فكلُّ ما فيهِما يدلُّ على اللهِ، وعلى صِفاتِه "ماذا في السَّماواتِ والأرضِ" عامَّةٌ، شامِلةٌ هذا علمٌ، معَ أنَّكَ لم ترَ هذا الإنسانَ! هلْ هناكَ دليلٌ منَ العلمِ على وجودِ اللهِ؟ الجوابُ باختصارٍ وببساطةٍ: أكثرُ ما يدلُّ عليهِ العلمُ هوَ اللهُ قدْ تقولُ: أينَ؟ أرِني اللهَ! أوْ أسمِعْني اللهَ! فنقولُ: أنتَ لمْ تسألْ: هلْ نرى أوْ نسمعُ اللهَ كما نرى أوْ نسمعُ المحسوساتِ؟ ولوْ كان هذا سؤالَكَ لقُلْنا لكَ: لا طبعًا! لكنَّكَ سألْتَ: هلِ العلمُ يدلُّ على اللهِ؟ العلمُ مركَّبٌ منَ الحسِّ والعقلِ فالإنسانُ ليسَ آلةً صماءَ أو آلة تصوير نلتقطُ بها صورًا ثمَّ ننظرُ في شاشتِها، هلْ نرى اللهَ فيها؟ بلِ الإنسانُ يحلِّلُ مدخلاتِ الحِسِّ بعقلِهِ، ويخرجُ بنتائجَ وهذهِ العمليَّةُ تبدأُ منَ اللَّحظاتِ الأولى مِن طفولتِهِ وتَترقّى معَ كِبَرهِ بلْ حتَّى الحيواناتُ تستنتجُ منَ المحسوساتِ وتربِطُ الأثرَ بالمؤثِّرِ فتعلمُ منْ رائحةِ الطَّعامِ أنَّ هناكَ طعامًا وراءَهُ؛ فتبحثُ عنهُ و منها ما يقصُّ الأثرَ كالكلبِ؛ فيبحثُ عنْ صاحبِ هذا الأثرِ إذا رأيتَ تفَّاحةً مَقضومةً عليها آثارُ أسنانِ إنسانٍ علمْتَ أنَّ هناكَ إنسانًا قضمَها إذا سمعْتَ أُنشودةً بصوتٍ جميلٍ علمْتَ أنَّ هناكَ منْ يُنشدُها هذا علمٌ، معَ أنَّكَ لم ترَ الَّذي أنشدَها! بلْ هذهِ علومٌ بديهيَّةٌ، ولشدَّةِ بَداهتِها لا يسمّيها النّاسُ علمًا لأنَّ كلمةَ (عِلم) يتبادرُ منها إعمالُ التَّأمُّلِ والتَّحليلِ وهوَ ما لا تحتاجُهُ في مثلِ هذهِ الأمورِ لكلِّ حادثٍ سببٌ هذا مبدأٌ عقليٌّ، فِطريٌّ، بَدهِيٌّ لا يحتاجُ تعليمًا ولا ذكاءً ونحنُ نعملُ بقانونِ السَّبَبيَّةِ في كلِّ حركاتِنا؛ فنأكلُ لأنَّ الطَّعامَ سببٌ في سدِّ الجوعِ ونشربُ لأنَّ الماءَ سببٌ في سدِّ العطشِ ونلجأُ للنَّومِ كسببٍ للرَّاحةِ ونعملُ كسببٍ لتحصيلِ العَيشِ بمبدأِ السَّببيَّةِ هذا تعلمُ أنَّ لنفسِكَ، وللكونِ منْ حولِكَ خالقًا مدبِّرًا أوجدَ الكونَ، هيَّأهُ للحياةِ، أحكمَ تفاصيلَه، ضبطَ قوانينَه تظهرُ آثارُ قدرتِه في نفسِك، وحركاتِ الموجوداتِ حولَكَ فسُؤالُ: هلْ هناكَ دليلٌ على وجودِ اللهِ؟ سؤالٌ غيرُ دقيقٍ لأنَّه ليسَ هناكَ شيءٌ، إلّا وهوَ دالٌّ على وجودِ اللهِ لوْ دخلْتَ بيتًا ليسَ لكَ، وجلسْتَ على كنبةٍ فيهِ، وأكلْتَ مِن طعامٍ مطبوخٍ على الطَّاولةِ أمامَكَ فهلْ يصدرُ عنكَ حينئذٍ -إنْ كنتَ عاقلًا- سؤالُ: هلْ هناكَ دليلٌ على أنَّ لهذا البيتِ بانيًا؟ ولهذا الطَّعامِ طاهيًا؟ ولهذهِ الكنبةِ صانعًا؟ هلْ هناكَ دليلٌ على أنَّ أيًّا مِن هذهِ الأشياءِ حصلَ بفعلِ فاعلٍ؟ ألنْ يكونَ سؤالُكَ حينئذٍ مُستفزًّا؟! قالَ اللهُ تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [القرآن 10 :101] لكنَّ الَّذينَ معَهم مشكلةٌ في الإيمانِ بالغيبِ أصلًا فلنْ تنفعَهُم الأدلَّةُ، مَهما كانتْ دالَّةً، واضحةً وقالَ تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ و الأرضِ ومَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ﴾ [القرآن 7 :185] "في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ" ولمْ يقُلْ: "إلى" فحرفُ (في) يشملُ التَّأمُّلَ والتَّدبُّرَ في التَّفاصيلِ والَّذي يدلُّكَ أكثرَ وأكثرَ على الخالقِ سُبحانَه: "وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ" يعني: كلُّ مَا خلقَ اللهُ منْ شيءٍ يدلُّ عليهِ سُبحانَه! كلُّ مَا خَلقَ يدلُّ عليهِ سبحانَه! فيا عجبًا كيفَ يُعصَى الإلهُ أمْ كيفَ يجحَدُهُ الجاحِدُ وللهِ في كلِّ تحريكةٍ وفي كلِّ تسكينةٍ شاهدُ وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ تدلُّ على أنَّه الواحدُ فالسُّؤالُ الصَّحيحُ ليسَ: هلْ هناكَ دليلٌ على وجودِ خالقٍ؟ بلْ، هلْ هناكَ شيءٌ يستطيعُ أنْ يخرجَ وينسلخَ عنْ كونِهِ دليلًا على وجودِ الخالقِ؟ والجوابُ: لا وصدقَ ابنُ تيْميَةَ إذْ قالَ: "كلَّما كانَ النَّاسُ إلى الشَّيءِ أحوجَ كانَ الرَّبُّ بهِ أجودَ" نعمْ؛ فحاجةُ النَّاسِ إلى معرفةِ ربِّهم أعظمُ الحاجاتِ فترى أنَّ اللهَ يجودُ عليهِم بأدلَّةِ وُجودِه وطُرقِ معرفةِ صفاتِه بلْ ومِن أسماءِ اللهِ تعالى (الظَّاهرُ) قالَ ابنُ الجَوزيِّ في (زادِ المسيرِ) في تفسيرِ قولِهِ تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [القرآن 57 :3] قالَ: "الظَّاهر بحُججِه الباهرةِ وبراهينِه النَّيِّرةِ، وشواهدِهِ الدّالَّةِ على صحَّةِ وَحدانيَّتِهِ" فاللهُ ظاهرٌ، مُدرَكٌ بالعقولِ والدَّلائلِ وهوَ في الوقتِ ذاتِه باطنٌ؛ لأنَّه غيرُ مُشاهَدٍ كسائرِ الأشياءِ المُشاهَدةِ في الدُّنيا هذا هو الدَّليلُ بإحكامٍ، وبساطةٍ، ووُضوحٍ، وعُمقٍ كلُّ الكائِناتُ في الوجودِ تدلُّ على وجودِ اللهِ فكلُّ ما تُشاهدُه ليسَ كائِناتٍ عَشوائيَّةً؛ بلْ بنيتُها، حركاتُها تدلُّ على أنَّها مخلوقةٌ أي مصنوعةٌ بإرادةٍ وقدرةٍ، فلا يمكنُ لِـ (اللَّا شيءِ) أنْ يخلُقَها ولا يمكنُ لها -هيَ- أنْ تخلُقَ نفْسَها وقدْ كانتْ عدمًا قبلَ أنْ توجدَ فلا بدَّ من خالقٍ لها متَّصفٍ بالإرادةِ، والقُدرةِ، والعِلمِ، والحكمةِ، والعظَمةِ، وسائرِ ما تدلُّ عليهِ مخلوقاتُهُ كان يمكنُ في هذهِ الحلقةِ أنْ أشرحَ لكَ دليلَ (امتناعِ التَّسلسلِ) وأنَّ مُمكنَ الوجودِ لا بدَّ له منْ واجبِ الوجودِ، وأنَّ الحادِثَ لا بُدَّ لهُ مِن أزَليٍّ؛ لكنِّي لمْ أفعلْ؛ لأنَّ هذهِ كلَّها ليستْ جزءًا منَ الدَّليلِ الأساسيِّ ردُّ الاعتراضاتِ، ومناقشةُ الشُّبُهاتِ ليستْ جُزءًا مِن الدَّليلِ الأصليِّ وإنَّما هيَ ردودٌ على مَن لديهِ خللٌ حجَبَه عنِ الاقتناعِ بهذا الدَّليلِ الواضحِ جدًّا لذلكَ فعندما أشرحُ لكَ في الحلقاتِ القادمةِ: التَّسلسلَ وامتناعَه، والحدوثَ، والأزليَّ فقدْ تقولُ: أنا لم افهم، لم أفهم شيئًا! ليست مشكلةً مَن قالَ أنَّكَ لا بدَّ أنْ تفهمَ ردَّ الشُّبُهاتِ حتّى تؤمنَ باللهِ؟! أنتَ بإمكانِكَ أنْ تؤمنَ بوجودِ اللهِ إيمانًا عقليًّا، فِطريًّا، مستندًا إلى أُسسٍ علميَّةٍ محكمةٍ دونَ أنْ تفهمَ الشُّبُهاتِ ولا تفهمَ الرُّدودَ عليها وكما قيلَ: "أصعبُ المَهمَّاتِ توضيحُ الواضحاتِ" لأنَّ توضيحَ الأمورِ الواضحةِ لا يكونُ إلَّا معَ منْ يجادلُ في المُسلَّماتِ وبالتَّالي فليستْ هناكَ أرضيَّةٌ مشترَكةٌ للنِّقاشِ والإثباتِ معَه لو أنَّ إنسانًا رأى الشَّمسَ في منتصفِ النَّهارِ فقالَ: أنا غيرُ مقتنعٍ أنَّ هناكَ شمسًا - لماذا؟ قالَ: لعلَّها كرةٌ صناعيَّةٌ ملتهبةٌ، وُضعَتْ أمامَنا قلْنا لهُ: لكنْ هذهِ الكرةُ، كيفَ هي معلَّقةٌ في الهواءِ، ولا بدَّ لها منْ حبلٍ يشدُّها ونحنُ لا نرى حبلًا؟! قالَ: لعلَّهُ حبلٌ شفَّافٌ فقلْنا لهُ: وبمَاذا عُلِّقَ هذا الحبلُ؟ ومنْ يحرِّكُه؟ ثمَّ أيُّ حبلٍ هذا الَّذي سيتحمَّلُ هذهِ الحرارةَ دونَ أنْ ينقطعَ؟ فقالَ: إذنْ، لعلَّ في الكرةِ مغناطيسًا ضخمًا مشحونًا بنفسِ شحنةِ قطعةٍ معدنيَّةٍ خُبِّئَتْ في الأرضِ تحتَه، فتنافرَا، فبقيَتْ مُعلَّقةً في الهواءِ فدخلْنا معَه في حسابِ الكتلةِ المطلوبةِ لهذا المغناطيسِ ومقدارِ الجاذبيَّةِ الأرضيَّةِ بالحساباتِ الرِّياضيَّةِ وتفوُّقِها على التَّنافرِ المغناطيسيِّ... إلى آخرِه المستمعُ لحوارِنا قدْ يقولُ: يا الله! كلُّ هذا دليلٌ على أنَّ الشَّمسَ طالعةٌ! أنا كنتُ أظنُّ المسألةَ أوضحَ منْ ذلكَ! لا، ليسَ هذا دليلَ أنَّ الشَّمسَ طالعةٌ؛ وإنَّما هذهِ ردودٌ على الَّذي ينكرُ أشياءَ واضحةً بَدهيَّةً لا تلزمُكَ، ولا تحتاجُ أنْ تفهمَها حتّى تقتنعَ بطلوعِ الشَّمسِ قناعةً علميَّةً، عقليَّةً، صحيحةً فالمشكلةُ ليسَتْ في حقيقةِ وجودِ الشَّمسِ، بلِ المشكلةُ في المنكِرِ لها وإنكاراتُه وشُبهاتُه -مهما كثرَتْ- لا تنفي أنَّ وجودَ الشَّمسِ حقيقةٌ بدهيَّةٌ واضحةٌ لكنْ كما قِيلَ: وليسَ يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دليلِ نعمْ، سنردُّ في حلقاتٍ قادمةٍ على الشُّبهاتِ الَّتي تُثارُ على وجودِ اللهِ لكنَّ كلَّ ما سنقولُه ليسَ جزءًا منَ الدَّليلِ، بل ردٌّ على الاعتراضاتِ المثارةِ على الدَّليلِ الخلطُ بينَ الأمرينِ خطأٌ، وبعضُ النّاسِ يمكنُ أنْ يكونَ لديهِ إيمانٌ فِطريٌّ لكنْ لمَّا يسمع هذهِ المناقشاتِ في الرَّدِّ على الشُّبهاتِ يقعُ في نفسِه أنَّ حقيقةَ وجودِ اللهِ غامضةٌ، خفيَّةٌ تحتاجُ ذكاءً وفلسفةً وتعقيدًا؛ لأنَّه ما ميَّزَ أنَّ كلَّ ما سمعَه ليسَ جزءًا منْ دليلِ وجودِ اللهِ بلْ ردودٌ على شبهاتٍ وأنَّ التَّعقيدَ فيها ليسَ لتعقيدٍ في حقيقةِ وجودِ اللهِ بلْ لتعقيدِ مهمَّةِ أنْ تحاورَ مَن يشكِّكُ في الأمورِ البدهيَّةِ لذلكَ كلِّه؛ فمِنَ الضَّروريِّ والمهمِّ الفصلُ بينَ أدلَّةِ وجودِ اللهِ، والرُّدودِ على منكري هذهِ الحقيقةِ البدهيَّةِ ثمَّ إنَّ كثرةَ ترديدِ الشُّبهاتِ المثارةِ ضدَّ شيءٍ، لا تعني بالضَّرورةِ ضعفَهُ؛ بل في حالةِ وجودِ اللهِ فإنَّ كثرةَ ترديدِ الشُّبهاتِ تعبِّرُ عنْ حالةِ مُصارعةِ المنكرينَ لهذهِ الحقيقةِ الَّتي تهجُمُ عليهِم، وتفرضُ نفسَها عليهِم، فيدافعونَها بكلَِ شبهةٍ لتسكينِ نفوسِهمُ المضطَربةِ ﴿أوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [قرآن 7: 185] والسَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ