السّلام عليكم ورحمة الله. أيُّها الأحبَّة، ذَكَرْنا أنَّنا سنتناول أمثلةً من هذا الكون المُتقَن. سنبدأ اليوم بالمادَّة الوراثية في أجسامنا. الكلامُ الذي ستسمعونه في غايةِ الغَرابةِ، لذا، سأوثِّق لكُم المعلوماتِ بأفضلِ ما يمكن. قال الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القرآن 50: 20-21] جسمك مُكوَّنٌ من خلايا، الخلية هي أصغرُ وِحدةٍ حيّة. لو أخذْنا نقطةً صغيرةً من جِلدك فسوف تَظهر تحت المجهر بهذا الشكل. في ظنِّك، ما هو عدد الخلايا في جسمك؟ في الواقعِ، تراوحت التقديراتُ بشكلٍ كبيرٍ. أفضلُ دراسةٍ لخَّصت الموضوع هي هذه الدراسة من مجلة "Annals of Human Biology" عام (2013) والتي لخَّصت تقديراتِ (30) كتابًا ودراسةً سابقةً لعدد خلايا الجسم، والنتيجةُ هي أنَّ عددَ الخلايا في جسمكَ هو حوالي (37.2) ترليون خليَّة، يعني (37) مليون مليون خليَّة. في سُلاميَّة الإصبع الصغيرة، هناك مئات الملايين من الخلايا. كلُّ خليَّةٍ من خلايا الجسم يصِلُها الأكسجين والغذاء وتتخلَّص من فضلاتها، وكلٌّ منها عالَمٌ قائمٌ بحدِّ ذاته. سنتكلَّم اليوم عن نُواتها تحديدًا؛ جزءٍ صغير داخلَ هذه الخليَّةِ الصغيرةِ. تعالوا ندخل إلى داخل النواة. هذه النواة تحتوي على المادَّة الوراثية، دي إن إيه "DNA"، والتي تَحْمِل صفاتك الوراثيَّة على شكل جينات: جينٌ مسؤولٌ عن لون العينين، جين مسؤولٌ عن إنتاجِ الأنسولين، وهكذا... هذه المادَّة الوراثية المؤلَّفة من جينات مرتَبةٌ على شكل كروموسومات، وهذا كروموسومٌ واحد. كل واحدٍ فينا نحن البشر لديه (23) زوجًا من الكروموسومات، كلُّ زوجٍ فيه كروموسوم موروثٌ من الأب، وآخر من الأمّ. هذه صورةٌ حقيقيةٌ للكروموسوم بالمجهر الإلكتروني. مثلَ كراتِ الصّوف. المادَّة الوراثيَّة دي إن آي في الكروموسوم عبارةٌ عن خيطٍ رفيعٍ جدًّا، وطويلٍ جدًّا جدًّا، وحتى تستوعبَه النّواةُ الصّغيرةُ، فهو مرتَّب بطريقةٍ عجيبةٍ، فهو ملفوفٌ على بروتينات تُسمَّى الهستونز "Histones" واللفَّة ملفوفةٌ على نفسها، وهكذا... فهو مرصوصٌ جدًّا جدًّا. نواة الخلية الصغيرة، لو أخذنا الـ (23) زوجًا من الكروموسومات فيها وفرَدْنا الـدي إن آي المضغوطَ فيها ووصلناه ببعضه، فإنَّ طوله الكليَّ سيكون حوالي (2) متر لكل نواة، كما في موسوعة "The Physics Factbook" والتي تُقارن طولَ الـدي إن آي في نواةِ الخليّةِ الواحدةِ من عِدَّة مَراجِع. هذا طولُ المادّةِ الوراثيّةِ في نواةٍ واحدةٍ في خليةٍ واحدة. حسنًا، نحن قُلنا: كم خليةً عندنا في الجسمِ؟ حوالي (37.2) ترليون، إطرحْ منها كرياتِ الدّمِ الحمراءِ والصّفيحاتِ الدمويَّة، لأنَّه ليس فيها نواة، يبقى عندنا حوالي (10) ترليون خليَّة فيها نواة، اضرب (2) متر، طول الـدي إن آي في الخليَّة الواحدة، بـ (10) ترليون، عددُ خلايا جسمك، فالنتيجة ستكون رقمًا مهولًا جدًّا جدًّا. النتيجة هي (20) ترليون متر، يعني (20) مليار كيلومتر. (20) مليار كيلومتر من المادّة الوراثيّة في خلايا جسمك أنت وحدك، وهذا الرّقم هو ما تَنصُّ عليه أيضًا كتبٌ معتمدةٌ في الكيمياءِ الحيويّة مثل كتاب "Biochemistry For Dental Students" صفحة (75) وكما تنصُّ عليه أيضًا موسوعة "The Physics Factbook" في موضوعها رقم (339). تعرفونَ -إخواني- ما معنى (20) مليار كيلومتر؟! نفسُ الموسوعةِ تُقرِّب لك الصّورة وتقول أنَّ هذا الطول يكفي لحوالي (70) رحلةً ذهابًا وإيابًا من الأرضِ إلى الشّمسِ. على فكرة، هذا الرّقم متواضعٌ نسبيًّا؛ هناك مواقع عِلميَّة عالميَّة تقدِّرُ عددَ الخلايا برقمٍ أكبر، فتَصِلُ إلى استنتاجٍ أعلى عن طول الـدي إن آي، مثل موقع "Scitable" التّابع ل "Nature Publishing Group" والذي قدَّر أنَّ كلًّا منَّا لديه مادَّةٌ وراثية دي إن آي تَصِل من هنا إلى الشمس ذهابًا وإيابًا (300) مرة، بل أكثر! دعونا من أرقامِ هذا الموقع المضاعَفة، فلنبقَ مع التقديراتِ الأقلّ لطول المادَّة الوراثيِّة، مع الـ (20) مليار كيلومتر، حتى نقرِّب معنى هذا الطول أكثر. تَصوَّر معي الكرةَ الأرضيَّةَ التي نعيشُ عليها، بسهولها، وجبالها، ووديانها، وغاباتها، وبحارها، ومحيطاتها، وصحاراها... هذه الكُرة الأرضيَّة أصغرُ منَ الشمسِ بحوالي مليون مرّة. محيطُ دائرةِ الشمسِ يُقدَّر بـ (4) مليون و (370) ألف كيلومتر، بينما طول الـدي إن آي في جسمكَ (20) مليار كيلومتر، أي (20) ألف مليون كيلومتر، أي يكفي ليلتفَّ حولَ الشمسِ مرّاتٍ كثيرةٍ جدًّا، أكثر من (4) آلاف و(500) مرَّة. أنا أعْلَمُ أنَّ هذه أرقام يصعبُ تصديقُها، وقد تردَّدتُ كثيرًا في عرْضها، لولا أنِّي وجَدْتُ مَراجعَ عديدة تُشير إلى نَفْس الاتِّجاه، بل وإلى أرقامٍ أعلى، ولم أجد -على كثرة البحث جدًّا- مرجعًا واحدًا يذْكُر حساباتٍ مُفصَّلة يصلُ بها إلى رقمٍ أقَل، وسأضع في أوَّل التعليقاتِ على الحلقةِ في صفحتي في "الفيسبوك" مقطعًا آخرَ بعنوان: (تفاصيلُ طولِ المادّةِ الوراثيَّة) أبيِّنُ فيه من أين جاءت هذه الأرقامُ المهولة، معَ مزيدٍ من التوثيق العلميُّ، بإذن الله. والغَرابةُ لا تقفُ عند هذا الحدِّ -إخواني- بل هذه بدايةُ قصّةٍ تَعقدُ اللِّسان. الغَرابةُ عندما تَعْلَم أنَّ هذه المادَّة الوراثيَّة ليست مرصوصةً بهذا الشكل وانتهت القِصَّة، بل تتعرَّضُ أجزاءٌ منها على مدار السّاعةِ لعمليَّات قراءة. مثلًا، أنتَ انجرحت، التئامُ جرحكَ يحتاجُ إلى عمليَّاتٍ كثيرةٍ، منها إنتاجُ بروتين الكولاجين الذي سيُرمَّمُّ الجرح. تَذْهبُ جسيماتٌ خاصَّة، فتستهدفُ الجيناتِ المسؤولة عن الكولاجين تحديدًا، وسطَ هذه الخيوطِ الطويلةِ جدًّا من المادَّة الوراثيَّة، فتَقرأ الجينات، وينتج عن هذه القراءة كولاجين. فالمادَّة الوراثيَّة ليست خيوطًا جامدةً ميِّتةً مرصوصة، بل نشطةٌ متفاعلة. عمليَّة قراءةِ الجيناتِ سنتكلَّمُ عنها في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله، وهي موضوعٌ لا يقلُّ غَرابةً عن طول المادَّة الوراثيَّة. إسألْ من ينكرُ ربَّه: من أبدعَ جسمكَ بهذا الشكلِ؟! سيجيبك: إنّه اللاشيء! العدم، هو الذي أوجَد جسمك، وجعل ملايين ملايين الخلايا فيه تتمايز، خلايا للعظمِ، وأخرى للَّحمِ، وثالثة للأعصابِ، وخلايا دهون، وخلايا دم، وغيرها... إنَّه اللاشيء، أوجَد الهرمونات اللَّازمة لانقسام الخلايا وهِداية كلٍّ منها إلى مكانه المناسب. اللاشيء هو الذي فعل ذلك.. وفَعَله كلَّه صُدفةً! إنَّه اللاشيء، رصَّ المادَّة الوراثيَّة في خلاياك بهذا الشكل العجيب. إنَّه اللاشيء، أوجدَ المادَّة الوراثيَّة ولفَّها حول الهستونات، والتفَّت هذه بدورها حول بعضها وتثنَّت والْتَوَت، بشكلٍ مُنظَّمٍ، لتنفكَّ عند الحاجة بشكلٍ منظَّم مُتقَنٍ بديع، واللاشيء فعل ذلك كلَّه صُدفةً! أما نحنُ فنقولُ: ﴿هَـٰذَا خَلْقُ اللَّـهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [اِلقرآن 11:31]ِ والسَّلام عليكم. (صوت تلاوة قرآن) ﴿هَـٰذَا خَلْقُ اللَّـهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (صوت تلاوة قرآن) بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [اِلقرآن 11:31]ِ