بل لاذوا بحِصْنِهمُ الأخير، وقالوا: "الانتخابُ الطبيعيُّ الأعمى".. نسألكم يا أتباع نظريَّة التَّطور: حِصنُ الانتخابِ الطبيعيِّ الأعمى. هل أقرُّوا إذن بسُقوط الخُرافة؟ هكذا إذن، حسنًا، السَّلامُ عليكم. نحنُ نسمعُ بعَبَدَةِ الأبقار، عَبَدَةِ النَّار، عَبَدَةِ الشَّياطين، لكن هل سمعتم يومًا بعَبَدَةِ الميكروبات؟ هل سمِعْتم بأُناسٍ وصلوا إلى حَدِّ تأليه الميكروبات بنسبةِ صفات الإرادةِ، والاختيارِ، والعلمِ، والخَالِقيَّة لها؟ تَعالَوا نَر كيف يُوصِل العِلمُ الزَّائِف أتباعَه إلى هذه المرحلةِ من الجاهليَّة. هذه الحلَقة، من أهمِّ حلقاتِ رحلةِ اليقين، مليئةٌ بالمفاجآت، فتابعوا معنا. والطَّفرات المنتقاة "Selected mutations". كُنَّا في الحلقةِ الماضيةِ قد رأينا كيف سَقطَت ثلاثةُ حصونٍ لنظريَّة التَّطوُّر على أيدي أتباعِها أَنفسِهم: كائناتٌ انتقاليةٌ لا حَصر لها، البُطْء، والتَّدرُّجِيَّة، وبقيَ حِصنان: الانتخابُ الطبيعيُّ الأعمى، والتَّغيُّراتُ العَشوائيَّة. تعالوا نُضيِِّقُ الِخنَاق. الكائناتُ المشيميَّة والجِرابِيَّة، هل هناك عَلاقة بينها حسَب شَجَراتِكم التَّطوريَّة؟ قالوا: "لا، بل انفصلت أُصولهُا بعضها عن بعضِ قبلَ 160 مِليون سنة" ما بالهُا إذن متشابهةٌ جدًّا في الشَّكل، مع اختلافِها الكبير في التَّشفيرِ الوراثيِّ وأجهزتِها الحيويَّة؟ هل هذا عملُ العَمايةِ والعَشوائيَّة أَم خالقٍ جَعلَها آيةً على قُدرتِه؟ قالوا: أبدًا، أبدًا، بل هذه ظاهرةٌ اسمها: "Convergent Evolution" التَّطوُّرُ المتَقارِب أي تغيّراتٌ صُدَفِيَّة غيرُ مقصودة، لكن تشابهت بيئتُها، فعمل الانتخابُ الطَّبيعيُّ عليها بنفسِ الشَّكل، وأَعْطَتْ نتائجَ متقاربةً في كائنينِ لا عِلاقة بينهما. - تشابهت بيئاتُها، فعمل الانتخابُ الطبيعيُّ بنفس الشَّكل.. آها! حسنًا، الَخُفَّاشُ والحيتان، هل يشبه بعضُها بعضا؟ طبعًا لا، فصِغارُ الخفافيش تزِنُ غرامًا واحدًا، بينما (بالأنجليزيّة) حوت العنبرمن الحيتان يزن 50 طُنًّا. السؤالُ الأهم، هل ظروفُها البيئيَّة متشابهة؟ طبعًا لا! فالُخُفَّاشُ يعيشُ في البرِّ، والحيتانُ في البحرِ؛ ظروفٌ طبيعيةٌ مختلفةٌ تمامًا! آها! إذن يُفتَرضُ أن يعملَ انتخابُكم الطبيعيّ الأَعمى على الخُفَّاشِ والحوتِ بشكلٍ مختلفٍ تمامًا، فما بالُنا إذن نرى أنظمةً مشتركةً بينها؟ ما بالُنا نرى لِكلٍّ من الخُفَّاش والحيتان، جهاز "Echolocation"، سونار، متشابهًا جدًا؟ جهازًا يطلق الأمواجَ الصوتيَّة ويستلمُها ليحدِّدَ اتجاهَ فريسته؟ لماذا لم يظهر هذا الجهاز في الكائنات الثديَّة الأُخرى الأقرب إلى الخُفَّاش، حسْب شجراتكم؟ والأقرب إلى الخُفَّاش من حيثُ العيشِ في البرِّ وبالتَّالي تأثير انتخابكم الطبيعيّ؟ ألا يدلُّ ذلك على خالقٍ عليمٍ، ﴿أّعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [القرآن: 50:20] فأَعْطى هذين الكائنَيْن هذا الجهاز الذي يحتاجانه؟ قالوا: لا، بل هذا نوعٌ آخرٌ من (بالإجليزية) التطور المتقارب، يعمل حتَّى مع اختلاف ظروف الانتخاب الطبيعيِّ. ماذا عن أسماكِ القِشريات "Cichlid fishes" ذاتِ الظَّاهرة الَّتي أذهلتكم؟ أسماكٌ في بحيراتٍ مختلفةٍ، ومعَ ذلك هناك تشابهاتٌ كبيرةٌ بينها. أَنْتم تقولون أنَّ هذه الأسماكَ في البحيراتِ المختلفةِ، أصولُها واحدةٌ، لكن انفصلت إلى بحيرات. إذا كان الأصلُ واحدًا، فكيف نرى أنَّ هذا الأصلَ تنوَّعَ في إحدى البحيرات إلى أشكالٍ كثيرةٍ، وفي بحيرةٍ أخرى إلى أشكالٍ كثيرةٍ ومشابهةٍ جدًا للأولى؟ نحن هنا لا نتكلَّمُ عن مِثلِ ما حصل بين المشيميَّات والجِرابيَّات، سنجابٌ مشيميٌ يُشبهُ سِنْجابًا جِرابِيًّا مثلًا، يُجيبونك في هذه الورقةِ من نيتشر "Nature" قائلين: نحن نتكلمُ عن سمكةٍ واحدةٍ، تنوَّعت إلى أشكالٍ كثيرةٍ -حسب كلامِكم- في بحيرة، وسمكةٍ مِثلِها، تنوعتْ إلى أشكالٍ كثيرةٍ مشابهةٍ، في بحيرةٍ أخرى. إنْ أَقنعتُمْ أحدًا أنَّ العشوائيةَ والعَمايةَ أَنْتَجتا كائنين متشابهين، فمن ستُقنِعون أنَّهما تُنْتِجان من كائنٍ واحدٍ مجموعتين شبه متطابقتين من الكائنات؟ قالوا: سنسمِّي هذه الظَّاهرة التَّطوُّر المُتوازي"Parallel Evolution"! يا جماعة، نحن لا نسألُكم ماذا أعطيتم خُرافَتكم من اسمٍ جديد، نحن نسألُكم عن تفسيرٍ يقتنع به العاقل.. لكن، هذه طريقتهم! حقائقُ الكونِ كلُّها تهدِم نظريتَك؟ لا بأس، أَعْطِ لكلٍّ مِنها اسمًا، لِتُشْعِرَ السَّامع أنَّك على وعيٍ بهذه الحقائق، وبذلك، لا تجدُ فيها أيَّ تهديدٍ لنظريَّتِك، بل قد وَجدتَ تفسيرًا علميَّا وعدَّلتَ في النَّظرِيَّة لِتَستوعِبَ هذه الحقيقة، (عدنان إبراهيم): وهُم واعونَ بهذا تمامًا. يشرحون لك الحقائقَ الهادِمةَ لخُرافتهم شرحًا مفصَّلًا، وذلك كلُّه تحتَ عنوان: (بالإنجليزية) تطور -من النَّوعِ الفُلانيِّ، فتصلك الرِّسالةُ النَّفسيَّة أنَّه لو كان في هذه الحقيقة أيُّ تهديدٍ لنظريَّتِهم، للاحظوا ذلك! بينما واقعُ الأمرِ أَنَّهم غَطَّوا على التَّعارضِ الصَّارخِ بالتَّلاعُبِ بالأَسماء. خالد: أرأيت سيَّارة جارنا البيضاء؟ عمر: هل تقصد السوداء؟ نعم رأيتها. خالد: لا لا، سيَّارته البيضاء. عمر: لا لا السَّوداء، عرفتها السَّوداء.. خالد: ها هي ذي، بيضاء. عمر: يا رجل هذا اسمه "أسود مُبْيَضّْ". بإمكانك نزع كلمة "تطور" من كل الأسماءِ الهزلية للنَّظريَّة وتضع مكانها "اللَّاممكن": اللَّاممكن المتوازي، اللَّاممكن المتقارب، اللَّاممكن الكَمِّي، اللَّاممكن المُتَقَطِّع... وهكذا... ستجدُ من يقول: هذه ميزةٌ في نظريَّةِ التَّطوّر، أن تكون قابلةً للتَشَكُّل، بما يستوْعِبُ المُكتشفاتَ الحديثة! فرقٌ كبيرٌ -إخواني- بينَ أنْ تكونَ لديك نظريَّةٌ قائمةٌ على شيءٍ، على أركانٍ سليمةٍ، عقلًا، وحِسًا، وتَجرِبةً، ثم تَأتي مشاهَدةٌ تُعارِضُ شيئًا من تفاصِيلها، فتعدِّلَ هذه التفاصيل، بما يستوعِبُ المشاهدات؛ وفي المقابل، أنْ تكونَ النَّظريَّة عبارةً عن تخاريف، ولا تقومَ على شيءٍ، وتأتي المشاهداتُ كلُّها بما يهدمُ أركانَها، ويُفْرِغُها من محتواها، وأنتَ مع ذلك تُصِرُّ على هذه النَّظريِّة، بتعديلِ الأسماءِ واقتراحِ مزيدٍ من الافتراضات الَّتي ليس عليها برهانٌ، تمامًا كما فعل صاحبُنا بنظرِيَّتِهِ عن مؤامرة أبناءِ حَارته. نعودُ فنسأل أتباعَ النَّظريَّة: نريدُ تفسيرًا علميًا، كفى أسماءً! هل ظاهرة الأسماكِ القشريَّة هذه -مثلًا- نتَجَتْ من العَشوائيَّةِ، والانتخابِ الأعمى؟ "تفسيرُ هذه الظَّاهرة بالتَّطوِّر المُتقاربِ يحتاجُ مُصادفةً غيرَ اعتياديَّة "extraordinary coincidence " وأنا -بصراحة- أكادُ أضحكُ من هذه العبارة؛ كُلُّ ما سبق، لم يتطلَّب عندَهُم صُدفةً غيرَ اعتياديَّة، لكن هذه الظَّاهِرة بالذَّات، تَتَطلَّبُ صُدفةً غيرَ اعتياديَّة! عندما كُنَّا نقولُ لهم: الكائنات الحيَّة نِظامٌ كاملٌ متكامِلٌ، منها مُفترِِسٌ، ومنها مُفترَسٌ، ومِنَ الطُّيور ما يَتغذَّى على الأَزهار ويَرُدُّ لها الجميل بِنَقْلِ حُبوبِ لقاحِها لتتكاثر، والأزهارُ الطَّويلةُ لها نحلاتٌ طويلةُ الفمِ لتنقلَ رحيقَها، والتِّينة تتفتَّح ليَنْقُلَ نوعٌ من الحشراتِ بذورَها لِزهورِ التِّين لغايات التَّلقيح، ويستفيدُ هُوَ -هذا النَّوع من الحشرات- بوضعِ بيوضِه في هذه الحبَّاتِ المتفتِّحةِ، ولكلِّ نوعٍ من التِّين نوعُ حشراتِه الخاص، والكائِناتُ البحريَّة الصغيرة تُنَظِّفُ خياشيمَ الأسماك الكبيرة وأسنانَها بتناول ما فيها من الطُّفيليَّات وبقايا الطَّعام، فيستفيدُ الطَّرفان، وفي أمعاءِ الإنسانِ الواحدِ ترِليونات البكتيريا المتنوِّعةُ الَّتي يستفيدُ منها، وغيرُها ممَّا لا يُحصَى من العلاقات التَّكامليَّة. كلُّ هذا نتيجةُ مصادفاتٍ اعتياديَّة؟! فيقولون: "نعم، وسنُسمِّي الَّذي حصل "Co-evolution" التَّطوُّر المُتزامِن دعونا من أسمائكم، سؤالُنا واضحٌ: هل العشوائيَّةُ والعَمايَة أنتجتا كلَّ هذه الكائنات -ذكورًا وإناثًا، ثُمَّ أنتجتا هذا التَّكامل بينها في هذا النِّظامِ الدَّقيقِ المحكمِ المتناسقِ؟ قالوا: نعم، بالصُّدفة. العالِم الذي يحترم نفسه -إخواني- يتَّبِعُ الدَّليَل حيث قادَه، بينما أتباعُ الُخرافة، يُريدون أن يجرُّوا عربةَ الخُرافة بِعكْسِ سَيرِ أَحْصِنَةِ الأَدِلَّة. على كُلٍّ، اعترفوا أخيرًا -بسبب ظاهرةِ الأسماكِ القشريَّة- أنَّ هناكَ شيئًا يحتاجُ مصادفةً غيرَ اعتياديَّة. جسنًا، وبالتَّالي؟ قالوا: وبالتَّالي يبدو أنَّ الانتخابَ الطَّبيعيَّ مُوجَّهٌ عبرَ مساراتٍ محدَّدَة "Guided along specific routes" وكما في أوراقٍ علميَّةً أُخرى، تقول ما خلاصته: "صحيحٌ أنَّ الانتخابَ الطبيعيَّ ليس له غاياتٌ محدَّدة -يعني أعمى- لكن يبدو أنَّ التَّطوُّرَ يسيرُ ضِمن محدِّداتِ مسارٍ معينةٍ "certain trajectories". وعباراتٌ، بل عناوينُ أُخرى مثل: "مُحدِّدات الانتِخاب" بل ويصفون هذه الُمحدِّدات بأَنَّها: مُطلقةٌ أو حازمةٌ! مُحدِّدات، مُحدِّدات، مُحدِّدات... إذن، أنتم تقولون إنَّ الانتخابَ الأَعمى هناك من يقودُه، فما عادَ -بفضلِ هذِه القِيادةِ، والتَّوجيهِ والمحدِّدات- أعمى. وسقط بذلك حِصنُهم الثَّاني، التَّغيُّرات عشوائية وإن كان الانتخابُ له محدِّدات، وسَنُعدِّلُ النَّظريَّة إلى إيفو-ديفو Evo -Devo! امم، تعالوا نُضَيِّقْ عليهمُ الِخناق، فقد وصلنا الحصنَ الأولَ والأخير، حِصْنَ التَّغيُّراتِ العَشوائِيَّة. هل التَّغيُّراتُ، كالطَّفرات مثلًا، هل هي عشوائيَّة؟ من المهمِّ هنا -إخواني- أنْ نَفهمَ المقصودَ بالسؤال؛ فله شِقَّان: أوَّلًا: هل يمكنُ أنْ تكون الكائنات قد تكوَّنت من خِلال طَفَرات ٍعشوائيَّة؟ ثانيًا: التَّغيُّرات التي تحصلُ حقًّا في المادَّةِ الوراثيَّة لكائنٍ ما، فتُساعِدُه على التَّأقلُمِ مع بيئةٍ أو ظروفٍ جديدةٍ كمقاومةِ البكتيريا للمضادَّات، هل هي تغيّراتٌ عشوائيَّةٌ؟ ثِقَلُ الحقيقةِ، اضطَرَّ كثيراً من أَتباعِ الُخرافَةِ إلى التَّراجع عن فكرةِ عشوائيَّة التَّغيّرات، فمنهم من استخدم عبارات مثل: "الانحياز التَّطوّريُِّ"، "محدِّدات التَّطوُّر" "Constraints on Evolution" ومنهم من صرَّحَ بأنَّ التَّغيرات ليست عَشوائيَّة بَدْءًا من هذه الورقة الشهيرة والمهمَّة في نيتشر عام 1988 بعنوان "أصل الطَّفرات"، وكما في ورقة نيتشر هذه عام 2014 والَّتي استعرضت العديَد من الظَّواهر، ثمَّ قالت: إنَّها تُثبِتُ أَنَّ التَّغيُّرات ليست عشوائيَّة "They show that variation is not random". وتَتَابَعَت التَّصريحات بِأنَّ الطَّفرات ليست عشوائيَّة بل مُوجَّهة، وأَنَّ هذا يُعارِضُ مَبدأً أساسيًا في الدَّاروينيَّة الَجديدة، وبدأت تكثر في الأبحاث مصطلحات: الطَّفرات الموجَّهة "Directed mutations" وصرَّح بروفيسور الأَحياء دنيس نوبل "Denis Noble" في مؤتمرٍ عالميٍّ للفسيولوجي عام 2012 بهذا التَّصريح الخطير: "أنه من الصّعب إن لم يكن من المستحيل أن تجد عاملًا مغيرًا للجينوم يكون عشوائيًّا فعلًا في عمله داخل الـ (DNA) في الخليّة. كل أنواع الدراسات للطفرات وجدت أنماط تغيّراتٍ غير عشوائيّةٍ واضحة إحصائيًّا" إذن، يقول دينيس نوبل: أَنَّه من الصَّعب -إِنْ لم يكنْ من المستحيلِ- أَنْ تجدَ تغيُّراتٍ عشوائيَّةً في المادَّة الوراثيَّة، وأنَّ كلَّ أنماطِ التَّغيُّرات ليست عشوائيَّة، ويُعيدُ التَّأكيدَ على هذا الكلام: "لذلك فإنَ أوّل استنتاجاتي هو التالي: ليس فقط أنّ الطفرات غير عشوائيّة، وهذا أحد أهمّ افتراضات الداروينيّة الجديدة، بل وإنّ البروتينات أيضًا -على الأقل بعضها- لم تتطوّر من خلال التراكم التدريجيّ عبر الطفرات" إذن، يعيدُ التَّأكيد على أنَّ الطَّفرات ليست عشوائيَّة، وأَنَّ بروتينات الخلايا -أو على الأقلّ بعضَها- لم تتطوَّر من خِلال التَّراكم التَّدريجيِّ للطَّفرات المُفتَرضة، وسقط بذلك الحِصن الأول والأخير للخرافة. فلا الكائناتُ تكوَّنت من خلال طفراتٍ عشوائيَّة، ولا ما يحصل فيها من تأقلُمٍ، ينتجُ عن تغيُّرات عشوائيَّة. سَقَط آخِرُ حِصنٍ، وتبيَّن أَنَّ هذه الحصون كانت من كرتون، حتَّى إذا أتينا لنرى ما بداخلها، وجدناه ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾[القرآن 24: 39] لم يبقَ لخرافةِ التَّطوُّر أيُّ شيءٍ! لم يبقَ لا كائنات لا حصر لها، ولا بُطء التَّدرُّج، ولا التَّدرُّجُ نفسُه، ولا عَمايةُ الانتخاب، ولا عشوائيَّةُ التَّغيُّرات. وبالتَّالي، ماذا فَعل أتباعُ الخُرافة؟ هل اعترفوا بسقوط خرافتهم؟ بل اقترح البروفيسور دينيس نوبل وغيره عمل (بالإنجليزية) تمديد لنظريَّة التَّطورُّ، بينما جاء قول ورقة نيتشر بأَنَّ الطَّفرات ليست عشوائيَّة تحت عنوان: "هل نظريَّة التَّطوُّر بحاجة إلى مُراجعة؟". بالله عليكم؟! هذا يُذكَّرني بمنظر طبيبين عند هيكلٍ عظميِّ، يقول أحدهما للآخر: أتظنّه محتاجٌ لعلاجٍ؟ فيردُّ الآخر: أنا أراه بخيرٍ وعافية، الضَّغط جيّد، والنَّبض ممتاز، والتَّنفّس على ما يرام. إذن، لا يُمكن لأتباع الخرافة أَنْ يخرجوا من الصُّندوق، هو ينبغي أن يكون تطوُّرًا، لكن ماذا نضع بعد كلمة تطوُّر؟ هذا الَّذي سوف نختلفُ حوله. لم يبقَ من التَّطوُّر أيُّ شيءٍ -ومع ذلك- بقيت النَّتيجة العقديَّة المحددَّةُ مُقدَّمًا، بقيت العقيدة العمياء الَّتي يجب أَنْ تبقى أَنْ: لا خَلق! لاحظوا -إخواني- كلمة (بالإنجليزية) تطوّر في كل هذه النَّظريَّات والتَّعديلات، أصبح معناها الحرفيّ: لا خلق: لا خلق للكائنات عن حكمةٍ وإرادةٍ، هذا هو المعنى الحقيقيُّ الحرفيُّ لكلمة ايفولوشن (التَّطور)، وهذا المعنى يجبُ أَن يبقى عند كهنةِ الخرافة بأيِّ ثمن، ولا بُدَّ لكلِّ الطُّرق أَن تؤدِّيَ إلى الخرافة، لذلك يختمون تعديلاتهم الكوميديَّة للنَّظريَّة بقولهم: "هذا النمَّوذج المعدَّل من النَّظريَّة، يحُلُّ سؤال داروين المحيِّر دون حاجةٍ إلى مصمِّمٍ ذكيّ" تمامًا كما أطلق هوكنج نكتتهُ عن أنَّ الجاذبيَّة خلقت كلَّ شيءٍ، وأنَّ هذا يُغني عن وجودِ خالق. هذه هي النَّتيجة التي يجبُ أنْ تبقى بأيِّ ثمن. أُفرِغت النَّظريَّة مِن مُحتواها تمامًا، انهارت أركانها تمامًا، ومع ذلك، لا بُدَّ للنَّتيجة أن تبقى، ولو معلَّقةً في الهواء: أَنْ لا خَلْقَ عن قصدٍ وإرادةٍ! جسنًا، بعد أن قالوا: التَّغيُّرات موجَّهة وليست عشوائيَّة، والانتخابُ موجَّه وليس أعمى، لا بُدَّ أَنْ يُطرَحَ السؤال: من يقوم بهذا التَّوجيه والاختيار؟ هُنا، تراهم يَنسِبون الأفعال إلى أيِّ شيءٍ ماديٍّ مهما سَخُفَت النِّسبة، ولا أَنْ ينْسِبوها إلى الفاعلِ العليم الَّذي لا تُدْرُِكُه الأَبصار، لكن يَدلُّ عليه كلُّ شيء. ينسبون التَّوجيهَ إلى التَّطوُّر، كما في هذه الورقة في نيتشر، حيث تقول: أَنَّ التَّطوُّر استطاع أنْ يقلِّلَ الطَّفرات الضَّارة، يعني، يمنع عشوائيَّتها. التَّطوُّر؟ التَّطوُّر مات يا سادة! التَّطوُّر، تبيَّن بعدَ هدمِ حُصونِه، أَنَّه شبحٌ لم يكن موجودًا أصلًا، أَمْ أنَّكم -يا تُرى- تُومنون بكرامات الأموات؟! ومَرَّةً ينسِبون فِعلَ انتقاءِ الطَّفَرات إلى الخلايا، كما في ورقة نيتشر هذه، والَّتي استَنتَجتْ أنَّ الخلايا، قد يكون لديها آليّات لاختيار أيِّ الطَّفَرات تحدث فيها؛ أي أنّ الخلايا وهي في العدم، قبل أن تُوجَد، قرَّرت أنْ تعملَ الطَّفرات المناسبة، قرَّرت أنْ تعمل الطَّفرات المناسبة لوجودها، وبهذا حصل التَّطوَّر. ومرَّةً ينِسبون الاختيار إلى الميكروبات حتَّى أَنَّهم وَصلوا إلى استخدامِ مصطلح: "microbial Intelligence" ذكاء الميكروبات، ويعرفونه بأَنَّه: الذَّكاء الَّذي تُظهرِه الكائناتُ المجهريَّة، ومصطلحات وعناوين مثل: "Clever Microbes" البكتيريا الذَّكيَّة، الخلايا ذكيَّةٌ بشكلٍ لا يُصَدَّق، البكتيريا العاقلة "Brainy Bacteria"، البكتيريا تختار "Bacteria choose"، البكتيريا تقرر "Bacteria decides"، البكتيريا أكثرُ قدرةً على اتِّخاذ قراراتٍ معقَّدةٍ ممَّا يُظَنُّ، البكتيريا مُفَكِّرةٌ كبيرة "Big thinkers"، بل وصلوا إلى نسبةِ الذَّكاء للفيروسات: "الفيروسات ذكيَّة بشكلٍ مفاجئ" ونحن هنا -إخواني- لا نتكلَّمُ عن تعبيراتٍ أدبيَّة، بل عن نسبةٍ حقيقيَّةٍ لأفعال الإرادة والاختيار إلى الميكروبات، لأنَّهم لا يؤمنونَ بربٍّ أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدى، ربٍّ قيومٍ على خَلْقِهِ، وكُلُّ الكائناتِ مظاهرُ لعظمتهِ، فإلى منْ يَنْسِبون السلوكَ المبهرَ المعقَّدَ الدَّقيقَ، الَّذي تُظهره الكائنات؟ وإلى من يَنسبون الاختيار، والعلم، والخلق؟ فكان لا بدَّ لهم من نسبةِ الصَّفاتِ الإلهيَّة إلى المخلوقات، بل وإلى الميكروبات، فأصبحوا -بذلك- أشبه بـ"عَبَدَةِ الميكروبات" عَبَدَةِ الميكروبات.. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ﴾ [القرآن : 69:40] ألم تَرَ إلى الَّذين يجادلون في آيات الله المسْطورة، وآياته المنْظورةِ في الكون، إلى أين يُصْرَفون، وإلى أين ينتهي بهم عِنادُهم وكِبْرهم؟ كيف يصبحون ميكروباتٍ على الذَّكاء البشريّ، بنسبة الذَّكاء للميكروبات! في راجستان بالهند، هناك معابد، المعبود فيها فئران. لن أستغربَ إذا قام أتباع الخرافة يومًا، بإقامةِ معابد وجعلوا معبودَهم فيها البكتيريا. بل وصل الأمرُ ببعضهم إلى نسبةِ الأفعال إلى الذَّرَّات الجامدة قائلين: أَنَّ هناك ذكاءً على مستوى الذَّرَّات والجزيئات، وأنَّ وجودَ الذَّكاء الدَّاخليِّ في المادَّة يؤكِّد غيابَ الإله. بل تجاوزوا نسبة الأفعال إلى المادَّة، لينسِبوها إلى القوانين أي إلى العَدم -اللَّاشيء- كما فعل ستيفن هوكينغ "Stephen Hawking" حين نَسَبَ الخَلْقَ كُلَّه إلى قانون الجاذبيَّة فأثنى عليه دوكينز "Dawkins" قائلًا: "لقد طرَدَت الداروينيَّة الإله من (بالإنجليزية) علم الأحياء، وبقيت الفيزياء أقلَّ وضوحًا والآن يسدِّد هوكينغ الضَّربةَ القاضية! هذا هو ريتشارد دوكينز، والَّذي وضَّحنا في الحلقاتِ السَّابقة، نماذجَ كثيرةً من كذبه، ومخادَعَتِهِ، ولَفِّهِ، و دَورانِهِ، وهَذيانِه، والَّذي يقول عنه بعضُ عَرَّابي الُخرافةِ العرب: (عدنان إبراهيم): صادَفَ وأسعدَ الحظُ ريتشارد دوكنز، وهو منتشٍ إلى اليوم بهذه التَّجربة، عالم -سبحان الله-، إن تختلف معه أو تتفق معه فالرَّجل عالِم، وعنده نَفسيَّة عالمِ، ومشاعر عالِم، يُقَدِّس العِلم، مُبتهِج بالعِلم، يَفرح بالعلم، ليس شيئا طبيعيّا! هؤلاء هم العلماء الَّذين يُلمَّعون لأبناء المسلمين. وهكذا يفعل الهوى بأهله، حين يضعون الكُفر بالخالقِ هدفًا، ثمَّ يُطوِّعون كلَّ شيءٍ لخدمةِ هذا الهدف، أُناسٌ اتَّخذوا القرارَ سلفًا بعدمِ الإيمان، ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [القرآن: 101:10] ختامًا -أخي- عندما يحاول أَتباع الخُرافة أَنْ يُبهروك بنسبةِ العُلماء المؤيِّدين للتَّطور، بعيدًا عن الكذب في النِّسبة -كما سنرى إن شاء الله- اسألهم السَّؤال البسيط التَّالي: هذه النِّسبة الَّتي تذكرونها 98%، 99% مؤيّدةٌ لأيِّ تطوُّرٍ بالضَّبط؟ نحن رأينا في الحلقة الماضية كم هم مختلفون، وهم كذلك مختلفون جدًّا بالنِّسبة لتفاصيلِ حلَقة اليوم، هل الطَّفرات عشوائيَّة أمْ غير عشوائيَّة؟ الانتخاب موجَّهٌ أمْ غيرُ موجَّهٍ؟ هم مختلفون في ذلك كثيرًا.. إذن، قولوها بصراحة، تريدون أن تقولوا لنا: أنَّ هذه النِّسبة من علمائِكم يُصِرُّون مُقدَّمًا، على أنَّه يجبُ ألَّا يكونَ هناك خلْقٌ، ثمَّ لا يتَّفقون بعد ذلك على شيء. وانظر، كم هو موقفٌ عَقَديٌّ أَعمى، مقرَّرٌ مُسْبقًا! فاللَّهم اهدِ من يسمعُنا من أبناءِ المسلمين، الَّذين تأثَّروا بلوثات الخرافة، اهدِنا، واهدهم، إلى الحق بإذنك، إنَّك تهدي من تشاءُ الى صراطٍ مستقيم، والسَّلامُ عليكم ورحمة الله.