السلام عليكم - لماذا أُنجب أصلا وأتحمَّل تعب الأولاد؟! هل لمجرَّد أن أبدوَ طبيعيةً كباقي الناس؟! - هل الأولاد نعمةٌ حقا، وهم في صغرهم مصدرُ إرهاقي وشدِّ أعصابي، ثم إذا كَبِروا قليلًا عاشوا في عالمِهم الخاصِّ بعُزْلة عني، ثم إذا استقلُّوا وتركوا البيت تركوني لحُزني واكتئابي ولزوج ٍتوتَّرت علاقتي به لأجلهم؟! - هل يُعقلُ أن أرسلَ أبنائي للمدرسة، حتى إن أحسست أنها لا تقومُ بدورها، لكن من قبيل أن أرتاح من إزعاجهم لبضع ساعات أراعي فيها شؤوني قليلًا؟! - تقولون: إنَّ من أهمِّ أعمال المرأة تربيةَ أبنائها، التربية فقط؟! قدراتي وطاقاتي ووقتي ومواهبي أشغلُ معظم ذلك بالتربية فقط؟! - ألا يكفي أني وضعتُ أولادي في مدرسةٍ نصرفُ عليها مبالغَ ضخمة؟! -إذا أردتُ أن أُبرِّئ ذمَّتي تِجاه أولادي، ما الأمور التربويَّة التي يمكن أن أذهبَ بها إلى المدارس عند تسجيل أبنائي، وأسألَهم عن برامجهم لتحقيقها؟ - ما هي قِصَّة الطبيبَيْن اللذَيْن كانا يعطيان مرضى السرطان ماءً ومِلحًا؟ وما علاقة ذلك بالتربية؟ - تُحذِّروننا من الألعاب الإلكترونية وتوفيرِ الهواتف للأولاد يفتحون فيها ما شاءوا، حسنًا وكيف أملأ فراغَهم؟ هل المطلوب أن أَملأ فراغَهم كلَّه بنفسي وأنسى حالي؟ -ماذا إذا كنت لا أجد نفسي في زوجي وأولادي، وإنما في العمل الَّتطوعي والتَّثقيفي بل والدَّعوي؟ أليستْ هذه أهدافًا سامية؟! - زوجي لا يتعاون معي على تربية أولادنا، هل من العدل أن أتحمَّل الحِملَ وحدي؟! - حاولتُ أن أصلحَ ابني أو ابنتي لكنه ضلَّ وانحرف، وأنا مُحبَطةٌ حزينةٌ عليه، فماذا أفعل؟ - لماذا يظهرُ موضوعُ التربية عميقًا وليس بالسهل؟ أليست المسألة أيسر من ذلك، وكلُّ مولود يولد على الفطرة؟! بداية القصة -يا كرام: خلق الله الخلق لغاية، العبوديةُ لله بمفهومها الشامل الذي تكلَّمنا عنه المرَّة الماضية، هذه العبودية تحتاج نفوسًا شريفةً، عبَّر عن تشريفها الحفاوةُ باستقبال الإنسان وسجودُ الملائكة له ثم تسخيرُ كلِّ شيء لخدمته، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (القرآن 45: 13) كلُّ شيءٍ هو لأجلك وفي خدمتك؛ لتحقِّقَ هدفَ وجودِك من العبودية لله بمفهومها الشامل. ستحتاج لاكتساب صفات الشرف والكرامة لتَرقَى نفسُك لمهمة العمل للغاية العظمى، ولتحصيل العزة والتمكين والاستخلاف اللائق بأولياء الله، لذلك: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ (القرآن 17: 15)، فأنت المستفيدُ في عمليَّةِ تأهيلها هذهِ، بالإضافة إلى النعيم المقيم في جنات الخلود. في المقابل: من تَغافل عن غاية وُجودِه ونَسِيَ ربَّه حُرِم هذا الشَّرفَ ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ (القرآن 59: 19) أنساهم أن يعملوا لخير أنفسهم وأن يُزكُّوها ويَبْنوا منها إنسانًا يعمل للغاية العظيمة التي أُوجِد من أجلها. عندما أستحضر أن غاية وجودي هي العبودية لله وما يَتْبعها من نَعيمٍ فإنَّ أفعالي كلَّها تَصُبُّ في تحقيق هذه الغاية، حتى الأفعالُ الفطريَّةُ كالزّواج والإنجاب، ومن جمال العبوديّة لله أنها تُعَزِّز لنا الاستمتاع الفطريَّ بنعمة الأولاد ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (القرآن 25: 74) قرةَ أعينٍ في الدّنيا وفي الآخرة، مقابلَ الذين نسوا اللهَ فانقَلبتْ قرةُ العينِ عذابًا ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (القرآن 9: 55) أبنائي امتدادٌ لمشروعي بعد وفاتي؛ «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (صحيح مسلم)، لكنْ حتى يكونوا كذلك لا بدَّ من أن أبنيَ فيهم الإنسانَ الشريفَ الكريم كما أحبَّ اللهُ له أن يكون، وهذه هي التربية، كل هذا يجعل أبنائي وتربيتَهم في بُؤرَة اهتماماتي، فيصبحون أهمَّ مشاريعي. تبدأ المشكلة إخواني إذا نسينا الغاية العظمى من العبودية لله في هذا كلِّه، ولما كانت هذه الكلمةُ هي ضمنَ سلسلةٍ لكِ أنتِ -أيتها المسلمة- فسيكون تركيزُنا فيها على نفسكِ أنت؛ دورِها في التربية، لأنَّها ضمنَ دائرة النجاح في الأساسيات التي تكلَّمنا عنها قبل أن تنطلقي لمحاولة النّجاح والبحث عن الذات في مجالاتٍ أخرى تائهةً عن خارطة الأساسيات والأولويات التي تكلَّمنا عنها. التربية مسؤوليةٌ مشتركةٌ من الزوجين. ماذا إن قَصَّر الأب؟ - سنجيب، لكن حديثنا الآن هو لك أنت أيتها الكريمة، كثيرٌ من النساء عندما تسمع كلمة (تربية)، لا تَجِد لها وقعا كبيرًا في حسِّها. - تربية؟! أولادي يذهبون للمدارس، وقد حرصتُ أن أسجلهم في مدارسَ محافظةٍ وبيئات آمنة نسبيًّا، سيتربّون كما تربيتُ أنا، ماذا عليَّ أكثر من ذلك؟ حسنًا، تعالي نستعرض معًا ماذا تعني التربية، ثم نرى إن كان ابنُك يحصِّلُها في المدارس أو المجتمع حقًّا: التربية: تعني أن تُنشِّأ أبناءك على معاني الحياء والشهامة والنخوة والرحمة والكرامة والعِزَّةِ ورفضِ الظلم، والغضبِ لله، والغيرةِ على الحرمات، والنهيِ عن المنكر، وقوّةِ الشَّخصية، في هذا العالم الذي يحاول سحقَ هذه المعاني بكل الوسائلِ، ومنها التَّعليمُ والإعلامُ والرسوم المتحركة والألعابُ الإلكترونية بما فيها من إيحاءات مدروسةٍ تَهدِم الحياء وتُنمِّي العنف. التربية: تعني أن تعلِّمي ابنَك كيف يفكر، وكيف يطرحُ الأسئلة الصحيحة، وكيف يعبر عن نفسه، وكيف يميِّز بين العلم الحقيقيِّ والعلم الزَّائف، وكيف يَنقُد الأفكار التي تُعرَض عليه، كيف يعرف المغالطات في النقاش، التي يستخدمها المبطلون ليُشكِّكوه في دينه. وكيف يَتحقَّقُ من المعلومة. التربية تعني: أن تُعيني ابنَك وبنتك على اكتشاف نفسه، واستثمار جوانب قوته، ومن ثَمّ على اختيار الأهداف التي تُناسب قُدُراتِه وظُروفَه ويُساهم بها في إعزازِ أمَّته. أن تُعَلِّمي الولدَ أن: كُن نفسك، تَقبَّل نفسك، لا تَتَقَمَّصْ شخصيَّة غيرك، ولا تُحسَّ بالفشل إن لم تُحقِّق ما حقَّقه غيرُك، ولا ترسم أهدافًا لا تناسبك؛ فلكلٍّ شخصيته، لأنَّ ابنكِ بغير ذلك لن يقنع ولن يسعد. التربية تعني: أن تَدُلِّي أبناءَك على الإجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى: من أنا؟ من خلقني؟ إلى أين المصير؟ ما الغاية من وجودي؟ لماذا أنا مسلم؟ ما الأدلَّة على أن القرآن من عند الله؟ ما الأدلةُ على نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟ كيف حُفِظ القرآنُ والسُّنَّة اللذان أرجعُ إليهما في حياتي؟ التربية تعني: ألا يصير عُمُرُ الولَدِ اثنتين وعشرين سنة أَمْضى منها ثماني عشرة سنة في المدارس والجامعات، وهو لا يعرف إجابة هذه الأسئلة، بل ولا يعرف كيف يُفكِّر؛ فكلمة تأتي به وكلمة تُذْهِبُه، ومقالٌ تافهٌ أو مقطع فيديو يَخْلَعه من دينه بكل سهولة، ويناقشُ بكل سذاجة فاقِدًا لأدنى مقوِّمات التفكير الصحيح والنقاش العقلاني والنَّقد العلمي، وهو مغرورٌ بظنه أنه متعلم، بل ربما مهندس أو طبيب أو دكتور جامعي. التَّربية تعني: أن تربطي أبناءَك وبناتك بالرموز الحقيقية في تاريخهم الإسلامي، وتُعَرِّفِيهم بتاريخ أمَّتهم؛ ليعلموا أن لهم جذورا عميقةً ويعتزُّوا بها، بدل أن يكونوا طَحالبَ إِمَّعَاتٍ، مقلِّدين للزُّناة والمخمورين وتائهي مشاهيرِ مواقعِ التواصل الاجتماعي في لِبَاسِهم وقَصَّاتِ شعرهم وحركاتِهم. التربية تعني: تعويد ابنك أن يطرح سؤال: (لماذا أفعل ذلك؟) في كل ما يفعل؛ فهو ليس قَطيعِيًّا مُقلِّدًا تقليدًا أعمى. التربية تعني: أن تُنَمِّي في طفلك مَلَكَةَ التنبُّؤُ بالمُدْخَلَات؛ فينتبهَ لحيلِ وسائل الإعلام وطُرُقِها في محاولة إعادة صياغة نفسِيَّتِه وقِيَمِه، وأذكر كيف كان أبي -رحمه الله- يُنَبِّهُنَا على ذلك بمناقشة بعض ما نشاهد، وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ. التربية تعني: أن تُحبِّبي إلى ابنك وابنتِك طلبَ العلم النافع في كل المجالات، وإمساكَ الكتبِ ومتابعةَ السلاسل، وشعارهم: (احرصْ على ما ينفعُك)؛ ليَشعروا بالامتلاء العقلي والروحي بدل الفراغ الذي يَدفَعُهم إلى متابعة توافهِ الـ(youtubers) أو الإدمانِ على المقاطع الإباحية، أو العيشِ في وهم الألعاب الإلكترونية. التربية تعني: أن تُولّدي لدى ابنك الحافزية ليتعلم ما يعينه على إتقان أدوات عصرِه؛ ليكون مؤثِّرًا وناجحًا بصفته مسلمًا؛ فيتعلَّم استخدام التقنية وإدارةَ المال ومهاراتِ الإقناع ومهاراتِ القيادة والعملَ في فريق. التربية تعني: أن تربطي أبناءك بالصحبة الصالحة، وتبحثي لهم عن رِفَاق الخير بحثًا، حتى وإن احتجتِ أن تعملي علاقاتٍ مع أمهات؛ لِتُوَفِّري المحاضنَ الآمنة ورِفَاقَ الصلاحِ لأبنائك. التربية تعني: أن تُعَلِّمي أبناءك وبناتِك ما نبثُه هنا من حقوق كل فردٍ من أفراد الأسرة وواجباته وأولوياته، وتُعَلِّمي ابنك أن يصل إخوانه ويحنَّ على أخته. التربية تعني: أن تعلمي أولادك الجِدِّيَّةَ وتَحَمُّلَ نتائج أفعالهم وتَوَقُّعَ الألم في الحياة والتعامُلَ معَه بصبرٍ ورضا، وأنهم ليسوا في هذه الحياةِ للراحة والرُّكونِ إلى الدنيا، وأَنَّها دارُ بلاءٍ لا دارُ جزاءٍ. التربية تعني: أن تربطي أبناءَك بالقرآن، وتُنَمِّي لديهم مَلكة فَهمه والاستدلال به، مما سيتطلب منك تحبيب اللغة العربية إليهم. التربية تعني: أن تُعَلِّمي أبناءَكِ أن شَرْع الله حاكمٌ على حياة المؤمن، وألا يَعْتَرفوا بأيَّة مرجعيةٍ غيرِه في زمنٍ يُرادُ لدين الله أن يُحصَرَ في شعائرَ محدودةٍ، ويكونَ التّقديسُ والتّعظيم لأهواء البشر. التربية تعني: أن تجعلي أعظمَ قيمة لدى أبنائك توحيدَ الله، تعظيم الله، ومحبةَ الله ورسولِه لتكون فوق كلِّ محبَّة، وتُجَنِّبِيهِم ما يشوبُ التوحيد. التربية تعني: أن تُعَلِّمي أبناءك الانتماء إلى أمتهم الإسلامية، والاهتمامَ بأحوالِها، وتحويلَ الهَمِّ لها إلى العمل بإيجابية دون يأس ولا إحباط. التربية تعني: بناء العلاقة الوطيدة مع أبنائك، والمحبَّةَ والثقةَ والاهتمامَ بهم، وسَماعَ مشكلاتِهم والصداقةَ معهم، وبغيرِ ذلك لن تحققي الأهداف التي ذكرنا. التربية تعني: أن تَتَعَرَّفِي على خصائص كل مرحلة عُمُريَّة لأبنائك وما يلزم لها، مع تنويع الأساليب: كالقصة واللعبة والنشاط الجماعي. التربية تعني: أن تُعِينِي ابنَك وابنتك على معالجة المشكلات التي تَعْرِضُ لهم في طريق بناء شخصياتهم، كما تحرصين على علاج أمراض أجسادهم، بل أكثر. التربية تعني: أن تكوني قدوةً عمليةً؛ تَتَمَثَّلين هذه المعاني كلَّها في ذاتك قبل أمر أولادك بها، فدمعةٌ صادقةٌ منك عند قراءة آية، أو ذِكْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستفعل فِعْلَها في قلبِ أولادِك أكثرَ من ألف درس دين في المدرسة. إصرارُكِ على ولدك أن يَقوم إلى صلاة الفجر أكْثرَ من إصرارك عليه أن يقوم إلى المدرسة يَبْنِي تَعظيمَ اللهِ في قلبه ويجعلُ اللهَ أوَّلًا في حياته بالفعل، وأَداؤُكِ لِدَوْركِ في غياب والدهم كما هو في وجوده يعلّمهم أن يجعلوا مراقبة الله نُصب أعينهم. بِرُّكِ بوالديك وخدمتُهما، وقراءتك كُتُبًا منهجية أمام الأولاد ومعهم وعدم الاقتصار على متفرقات مواقع التواصل، تَجْعَلُهم يَأْلَفون القراءة، ولن تحتاجي بعدها أن تملئِي وقتهم بنفسك، ما دمتِ قد وضعتِ قدمهم على الطريق. في المحصلة، التربية تعني: أن تبني الإنسان الذي يعمل لغاية: تحقيق العبودية بمفهومها الشامل لصلاح الدنيا والآخرة. أعرفتِ يا كريمة ما معنى التربية؟ وما معنى بناء الإنسان؟ أعرفت ما معنى: «وهي مسؤولة عن رعيتها»؟ [مسند أحمد]، ومعنى قولِ نبيِّنا في الحديث الذي أخرجه البخاري، -وهو حديث مخيف يُشعرك بعِظم المسؤولية: «ما مِنْ عَبْدٍ استَرْعاهُ اللهُ رعِيَّةً فلم يَحُطْها [بِنَصِيحة]... إلا لم يجد رائِحةَ الجنة» [صحيح البخاري] انظري إلى التعبير النبوي: "فَلَمْ يَحُطْهَا [بِنصيحة]"، مطلوبٌ منك أن تحيطي أولادك من كل مكان، ليس بكثرة النصائح والانتقادات؛ فهي تُحدِث السآمة والنفور من أولادك تجاهك، وإنما بالقُدوة العمليِّة والتّوجيهاتِ، عند الحاجة، وحمايتكِ لهم مما يَضُرُّهم، وحَزمُك في ذلك مع عَطْفِكِ ووُدِّك، تُحيطينهم حتى تحميهِم من سِهام الشهوات والشبهات التي تأتيهم من كل حَدْبٍ وصَوْبٍ. أنتِ المُؤَهَّلةُ لبناء هذا كلِّه في ابنك، وأنتِ المؤهَّلة لترسيخِ الأمانة في قلوب أبنائك بسلوكك العملي، كما في حديث حذيفة بن اليمان قال: حدثنا -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ. ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثمَّ علموا مِن السُّنَّة» [صحيح البخاري]. الأمانةُ: الصدقُ مع النفسِ، التي إن رسَّخْتِها في قلوب أبنائك نَفَعَهم القرآن والسنة، وإنْ لمْ تَزْرعِيها لم ينفعْهم شيء، وكانوا أرقاما في ظاهرة الغثائية والنِّفاق. سفيان الثوري قالت له أمُّه: (يا بنيَّ، اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي... -أي أَحِيكُ الملابسَ وأبيعُها وأنفقُ عليك، لكن أنت تفرغْ لطلب العلم- يا بنيّ، إذا كتبتَ عشرةَ أحاديث فانظر... هل ترى في نفسك زيادةً في مَشْيِكَ وحِلْمك ووَقارك -أي في الأخلاق- فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنه يضرّك ولا ينفعك). [تاريخ جرجان للسهمي: 449-450]، لم تَقُلْ له هاتِ علامةً لكي نفاخرَ بك، وتكونَ أحسنَ من ابنِ عمِّك، وإنما أُريدُ للعلم أن يؤثِّر في أخلاقكَ: تُعلِّمُه أمانةَ العِلْمِ. نشأ الإمام أحمد بن حنبل والشافعي يتيمَين، وتولَّت أمُّ كلٍّ منهما تربيتَه، فَأصْبَحَا من سادة الأمة في العلم والعمل، أنت المُؤَهَّلة لهذا كله لأنهم أبناؤكِ، ولنْ تعوِّضَ المدرسة ولا الحضانة ولا الروضة ولا الشغالةُ عنك أنت؛ فليست النائحةُ الثكلَى كالمستأجَرَة، فلا تستغربي حين كرَّم الإسلام الأمَّ وجعلَ الجنة عند رجلها. تصوري بعد هذا كلِّه لمَّا كنتِ تَقولين لنفسك: (التربية فقط؟!) وتضعي بعد سؤالك استفهامًا وتعجُّبًا، بينما كلمتُك هذه بحاجة إلى ألف تعجب. كلُّ هذه الأركانِ لتربية النفس البشرية أصْبَحت الثقافةُ السائدةُ أنها تجيء تلقائيًّا وليس ضروريًّا أن نتعلمها، بينما نصرف للشهادات الجامعية عشرين سنةً من حياتنا، وأكبر رسالة سلبية نوصلها لأولادنا بذلك أنَّ العبوديةَ لله بمعناها الشَّامل ليست هدفَ حياتِنا، وهم يتَشَرَّبون هذه الغَفْلَةَ يوميًّا مِن سُلُوكِنُا، يُعَبِّر عن ذلك تعليقُ إحدى الأخواتِ على حلقةِ: (المرأة والبحث عن الذات)، إذ قالت: "أعتبر نفسي ضحيةَ هذا التفكيرِ، فتربيتي كانت على هذا: (ذَاكَرِي فقط -أي ادرسي فقط- لا نريد منك إلا الانْكباب على الكتاب لتَحْصُلِي على أعلى الدرجات وتدخلي كليَّةً مميزة)، دخلتُ ثم تزوجتُ بدون أي تأسيس أو تعليم لكيفية إدارةِ البيت أو التعاملِ مع الزوج أو تربيةِ الأبناء، وفوقَ كلِّ هذا إحساسٌ قاتل بالذنبِ؛ لأني لم أكمل دراساتٍ عليا بعد الجامعة، الأهلُ يوصلون رسائلَ أن قيمتَك فيما وصلت إليه من مَركَزٍ وما حقَّقْتِه من إنجازٍ في مجال العمل، أما بيتُك فهذا تحصيل حاصل؛ كلُّ النساء يفعلنه؛ لا يُهمُّ كيف ولا يُهمُّ النتيجة، المهم أن نفتخر بك". إذن: "أما بيتك فتحصيل حاصل، كل النساء يفعلنه، المهم أن نفتخر بك" والأخرى تعلق بأن زوجها يُعَيِّرُها: لماذا لا تكونين كفلانة تشتغل وتأتي بالمال؟ البيت والأولاد؟! كلُّ الزوجاتِ عندهنَّ بيت وأولاد. تصوري كم عُمل فينا حتى تشوّهت عبارة (عَمَل المرأة في بيتها). وانحصرتْ في أذهاننا بالجمادات من المَجلى والغسَّالة والمِكنسة و الثلاجة. حين نسمعُ باستمرار عن أبناء -وبعضهم من عوائل تُصَنَّفُ على أنها ملتزمة- يُلحدون أو يميلون للشذوذ، وآباؤهم يتعجبون. من ماذا تتعجبون؟ هل حصَّنتم أبناءَكم وأحطتموهم بنصحكم كما أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم؟ أم أنَّ أعداءَكم زرعوا في أبنائكم وأنتم غافلون؟ فها هم أعداؤنا يحصدون. هلا تقولين لي -حضرتك: المدارسُ، كم من هذه الأهداف تُحقِّق؟ بل هل هي تحقق هذه الأهداف أم تُدمِّرها؟ إلا من رحم ربي من معلمٍ هنا أو معلمة هناك. ولتطبيق عملي: إذا ذهبتِ لتُسَجِّلي ابنَك أو ابنتك في مدرسة، فأرجو أن تأخذي معك قائمة الـ21 مقوما من مقوِّمَات التربية التي ذكرناها، وتسألي المسؤولين في المدرسة: هلا تقولون لي كم من هذه الأهداف تُحقّقون؟ وما البرامج والأساليب التي تستخدمونها لتحققوها؟ من سنوات اكتُشِفَت حالةٌ لطبيبين في أحدِ المستشفيات الحكومية الكبرى في بلد عربي، يأتي مريضُ السرطان فيُصْرَف له دواءٌ، لكن -وبالتنسيق مع بعض الممرضين في المستشفى- لا يُعطي الطبيبان الدواءَ للمريض، بل يُباع في السوق السوداء، وأما المريضُ فيوضَع له حقن وريدية (Normal Saline) أي ماء وملح. مؤلمٌ، أليس كذلك؟! ما يحصل لعامَّة أبناء المسلمين هو الشيء نفسه. هم بحاجةٍ لعلاج إنسانيتهم من الجهل والهوى، لكن الذي يُعطى في كثير من المناهج التعليمية هو (Normal Saline)، بل في كثير من الأحيان سُموم، والأبوان يعتَبِران أنهما أدَّيا ما عليهما بإرسال الأولاد إلى هذه المدارس، ليس أخطرُ شيء أن تترك المريض دون علاج، بل أن تدخل لجسمه (Normal Saline) أو سموما، وأنت توهمه -وأهلَه- أنك تقدم له علاجًا. قد تقولينَ: لكن كلامكَ عن دوري في التربيةِ غيرُ واقعي، فأنت كأنك تريد من كل أمٍّ أن تكون عالمة في كل هذه المجالات. فأقول لك: المطلوب منك -يا كريمة- أن تبني الأساسَ، وتضعي قدمي ولدِكِ على الطريق الصحيح، وتُوَلِّدِي لديه الحافزيَّة للتعلُّم والعملِ بما يتعلم، ثم يكون دوركِ بعد هذا أن تعينيه وتشجعيه. طرأت عليه شبهة سمعها؟ تَعَالَ -يا بُني- نبحث عن الجواب، وتتعاوني معه في تعرُّف المصادرِ والمراجعِ الموثوقة والأشخاصِ الذين يَسمع لهم. عانت ابنتكِ من مشكلة نفسية؟ تعالي نَسْتَشِرْ مُخْتَصَّة... أبناؤكِ هم في صُلْب مشروعكِ. قد تقولين: أراك وضعتَ حِمل التربية علي، وماذا عن الأب؟! بدايةً ليست حِمْلًا، بل شرفًا: التربية والتزكية وبناء الإنسان، هذه وظيفة الأنبياء -عليهم السلام، وشرفُ العامل على قَدْرِ شَرَفِ العمل، وبما أنَّ عِبْءَ النفقة يَقَع على الرّجل مع ما يتطلَّبه ذلك من إنفاق ساعات في العمل خارج البيت عادةً، فبطبيعة الحال سيكون الوقت الذي تُمْضِينَه معَ أبْنائك أطولَ بكثيرٍ، وستكون فرصتُكِ في التربية أكبرَ، ومع ذلك فعلينا أن نُذَكِّر بأن التربية مسؤوليةٌ مشترَكةٌ بين الأب والأم، فمسؤولية بهذا الحجم تحتاج تعاونكما. في التعليق على حلقة: (أنا مش شغالة البيت)، اعترض بعض الرجال قائلين: "أتريدنا أن نَكُدَّ ونتعب في العمل، ثم تجلس المرأة مدللةً في البيت لا تعمل شيئا، بل وتقول لنا: ساعدوها أيضا في عمل البيت؟!" بل نقول -أخي: نحن نطالبك بمعاونتها في عمل البيت، والتقليلِ من المتطلَّباتِ لتُفَرِّغَها للمهمة الأعظم: بناءِ الإنسان، وعليكَ أن تُعِينَها على هذه المهمة أيضًا، لا أن تُقَصِّرَ في واجبكَ في التربية تحت عناوين: (أنا أعمل لأجلكم؛ لتحصيل قوتكم، وتكاليف الحياة عالية، وأيامنا صعبة)، وحتى الوقت الذي تمضيه في البيت ليس وقتًا نَوْعِيًّا تكون فيه متفرِّغ الذهن لأبنائك، بل تنشغل عنهم بالجوّال والاتصالات وغيرها. من لوازم القوامة التي تكلمنا عنها أن يكون الأب قدوةَ البيت في التوازن وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ومن ثمَّ، نُحَمِّلُه المسؤولية الأولى عن تحقيق ذلك، وقولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في من لم يَحُطْ رعيته بنصحه: «لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» مُوَجَّهٌ لك أنت أيضًا -أيها الرجل، وهناك أدوارٌ في تربية الأبناء لا يَصْلُح لها إلا أنت؛ (بما فضَّل الله بعضهم على بعض) [القرآن 4: 34]، ومن المُرهِق جِدًّا للمرأة والظلمِ لها مطالبتُها بها، فعليك أنت قيادةُ مشروع تربية وتذليلُ عَقَبَاتِه، رحلة تربية الأبناء -بدايتها الحقيقية- هي من اختيار الزوجة، واختيار الزوج الذي يشاركك في تحقيق الهدف الأعظم كما ذكرنا. لكن نقول لك أنتِ -يا كريمة: افترضي أن الأب لم يَقُمْ بدَوره في التربية طَالَبْتِهِ بذلك وذكّرته بالله، لكنه لا يتجاوب، فهل ستتركين أولادكِ؟ إذا الأب لم يأخذ الأولاد إلى مطاعيم شَلَلِ الأطفال والحَصْبَةِ والجُدَرِيِّ وغيرها، هل ستقولين: هو قصّر فلن أتحمل الحِمل وحدي، أم ستدفعك رحمتك إلى أخذهم؟ أليست نفسُ طفلِكِ وروحُه أَوْلى؟ أقبلْ على النَّفسِ واستكملْ فضائلَها فأنتَ بالرُّوح لا بالجسم إنسانُ لن تكون مهمةً سهلةً، لكنك تُبَرِّئين ذمَّتَك أمام الله، ولعلَّك تستعينين بمحاضِنَ تربويَّة، كالمراكز والدورات النافعة والصحبة الصالحة؛ لتساعد في سد الفجوة التي أحدثها الأب المُقَصِّرُ وتُعينَك على المهمة. قد تقولين: لكن بصراحة أنا نفسي فاقدة لكثير من معاني التربية ومقوماتها التي ذكرتها، فكيف أُنْشِئُ عليها أبنائي، وفاقدُ الشيءِ لا يُعطيه؟ صحيح، نحن نحتاج لأن نتربَّى على هذه المقومات أولًا ثم نُربِّي عليها أولادنا، وهذه رحلة حياة، تحتاج تَعَلُّما مستَمِرًّا وجُهْدًا ضخمًا واستعانةً بالله. عامَّةُ ما نَبُثُّه في المقالات والسلاسل هو محاولةٌ لبناء المقوِّمات التربويَّة المذكورة في أنفسنا، سواءً في رحلة اليقين أم في سلسلة المرأة أم في مسابقات الاستدلال بالقرآن أم في غيرِها، بالإضافة إلى سلاسلَ وكتبٍ، سنحيل عليها لمُرَبِّين فضلاءَ تَسُدُّ الثغرة وتعطي خارطة الطريق، ما نحاول إيصاله ما هو إلا (ألف باء) الحياة الذي كان يجب أن نتعلمه بَدْءًا من سنواتنا الأولى. فالحلُّ يبدأ من تعظيم أهميّة بناء الإنسان، ونحن الآن نخوض معركةَ استعادةِ السَوِيَّةِ النَّفْسيَّة، وتحريرِ الرِّوح والنَّفس والفِطرة، وإعادةِ إحياء الهدف. لكنْ الجميل في الأمر -في المقابل- هو أنكِ ستكتشفين وأنتِ تربين ابنك أنك تربين نفسك، نفسُك بينَ جنبيك لا ترينها، لكنْ ستَرينَ عُيوبَها وحِيَلَها، وجمالَ نتائج تربيتِها، ترين ذلك كله في ابنك وابنتك، وكأنها من حكمةِ الخلق وسنة الحياة، أننا في رحلة التَربية نَكْتَشف أنفسَنا: نَكتَشِفُ جَمال النفسِ البَشَرِيَّةِ التي وهبنا الله إياها، وجمالَ زَرْعِ البُذور فيها وسَقْيِهَا بماء الوحي وحصادِ النتائجِ، وجمالَ تحريرِها من الاحتلال، وبإمكانكِ أن تَرَيْ الإحساسَ بهذا الجَمال في التعليقات على الحلقات من إخوةٍ وأخواتٍ ذاقوا لَذَّة اكتشافِ الشَّريعة واكتشافِ نفوسِهم -بفضل الله. قد تقولين: لكنْ أَلَا ينبغي أن تَكون مسألةُ التربية أيسر من ذلك؟ أليس كلُّ مولودٍ يولد على الفِطرة؟ هل الأجيالُ المسلمةُ الأولى احتاجت لكل هذا التعقيدِ؟ فنقول -يا كريمة: مِنْ أخطَر ما حدث للمسلمين حين انسحبَ الاحتلال العسكريُّ من بلادهم أنهم ظنُّوا أنهم مستقلُّون؛ لأنهم ما عادوا يَرَوْنَ جنود العَدُوِّ يتَجَوَّلُونَ في الشَّوارعِ، ومن ثمَّ فهم لا يدركون الاحتلال النفسيَّ والفكريّ والروحيّ والقِيَميّ الذي يعيشونه، فلا يَسْعَوْن للتحرر، كما عبر أحدهم بشكل بليغ: وأقولُ كلُّ بلادنا محتلةٌ لا فرقَ إِنْ رَحَلَ العِدا أو رانُوا ماذا نُفيدُ إذا استقَلَّت أرضُنا واحتُلَّتِ الأرواحُ والأبدانُ ستعودُ أوطاني إلى أوطانِها إنْ عادَ إنسانًا بِها الإنسانُ كانت أجيال المسلمين الأولى على الفطرة والسَوِيَّة النَفْسيَّة، فعاشت بصدقٍ لتحقيق العبوديَّة الشاملة، وكان هذا الهدفُ مُحرِّكًا لأفعالها، بحيث كان الأصل أن تخرج أفعالها على السليقة -دون تَكَلُّفٍ- في الاتجاه الصحيح. نُفوسٌ مُعْتَزَّةٌ بالوحي، تثقُ به ثقةً مطلقةً، وتنفرُ من الجاهليَّة الماضية والجاهليات المحيطة بها، وتحتقرها وتَسُدُّ منافذَها إلى القلوب، وتُعيد النَّظر في كل موروثاتِها وتُحَاكمها للمعايير الربانية، قد تُعاوِدُها نَزَغَات من الجاهلية بين الحين والآخر، لكنَّها تُدرك أنها جاهليَّة، فتُجاهدها وتَتَخلص مِنْها، وتَقَعُ في مَعَاصٍ، لكنْ تدرك أنها معاصٍ، بينما مولود اليوم يولد على الفطرة فما تلبثُ منظومة الاحتلال الناعم أن تطمَسَها، وتُشَرِّقَه وتُغَرِّبَهُ نَفسِيًّا وفكريًّا وقِيَمِيًّا، وتُغْرقَه في سيل متتابع من الفتن والشبهات، وتُلَبِّس الحق له بالباطل، ومغناطيسُ العبودية لله -الذي يجمع الشتات- غير موجود، فتبدو العملية صعبةً لأننا [نجمع] شتاتَ النفس المتفلت الذي يتجاذبه الدعاة على أبواب جهنم، كان القرآن مَفهُومًا يُحدِثُ أثرَه البليغَ في النفوس، والآن يُشْكِل فهمه على عامة العرب، فدوركِ -يا كريمة- أن تنفضي هذا الرُكَام عن فطرة أبنائك وتَنْصِبي أمام أعينِهم الهدفَ الذي يجمع شتاتهم، وتُقَرِّبي إليهم الوحيَ. قد تقولين: بعدما ذكرتَه، فإني أخاف على مستقبل أبنائي، بل وقد أتردد في الإنجاب من أصله! فنقول لك: من قَدَرِ الله لهذه الأمة أن تكونَ هي الغالبةَ في النهاية: فتحُ روما المُبشَّر بِه، ودُخُولُ الإسلامِ كلَّ بيتٍ، هذا كلُّه سيكون على يدِ ذريَّةٍ من أبناءِ المسلمين، فلَنْ يَنقرضَ المسلمون ويأتيَ أناسٌ من كوكبٍ آخرَ لينصروا الدين، وبُشْرَيَاتُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- من مقاصدها سَكْبُ هَذِه الطُّمَأنينة في قُلوبنا وأن نَّعلم أننا نُقَارِع في جَولَتنا ونُسَلِّم الراية لأبنائنا بحسن تربيتهم؛ ليستكملوا طريق النصر، والعاقبة للمتقين. أخطر ما يَحصُل في تربية الأبناء -أيتها الكريمة- والسبب الرئيسُ في ضياعهم وتحوُّلِهم إلى مصدر شقاء للوالدين هو نِسيان الوالدين لهذه المعاني؛ نِسيانُ أنَّ الأبناءَ وتربيتَهم يجب أن تكون من مشروع تحقيق الغاية العظمى: العبوديَّةِ لله. يتزوج الشاب والفتاة، وينجبان لأن الناس ينجبون لا أكثر، وأحيانا للاستمتاع بغريزة الأبوّة والأمومة، والاستِئْناسِ بصوت الأطفال في البيت، ثم ماذا؟ - لا شيء... أنتَ تبحث عما تهواه نفسُك وتستمتِعُ به أكثَرَ من أداءِ واجِبِك الأُسَرِيِّ، وأنتِ تبحثين عن تحقيق ذاتك ورسمِ قصة نجاحِك بعيدًا عن الأولاد. هذا النوع من الآباء والأمهات سيجِد نفسه يصطَدِمُ بأولاده، سيراهم عَقَبةً في طريق طموحاته أو هواياته؛ لأن أولادَه هؤلاء ليسوا جزءًا من طموحاته، وسينفعل ويتَأفَّفُ عندما يأخذون من وقته؛ لأنهم يُعِيقُونَه عن تحقيقِ مشاريعه التي ليسوا هم جزءًا منها، وهذا الانفعال والتوتُّر يُضاعِف الفشل في التربية. الأبناء الضائعون بين أبوَين لا يَجِدَانِ متعةً في تربيتهم سيبدؤون بعمل المشكلات، وستَتَوتَّر علاقتُهم بكما -أيها الأبوان، بل سيصبحون مصدرَ توتُّر العلاقات بينَكُما بصفتكما زوجين، فكلٌّ منكما يتِّهم الآخرَ أنه السببُ، وكلٌّ منكما يُلْقي بحِمْل الأولادِ الثقيل على الآخر، وأولادكما ينظرون، ويَحفُر في صدورهم أنكما تتعاملان معهم كحِمْل مزعج، بدلَ أن تستمتعا بالقربِ منهم. هُنَا ماذا يفعل كثير من الآباء والأمهات؟ يُقدِّمون أخطر رِشْوةٍ للأولاد؛ فيوفِّرون للأولاد ما يهْوَوْنَه حتى وإن كان ضارًّا بهم، ولسان حال الأب أو الأم: بُنيّ، أنا مشغول عنك، لا تأخذ من وقتي وذهني الكثير! ماذا تريد؟ أطعامًا؟ خذ! أحلوياتٍ ولو ضارة؟ خذ! أمصروفًا زائدًا ولو كان مُفْسِدًا؟ خذ! أموبايلا؟ أتابلت؟ أآيباد؟ خذ! أإكس بوكس؟ أبلاي ستيشن؟ خذ! خُذ ما تريد وارحل عني، لا تزعجْني! إِبَرٌ لِتَخدير نفْسِ الولد التي تَصرُخ من الجهل والفراغ الروحي مُطالبَةً بما يضُرُّها ولا ينفعُها. علّقت إحدى الأخوات على الحلقة الماضية قائلة: "زوجي طيب وملتزم، لكنه لا يُساهم في تربية أولادِه، إلا بتلبية رغباتهم وإرضائهم وملاعبتهم؛ حتى لا يُحسُّوا بالنقص عن غيرهم من الأولاد -كما يقول، محاولاتي لوضعِ هدف لهم وتلقينِهم للمبادئ وحثِّهم على الصلاة وتَجنُّبِ التَّفاهة وطلبِ العلمِ النافعِ تَجْعلني شريرةَ البيت ومُتسلِّطةً صارمةً في مقابل لينِه وحنانِه وإغراقِه في تَسْهيلِ حياتِهم وتبسيطِها، أُكابِدُ وما زِلْتُ، لكن هل أستمرُّ في هذا الدور الصعب وحدي؟ وإلى متى، والطفل ينجذب للترفيه والتّدليل، وينفر من الإلزام والإجهاد الذي أُمَثِّله؟" فنقول: نعم يا أختي الكريمة، استمري مع تنويع الأساليب ومَزْجِ ما تقومين به بالعَطْفِ وإظهارِ الاهتمام، واطلبي من زوجك الكريم أن يحضر الحلقة أيضا، ولكِ -بإذن الله- على صبرك وجهادِك الأجر العظيم. في مقابل الإهمال هناك الاهتمام المدمِّر، الخطورة أننا إذا قلنا للمرأة: اهتمي بأبنائك، ولم نشرحْ كيف يجبُ أن يكون هذا الاهتمام، فستظُنُّ أن احتراقَ أعصابِها لأَجْلِهم والتصاقها النفسيّ بهم هو الاهتمام المطلوب، وتَظُنُّ أن تفريغهم للدراسة دون إشراكِهم في واجباتِ البيت، وتسميعَ الدروس لهم والصُراخَ عليهم لِيحُلُّوا واجباتهم المدرسية، وتحمُّلَ مسؤولياتِهم عنْهم حتى على مستوى ترتيبِ الفراشِ، وقَتْلَ قدرتِهم على الاستقلالية: هو الاهتمامُ، وأنها بذلك أدَّت ما عليها تِجَاهَهم بَلْ وزيادة، وهي في الحقيقةِ تُفَرِّغُ شِحنةَ الإحساس بالمسؤولية في المكان الخطأ تمامًا، فتؤذي نفسها وتؤذيهم، وتَحسِبُ أنها تحسن صُنعًا. عندما يكون هدفُنا العبوديةَ لله، فإنَّ هذا الاهتمام سيتَّخذ الأشكال الصحيحةَ في بناء الإنسان، وبغير ذلك سيكون الاهتمام مؤذيًا. (أريد لابني أن ينجح في حياته): ما مفهوم النجاح؟ ما معايير النجاح؟ إن أردتِ أن تساعدي أبناءك في دراستهم فحببي إليهم العلم: عَلِّمِيهِم كيف يُنَظِّمُون جداولهم، وكيف يُفَكِّرُون في مسائلَ من هذا النوعِ، وكيف يُحَلِّلُون ويربطون، لا على طريقة (تعال سمّع لي)، وهي أشهر كلمة في ثقافتنا التدريسية، ثم بعد ذلك دعيهم يتحمِّلُوا مَسؤولية تقصيرهم في واجباتهم، ولا تَدَعي ذلك يُفسد علاقتَك بهم، أو يشحَنُ جوَّ البيت بالتَّوتر والصُّراخ. من أهمِّ مبادئ تربية أولادك -كونك أُمًّا- هو أن تَتَخَلَّيْ عن رحمتكِ المُؤذيَةِ وتَدَخُّلاتِكِ، وتُصبحي أكثر عَقلانِيَّة وهدوءًا واعتناءً بنفسك، لا أن تكوني أمًّا مُحترقة تعانين من التوتر والقلق تحت شعار (الاهتمام بالأولاد)، أعصابُك مشدودةٌ، وعلى أُهْبةِ الاستعداد، ومُستَنْزفَةً نفسيًّا، وسريعةَ الانفجارِ معهم ومع الزوج، فكم من امرأة بعد الإنجاب وبعد أن يَكبُر الأولاد قليلًا تصبح أمًّا فقط لا زوجة، تتوتَّر علاقتُها مع زوجها، فيرى أبناؤها -الذين يفترض أنها احترقت من أجلهم- يرون أمًّا فاشلةً في العلاقة الذاتيَّة مع نفسها ومع زوجها ومعهم، محترقةً متوترةً، فترسم الأم بذلك لأولادها وبناتها صورة بائسةً للحياة ولمؤسسة الأسرة، فينفِرون من الزواج الحلال بل ومن الإسلام الذي شَرَعَه وحَثَّ عَلَيْه وحَرَّم غَيره، ويبحث الأولاد والبنات عن الإشباع العاطفيِّ في العلاقات غير الشرعية؛ لأنهم لا يريدون تَكرار تجرِبة الزواج الفاشلة. شعار: (كوني شمعةً تحترقُ لتُضيءَ الدربَ للأولاد) شعارٌ خاطئ؛ ديننا يعلمنا «وَلِنَفْسِكَ عليكَ حقًّا... فأَعْطِ كلَّ ذي حق حقَّه» [صحيح البخاري]، وإذا احترقتِ فلن تُنيري حياة الأولاد، بل ستُسوِّدينَ برماد هذا الاحتراق حياتَهم. لا تحترقي! بل أضيئي حياتهم بتوازنك واطمئنانك، وأعطي نفسكِ حقَّها وَفق دوائر الأولويَّات التي تكلَّمنا عنها. انْبَسِطي مع نفسك ورَفِّهِي عنها، ثم انْبَسِطِي مع زوجكِ وأعطِيه حقَّه، وستنصلح أمورُ أولادكِ بعد ذلك بإذن الله. لا تُعلِّقي نجاحَك بنجاح أولادك فيما يفرِضُه المجتمع من معايير، مثل: الدراسة المدرسية والشهادة الجامعيَّة والعلامات، ولا تنشغلي بالآخرين ورأيِهم، وصورةِ أولادكِ أمامَهم على حساب نفسك وحظِّها من الخير، وأن يكون الله أولا في حياتكِ وحياة أولادك. كوني نَموذَجًا للتوازن والسعادة، فهذا يُعينُ أولادَكِ على نَجاحٍ حَقيقِيٍّ في الدين والدنيا، وأن يُنْشِئُوا هم أيضًا أُسَرًا متوازنةً سعيدةً. حسنًا، جعلتُ العبوديةَ لله هدفَ حياتي، وأنا مُهْتَمَّةٌ بِهداية أبنائي وعبوديتِهم لله وبآخرتِهم، أو أنِّي تَنبَّهْتُ لهذه المعاني بعدما كَبُرَ أولادي، وحاولت أن أتَدارك ما فات، لكنَّ أولادي لا يستَجِيبون، وأنا أشعرُ الآن بالإحباطِ والفَشَلِ مما يؤذي نفسي. هنا تأتي الشريعة لتُرسّم الحدود، وتمنع هذا الاهتمام من أن يطغى على اهتمامكِ بنفسك، وتمنعُكِ من إحراق نفسك حسرةً عليهم؛ فإنَّ ذلك يؤذيكِ، ثم يعود بالأذيَّة على أولادكِ؛ إذ لن تكوني قويةً متماسكةً في مُحاوَلَةِ إنقاذِهم، هنا يأتيكِ كتابُ الله ليقول: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القرآن 28: 56]، وليُذَكِّركِ بأن نبيَ الله نوحًا لم يستطع أن يُنقِذَ ابنَه، وقضاءُ الله نافذٌ، فلا يَطغَ الاهتمام بابنكِ أو ابنتك على اهتمامك بنجاة نفسكِ، مَن انحَرفَ ابنُها أو ابنتُها أو عاشوا حياة الغافلين، فصحيح أن عليها أن تراجعَ نفسها وتُفَكِّرَ ما الأسبابُ يا تُرَى، وتَسعى إلى تداركِ ما فاتَ، وتُصْلِحَ فيما تبقى قَدْرَ الإمكان، لكن دون إحباط، ومع حذرٍ شديد من أن يدخل الشيطان إلى قلبها من باب محاسبة النفس، ومن ثم المبالغة في جَلد الذات. قد تقولين: أنا مقتنعة عقليًّا بما تقول، لكن نفسيًّا، لا أجد نفسي مع زوجي وأولادي، وإنما في العمل التطوعي أو التثقيفي أو حتى العمل الدّعوي، أليست هذه أهدافا سامية؟ فنقول -يا كريمة: يعلِّمُنا دينُنا أن أحدنا لا يعمل ما يستمتع به فقط؛ بل ما يَجب عليه، ومن الهوى أن تُخالفي سُلَّمَ الأولويات، وتُقدِّمي محبوبَ نفسك على محبوبِ الله، حتى وإن كان ما تحبينه طاعةً، وهذا من معاني قول الله -تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ [القرآن 79: 40-41] شرعُ الله الذي يأمركِ أن تَرْعَيْ أبناءَك وتُغَالبي نفسَك في ذلك إن كنتِ لا تجدين متعةً في هذه الرعايةِ والتربية، هو ذاته شرعُ اللهِ الذي يأمر ابنَكِ أن يرعاكِ عند كِبَركِ ويغالبَ نفسَه، حتى وإن كان لا يَجِد نَفْسَه ومُتْعتَه في خدمتكِ وتلبية حاجاتكِ، ويجِدُ ذلك مُمِلًّا بالنسبة له، حتى وإن كان يريد أن ينشغل عنك بطاعةٍ. نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية السلمي الذي جاء يريد الخروج للجهاد مع النبي: «وَيْحَكَ! الزَمْ رِجْلَها فثَمَّ الْجَنَّةُ» يَعنِي أُمَّه، [سنن ابن ماجه] وجُرَيْجٌ العابدُ ابتَلاه الله لأنَّه شَغَلَ نفسَه بصلاته عن نداء أمه كما في البخاري ومسلم، وأُويسٌ القَرنيّ مَنَعَه من نيل شرفِ الهِجرة إلى النبي وصحبتِه بِرُّه بأمه ولزومُ خدمتِها. الأعمال المذكورة في هذه الأحاديث الصحيحةِ -جهاد الطلب (أي الفتوحات)، وصلاة النّافلة، والهِجرةُ- هي من أشرفِ الأعمال لكنَّ الله قدَّم عليها بِرَّ الأُمِّ، ولَعَلَّ أصحابَها كانوا مِمَّن تعتمد عليهم أمَّهاتهم. اللهُ الذي يأمرك أن تَرعَيْ أولادكِ وتُحَقِّقي عبوديَّتَكِ في ذلك هو الذي يأمرهم أن يبرُّوك عندما تَكْبُرين، ويُحقِّقوا عزَّ عُبوديَّتهم في الذلِّ لك: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [القرآن 17: 24]، ولنا عِبْرةٌ فيما يَحصُل بكبار السن في أوروبا مع وباء فيروس كورونا وما يتعرضون له من إهمال، وأيقني -أختي- أنكِ إن قدمتِ محبوبَ الله على محبوب نفسكِ ومارستِ بِناءَ الإنسان بهذه الأهداف العظيمة وعلى أُسُسٍ تربوية سليمة، فإن الحِمْلَ سينقلب إلى متعة ورضا عن النفس واحترام لِلذَّاتِ، أكثرَ من أية متعة أخرى يمكن أن تُحصِّليها. هل علمتِ -يا كريمة- ما معنى تربية؟ رحلة طويلة تحتاج صَبْرًا؛ فهي بناء الإنسان الذي يستحقُّ الخلود في جِوار الله بدَلَ أن يكون وقود جهنم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [القرآن 66: 6] ابنك أو ابنتك وقايةٌ لك من النار «مَنِ يلي مِنَ هَذِهِ البَنَاتِ شَيْئًا، فأحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ له سِتْرًا مِنَ النَّارِ» (صحيح البخاري)، ابنك وابنتك امتدادٌ نافعٌ لك بعد مماتك «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» [فتح القدير] وهو -وهي- مع هذا كُلِّه قُرَّة عين لكِ في الدنيا إن أحسنتِ تربيتَهما. طريق ليست بالسهل، لكنّ ثماره عظيمة جدًا. قد تتعثرين أحيانًا، ويثقل الحمل عليكِ أحيانًا، لكن: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (القرآن 29: 69)، الله معكِ، يجبر نقصك ويعينك، فـ«سددوا وقاربوا وأبشروا» [الصحيحين]، إنه مقامٌ عظيمٌ، بحيث لما سأل السائل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال نبيكِ -صلى الله عليه وسلم: «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ قال: «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ قال «أُمُّكَ» قال: ثم من؟ قال «أَبُوكَ» [صحيح ابن حبان] ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا... فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (القرآن 17: 23-24) وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا والسَّلام عليكم ورحمة الله.