فالقِيم والمعايير الضابطة للعلم ثابتةٌ لا تتغير. ليُقَوُّوا الدولة، ويُشغِّلوا المصانع، فيما يتعلَّق بملفِّ الشذوذ الجنسيِّ مثلًا، حسنًا، ما البديل؟ ما التعليم الذي نريد؟ الوحي هو المرجعيِّة، أيُّها الإنسانُ: اقرأْ وتعلَّمْ عنِ الكونِ والحياة، منطلِقًا منَ الإيمانِ بهِ ربًّا يربّيكَ، وافهمْهما باسمِ ربِّك، خلقَكَ منْ علقٍ، السلام عليكم ورحمة الله... أيُّها الكرام، ما زلْنا نسيرُ في سلسلةِ المرأة وقد وصلنا محطَّة (المرأة والتَّعليم). دعونا نعُدْ لتاريخ التعليم المدرسي الحديث، والذي هوَ مقدِّمةٌ للتَّعليمِ الجامعيِّ. لكنْ لماذا الانتقالُ إلى موضوعٍ آخرَ غيرِ المرأة؟ ليسَ انتقالًا بقدرِ ما هوَ تأسيسٌ، لنرى: هل التعليم المعاصر يَفي بحاجات الفتاة الَّتي ستكونُ امرأةَ المستقبلِ؟ هلْ يعينُها على أداءِ أدوارِها وما خُلقَتْ منْ أجلِه؟ هلْ هوَ نافعٌ لها، يحقِّقُ لها الطُّمأنينةَ والسَّعادةَ وخيرَ الدُّنيا والآخرةِ؟ الكلامُ اليومَ عامٌّ في تعليمِ الولدِ والبنتِ والشّابِّ والفتاة. سنستعرضُ مِيزاتِ التَّعلُّمِ والتَّعليمِ في الإسلامِ بَدءًا منْ نزولِ الوحيِ لنُبقيَها في أذهانِنا، ثمَّ نستعرضُ على ضوئِها نشأةَ التَّعليمِ المدرسيِّ المعاصرِ المنتشرِ في العالمِ، ومنْه عالمُنا الإسلاميُّ، فإنَّ منْ حقِّنا أنْ نعرفَ: ما الذي جاءَ بنا إلى هذه الغرفِ الصَّفيَّة الَّتي نُمضي فيها (12-14) سنةً منْ عمرِنا؟ المرحلةَ الأهمِّ الَّتي تُصاغ فيها شخصيّاتُنا. ومنْ حقِّنا أنْ نتساءلَ: ماذا كانَ إسهامُ المدارسِ في وجودِ الطَّبيبِ الفاسد،ِ والمهندسِ الغاشِّ، والبائعِ السّارقِ، والمسؤولِ المختلسِ، والفيزيائيِّ المتشكِّك، والبيولوجي الملحد، والدُّكتورةِ النِّسويَّةِ وغيرِهم. أوَّلُ آيةٍ أنزلَها اللهُ تعالى على عبدِه محمَّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [القرآن 96: 1]، وهداكَ إلى تناقلِ العلومِ، وبناءِ المعرفةِ بالقلمِ، وبما أعطاكَ منْ فطرةٍ وعقلٍ قادرٍ على التعرُّفِ على الحقائقِ، لأنّهُ منْ صنعِ إلهٍ مطلقِ الكمالِ، ليسَ عقلًا جاءَ صدفةً خبطَ عشواءَ، بلْ عقلٌ مُهيَّأٌ من الخالقِ الأكرم الذي يريدُ للإنسان أن يتعلَّمَ ما لم يعلم، اقرأْ لتنتفعَ بعلمِك وتنفعَ النّاسَ، ولتستدلَّ بعلمِك على عظمةِ اللهِ فتشكرَه، وتحقِّقَ ما خُلقْتَ منْ أجلِه منَ العبوديَّةِ له بمفهومِها الشّاملِ فتسعدَ في الدُّنيا والآخرةِ. رؤيةٌ كونيَّةٌ تجعلُ الإنسانَ منسجمًا روحًا ونفسًا، عاطفةً وعقلًا، فتنخرطُ قواهُ كلُّها في تحقيقِ الهدفِ الأسمى. رؤيةٌ تنطلقُ منْ توحيدِ اللهِ، فتُخرجُ لنا نفسًا موحِّدةً لخالقِها موحَّدةً في نظرتِها، لا نفسًا مشتَّتةً مفكَّكةً. انطلقَ المسلمونَ بهذهِ الرُّؤيةِ وأنتجوا في العلومِ بأشكالِها نتاجًا ضخمًا، وقد ذكرنا في (رحلةِ اليقينِ) بعضَ المصادرِ الدّالَّةِ على الأصولِ الإسلاميَّةِ لكثيرٍ منَ العلومِ والاختراعاتِ، بل والمنهجِ التَّجريبيِّ برمَّتِه، وهو ما يعترفُ بهِ منصِفو الغربيّينَ. النظامُ التَّعليميُّ في الإسلام فيهِ عوامل حصانةٍ ومناعةٍ ضدَّ الإصابةِ بالفسادِ: أولا: أنَّ التَّعليمَ تعبُّديُّ، سواءً أكانَ في علومَ الشَّريعةِ أو علومِ الطَّبيعةِ، ومنْ ثمَّ فثقافةُ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [القرآن 96: 1] كانَتْ مبثوثةً في المجتمعِ على مستوى الأسرةِ، منَ المؤدِّبينِ، في الكتاتيب، في المساجد، في حِلَقِ العلم، في المدارسِ الَّتي نشأَتْ في العصورِ الإسلاميَّةِ. وهذا يقودُنا إلى العاملِ الثّاني للحصانةِ، ألا وهوَ: المسؤوليَّةُ المشتركةُ الكل يشاركُ في تحمُّلِ مسؤوليَّة التَّعليم ولا يُلقون بها على كاهلِ الدَّولةِ، كذلكَ فتحمُّلُ المسؤوليَّةِ يُعطي مناعةً من انتشارِ الفساد حتّى لو أُصيبَت مؤسَّسةُ الحكمِ بالفسادِ؛ لأنَّ مكوِّناتِ المجتمعِ توطَّدَت على: «كُلُّكم راعٍ، وكلُّكُمْ مسئول عن رعيَّته» [متفق عليه]، فسيسعى كلُّ راعٍ تقيٍّ إلى تخفيفِ الأضرارِ على منْ يرعاهُم إذا فسدَ رأسُ الهرمِ، وسيبقى الأبوانِ والمربّونَ يمارسونَ التَّعليمَ عبوديَّةً للهِ، وهذا يحافظُ على سلامةِ جذور المجتمع المسلم حتَّى وإنْ أصابَ الفسادُ الفروعَ، فتُنبتُ الجذورُ فروعًا سليمةً منْ جديدٍ. ثالثا: صحَّة المرجعيِّة وثباتُها، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [القرآن 96: 1]، انطلاقًا من الوحي توفِّر الدولةُ البيئةَ اللازمةَ لِبَثِّ العلم الصّحيح: تُصدِّر المؤهَّلين، تَحمي الناسَ من المتلاعبين والعابثين النّاشرين للجهل والضّلال؛ لأنَّ حِفظَ العقل من ضرورات الشريعة الخمس؛ الدولة تَضَعُ الأُطُر، ثم بعد ذلك هناك مرونة منضبطةٌ بالوحي. في المقابل، الناس يُحاسِبون الحاكمَ بناءً على الوحي أيضًا: هناك مرجعيَّةٌ، مرجعيُّةُ الوحي لا يستطيع الحاكمُ المِساس بها ولا تغييرَها، بل هو مُكلَّفٌ بالقيام على مصالح الناس بحسب هذه المرجعيّة، وإذا خالَفَها وأَمَرَ بتعليم ما يُخالف مصلحة الناس فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، بل يُؤْخذ على يده ويُحمَل على الالتزام بالوحي؛ فسُلطتُه ليست مُطلَقَة بل ﴿فَإِن تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [القرآن 4: 59]. رابعا: مراكز الثقل المالي في الوضع الإسلامي الصحيح موجودةٌ في المجتمع؛ ليست منهوبةً ولا متحكَّمًا بها من زُمرَة حاكمة، ولا من طبقة رأسمالية؛ فالإسلام يحارب تركُّز المال في يدِ فئةٍ ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [القرآن 59: 7] كَوْنُ مراكزِ الثّقلِ المالي في الناس؛ هذا الاستقلال المالي يعني أنَّ طلَّابَ العلمِ وأهلَ العلم بأشكاله أحرارٌ في ما يقولون، مكْفِيُّون، لا يُهدَّدون بأرزاقهم، ولا ينتظرون راتبًا يُعطَى من فئة متحكِّمة ستمنع عنهم المال إذا امتنعوا عن الانصياع لأهوائها. في هذه الأجواء الحُرَّة كان للأوقاف الإسلاميِّة أثَرٌ كبيرٌ عظيمٌ في التعلُّم: يخصِّص مسلمٌ يمتلك المال جزءًا من ماله، ويُبقيه أوقافًا جاريةً بعد وفاته على تفريغ أشخاصٍ لطلب العلم، وهذا كان من عوامل محافظة المحاضن الشعبيَّة على قوَّتها ودورِها في تخريج العلماء في شتَّى المجالات، حتى في فَتَرات انحدار مؤسسة الحكم. الأزهر -مثلًا، قبل أن يُفسدَه الاستعمارُ البريطاني- كان يُنفَق عليه من الأوقاف، تَوَزُّعُ المالِ في الناس يمنع من أن يُسَخَّر التعلمُ لمصلحة طَغامَةٍ من أصحاب رأس المال، بل يكون المعنى التعبُّدي في التعلُّم هو الحاضرَ وبقوة، وكان مما جاء فيه: هدفُه أن تُحقِّق الأمَّةُ العبوديَّةَ لله بمعناها الشامل كما بيَّنّا. وهذا يأخذنا إلى الميزة الخامسة في منظومة التعلُّم الإسلاميِّة: أنَّ مُخرَجاتِ التعليم لا تُقاس بتأهيل أفرادٍ لخدمةِ أصحاب رأس المال والشركات العالمية في عبوديّةٍ مقنَّعة، بل تقاس بتحقيق أهداف الوحي: صلاحِ دنيا الناس وآخرتهم، وصلاحِ نفوسهم وأرواحهم وأخلاقهم، فيكون للفقيه قيمتُه وللأمِّ المربِّية قيمتُها، مع أنَّ هؤلاء لا قيمة لهم في المنظومة الرأسماليِّة؛ لأنهم لا يخدمون المنظومة الماديّة. كلُّ هذا يُهيِّئ الأجواء لكَونِ السُّلطان بأيدي المسلمين، ووجودِ أهل الحَلِّ والعَقْد من المسلمين، ولظهورِ أجيالٍ من الأحرار الذين تلقَّوا تعليمهم من مراكز الثقل المجتمعية التربوية، وأمانُهم الاقتصادي مرتبِطٌ بمراكز الثقل المجتمعيّة الاقتصاديّة، فمِقياسهم في قَبول أو رفض ما يُطلب منهم: هل هو حقٌ أم باطل فحسب؛ إذ لم يُعلَّموا العبوديّة لغير الله، ولا يُهدَّدُون في أرزاقهم. إذن تعليمٌ باسم الله، وهو تعبُّد يمارسه الجميع ويتحملون مسئوليّته، الوحيُ فيه مصدرُ الحقائقِ الكبرى والمحرِّكُ لاستكشاف العلوم، ومرجعيِّةٌ ثابتة لا تتغير، تعليمٌ تنسجمُ فيه مكوِّنات الإنسان، والهدف منه تحقيقُ الاستخلاف والعبودية لله بمعناها الشامل، مرتبطٌ باقتصادٍ عادلٍ لا تحتَكِره فئةٌ، وفيه عواملُ مناعةٍ من أن يَنحرف، ومن أن يُملَى فيه على الأجيال أهواءُ طَغامٍ من البشر. حسنًا، ما الذي كان يحدثُ في أوروبا في تلك الفترة؟ يُهِمُّنا أن نعرف؛ لأنَّ شَكلًا آخر تمامًا من التعليم كان يتَشَكَّل هناك في تلك الفترة، ثم لمَّا ضَعُف تمسُّكنا بالوحي، واحتلَّ الأوروبيون بلادَنا، استطاعوا أن يُفكِّكوا منظومة التعليم التي شرحناها، ليقضوا على عوامل قوَّتها وحَصانَتِها ويُحلِّوا محَلَّها منظومتَهم، لكن مع تشويهٍ ممنهجٍ يَضمَنُ تَبعِيَّتَنا لهم وتَخَلُّفَنا عن رَكْبِهم. كانت أوروبا تعيش بدايةً النظام الإقطاعيّ الطبقيّ: أسيادٌ وعمَّال، والتعليمُ حِكْرٌ على الطبقة الأرستقراطية، وإذا عُلِّم العمَّال شيئًا فإنما يُعلَّمون بالقدر اللازم لزيادة الإنتاجيّة للأسياد، ثم جاء عصر النهضة والذي بدأ في إيطاليا ما بين (1400) و(1600) من الميلاد، حصلتْ فيه ثورةٌ على السُّلطات القديمة وتَشكَّلت دُوَلٌ فيها مواطنون، لا أسياد وعمَّال، "يجب علينا -في الوقت الحاضر- أن نبذل قُصارى جهدنا تَنَفَّسَ الناس الصعداء قليلًا قبل أن تظهر شيئًا فشيئًا طبقيَّةٌ ثانيةٌ هي طبقيَّةُ الرأسماليّة. بعد اقتصار التّعليم على طبقةٍ خاصةٍ، ظهرَ أن الحل الأمثلَ الممكنَ اقتصاديًّا لتعليم الشعوب الأوروبيّة مجانيًّا هو إنشاءُ المدارس النظاميَّة، والهدفُ منها ترسيخ عقيدة الدولةِ في الأجيال Indoctrination، وزيادةُ القدرة الإنتاجية للقوى العاملة؛ ويسيطروا على الدول التي يحتَلُّونها وينهبون خيراتِها، وفي سبيل ذلك أُنشئ ما يسمى بالمدارس المصنعيِّة - Factory model of school، التي تُنتج إنسانًا مُنصاعًا مُقَوْلَبًا fashioned، ليعمل في المصنع. ظهرتْ أولى هذه المدارس في مملكة (بروسيا) في ألمانيا عام 1717، وبإمكانك القراءة عن هذا النموذج من المدارس تحت عنوان: Prussian Education Model، ثمَّ في النصف الثاني من القرنِ الثامنَ عشر ظهرتْ الثورةُ الصناعيَّةُ الأولى، أُخْرِجت المرأة من بيتها، ووُّزِع على النساء حبوب منع الحمل؛ لتفريغهنَّ لوقت أطول للعمل في المصانع، وفي عام 1807 صَدَرَ القرارُ بإلزام المدارس في بروسيا بالخضوع لوزارة الداخلية؛ ليُدرَّس فيها ما يريده النظام. يقول الفيلسوف الألماني Johann Gottlieb Fichte في كتاب (الطابَعُ العام للتعليم الحديث): "على المدارس أن تُقَوْلِبَ الشخص - must fashion the person، تُقَوْلبَهُ بحيث لا يرى سوى ما تريده أنت". وذلك لأنَّ ألمانيا كانت في صراعات مع فرنسا خسرت فيها الكثير. (فشتة) اعتبر أن الخطأ الأكبر المتسبب في ضعف التّنشئة للألمانيين هو الإرادة الحرَّة للتَّلاميذ؛ لأنَّ الشخصَ يبقى فيها متردِّدًا بين الخير والشر، فعلى العكس، يجب أن تكونَ التنشئةُ الجيِّدة على أساس إعدام الإرادة الحرة، فالهدفُ الذي يَجبُ أن يُقَوْلَبَ من أجله الطلاب هو تَقْويَةُ الدولة، ولذا كان على الطلاب أن يقفوا في الطوابير الصباحيَّة في صفوفٍ كصفوفِ الجيش، مع طقوسٍ إلزاميَّةٍ لتقديس الدولة. بعد ذلك بقرابة ربعِ قرن جاءَ الألماني Friedrich Fröbel وأنشأ أول حضانة: Kindergarten عام 1830، وسبب إنشائها أنَّ أُمَّه ماتت، تزوَّجَ أبوه فعاش مُهمَلًا من كليهما؛ من أبيه وزوجة أبيه في طفولة بائسة. في هذه الفترة في عام 1835 -وبينما كانت بريطانيا تحتل الهند التي كانت قبلها تحت حكم المسلمين- وَجَّهَ المؤرِّخُ والسّياسي البريطاني: Thomas Macaulay تقريرًا للحاكم البريطاني في الهند بعنوان: (تقريرٌ عن التعليم في الهند)، لإيجادِ فئةٍ تُشكِّل جِسرًا بيننا وبين ملايين الناس الذين تحت حكمنا، فئةٍ من الهنود الذين ما زالوا هنودًا بلونهم ودمائهم، لكنهم (إنجليز) في أخلاقِهم وآرائِهم ومَلَكَاتِهم الفكريَّة وأذواقِهم، وقد نترك لهذه الفئة مهمةَ تنقيحِ اللَّهَجاتِ العامِيَّة للبلاد، بحيث يتم إثراء هذه اللَّهَجَات بمصطلحاتٍ علميةٍ مُستعارَةٍ من التَّسميات الغربية، فتصبحُ هذه الفِئة -بدرجاتها المختلفة- ناقلاتٍ مناسبة تقوم بنَشْرِ المعارف بين الكتلة الأكبر من السكان". إذن فهذا هدف إنشاء المدارس في المستعمرات: الإبقاءُ على احتلال البلاد ثقافيًّا حتى بعد انجلاء المحتَلِّ عسكريًّا. أَبْقِ هذا الوصف الدقيق الذي نطق به توماس مكولي؛ لتستحضره عند حديثنا عن المدارس الدولية حاليًّا في بلاد المسلمين. أثناءَ هذه التَّطَوُّرات كلها نُقِلتْ كثيرٌ من العلوم من المسلمين إلى أوروبا، لكنْ مبتورةً عن أصولها العقَديَّة، مقطوعةً عن جذور: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [القرآن 96: 1]، وأصبح الشعار: اقرأ باسم الدولة وقوتها، والذي أصبح -في واقع الأمر- قراءةً باسم الإنسان وشهواتِه وطغيانه. عام (1843) انتقلت فكرة المدرسة المصنعيَّة من بروسيا إلى أمريكا وأوروبا، ثم ما بين عامي 1852 و1917 أُقِرَّ التعليم الإلزامي والمدرسة الحكومية في الولايات الأمريكية، أولها (massachusett) وآخرها (mississippi)، عام 1892 في أمريكا أقرَّ (10) أشخاص -فيما يعرف بالـ(committee of ten)- بِجَعْلِ التَّعليمِ المدرسي بشَكْلِه المعروف حتى الآن: 12 سنة مُتضمِّنَةً لمنهجِ اليونان، مُعَدَّلة مع اللغة الإنجليزية الحديثة والعلومِ والتّاريخِ، وبَقِيَ نِظام الاثني عشرَ عامًا إلى يومنا هذا في عامَّة دول العالم. ولنا أن نسأل: عندما استُنْسخ هذا النظامُ الذي وضعه هؤلاء العشرةُ إلى دول العالم الإسلامي اليومَ، هل طُرِحَ التساؤل: مَن هؤلاء؟ وما مرجعياتهم؟ ولماذا نعتمد نحن ما اعتمدوه هم؟ ما الأهداف التي كانوا يسعون لتحقيقها حين أقرُّوا هذا النظام التعليمي؟ في الإجابة عن هذه التساؤلات عدنا إلى سيرة أحد أهم هؤلاء العشرة، وهو William Torrey Harris مفوَّضُ الولايات المتحدة الأمريكية للتعليم، والذي قدَّمَ لِرسالَةٍ بعُنوان: (Indian Education) تعليم الهنود، -يعني الهنود الحمر الذين كانوا يعيشون في أمريكا- وقرأنا الوثيقة الأصلية للرسالة. كخلفيةٍ تاريخيَّةٍ: الأراضي الأمريكية كان سُكَّانُها الأصليون من الهنود الحمر، ليسَ لديها وعيٌ أو إدراكٌ، غزاها الأوروبيون، وقاموا بحَمَلات إبادةٍ ضدَّ السكانِ الأصليين، قُتل فيها الملايين من الهنود الحمر في تاريخٍ أليمٍ تكلَّمنا عنه في كلمةِ: (نماذجُ السعادة البشرية)، بعدما استتبَّ الأمرُ نِسبِيًّا للأوروبيين بَقِيَتْ تَقَعُ مُناوَشَات بينهم وبين مَنْ تَبَقَّى من قبائل السُّكان الأصليين من الهنود الحُمر. في هذه الرسالة كان مفوَّض التعليم (Harris) ورجل الحرب الجنرال (Thomas Morgan) يُقدِّمان حلًّا لِتذويب أبناء الهنود الحمر حضارِيًّا في الحضارة الأمريكيّة الجديدة، بحيث لا يعودون يُشَكِّلون خطرًا على الغزاة الذين هم الآن السُكان "الشرعيّون" لأمريكا. الحلُّ الأمثَلُ الذي اقترحَه الكاتبانِ هو فَرضُ نظامٍ جَذْرِيٍّ للتعليم radical system of education، وذلك بعَزْلِ أطفالِ الهنود الحمر -منذ سنٍّ مُبَكِّرَةٍ قَدرَ الإمكان- عن محيطهم القَبَلِيِّ وإخضاعِهم جماعِيًّا للتعليم الإجباريِّ، ويقول هاريس إنَّ سنة أو سنتين أو ثلاثًا لا تُوَفِّر على الأمريكيين -بالقدر الكافي- مصاريفَ الصراع مع الهنود مثل خمس أو عشر سنوات من التعليم المدرسي؛ لأنَّ مُدَّة التعليم القصيرة لا تؤثِّر كثيرًا على الحياة القبلية للهنود ولا تُحَوِّلهم إلى مجتمعٍ منتجٍ صناعيًّا، وهو ما يَضْطَرُّ الدّولةَ لحماية نفسها من خطرِ الهنود بإنفاقِ مصاريفَ باهظةٍ باستمرارٍ لِدَعْمِ القوَّة العسكريَّة اللازمةِ لمُواجهتِهم، أو أن تُضْطَرَّ الدولةُ لخيارِ سياسة الإبادة القاسي؛ فيقترحُ (Harris) التعاملَ مع الهنود بروحٍ تَبْشِيرِيَّةٍ تَنْصِيرِيَّةٍ وفَرضَ تعليمٍ إجبارِيٍّ عليهم، وإبعادَهم عن أهلهم لمُدَّةٍ تَصلُ إلى عشرِ سنواتٍ كشكلٍ من الانخراط الحضاري. هذا هو (William Harris)، أحد أهم العشرة الذين وضعوا النظامَ التّعليمي المعمول به عالميًّا حتى الآن: إدخالُ الأطفال في المدارس مُبَكِّرًا وإبقاؤهم فيها لُمَدَدٍ مُطَوَّلَةٍ، ومن أهمِّ أهدافه: إضعافُ القوى القَبَلِيَّة، وإضعافُ تأثير آبائهم عليهم، وإملاءُ سياسة الدولة عليهم. إذا تحقَّقَتْ هذه الأهداف في المجتمعات بهدوء فبها ونِعْمَتْ، وإلا تكرَّرَ مثلُ هذا النموذج بشكل سافر كما يَحصُل الآن في الصين من انتزاع أبناء المسلمين الإيغور منهم، وتَنشِئتِهم من قِبَل الدولة الشيوعية، وإخراجِهم من دينهم وتاريخِهم؛ ليتحوَّلوا -كبقية الصّينيين- إلى آلاتٍ بشريَّةٍ مُنصَاعةٍ. أقرَّ (Harris) بوجود قولبة للناس عبر نظام التعليم المدرسي، حيث قال في كتابه (فلسفة التعليم): "إن تسعةً وتسعين بالمائة من الناس في كلِّ أمةٍ متحضرةٍ هم كائناتٌ آلية automata، حريصون على السّير في المسارات المحددة، وحريصون على اتباعِ العادات المُملاة عليهم، وهذا ليس صدفةً بل نتيجةٌ للنظام التعليمي المُكثَّف، والذي إن أردنا تعريفه بشكل علمي: هو عبارة عن تَقييد الفرد وتَذوِيبِه ونَزعِ فَرْدَانِيَّتِه" ثمَّ ذَكَرَ مقترحات لعلاج هذه القولبة. قد يقول قائل: يا أخي! وما شأننا وهارس وفشته؟ هذا الكلام قديم، الآن الغرب يُعلِي من قيمةِ حريَّة التفكير، هذه القولبة ونزع حرية الإرادة كانت قديمًا. كانت قديمًا؟! ما قولُك إذن في القولبة وغسلَ الأدمغةِ الذي يتعرَّض له الطُلَّاب في العالم اليوم؟ بعدما تمَّ نزع الإرادة وغسل الأدمغة من قبلُ بتحويل الزّنا إلى حريّة شخصية؟ إِذَا أصبح مُبَرَّرًا أن تُنتَزَع إرادةُ الطُلَّابِ -كما يريده فشته- ويتِمَّ إدماجهم حضاريًّا وإملاءُ القِيَمِ عليهم -كما يريده هاريس، وكلُّ هذا تحت عنوان (تقوية الدولة)، ولم تكن هناك مرجعيَّةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ من الوحي تَحكُم القِيَمَ، فإنَّ القِيَمَ ستتغيَّر من زمنٍ لآخرَ، فتقبل الشذوذ -مثلا- هو الآن قيمةٌ حضاريّة، يجبُ قولبة الطلابِ وغَسلُ أدمغتهم لأجلها، بعدما كان الشذوذ مرفوضًا رفضًا قاطِعًا. قارنْ هذا بالوَضع الإسلامي الصحيح، الذي يكون فيه الوحيُ هو المَرجِعَ والمسطرة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل مع مرور الزمن، والذي يكون فيه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ شعارَ الجميعِ في مُجتمعٍ مُحصَّنٍ من أن يُملى على أطفاله أهواءُ أو آراءُ طَغامٍ من البشر. حتى عام 1954 لم يكن مسموحًا للأطفال السّودِ في أمريكا أن يدرسوا في نفس الفصول مع الأطفال البيض، ثم قرَّرت المحكمة العليا دمجهم مع البيض، فثارت ثائرة الكثيرين، وخرجوا في مظاهرات رافعين لافتات: (أوقفوا دمج الأجناس!)... (دمج الأجناس شيوعية)... الطفلة Ruby Bridges كانت إذا دخلت الصف يعترضُ الآباء ويخرجون أبناءهم البيضَ منه لتبقى وحدها، وروبي ما زالت على قيد الحياة، فتصوروا أننا نُقَلِّد هذه المنظومةَ ونَأخذ منها النّظام الّتعليمي دون كثيرِ غَربَلَةٍ، وهي التي بقيت لعهدٍ قريبٍ تَتَخَبَّطُ بشكل صارخ في التمييز على أساس لون البشرة، مع أننا أمةُ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [القرآن 49: 13]، التي يقول فيها أمير المؤمنين القُرَشِيُّ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: "أبو بكر سيدُنا، وأعتقَ سيدَنا" يعني بلالا الحبشيّ الأسود كما روى البخاري. قد يقول قائل: أنت تَذْكر سلبيَّات هذا النظام التعليمي، ولا تَذْكر إيجابيَّاته، وهذا انحياز. فنقول: هدفُنا هنا -يا كرام- ليس العرضَ التاريخيَّ الأكاديميَّ الذي يذكر كافَّة تفاصيلِ الموضوع، بل هدفُنا التركيز على النقاطِ التي يفترق فيها هذا النظامُ التعليميُّ بشكل كبير عن مفهوم التعليم والتعلُّم في الإسلام، والثمارِ المشؤومةِ التي يُعانِيها العالم من ذلك. لسنا وحدنا من ينقدُ هذه المنظومة ونتاجَها، بل تتعالى أصوات منهم هم أنفسِهم بذلك، ففي عام 1983 وجَّهت اللجنةُ الوطنيَّةُ للتميُّزِ التعليميِّ في أمريكا تقريرًا للأمَّة الأمريكية ولوزارة التعليم بعنوان: (أمة في خطر - A Nation at Risk: حَتْمِيَّةُ إصلاح التعليم) وكان مما قاله James Harvey كاتبُ التقرير: "إنَّ الأُسَسَ التربوية لمجتمعنا تتآكل في الوقت الحاضر... بسبب المدِّ المُتصاعد للرداءة التي تهدِّد مستقبلنا كدولة وشعب،... فلو حاولت قوَّةٌ أجنبيَّةٌ وعَدُوَّةٌ فرضَ هذا الأداء التعليميِّ الرديءِ والفاشلِ... الذي نراهُ اليوم على أمريكا... لكُنَّا اعتَبَرْنا هذا التَصرُّفَ بمثابة عدوانٍ حربيٍّ علينا". حسنًا، هل تم بالفعل إصلاح النظام التعليمي بعدها؟ لعلَّ الجوابَ في كتاب John Gatto الذي نَشَره بعد 8 سنوات عام 1991، (جون جاتو) كان قد عمل طويلًا في التدريس ونشر كتابه: (Dumbing Us Down - يعني تخويفنا أو إخراسنا: المنهج المخفي للتعليم الإجباري)، ينتقدُ فيه المنهاج الأكاديمي في المدارس الأمريكية، وانتشرَ الكتاب بشكلٍ كبير، وأُصدِرَت منه نسخةٌ ثانيةٌ عام 2002، وأَوَدُّ أن أُترجم لكم مقتطفاتٍ مما جاء في هذا الكتاب؛ لتدركوا حجم الأزمة، يقول (جاتو): "إن المدارس والتعليم المدرسي هي -بشكل متزايد- غيرُ خادمةٍ للمشاريع العظيمة على هذا الكوكب -يعني الأرض،... لم يعدْ أحدٌ يُصدق أن علماء الطبيعة يحصلون على التأهيل اللازم في حِصَّةِ العلوم،... ولا السياسيين في حصة التربية الوطنية،... ولا الشعراء في حِصَّة اللغة الإنجليزية" يعني أن الناس الناجحين في تلك الدولِ لم تَكُنِ المدارس هي سببَ نجاحِهم، يقول جون جاتو: "إن الحقيقة هي أن المدارس لا تُدَرِّس أي شيء إلا كيف تطيع الأوامر"، يعني الـ(shaping) القولبة التي تكلمنا عنها، يتابع: "إن المؤسسة المدرسية سيكوباتية psychopathic معتلة نفسيا- يَرِنُّ الجَرسُ فيكون على الولد أن يقطع كتابة قصيدة شِعريَّة ويغلقَ دفتَره لينتقلَ إلى خليَّةٍ أخرى، حيث عليه أن يحفظَ أنَّ الإنسان والقردةَ ينحدرانِ من سَلفٍ مُشترَك". أي أن الطالب يتعلَّم معلوماتٍ متناقضةً، ويرى بنفسه في حصَّة الآداب أو اللغة قدراته البشريَّةِ التي تُمِيِّزُه عن الحيوانات، ثم في حِصَّةِ العلوم عليه أن يحفَظُ أنَّه أخٌ لهذه الحيوانات لأب مشترك، طبعًا لأنه ليس هناك رؤيةٌ موحَّدةٌ مُنْطلِقَةٌ من الوحي الصّادق، بل تفكيكٌ لمكوّنات الإنسان ووعيِه. هذا الفصامُ بين المواد هو الطابَعُ الموجود الآن في عامة المناهج المدرسية عبر العالم، خاصةً المناهجَ التي تُدَغْدِغُ عاطفةَ الناس بموادَّ دينيَّةٍ، وفي الوقت ذاتِه تُمْلِي على الطلَّابِ مَا تريده الدولةُ أو ما يمليه العلم الزائف عن الكون والحياة. يقول (جون جاتو) أيضًا في كتابه: "لن يَحْصُل إصلاحٌ على مستوى واسعٍ لطلابنا المُدَمَّرين ولا لمجتمعنا المدمَّر إلا بتوسيعِنا لمفهومِ المدرسةِ ليشملَ الأسرةَ كمحرِّكٍ أساسٍ للتعليم" وهو ما تَحدَّثنا عنه من تولِّي كلِّ راعٍ مسؤوليّته في التَّعليم، ويقول عن التعليم بشكلٍ عام: "يجب أن يجعلك غنيًّا روحيًّا، يجبُ أنْ يُعلِّمَكَ أَمْرَينِ مُهِمَّيٍن: كيفَ تَعيش، وكيفَ تَموت" وهو ما لا تُعَلِّمه المنظومةُ التعليميةُ التي تُعْنَى بالمادة أكثرَ من الإنسانِ. حتى من ناحيةٍ ماديَّةٍ إنتاجيَّةٍ، هل يعتبر هذا النظامُ التعليمي ناجحًا؟ بل ما زالتِ الأصواتُ تتعالى بقصورِه حتى من هذه النّاحية، عام 2006 المستشار الدولي Sir Ken Robinson -والذي مُنح لقب (فارس) لخدماته في التعليم- ألقى مُحاضرةً على TED هي الأكثر مشاهدة في تاريخ البرنامج -حوالي 66 مليون مشاهدة حتى الآن- بعنوان (هل المدارس تقتل الإبداع؟)، انتَقَدَ فيها النظام التعليميَّ للمدارس من حيث إنه يُوجِدُ رهبةً من الخطأِ، وهو ما يَقتُل في الطلاب الإقدامَ والقُدرةَ على الإبداعِ، وأنه لا يُراعي حاجة الأطفال للحركة واللعب، ومن حيثُ الجمود في التسلسل الهرميّ للمواد؛ فلا يستكشفُ المواهبَ، بل يَدفنُها. ويقول روبينسون: "إن التعليمَ مثلُ أداة التنقيب التي تبحث وتُنقّبُ عن أشياء محددة فقط من منجم العقل، وما دون ذلك، فقد يُوصمُ الطالبُ بأنه مريضٌ بدلًا من كونه مُتميِّزًا في جوانبَ أخرى غيرِ المُنَقَّبِ عنها"، ثم جاء الدكتور George Land ليتحدَّث في فيديو بعنوان (فشل النجاح) أن وكالة الفضاء الأمريكية NASA كانت طلَبَتْ منه ومن زميله beth jarman اختبارًا لفحص الإبداعية لدى موظفيها، طوَّر هو وزميله هذا الاختبار، ثم قالا: فلنجربه على الأطفال. فوجَدَا أنّه كلَّما تعلَّم الأطفال في المدارس قُتِلَت القدراتُ الإبداعيَّة التي كانت لديهم في البداية، ثم عاد روبينسون عام 2013 ليظهر على TED في محاضرة بعنوان: (كيف نجتازُ وادي الموت التَّعليمي). سيقول قائل: كيف يَصِف هؤلاء النظام التدريسيَّ بقتل المواهب، ونحن نشهد هذا التقدُّمَ الهائلَ في المُخترَعَات والاكتشافات؟ فنقول لكم: القدرات التي منحها الله للإنسان هائلةٌ، ومكتشفاتُ اليوم هي نتيجةُ تراكمٍ معرفيٍّ لقرونٍ كثيرةٍ، كان للمسلمين فيها بَاعٌ كبيرٌ -كما ذكرنا، فالتقدُّمُ في الاكتشافاتِ لا يعني أنَّ النظام التعليميَّ في المدارس ناجحٌ، بل في كتاب (دعائم التَمَيُّزِ) والمنشور عام 1962 تم استعراض طفولة أكثرَ من 400 شخصيةٍ مؤثرةٍ في القرن العشرين، ووُجِد أن 3 من كل 5 منهم -أي 60%- كانوا غيرَ راضين عن المدارس ولا عن المعلمين المدرَسِيِّين. وللعلم، Thomas Addison كان مُدَرِّسُوه قد وصَفوه بأنه غَير كُفْءٍ للتعليم المدرسيِّ misfit، لم يُكملْ تعليمه المدرسيَّ، وتوقَّف عند المرحلة الابتدائية، ثم أصبح هذا الـ(misfit) أحدَ أكبر المكتشفين في العصر الحديثِ، ولديه 1093 براءة اختراع أمريكية تحمل اسمه. Albert Einstein كان أستاذُ اللغة الإغريقية قد أخبره أنه لن يُفلحَ في شيء وأنَّه يُضيعُ وقتَ الجميع، وعليه أن يغادِرَ المدرسة مباشَرَةً، والله أعلم كم من الأذكياء والموهوبين -شرقًا وغربًا- دُفِنَت مواهبُهم لعدم قُدرةِ النظام التعليميِّ على اكتشافهم وتنميةِ مواهِبِهم. هناك محاولاتٌ للخروج عن هذا النَمَطِ المدرسيِّ المعروفِ، مثل مدارس Wladorf التي تتَجَنَّب استخدامَ التكنولوجيا، وترفعُ شِعارَ التركيز على تنميةِ المواهب، وعددٌ من موظفي ما يعرف بـSilicon Valley في أمريكا يَضعون أبناءَهم فيها، مؤسسُ فكرة هذه المدارس هو Rudolf Steiner المتأثِّر بالفلسفة الشرقية، لذلك لا تستغربْ عندما ترى أن البرنامج الذي يُوزَّع على أولياء أمور الأطفال في الحضانات يتَضَمَّنُ في الـSnack time أغنيةً يشكرُ الطُّلَّابُ فيها الشمسَ والأرض والماء على الطعام الذي منحونا إياه، وهذا هنا في بلاد المسلمين. ورحمة الله على ابن تيمية إذ قال في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) في تبيين الحكمة من أمرنا بمخالفة المشركين، قال: "يكفيكَ أن فسادَ الأصلِ لا بُدَّ أن يؤثِّر في الفرع، ومن انتبهَ لهذا قد يعلمُ بعضَ الحكمة التي أنزلها الله، فما دام التغيير إنما هو في الأسلوب والشَكل فإنَّ مَن في قلبِه مرضٌ قد يرتابُ في الأمر بنفسِ المخالفة لعدمِ استِبانته لفائدته..." "وحقيقة الأمر أن جميع أعمالِ الكافر وأموره لا بد فيها من خللٍ يمنعها أن تتم له منفعةٌ بها، ولو فُرِض صلاحُ شيء من أمورِه على التمامِ لاستحقَّ بذلك ثوابَ الآخرةِ، ولكنَّ كلَّ أموره إما فاسدةٌ وإما ناقصةٌ". يعني قد يستغربُ المسلم: لماذا يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين وعدم تقليدهم، تقليدِهم في المناهج الثقافية مثلًا، لا نتكلَّم عن الاستفادة من المكتشفات، لكنْ تقليدِهم في المناهجِ التي لها علاقة بالتصوُّر عن الكونِ والحياةِ، تقليدُهم في هذا متضمِّنٌ لفسادٍ قد تلاحظه وقد لا تلاحظه؛ فإنَّ أعمالَهم إما فاسدةٌ وإما ناقصةٌ، والجديرُ بالمسلمين أن يَصوغوا هم طريقتهم في التعليم انطلاقًا من مَرجِعيّة الوحيِ. من المحاولات للخروج عن النمط التدريسيِّ الشائع: محاولاتُ الأمريكي بنغالي الأصل Salman Khan الحاصلِ على شهاداتٍ متنوعةٍ وصاحبِ أسلوبٍ مُبَسَّطٍ في الشرح والذي انتَقدَ النظامَ التعليميَّ في كلِمةٍ له على TED، وكذلك في مقابلة له بعنوان: (تاريخ التعليم) وبعض معلومات حلقتنا مذكورة في مقابلته هذه، أسَّسَ سلمان خان منصةً تعليميَّةً مجانيَّةً عالمية تُدرِّس الكثير من العلوم، بما يفيدُه ذلك من مراعاةٍ للفُروقات الفرديَّةِ في الاستيعابِ؛ فتتيح للطالب أن يشاهدَ الموضوع الذي يريد دراسته، ويُعيدَ الموضعَ الذي لم يفهمْه بأسلوبِ شرحٍ مبسط، لكنْ ما إن اشتهرت هذه المِنَصَّة حتى احتواها حيتانُ الرأسماليَّة مثل Google وBill Gates بمنحٍ بملايين الدولارات، ومع المنحِ الماليَّةِ تأتي الأجندات الفكرية والأخلاقية كالعادة. العامَ الماضيَ في العيد الخمسينَ للشواذِّ، والذي احتفلت به Google وMicrosoft عَزَفَت (Khan Academy) على أنغامِهم بتغريداتٍ على Instagram تُرَمِّزُ شَخصياتٍ شاذَّةً جِنسِيًّا، ورصدت CBN NEWS كيف تقوم المِنصَّةُ بالزجِّ بِهذه الأجندةِ في دُروسِ الأطفالِ بتَركِ فراغٍ مثلًا في دُروس اللغة الإنجليزيةِ في الحديث عن امرأتين، وعلى الطَّالب أن يختار الإجابة الصحيحة لُغَويًّا، ما هي هذه الإجابة؟ - زوجَتَيهِما، أي كلُّ امرأةٍ كانت تخرجُ مع زوجتِها إلى الغداء، شَكْلٌ مِنْ أشكالِ الـindoctrination؛ غسلِ أدمغةِ الأطفال وإملاءِ ما يريده حيتان الرأسمالية. وعادت الأكاديميةُ فاحتفلتْ هذه السنةَ أيضًا بيومِ الشواذِّ بتغيير شعارِها على تويتر إلى ألوان علمِ الشواذِّ أثناءَ يومِهم. وليس في الدَّوافع والغاياتِ والمرجعيةِ فلن يَحصُل الإصلاح المنشودُ، وما دام كثيرٌ من الدول ليسَ همُّها الأكبرُ تعليمَ الطلاب ما ينفعُهم في دينهم و دنياهم وإنما الـindoctrination القولبةُ وتكريسُ ما يُراد للأطفال أن يَقتنِعوا به وتعليم الانصياعِ -كما بيَّن أيمن عبد الرحيم- في محاضرتِه: (مجتمع بلا مدارس) فلن يَحصُل التغييرُ المنشودُ. ظهرتْ أيضًا البرامجُ الدولية مثل IG وSAT وIB لكن تَبقى هناك عناصرُ مشتركةً بين هذه الأشكال جميعًا -كلِّ أشكالِ التعليم التي ذكرناها اليوم: انقطاعُ العلم عن مرجعيةِ الوحي، قطعُ دلالةِ العلمِ على الخالق والإيمان به، غيابُ المعنى التعبُّدي في طلب العلم، القولبةُ، وترسيخُ الاعتقاداتِ المُراد للطلَّاب أن يعتَقِدوها بمرجعياتٍ متغيَّرةِ يُمْليها أصحابُ القُوَّةِ أو رأسِ المالِ، القابليةُ لتغيير القِيَم بشكل مستمر، قياسُ مُخرَجاتِ التعليمِ بالعلامةِ والتأهُّل لسوقِ العمل وليسَ ببناءِ الإنسان المُتكاملِ المُؤَهَّل لتحقيق العبوديةِ لله بمفهومها الشامل، وفي كثير من المناهج انفصالُ الموادِ بعضُها عن بعضٍ وتعارضُها فيما بينها، بحيث يُدَرَّس الطلاب في حصَّة الأحياء ما يُصادم الذي يتعلَّمونه في حِصَّةِ الدين عن نشأةِ الكونِ والحياةِ مثلًا. ما أركانه؟ وما هو مكانُ المرأة مِن هذا كله متأثرةً أو مؤثرةً؟ هذا ما سنجيبُ عنه في الحلقة القادمة -بإذن الله-. يَجدُر الذِكْرُ بأنَّني حصلت على كثيرٍ من معلوماتِ هذه الحلقةِ من مادةٍ قام بتجميعها أخي: الدكتور عبد الرحمن ذاكر، الطبيبُ المعالج النفسي والتربوي المُهتَمُّ بملف النفس والتعليم، وكذلك استفدتُ في إعدادها من مناقشةٍ مع أخي الأستاذ: أنس شيخ كريِّم، المختصِّ في الشريعة وعلم النفس التربوي، ومن جهود بعض الإخوة والأخوات الذين ساعدوني في التحري واستخراج المعلومات لحلقة اليوم فجزاهم الله خيرا جميعًا. والسلام عليكم ورحمة الله.