السَّلام عليكم ورحمة الله عندما نقول للأنثى: لا تهربي من إصلاح ذاتكِ وتزكية نفسكِ إلى البحث عنها في أجواء الدِّراسة الجامعيّة والعمل، فإنَّ الَّذي يتبادر إلى ذهنها أننا نقول لها: يا أختي، تزوَّجي واقْعُدي في البيت! ركِّزي اهتمامَكِ على زوجكِ وأولادكِ وكفاك الله!. لا ثم لا! بل كَمَا أننا لم نَنصحْك بالهروب من مواجهة نفسكِ وإصلاحِها إلى الجامعة والعمل، فنحن أيضًا لا ننصحُك بالهروب منها إلى الزَّواج. الَّتي تزوجت أعطيناها -وسنعطيها- مفاتيحَ لنجاحها زوجةً ومربيةً -بإذن الله، أما التي لم تتزوج بعد والَّتي لم تحقق النَّجاح في المستوى الأول الأساسي -الَّذي تكلمنا عنه في علاقتها مع الله وعلاقتها مع نفسها- فكثيرًا ما يكون زواجها هُروبًا وإِخلالًا بالأولويات وبحثًا عن الذَّات بطريقةٍ خاطئةٍ أيضًا، كَمَا قلنا عن الخروج للدِّراسة والعمل المهنيِّ دون تحقيق النَّجاح في الأساسيّات. وبالمناسبة، فمفهوم العلاقة مع النَّفس مشحونٌ بمعانٍ كبيرةٍ لا يدرك السَّامع أبعادها وأهميتها عادةً، مع أنَّها الأخطر والأهم؛ لذا -وحتى لا يبقى الكلام عامًّا- سنوصيكم في ختام هذه الحلقة بخارطة طريق التزكية للنَّفس عبر قراءاتٍ ومقاطع نافعةٍ -بإذن الله. الأنثى المهْمِلة لتزكية نفسِها، والَّتي نجحت المنظومة العولمية في شحنها عاطفيًا بخيالاتِ الرُّومانسيَّة الهوليوديَّة، والَّتي أُقنعت أنَّها يجب أن تكون غير مطمئنةٍ ولا سعيدةٍ ما لم تلبِّ هذه الشُّحنة العاطفيَّة؛ لأنها لا تأنس بنفسها ولا بعلاقتها بربها، فإنَّها في أحسن أحوالها ستنظر للزواج على أنَّه المُتَنفَّسُ الشَّرعي لشحنتها العاطفيَّة، وأنَّها ستحقِّق بهذا الزَّواج سعادتها، فتَدخل على الزَّواج بهذه النَّفسية وبهذه التَّوقُّعات العالية المُضخَّمة غير الواقعية، وتنتظر من شريكِ حياتها أن يَملأ فراغ نفسها بمثلِ ما رأَتْه من الرَّومانسيات التَّمثيليّة، وأن يستمرَّ الحالُ على ذلك. والحقيقة أن الزَّواج ليس كذلك، حتى إن كان سويًا ناجحًا، وحتى إن بدأ بفترةٍ من متعة العلاقة الجديدة، فإنَّه لا بدَّ بعد ذلك من الاعتياد والدُّخول في عجلة الحياة الأسرية ومتطلَّباتها ومسئولياتها، فما بالكم بمجتمعاتنا الَّتي تعيش واقعًا سياسيًّا واقتصاديًّا صعبًا لا يستطيع الزَّوج أن ينفكَّ عنه بالكلِّية؟ لكن تبقى في الزَّواج النَّاجحِ علاقةُ المودَّة والرَّحمة. لكن الأنثى الَّتي لم تنجح في الأساسيات تدخل بفراغٍ نفسي وتوقعاتٍ عاليةٍ غير واقعية، توقعاتٍ شحنتها بها الصورة الإعلامية الكاذبة المخادعة للعلاقات غير الشرعية، وقد أريناكم واقع هذه العلاقات في الغرب في حلقة: (البوكس الرُّومانسي). فلا تجد الأنثى ما توقعته من الزَّواج، بل وتجد فيه مسئولياتٍ لم تُوطِّن نفسها على تحَمُّلها، فيصبح الزَّواج نكْسةً لها وعبئًا، وتبحث عن مهرب، مهربٍ إلى ساحة تحقيق الذَّات بالطَّريقة الرَّأسمالية والعولمية أو إلى مواقع التَّواصل الاجتماعي، فتبحثُ عن ذاتها الضَّائعة مع الجماهير وتعليقاتهم وإعجاباتهم، وتنتظر منهم مديحًا وثناءً يلامس شيئًا من عاطفتِها الَّتي لم تجد إشباعها في الزَّواج، ولربَّما -إن قلَّ ورعها أكثر من ذلك- تبحث عن ذاتها الضَّائعة عند المدير في العمل، أو زميل العمل أو الدَّراسة. فهربت من نفسها إلى الزَّواج، ثمَّ ها هيَ تهرب من نفسها وزواجها إلى إكمال الدَّراسة أو المهنة، أو وسائل التَّواصل، أو العلاقات غير المنضبطة، وإذا أنجبت أنجبت أبناءً متضعضعين نفسيًا ضائعين مثلَها. الزَّواج -يا كرام- استجابةٌ لدوافع فطريَّةٍ غريزيَّةٍ أوجدها الله لاستمرار الحياة، لكن هذه الدوافع تمَّ تأجيجها بطريقةٍ مشوهةٍ لدى الشباب والفتيات، فوَلَّدت لديهم مشكلاتٍ نفسيةً وتَوَتُّرًا، حتى أصبحت الدّوافع الغريزيَّة في نظرهم مشكلةً حلَُها في الزَّواج، فيتوقَّعان أن تَحصُل معجزةٌ بالزَّواج، وتُحلَّ مُشكِلاتُهما هذه، حتى أصبحت هذه ثقافةً مجتمعيةً كما نسمع من الآباء والأمهات الَّذين يعوَّلون على أن ينصلح ابنهم بعد الزَّواج تحت شعار: (حينما يتزوج سيعقل) لكن الَّذي يحصل عادةً هو أن كلًّا من الطرفين غيرِ المُؤهَّل نفسيًا يُعوّق الآخر وهو يتوقَّع منه أن يُحيِِيَه. الزَّواج ليس مهربًا مقبولًا من إصلاح الذَّات، ولا مصحّةً نفسيةً، ولا تفريغًا لشحنةٍ مشوَّهةٍ، ولا حلًا لمشكلةٍ مصطنعةٍ، ولا تحقيقًا لرومانسياتٍ واهمةٍ؛ الزَّواج نعمةٌ -يَمتَنُّ الله بها علينا- وسكينةٌ ومودةٌ ورحمةٌ ونواةٌ الأسرة الَّتي هي الحصن الأساس للأمة أمام أعدائها. لكن حتى يكون الزَّواج كذلك، نحتاج أن نُطيع ربَّنا في الإقبال على هذا الزَّواج والاستعداد له، لكن كثيرٌ من شبابنا وفتياتنا يهملون ذلك كلَّه، بل وتبلغ غفلتهم عن الله ذروتها ليلة حفل الزَّواج بما يمارسونه من ممارساتٍ هي بمنزلة الإعلان عن دخول الزواج مع الفشل في الأساسيات من حسن العلاقة مع الله، ثمَّ ينتظرون بعد ذلك حياةً سعيدةً، بل وبالغة السَّعادة والرَّومانسية. نعم، هنالك حالاتٌ انصلح فيها حال الأزواج، وحُلَّتْ مشكلاتٌ لديهم مع أنَّهم دخلوا الزَّواج غير مؤهّلين بالتأهيل الَّذي ذكرناه، لكن هذا ليس الأكثرَ ولا الأعَمَّ، ولا الثقافةَ التي ينبغي أن تُكرَّس في المجتمع عن مؤسسة الأسرة، ولا المبرِّرَ للإقبال على الزَّواج مع إهمال النَّفس وتزكيتها. قبل الزَّواج، تحتاجين أن تزكّي نفسك، وتَطلبي العِلْم النَّافع، وتَصِلِي إلى حدٍّ من الطُّمأنينة، وإصلاح العلاقة مع النَّفس ومع الله، ووضوحِ الأهداف وترتيبِ الأولويات الَّتي ذكرناها في الحلقات السّابقة، تحتاجين هذه النَّفس المرتاحة المطمئنة لتكوني راضيةً مستقلّةً نفسيًا وعاطفيًا حتى وإن لم يُقَدَّر لكِ أن تتزوجي، وتحتاجين هذه النَّفس إذا تزوجتِ؛ لترجعي إليها وتُعَبِّئي وقودًا، وتَعودي لتُنْفِقي منه على الزَّوج والأولاد. وكذلك الزَّوج يحتاج أن يعمل على هذا كلِّه، بحيث يكون الزَّواج جزءًا من تحقيق الأهداف الصَّحيحة الَّتي حددتماها ضمن طريق العبودية لله -تعالى- بمفهومها الشَّامل. وحينئذ، إذا نجحت في هذا المستوى الأساسي من تزكية النَّفس، فسواءٌ تزوجتِ أم لم تتزوجي، أو كنتِ مطلقةً أو أرملةً، أو زوجُك بعيد عنك لأسباب، أو لا يؤدي دوره النَّفسيَّ والعاطفيَّ تجاهكِ، إذا عملْتِ على تزكية نفسكِ، فلذَّةُ الكفايةِ النَّفسية ولذَّة نجاحكِ في الأساسيات -الَّتي تحققينها واقعًا- ستكون أعظم من الأحلام المبالغ فيها والَّتي تبحثين عنها في السَّراب أعظمَ طمأنينةً وتحقيقًا للرضى في الدَّنيا ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [القرآن 16: 97] ثمَّ في الآخرة حيث السَّعادة الأبدية. نحن لا نُصَعِّب الزَّواج -يا كرام- بل نسعى لإنجاحه، ولا نطالب قبل الإقدام عليه بإيمانٍ كإيمان عليٍ وفاطمة -رضي الله عنهما، ونعلمُ أنَّ النَّفس البشرية يُعاودُها الضَّعف والتَّقصير، لكن يحتاج شبابُنا وفتياتُنا إلى الحدِّ الأدنى مما ذَكرْنا، وإلى تربيةِ النَّفس عليهِ قبلَ الزَّواج، لا أن نقولَ: (الزَّواجُ سنةٌ) ونهملَ كلَّ ما قبله من الفروض والسُّنن المتعلقةِ بإنشاءٍ ناجحٍ لمؤسسة الأسرة. التَّزكية هي طريق حياة، وليس من الصَّواب أن نشترطَ مستوًى مِثاليًا من التَّزكية والصَّحة النَّفسية قبل الزَّواج وإلا فلا، ونوقفَ عجلة الحياة حتى ذلك الحين، بل نحن -إخواني- تعرَّضنا لتجهيلٍ ممنهجٍ، وأزمةُ التَّربية والتَّزكية والصَّحةِ النَّفسية هي أزمة مجتمعٍ بأكمله، ولن تُحلَّ باستنفارٍ مؤقت. لن نقول: أوقفوا الزَّواج إلى أن نُحَصِّل كلّ ما ذكرنا، وينصلح حال شبابنا وفتياتنا تمامًا! بل طريق الإصلاح طويلٌ، لكن نريد أن تتوجه الأنظار وبقوة إلى تزكية النَّفس، بفهمها ومعرفة نقاط ضعفها وأمراضها القلبية، وأسباب توترها وشقائها، ثمَّ حَمْلِها على الخير، والتَّخلُّصِ ممَّا يؤذيها من الطَّبائع السَّلبية، أن يبدأ طريق هذه التَّزكية قبل الزَّواج، وأن يكون الحدَُ الأدنى منها مُتطَلَّبًا لا يقل أهميةً عن وجود عملٍ للشاب المتقدِّم. الشَّابُّ والفتاة -عادةً- لا يُقْدِمَان على خُطوَةِ الزَّواج قبل أن يكون هناك مسكنٌ ولو صغير، وحدٌّ أدنى من الأثاث ومتطلباتِ الحياة الماديّة في المنزل، وقد يتركون بعض الأشياء للأمام. مَا نَقوله: فليكن عندكما الحدُّ الأدنى من التَّزكية والنَّضج النَّفسي الَّذي لا تقوم الحياة السَّوية إلا به، ثمَّ تستكملان الطريق وتتعاونان على السير فيه بعد الزَّواج، لكن تكونان قد وضعتما أرجلكما على الطَّريق الصَّحيح قبل الزَّواج، ولكما هدفٌ مشتركٌ واضحٌ تسيران نحوه، وقِيَمٌ مشتركةٌ تحتكمان إليها، وأولوياتٌ تتفقان عليها. أمَّا التَّعويل على أننا سنضع أرجلنا على الطَّريق الصَّحيح بعد الزَّواج فهذا هو الذي نحذِّر منه قبل وقوعه، ومع ذلك، فمن وقع في ذلك نقول له: إصلاح وضعك ووضع أسرتك توبةٌ، وباب التوبة مفتوح. حسنًا، من أين أبدأ في هذا الطريق، طريق تزكية النَّفس الَّذي نحتاجه جميعًا؟ من تزوَّج منَّا ومن لم يتزوَّج بعد، ذكورًا وإناثًا، ننصحكم في ذلك -يا كرام- بقراءاتٍ ومقاطع ودوَراتٍ منها: (دليل مع نفسي) لأخينا الطبيب النّفسي الدكتور (عبد الرحمن ذاكر)، وهي ثريَّةٌ مُنوَّعةٌ، وسنضع لكم رابطها في التعليقات، كذلك قناة (مركز النفس المطمئنة) للأخ (أنس شيخ كريِّم) على تيليغرام "Telegram" -وهو صاحب تخصُّصين في أصول الدّين وعلم النَّفس التَّربوي، وقد ساعدني كثيرًا في إنضاج مادة هذه الحلقات، وننصح بدوراته الَّتي سنضع لكم معلوماتها في التعليقات بإذن الله. ختامًا، سيقول بعض الأخوات: أنا لا أبحث عن ذات ضائعة ولا شيء، لكنني -بصراحة وبساطة- لا أجد نفسي مع زوج وأولاد، وإنما أجد نفسي في العمل التّطوعي أو التثقيفي أو حتى الدَّعَوي، أليست هذه أهدافًا ساميةً؟ سنجيب عن هذا السُّؤال في الحلقة القادمة -بإذن الله. والسَّلام عليكم ورحمة الله.