي نطق الكتاب التي نطق بها الكتاب والسنة. ودلت عليها العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة لعقول الجهمية. ومن دان بدينه الظانين انهم باثباتهم لصفات الله قد شبهوه بخلقه. فتوهموا هذا بعقولهم ولم يكن لهم من البهت والرمي لاهل السنة بمشابهة اليهود وفي الحقيقة المشابهة التامة لليهود منطبقة على هؤلاء النافيين المحرفين. فان اليهود قد جمعوا بين تبديل للنصوص وبين كتمانها. وبين تحريف ما لا يمكن فيه احد الامرين. وهؤلاء لما لم يمكنهم التبديل ولا الكتمان لان الله نزل الذكر وحفظه فمحال فيه التبديل والكتمان عمدوا الى تحريف النصوص وتبديل معانيها فنفوا المعنى الذي اراده الله ورسوله واثبتوا لها معاني من تلقاء انفسهم. فهذا هو الشبه الحقيقي باليهود. وايضا اليهود لما قيل لهم الباب سجدا وقولوا حطة دخلوا على استاههم وقالوا حبة حنطة تهكما وجراءة على الله. فكذلك هؤلاء لما ذكر الله انه استوى على العرش قالوا معنى استوى استولى اليهود زادوا النون في قولهم حنطة. بدا الحطة وهؤلاء زادوا اللام في قولهم استولى بدل استوى. وهذا قول باطل قد ابطله الائمة من وجوه كثيرة وقد ذكر المصنف في كتابه الصواعق اكثر من اربعين وجها في ابطال هذا التحريف. واليهود قد وصفوا الله بالنقاء والعيوب وهؤلاء نفوا صفاته. وهذا حقيقة التنقيص فصل في بيان بهتانهم في تشبيه اهل الاثبات بفرعون. وقولهم ان مقالة العلو عنه اخذوها. وانهم اولى فرعون وذلك ان الجهمية رموا اهل السنة وسموهم فرعونية. يقولون ان مذهبهم مذهب فرعون. لانهم ان الله فوق خلقه كما اعتقد فرعون ذلك حتى طلب من هامان ان يبني له صرحا ليبلغ الاسباب. اسباب السماوات. فيطلع الى اله موسى. ومن معلوم ان الجهمية اولى بفرعون في هذه الحالة فان فرعون قال تلك المقالة تهكما. وانكارا لرب العالمين تمويها على قومه فانكر علوه وكلامه لموسى ليتدرج بذلك الى انكار رسالة موسى. وكذلك الجهمية حقيقة قولهم هو انكار كلام الله وعلوه على خلقه. الا ان الفرق بينهم وبين فرعون ان فرعون صرح بذلك النفي والانكار هم لم يصرحوا بل موهوا العبارات وزخرفوا الالفاظ وقبحوا الحسن وحسنوا القبيح. وسموا انفسهم اهل الحق وسموا واهل السنة اهل الباطل فاغتر بذلك من لا بصيرة له. وانخدعوا بتلك الزخارف والتمويهات والله المستعان فصل في بيان تدليسهم وتلبيسهم الحق بالباطل وذلك ان كل صاحب بدعة يقصد نصر مقالته يأتي الى الحق الصريح. فيستخرج له الاحتمالات البعيدة والتحريفات اجمالية فان هؤلاء الجهمية موهوا وقالوا لاخوانهم اذا قال لكم المجسم الرحمن على العرش استوى هذا لفظ مجمل فان العرش له عدة معان والاستواء له عدة محامل. فاي المعاني تريد؟ واي المحامل تقصد؟ وعلى ايضا لها عدة معان في العربية فاذا سمع الجاهل هذا التلبيس والتمويه استعظم ذلك ورآه اشكالا واردا يعثر الانحلال عنه. واما المتبصر الذي نور الله قلبه وبقي سالمة فطرته. فان هذا اللفظ عنده ليس فيه اشكال ولا لبس. بل هو من اوضح الاشياء وابينها. فان الالف واللام في العرش للعهد الذي يفهمه كل مسلم انه عرش الرب العظيم. لا غيره من عروش الكرم ونحوها ولو قيل له يحتمل واحد غير هذا لبادر لانكاره. هذا مع اتفاق جميع الرسل وشهادتهم انه استوى على العرش العظيم فكل مؤمن يفهم المعنى من قوله الرحمن على العرش استوى. وكذلك لفظ الاستواء المعدى بعلى. فانه واضح جدا اولى للثاني كقولهم استوى الماء والخشبة. واذا لم يعد فانه يدل على الشدة والقوة. كقوله لموسى ولما بلغ اشده واستوى. فهذه المعاني المتباينة بحسب تعدية هذا الحرف كما ذكر. فعلم علما يقينا ان قوله الرحمن على العرش استوى انه لا اشكال ولا اجمال فيه خصوصا وقد اضطرد اتيانه بهذا السياق بجميع موارده ومصادره. ولم يأت هذا المعنى بلفظ فيه اجمال فلو كان المراد ما قصده الجهمي لاتى به ولو في موضع واحد ليستبين المراد. والمقصود ان الجهمي من تلبيسه جعل هذه الالفاظ محتملة لعدة معاني فينبغي ان يقول والرحمن له عدة معان حتى يستريح ويجعل الرحمن على العرش استوى ليس له معنى. وانما يتبرك بتلاوته. والله اعلم ويترتب على هذا الفصل الذي بعده وهو قوله فصل في بيان سبب غلطهم في الالفاظ والحكم عليها باحتمال عدة معان حتى اسقطوا الاستدلال بها. ذكر في هذا الفصل ان النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تأتي حيث اتت مركبة صريحة في مدلولها لا تحتمل غيره بوجه. هذا حالها في نفسها. وهي كذلك عند والزموهم بلوازمهم فلم يتمكنوا من الرد عليهم لانهم بنوا مذهبهم على اصول الفلاسفة. وقاتلوا اخوانهم المسلمين ذلك السلاح تسلطوا عليهم اعداء الاسلام. وقالوا اما ان توافقونا في كل ما قلناه ونتفق معكم على ماء المحققين الذين عرفوا مقاصد الشارع في مصادره وموارده. وتمرنوا على الفاظه ومعانيه. فكما لا في نصوصه في الاحكام الفروعية فلا يستريبون ايضا في نصوصه في الاصول بل هذا النوع اكثر واعظم بيانا. واشد ايضاحا لاهميته وشدة الحاجة بل الضرورة اليه. ودون هؤلاء مرتبة من لم يصل الى ما وصلوا اليه. لكونه لم يكن له من الاهتمام والاعتناء بكلام الشارع مثلهم ونصوف الشارع عنده ظواهر ظاهرة في معناها في فهمه. وربما وقع له بعض الاحتمالات المخالفة لما عنده من الظاهر فهذا وان كان غير مذموم ولكن لم يصل الى مرتبة الاولين ولم يقاربها. وبينهما فرق عظيم في ابواب العلوم الشرعية وليس هذا لقصور فهمه وعدم ذكائه. وانما هو لعدم اعتنائه بكلام الشارع. وبهذا تجده في مذهب امامه الذي تفقد به جازما بمقاصد امامه ومراده بالفاظه. لكونه بذل جده واجتهاده في ذلك واما القسم الثالث المذموم فهو جمهور اهل الكلام الباطل الذين اصلوا اصولا ما انزل الله بها من سلطان حالت بينهم وبين مراد الله ورسوله حتى جعلوا كلامهم اصلا واضحا محكما. وكلام الله ورسوله تابعا مجملا مشتبها. وما وهو على الناس انهم اهل الحق ومن سواهم اهل الباطل وسموا مقالاتهم باسماء ممدوحة راجت على اكثر الخلق الذين يغترون بزخارف الالف دون النفوذ الى بواطن المقالات وسموا اهل الحق الذين هم اهل السنة والجماعة بالاسماء المذمومة كالمجسمة والمشبهة. وسموا مقالاتهم تجسيما وتنقيصا. ثم عمدوا الى الفاظ الكتاب والسنة الصريحة الواضحة المركبة ففكوا تركيبها. وتكلموا على مفرداتها انها تحتمل عدة معان من حيث كونها مفردة. فاسقطوا الاستدلال بها. وذلك ان المجردات اللفظية والمعنوية لا وجود لها في الخارج والاعيان انما يفرضها الذهن فرضا. وهو غالط في ذلك الفرض. فانه لا يستفاد من لفظ مجرد عن التركيب والقيود معنى واصلا وانما تستفاد المعاني بانضمام الالفاظ بعضها الى بعض. تركيبا صحيحا. فهؤلاء المنحرفون من اهل الكلام عمدوا الى المركبات فافردوها ثم حكموا على مفرداتها بعدة احتمالات. ثم نقلوا المفردات الى المركبات. فجعلوها تحتمل تلك الاحتمالات فاسقطوا الاستدلال بها بجهلهم وتجهيلهم وتدليسهم على الناس. وهذا كما فعل الفلاسفة في المعاني المجردة كالوجود المطلق عن كل قيد فحكموا بوجوده خارجا. فضلوا واضلوا كثيرا. فزعموا وجودا مطلقا مجردا عن كل قيد وحيوانا مجردا وانسانا مجردا ونحو ذلك مما هو مفروض ومقدر في الاذهان فرض محال. لانه لا وجود له في الخارج. وكلما تصوره الذهن مما لا يمكن كان خيالا لا حقيقة له. والحاصل ان الالفاظ المجردة كالمعاني المجردة عن كل وصف وقيد مفروض بالذهن غير موجود اصلا والله اعلم فصل في بيان تناقضهم وعجزهم عن الفرق بينما يجب تأويله وما لا يجب. وذلك ان المتكلمين من جهمية ومعتزلة وقدرية وكلابية واشعرية قد اشتركوا في نفي صفات الباري. وان كانوا مختلفين متفاوتين في كثرة المنفيات وقلتها وكل فريق منهم فيما ينفيه من الصفات اذا وردت عليه النصوص من الكتاب والسنة في اثباتها اولها تأويلا ينفي ما تدل عليه من المعاني الصريحة الظاهرة الحقيقية. وصرفها لمعان باطلة لاجل موافقة نحلته وشجعهم على هذا التأويل الباطل انهم سموا المعاني الفلسفية والاصول اليونانية قواطع عقلية او براهين صينية وادلة الكتاب والسنة ظواهر لفظية قابلة للتأويل. فسطو عليها بالتأويلات الباطلة التي يجزم كل صحيح الفطرة سليم العقل انها خلاف مراد الله ورسوله منها. ثم انهم لابد ان يثبتوا اشياء ويمنعوا من تأويلها. ومن تأولها انكروا عليه غاية فصاروا بهذه الحال مذبذبين لا من النافين للرب المعطلين له كالفلاسفة ونحوهم. من كل زنديق خارج من الدين. ولا من اهل السنة والجماعة المثبتين ما اثبته الله لنفسه. واثبته له رسوله على الوجه الذي يفهمه كل احد لم تفسد عقيدته القوام اعدوا الباطلة والمقالات الفاسدة. فصاروا اعداء للطائفتين وانقطعوا حين مخاصمتهم لكل من الفريقين. وكان الفلاسفة تعترض عليهم بما وافقوهم عليه من الاصول الباطلة كيف لا يطردونها ويصيرون مثلهم؟ ويلزمونهم بان تأويلاتهم لما تأولوه كتأويلات الفلاسفة لجميع نصوص الكتاب والسنة فلاي شيء صاغ تأويل الجهمية واتباعهم ولم يصغ تأويل الفلاسفة الزنادقة. فاخذوا بخناقهم حرب مجسمة الذين هم اهل السنة والجماعة الذين اثبتوا كل ما جاء في الكتاب والسنة واما ان توافقوهم واما ان تكونوا مذبذبين لا منا ولا منهم ومعلوم ان مقالة تسلط اعداء الاسلام عليهم الى هذا الحد لمن ابطل المقالات واشنعها. وكان اهل السنة والجماعة ينكرون عليهم النفي والتعطيل. ويقولون لهم هذا خلاف ما اتى به البرهان والدليل. ويقولون لهم جميع الصفات من العلو والاستواء والكلام وغيرها في الوحيين صريحة لا ريب فيها. ولم يفرق الكتاب والسنة بينهما. بل ولا العقل الصحيح والفطر المستقيمة تفرق بينها. فبأي شيء فرقتم بينها؟ فاثبتم اشياء ونفيتم اشياء. ومصدرها واحد وموردها واحد فعجزوا عن الفرق الصحيح. وتشبثوا بفروق لفظية لا حقائق لها ادعى بعضهم ما اشير اليه في هذا الفصل فصل في المطالبة في الفرق بينما يتأول وما لا يتأول. وهذه المطالبة للكلابية ومن تبعهم من الاشعرية الذين يثبتون الصفات السبع وهي الحياة والعلم والكلام والقدرة والارادة والسمع والبصر. وينفون ما عداها من الرحمة والرضا والغضب والعلو والاستواء على العرش وغيرها واذا قيل لهم فرقوا بينما اثبتم وما نفيتم. اذ الجميع وردت كلها في الكتاب والسنة ورودا واحدة مثبتة لله تعالى كسائر ما يثبت له من الاسماء والصفات. فكيف تأولتم ما نفيتم وتركتم ما اثبتتم قالوا ما يفضي الى التجسيم تأولناه. لان الجسم من خصائص المحدثات المخلوقة. فهذا الذي اولناه ما نعقل منه الا التجسيم. فيتعين فيه التأويل بخلاف الصفات السبع. فانها لا تدل على التجسيم بل تثبت لله على الوجه اللائق بجلال الله تعالى وقال لهم اهل الاثبات هلا سلكتم هذا المسلك في الصفات الاخر؟ واثبتموها لله على وجه لا يماثله فيه احد من خلقه بوجه من الوجوه كما هو الحق فتفريقكم بين الامرين تفريق بين متماثلين فاذا قلتم ما نفهم من هذا الذي تأولناه الا التجسيم فتعين نفيه. قال لهم النفاة من الجهمية ونحوهم ما افهم من الصفات السبع الا التجسيم. فتعين نفيها. فما اجابوا به الجهمية من انهم يثبتونها وينفون عنها خصائص المخلوق يقول لهم اهل السنة فاطردوا هذا في باقي صفات والا بينوا الفرق ومن المعلوم انهم لا يهتدون الى الفرق ولو نوقشت شيوخهم لعلمنا ان المماثلة بين الامرين امر يقيني قطعي لا تؤثر فيه الشبهات والفروق الخيالية لي فلذلك فر بعضهم الى فرق اخر. فقال ما دل عليه العقل وهي الصفات السبع اثبتناها. فان وجود المخلوقات دال على القدرة وما فيها من التخصيصات دال على الارادة. وذلك دليل العلم والعلم والقدرة والارادة تدل على الحياة والحياة الكاملة تدل على السمع والبصر والكلام. وما لا يدل عليه العقل نفيناه. وهو ما سوى الصفات السبع. وقال لهم اهل سنة هذا عجيب منكم. كيف انكرتم التجسيم غاية الانكار؟ وقامت لذلك قيامتكم وزعمتم ان كل موصوف هو جسيم ثم اثبتم هذه الصفات السبع ولم تتحاشوا من كونها دالة على التجسيم فان كان في العقل ما يدل على التجسيم فانفوا هذه الصفات السبع وكونوا كالجهمية. وان كان فيه ما يدل على ثبوته. فلاي شيء ان تفرون من اثبات ما اثبته الله لنفسه واثبته له اعلم خلقه واتقاهم واورعهم واذا قلتم انه منفي في شيء دون شيء. فهاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. ويقال ايضا نفي الدليل المعين لا يدل على نفي المدلول. وقدروا ان هذه الاوصاف لم يدل عليها العقل. السمع قد دل عليها دلالة جليلة قاطعة ودلالة السمع دلالة شرعية يقينية. متفق عليها بين حملة الشريعة. فيجب اتباع الدليل السالم عن المعارض المقاوم ثم يقال ايضا قد ثبتت كثير ثم يقال ايضا قد ثبتت كثير من الصفات الخبرية بامور عقلية عيانية. فما في المخلوقات من انواع المنافع والمصائب والنعم يدل ذلك على رحمة الخالق وما فيها من اكرام اوليائه واهانة اعدائه دليل على رضاه وعلى سخطه. وما فيها من احكام المخلوقات والشرائع دال على كمال حكمة الله تعالى. فهذه الصفات ثابتة شرعا وعقلا وفترة. فعلم ان المفرقين في ضلال مبين فصل في مخالفة طريقهم لطريق الاستقامة عقلا ونقلا. ذكر المصنف رحمه الله ان طريق اهل الكلام الباطل مخالف لطريق اهل الاستقامة من جهة التأصيل والتفريع. وذلك ان اصل طريقهم الذي بنوا عليه قواعدهم واقوالهم واعمالهم لهم ان رأي متبوعهم وشيوخهم وعقولهم هو الاصل الاصيل. وهو النص الواضح الذي توزن به جميع المقالات اذا جاءهم كلام الله وكلام رسوله مخالفا لهذا الاصل قالوا هذا متشابه يحتمل عدة معان. وكلام متبوعنا نص لا احتمال فيه. فان امكنهم التأويل والتحريف اولوا و والا قالوا متشابه لا يعلمه الا الله. واذا قيل لهم هذا بيان الله ورسوله ما فيه اشتباه ولا اشكال اجابوا باننا مقلدون ومتبوعون اعلم منا بمراد الله ومراد رسوله. فهذا من اعجب العجب كيف اهتدوا مع اعترافهم التقليد والعجز عن الاستدلال بتعيين اولوية ذلك المتبوع على غيره. بل بوجوب اتباعه واهدروا اقوال من سواه كيف نهض بهم الاستدلال الى هذا الحد وهو من اصعب الاشياء. وعجزوا عن الاخذ عن الله ورسوله. مع استيلاء ذلك على غاية البيان والبلاغة. ولا شك ان هذا غاية ما يكون من الحرمان. والمقصود ان طريقة هؤلاء المتكلمين اخبث الطرائق حيث جعلوا اصولهم التي تلقوها عن المنحرفين ميزانا لكلام الله وكلام رسوله. اما طريقة اهل الاستقامة انها بالعكس في هذا الطريق بل سلكوا الصراط المستقيم. واتبعوا بذلك سيد المرسلين واصحابه والتابعين لهم باحسان حيث كان اصل دينهم الذي اليه يرجعون وايتاؤهم الذي عليه اصولهم وفروعهم يعتمدون هو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. حيث فيها الهدى التام والشفاء والكفاية والغنى عما سواهما. تصدقوا اخبارهما اوامرهما بالامتثال ونواهيهما بالاجتناب وعلموا ان الحق ما اشتملا عليه. وليس بعد الحق الا الضلال. وعرضوا جميع العقائد والمقالات عليهما. فما وافق ذلك قبل وما خالفه ردوه على من قاله. وعلموا ان كل احد من الخلق يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه سلم وما اشكل عليهم هل هو موافق او مخالف من المقالات الغامضة والالفاظ المشتبهة؟ توقفوا فيه ولم يحكموا له بقبول ولا رد. حتى يتبين حاله فهذه الطريق هي المنجية العاصمة من المهالك الكفيلة ببيان الحقائق وهدي الخلائق التي من استمسك بها فقد استمسك الوثقى والسبب الاقوى. فان النقل نقل مصدق والقائل معصوم. واما غيره فنقل غير مصدق بل يعتريه الكذب والتغيير شيء كثير. ثم القائل غير معصوم ولو سوق لاحد بقوله في ادنى مسألة من مسائل الدين فضلا عن اصوله فضلا عن تقديمه على الاصول الكبار. فهذا تحقيق الفرق بين الطريقين. واليكم الترجيح يا اولي الالباب فصل في بيان كذبهم في رميهم اهل الحق بانهم اشباه الخوارج وبيان شبههم المحقق بالخوارج قال المصنف من العجائب انهم قالوا لاهل السنة والجماعة الاخذين لكتاب الله وسنة رسوله. انكم مثل الخوارج. حيث اخذوا ظواهر النصوص فكفروا امة محمد وانتم اخذتم بظواهرها. فاثبتم ما هو ممنوع اثباته من صفات الله المقدسة فضللتم كما فعل الخوارج هذا وجه تشبيههم لاهل الحق بالخوارج. والعجب انهم كما قال القائل رمتني بدائها وانسلت. فانه انبهر اهل السنة بذلك وهم احق الناس بمشابهة الخوارج. فانهم سلوا عن سنن الرسول واتباعها سيفين كيف اللسان بتبديعهم وتكفيرهم وتضليلهم ومحاربة ما هم عليه. وسيف اليد. فكم لهم على هذا من قتيل وجريم وسجين وطريد. كما هو معروف في سيرهم في زمن الامام احمد وبعده. بل الخوارج وان سلوا على المسلمين سيف يد وسيف لسان فهم اعذر منهم. من جهة ان الخوارج كفار من ارتكب الجرائم والمعاصي واما هؤلاء فكفروا بمحض اتباع السنة. ويتميز اهل الكلام عن الخوارج بالتعطيل والتحريف. واولئكم الخوارج مثبتون لصفات ربهم خير من الجهمية من هذه الجهة. وايضا فالخوارج تركوا نصا لنص اخر. ضل فيه ولم يهتدوا الى الصواب. وهؤلاء تركوا النصوص للشبه العقلية والاراء الفلسفية. والخوارج قدموا ما فهموهم من الكتاب وان كانوا فيه ضالين. وهؤلاء قدموا ما اصلوه من اراء الرجال. فعلم من هذه الامور انهم يدركون الخوارج في ضلالهم وبدعهم ويزيدون عليهم في الضلال والشر اضعافا مضاعفة. واهل السنة وان كانوا برءاء امين الطائفتين ويدينون الله ببغضهم ومعاداتهم. فالحق احق ان يقال والواجب معرفة مراتب الاقوال وتنزيل الامور منازلها والله اعلم ثم ذكر المصنف تفاصيل اخر تحقق مشابهتهم للخوارج. حيث قال الخارجي لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد اعدل. وقال ايضا هذه قسمة ما اريد بها وجه الله. فاستدركوا على الرسول في عدله وحكمه وقسمه هؤلاء الجهمية استدركوا على الله وعلى رسوله امورا كثيرة. فلما اخبرهم في غير اية انه استوى على العرش قالوا انه استولى ولما اخبرهم انه ينزل الى السماء الدنيا زعموا قبحهم الله انه ينزل امره لا ينزل بنفسه وان الرسول شوش على الناس في اخباره في نزول ربه. وانه يقتضي التحرك. وكذلك لما نفوا نصوص العلو التي من جملتها صعود الملائكة والارواح والانبياء. وعروج الرسول اليه. قالوا في ذلك كله. الصواب انه يعرج الى محله كرامته وان توجه العباد الى العلو لانه قبلة الداعين ليس توجههم الى رب العالمين. وانه لا يشار الى الله اشارة حسية. وان اشارة الرسول اوقعت الناس في لبس عظيم. حيث علموا منها علو الله على خلقه. وان الصواب انه لا داخل العالم ولا خارجة. ونحو ذلك من التحريفات التي حرفوها. واستدركوا بها على الله ورسوله. ولما فصل المؤلف تلك التفاصيل وابداها بحقيقتها التي يشيرون اليها ولا يصرحون قال يا من يظن باننا حثنا عليهم كتبهم تنبيك عن دشان. الى اخر ما ذكره حتى ذكر رحمه الله انه وقع في شباكهم في اول امره ومبتدأ طلبه للعلم حتى من الله عليه بالهداية التامة بسبب شيخ الاسلام ابن تيمية حيث بين له ولغيره حقيقة الدين وقول الحق في جميع اصول الدين. ورد اقوال المبطلين حتى ظهرت بصورتها القبيحة. فتبين ضلال رؤساء اهلها وسفههم. فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين افضل الجزاء. والحاصل وان اهل السنة والجماعة تبعوا ما قاله الله ورسوله. وهم اعلم الناس بمراد الله ومراد رسوله. ولم يزيدوا على ذلك شعرة ولم ينقصوا منه ذرة. وكلام الله وكلام رسوله اجل في صدورهم واعظم في نفوسهم من كل شيء. واسهل بشيء عليهم رد كلام الناس كلهم من اولهم الى اخرهم. اذا خالفوا نصا واحدا من الكتاب والسنة. فبالله عليك اشبه بالخوارج واولاهم بهم. والجواب لا يحتاج الى ذكر لانه قد ذكر من تحقيق مشابهتهم بهم وزيادتهم عليهم امورا كثيرة. فحيث تبين الحق فان كنتم منصفين فاتبعوا الصواب. وان ابيتم الا الرضا بما انتم عليه. فاعذروا اهل السنة والجماعة بابداء معائبكم وذم مقالاتكم. وان عارضتم فابرزوا لاهل السنة والجماعة واجمعوا امركم وشركاءكم وكيدكم. فقد تبين الحق من الباطل. والحمد لله على منته وتوفيقه فصل في تلقيبهم اهل السنة والجماعة بالحشوية. وبيان من اولى بهذا الوصف المذموم من الطائفتين سبب تلقيبهم اهل السنة بالحشوية انه تقرر عندهم انهم اهل العلم والايمان والتوحيد. اذ التوحيد والايمان عندهم نفي الصفات. فمن لم يتصف بوصفهم فليس له من العلم والايمان الا اسمهما. ولا من الحقائق الا رسمهما. فلذلك كان اهل السنة حشو الوجود وفضلة في الناس. وغثاء كغثاء السيل. وبعض جهالهم يظن انهم يعتقدون ان البارئ تعالى في جوف السماوات والارض وانه حشوها. وهذا غاية ما تكون من الجهل اذ لم يقل بهذه المقالة احد من الناس وابعد الناس عن هذا القول هم اهل السنة والجماعة. فان من اعتقادهم ان السماوات وما فيها من العوالم والاراضين وما فيها من المخلوقات في قبضة الرحمن اصغر من خردلة في كف ممسكها. وله من العظمة والكبرياء والقدس ما لا تدركه عقول العالمين ولا تناله صفات الواصفين. فكيف ينسب اليهم هذا القول الدال على ان من قاله لم يقع في قلبه من عظمة الرب ادنى شيء. ولا قدر الله حق قدره. المقصود انهم اختلفوا في وجه تسمية اهل الحق بهذا الاسم هل هم حشو زائد في الانسان او كما قاله جهالهم من تلك المقالة التي لم تخطر بقلب انسان لاهل السنة اسوة بامثالهم من الصحابة. فانه ذكر ان اول من سمي بهذا الاسم عمرو بن عبيد المعتزلي سمي عبيد الله بن عمر بن الخطاب. فان كانت تسميتهم لاهل السنة بهذا الاسم. لاجل اتباعهم ما قال الله وقال له رسوله صلى الله عليه وسلم اهل السنة ولله الحمد لا يتركون السنة لاجل تشنيع المشنعين. وان كان من اتبع الكتاب والسنة حشوية فانهم يشيرون دونهم وغيرهم انهم حشوية بهذا المعنى. والشأن في المعاني لا في الاسماء. اما الذين هم احق بهذا اللقب المذموم انهم اهل الكلام والباطل الذين حشوا القلوب والاوراق من الهذيان والافتراء. وفرحوا بما عندهم من العلوم الباطلة المخالفة لعلوم الرسل هؤلاء الحشوية لا اهل السنة الذين حشوا القلوب علما وايمانا واناروا الوجود صدقا وايقانا. ووردوا عذب المناهل وهو عين حيث ورد غيرهم زبالة الافكار ونتن الاراء. ولله في خلقه حكم واسرار. وشبيه هذا الفصل الفصل الذي بعده في تلقيبهم اهل السنة والجماعة بالمجسمة والمشبهة ونحوهما من الاسماء. حيث اثبتوا صفاته التي نطق بها الوحي ويجيبونهم اهل السنة بان اثباتنا ذلك اما انه لا يقتضي ما قلتم من التجسيم فيكون رميهم لنا من باب البهت والافتراء. واما ان يقتضي ذلك فان اقتضاه لم نترك ما دل عليه الكتاب السنة لاي لازم يلزم ولا لاجل شناعة المشنعين. وذكر رحمه الله ان بين اهل السنة والجماعة بين اهل الباطل فرقا عظيما جدا. وان اهل السنة يقولون ما دلت عليه النصوص فهو حقيقة مراده. مبنية بينة غاية التبيان. فلا بعد بيان الله ورسوله بيان. وما خالف هذا الحق فهو باطل. وهذا هو التوحيد والدين الذي بعث الله له جميع الرسل. ونزلت به جميع الكتب بخلاف توحيد المتكلمين. حيث جعلوا ظواهر النصوص غير مرادة وهو مجاز. مع ان المجاز يصح نفيه وفي نفيه من الكفر ما لا يخفى. مع قولهم ايضا ان حقائق الالفاظ منتفية بالعقل. فاذا انتفت الالفاظ والمعاني فما بقي من الدين. وما بقي من كلام ربك العالمين ونصوص سيد المرسلين. فالنفي والتعطيل للحق والحقائق سيما هؤلاء المتكلمين والذم نعت لهؤلاء المبتدعين والحمدلله رب العالمين فصل في بيان موارد اهل التعطيل. وانهم تعوضوا وانهم تعوضوا بالقلوط عن مورد السلسبيل. قال المصنف رحمه الله في هذا الفصل ان اهل التعطيل صار اخبث الموارد وانتنها. حيث اختاروا الشرب من القنوط. وهو النهر المعروف في دمشق المار على اوساخها امتانها الحامل لها. الذي اختلط به كل عذرة وبول وامور خبيثة. فاغتروا بصفاء ظاهره. ولم ان الدواهي في بواطنه. وكسلوا عن ورد رأس الشريعة ومنبع النهر. فهذا مثل ضربه المصنف ليقرب الامور المعنوية من الامور الحسية. فيحصل زيادة فهمها. وذلك ان الشريعة وهي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي اطيب الموارد واهنئها وامرؤها بسهولته وسعته وقربه وتيسيره. فان فهم الاصول والفروع والحلال والحرام الهدى والضلال في الوحيين ايسر الاشياء. كما قال تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ومع ذلك فان اثاره في القلب واللسان في الانابة الى الله. والتحلي بالايمان به وتوحيده العلمي والعملي. وفي اللسان من الثناء على الله وذكره وذكر صفاته ودينه. والجوارح في اشتغالها بطاعة الله وطاعة رسوله. احسن الاثار فان القلب متى صلح بالايمان الصحيح صلحت جميع الجوارح. وعكس ذلك متى فسد القلب بالعقائد الباطلة الاراء الزائغة عن الاستقامة فسدت الجوارح واختلت عن استقامتها وانحرفت الى كل خلق ذميم وعمل قبيح نسأل الله السلامة والعافية فصل في بيان هدمهم لقواعد الاسلام والايمان بعزلهم نصوص السنة والقرآن. حقق المؤلف رحمه الله في هذا فصل عزلهم للنصوص القرآنية والاحاديث النبوية بما اصلوه من الاصول الباطلة. حيث اصلوها ثم قدموها عليها. فانهم ان ما هم عليه من علوم الفلاسفة واليونان ونحوهم. امور يقينية وصرائح عقلية. وما دل عليه الكتاب والسنة ادلة لفظية تحتمل عدة معان. فقالوا اذا تعارض العقل والنقل قدم العقل. لانه اصل النقل به يعرف النقل. ثم انهم جعلوا ما دلت عليه عقولهم التي ما استنارت بنور الايمان ولا وصل لها شيء من الايقان. بل استمدت من زبالات الاراء ونحاته الافكار. والعقائد الباطلة جعلوها هي العقول التي توزن بها النصوص وتولد من ذلك عزل النصوص القرآنية والاحاديث النبوية عما دلت عليه من الحق. ولكن جعلوها لها الاسم والرسم. وسموا انفسهم اتباعها. وجعلوا الطاعة والحكم لغيرها فما وافقهم منها قبلوه. وما خالفهم رأيهم حرفوه وبدلوه اما اهل السنة والجماعة فقد بينوا ما في هذا الاصل الباطل من الضلال. وما اشتمل عليه من المحال. وقرروا ان ادلة الكتاب والسنة السنة لا تتناقض لانها من عند الله وما كان من عند الله لا يمكن ان يحصل فيه ادنى تناقض ومخالفة. وكذلك العقد الصريح وهي القضايا التي اتفق العقلاء على مضمونها. لا تأتي بما يخالف النص. بل العقل مع النقل له ثلاث مقال ومات من يشهد بما دل عليه الشرع وذلك بما اشتمل عليه الدين من المحاسن والاحكام ومن المصالح واما الا تهتدي العقل لتفاصيلها كامور البرزخ والجنة والنار. مما ليس للعقول مجال في معرفتها. وانما العقل يسلم وفيها للشرع لتيقنه لصدق الشارع وانه لا يقول الا الحق. واما ان يأتي الشرع بما تحار فيه العقول ولا تعرف وجهه ولا حكمته. وهذا الذي اصطلح الفقهاء على تسميته بالتعبد. فهذه الامور الثلاثة التي ارد الشرائع بها. واما انها ترد بامر يشهد العقل الصريح ببطلانه. فهذا من المحال الممتنع لكون الحق لا يتناقض والامور اليقينية لا تتعارض. فحيث توهمت التعارض في ذلك فهو لاحد امرين لا ثالث لهما اما ان العقل فاسد ليس بصحيح يظنه صاحبه عقلا وانما هو جهل ويخاله حقيقة وهو خيال. فمخالفة ما هذا شأنه؟ لا عبرة به واما ان النقل غير صحيح. فالنقل غير الصحيح ليس من الشرع فلا تتصور المعارضة. واذا بنى المؤمن ايمانه على هذا الاصل العظيم فقد استقام ايمانه وتم ايقانه واهتدى للحقائق وسلك حسن الطرائق. ومتى سلك الطريق المخالف لهذا؟ فهو ضال زائغ. والله يهدينا واخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العلم بالحق واتباعه. ومعرفة الباطل واجتنابه. انه جواد كريم فصل في بطلان قول الملحدين القائلين ان الاستدلال بكلام الله وكلام رسوله لا يفيد العلم واليقين وهذا الفصل شبيه بالذي قبله. الا انه قرر في هذا الفصل وجه استدلال الملحدين. واتى به على صورته ثم نقضه فانهم قالوا ان الهدى والعلم واليقين والقطع لا يستفاد من الكتاب والسنة لانها ادلة لفظية لا تدل على يقين. وفيها من الاشتراك والاجمال والاحتمالات والمجازات والادمار والحاجة والتخصيص ما يوجب التوفيق في مدلولها. وايضا فالسنة اغلبها احاد. والاحاد عندهم لا تفيد سوى الظن