السلام عليكم ورحمة الله. أيها الكرام، يستدل البعض بآيات من القرآن ليؤيد بها تطور الإنسان عن كائنات أدنى. فهل استدلالهم هذا صحيح؟ بداية، هل العلم الرصدي التجريبي -الـ(Science)- أثبت تطور الإنسان عن كائنات أدنى؟ أجبنا عن هذا السؤال بالتفصيل في حلقة (أصل الإنسان) حسنا، وهل البحث في نشأة الإنسان أصلاً هو من اختصاص الـ(Science)؟ بيّنَّا أنَّ أصلَ الإنسان أمرٌ غيبيّ ليس خاضعًا للرصد ولا للتجريب، وبالتالي فهو خارج اختصاص الـ(Science). إذن فكيف نعرف أصل الإنسان؟ بيَّنَّا أن الأمورَ الغيبيَّة من هذا النوع لا سبيل إلى معرفتها إلا بالدليل العلميّ الخبري. حلقة اليوم بناءٌ على هذه المفاهيم التي أثبتناها، فالذي عنده اعتراض على هذه المفاهيم عليه أن يرجع للحلقات المذكورة. وحلقة اليوم هي أيضاً للمؤمنين بأن القرآن من عند الله. فبدايةً -يا كرام- ضروري أن نتحرر من ضغط محاولة التوفيق بين الآيات وفكرةِ تطور الإنسان التي لا دليل عليها من الـ(Science)؛ لننظرَ في نصوص الوحي نظرةً متحرّرة، فنفهمَها فهمًا صحيحًا غيرَ متأثرٍ بأوهامٍ مسبَقة. فإن أصل انحراف كثيرٍ من المسلمين قديمًا وحديثًا في التّعامل مع القرآن هو أنهم استقرَّ في أذهانهم أوهامٌ باطلة، مقرراتٌ مسبَقة، ثم راحوا يطوّعون نصوص القرآن لهذه المقررات، فقادهم ذلك إلى تحريف معاني القرآن، وهو من تحريفِ الكَلِم عن مواضعه. والله تعالى حينَ أخبرنا بأخبار أهل الكتاب أنهم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [القرآن 5: 13]، فقد أخبَرَنا بأخبارِهم لنَحذَرَ أن نفعلَ مثلَ فِعلهم. ومرَّة أُخرى نقول -يا كرام: هل الله قادرٌ على تَطويرِ الإنسان عن كائناتٍ أدنى؟ نعم... هذا ممكنٌ في قدرةِ الله -تعالى- الذي لا يُعجِزُه شيءٌ، لكنْ سؤالُنا الآن: ما الذي أخبرنا به الوحي؟ أي: ما هو الدليل العلميُّ الخبريُّ على أصلِ الإنسان؟ فهذه الخطوة الأولى في منهجيَّتِنا: التّحرُّر من مقرَّرات مسبقة لا دليل عليها. ثانيا: سنرى هل بيّن الله تعالى خلق الإنسان في آيات محكمات واضحة المعنى لا لبْس فيها؟ أم أنَّه -تعالى- ترك كيفيَّة خلقِ الإنسان مفتوحةً للاحتمالات؟ ثالثا: سنلتزم بما يأمرنا به إسلامنا من أن نستقي الأخبار الحقة من القرآن والسنة معا، فنستعينَ بأحاديثَ صحيحةٍ على تأكيدِ الجواب عن نشأة الإنسان. رابعًا: سنرى الآيات التي يستدِلُّ بها (مُؤسْلِمُو) التطوُّر على أن الإنسان تَطوَّر عن كائناتٍ أدنى، سنضعُ هذه الآيات في سياقها القرآنيِّ، ونفهمُها على ضوء الآيات الأخرى؛ فالقرآنُ يفسِّر بعضُه بعضًا. وسنرى في مقابل ذلك ملامح طريقَةِ (مُؤَسْلِمِي) التطوُّر: من التعامل مع القرآن بمقرَّراتٍ مسبقة موهومةٍ، ثمَّ تحريفَ دلالاتِ الآياتِ المحكمةِ، والإعراضَ بالكُلِّيَّة عن الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، وبَتْرَ الآيات -أو حتى أَجْزاءٍ منها- عن سياقِها، شعروا بذلك أم لم يشعروا. بدايةً: هناك من دَرَاوِنَة العرب من يأخذُ الخرافة كما هي، فيقولُ بتطوُّر الكائنات بالتغيُّرات العشوائيَّة والانتخابِ الأعمى ومَجْموعِ الصُدَف دون قصدٍ من خالقٍ، وتراهم يتخبَّطون، فَمَرَّةً يقولون بذلك، ومرةً يقولون: التطوُّر أداة الله في الخلق، وقد رددنا على هذا الاتجاه في حلقة (لماذا يُلحد بعض أتباع عدنان إبراهيم؟). قال بعض مُؤَسْلمي التَّطوُّر: لا... لا، نحن لا نقول بهذا، بل بالتطوُّر الموجَّهِ -أن الله طَوَّر الكائنات بعضَها إلى بعضٍ. حسنًا، تعالوا نستعرض الآيات التي يستدِلُّون بها. بدايةً: أكثر آيةٍ يستدلُّون بها على مبدأِ التطوُّر عمومًا هي قولُ الله -تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [القرآن 29: 20] يقولون: ماذا تريد أوضحَ من ذلك؟! الله يأمرنا أن ننظر كيف بدأ الخلق، أي كيف بدأت الحياة على هذا الكوكب، ونظريةُ التطوُّر هذا هو موضوعُها. - آها… لحظةً! هل هذه الآية دليلٌ على صحَّة نظريَّة التطوُّر موجّها أو غيرَ موجّه؟ = لا - حسنًا… إذن، لماذا تستدلُّون بها؟ = لأنَّها تدلُّ على أنَّه بالإمكانِ معرفةُ أصلِ الإنسان والمخلوقات بالسَّير في الأرض وباستخدام الـ(Science) - هل هذا معناها الذي يدلُّ عليه سياقُها؟ = إن لم يكن هذا معناها فما معناها إذن؟ - آها، تعالَوا نرى سياقَ الآية الآية هي من سورة العنكبوت، وسياقُها إقامةُ الحجَّةِ على مُنكري الإحياء بعدَ المَوت، أنَّ الله الذي يُبدئ الخلق بشكلٍ متجدِّدٍ مستمَرٍّ قادرٍ على أن يُنشِئَهم بعدَ مماتهم للحساب يوم القيامة، اسمع لسياق الآية: قال الله -تعالى: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۝ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۝ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ۝﴾ [القرآن 29: 18-21] ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ إن تُكذِّبوا بالبعث والحساب فقد كَذَّبَت أممٌ أخرى بائدةٌ. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۝ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ لاحظ! تركيبُ الكلام شبيهٌ بالآية بعدها ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ﴾، وهنا: ﴿يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ﴾. هل المقصود بالآية: أولم يروا كيف ينشئ الله الكائنات من أصل مشترك بالتطوُّر الموجَّهِ؟ لا علاقةَ لهذا المعنى بالسياق، وإنما: أولم يَرَوا كيف يُنشئُ الله المخلوقاتِ من عدم -أي بعد أن كانت معدومةً- البشرَ والنباتَ والحيوانات... يوجدها بعد أن لم تكن موجودة؟ وهي بمعنى قوله -تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [القرآن 30: 27] فإعادةُ المخلوقات أهون من خلقها أول مرَّة، لذلك قال هنا: ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾. لكنَّ الإنسانَ قلَّما يتَّعِظُ بالمخلوقات التي اعتاد عليها من حوله لأنَّه أَلِفَها، ولأنَّ حواسَّه كانت تعمل من الطفولة قبل أن ينضجَ لديه التَّفكُّر والتَّأمُّل، فاعتاد على هذه الـمَشاهِد، وكان بحاجةٍ إلى تجديدٍ يجدد لديه مَلكة التأمل والتفكر والاتِّعاظ. كيف يحصلُ هذا التَّجديد؟ ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾، بأن يسيرَ الإنسانُ في الأرض فيرى مخلوقاتٍ أُخرى -يَرى حيواناتٍ ونباتاتٍ وجبالًا وأنهارًا ومَشاهدَ لم يَعتَدْها- تَدلُّه على عظمةِ الخالق وقُدرَته على البعث، يَرى من آثار الأُمَم البائدة والأُممِ التي حلَّت مَحَلَّها؛ فيدركَ أنَّ اللهَ الذي أهلك أقوامًا وأحلَّ مَحَلَّهم أقوامًا قادرٌ على أن يبعَثهم جميعًا كما لم يُعجِزه إيجادُهم ولا إهلاكُهم، لذلك قال بعدها: ﴿ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةِ﴾ -يومَ القيامة- ﴿إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. حسنًا، لماذا في الآية الأولى ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ وفي الثانية: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾؟ لأنَّك في بلَدِكَ وبينَ أهلك ترى المواليد يُولدون ويَكبُرون عَبرَ السِّنين، ترى النباتَ يَخرُج ويَنمُو شيئًا فشيئًا، بينما عندما تسير في الأرض لا تكونُ مستقِرًّا لتَشْهَدَ هذه المراحلَ، وإنَّما ترى مَخلوقاتٍ بدأها اللهُ من قَبل. تعالَوا الآنَ نقرأ الآية في سياقها لنرى اتِّساق المعنى مع ما ذكرْنا: آخر الآية 17 من سورة العنكبوت: ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾… بعدها: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۝ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۝ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ۝﴾ [القرآن 29: 18-21] السؤال الآن: أليس هذا المعنى واضحًا لائِحًا مُتَّسقًا مُقنِعًا؟ أليْسَ معنًى فَهِمَه العرب عَبْرَ القرون فلَمْ يَسْتَشْكِلوا الآية؟ وللعلم، فهذه خلاصةُ أقوال المفسِّرين في تفسير هذه الآية، الطبريِّ والقُرطبيِّ وابنِ كثير والبغَوي، ومن آخرِهم السَّعديُّ وابنُ عاشور وغيرُهما ممن جاءوا بعد (داروين) ولم يتأثَّروا بأوهامه ولم يتَّخذوها مُقرَّراتٍ يُعيدون تفسيرَ القرآن بناءً عليها. هل فَهِم أحدٌ من علماءِ المسلمين الكِرامِ الأذكياء الأتقياء عبْرَ الأربعة عشرَ قرنًا أنَّ الآية تدلُّ على وجوب البحث عن النَّشأة الأولى للكائنات في الزمان الأوَّل المُغَيَّب عنَّا والخارجِ عن نطاق السَّير والنظر والتأمُّل، ثُمَّ بناءِ الفرضيَّات والتخرُّصاتِ -التي لا سبيلَ إلى بَرْهَنَتِها- عمَّا إذا كانت الكائناتُ من أصلٍ مُشتَرَك أم لا؟ هل هذا المعنى هو ما يناسب البرهنة على قضية يقينيَّة يريد الله أن يزرعها في النفوس: أنه -تعالى- قادر على البعث بعد الموت؟ أم أنه معنى غامضٌ مُلتَفٌّ جدليٌّ؟ يَجِلُّ عنه القرآن، وفي مثل هذا السِّياق بالذَّات. فهذه الآية هي في سياق الاحتجاج على الكُفَّار، بالاستناد إلى أمرٍ بدهيٍّ يدركه الإنسان بالسير والتأمل في الأرض، حتى وإن كان خاملا لم يتَّعظ بما رآه في بيئته، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ أي بمُجرَّدِ أن تسيروا وتنظروا سيَتَحَصَّل لكُم هذا العِلم، قَطعِيَّاتٌ يقينيَّةٌ، لا (داروينِيَّاتٌ) مُؤَسْلَمَةٌ أو غيرُ مُؤَسلَمةٍ. ثم اسأل نفسك: الآيةُ تتضمَّن أمرا من الله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا﴾، فهلِ استجابَ المسلمون لهذا الأمر وساروا في الأرض فنظروا كيف بدأَ اللهُ الخلقَ؟ الصحابةُ الَّذين أُنزلت الآية عليهم، والذين جعل اللهُ إيمانهم معيارًا فقال لهم: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا﴾ [القرآن 2: 137]، ومَن بَعدَهم من قرونٌِ المسلمين عبْرَ ثلاثة عشر قرنًا قبل داروين… هل فَهِموا الآية واستجابوا فساروا في الأرض فنظروا كيف بدأَ اللهُ الخَلقَ؟ أم أن الأُمَّة كلُّها لم تستجب لهذا الأمر الإلهي؛ بل ولم تفهمه أصلًا حتى جاء داروين، فأَفهمَها كيف تسيرُ وتنظر، وأَفهمَها ما معنى كيف بدأ الله الخلق. فهذه الآيةُ ليست دليلًا على نظرِيَّة التطوُّر موجهًا ولا غيرَ موجَّهٍ، ولا على إمكانيَّةِ معرفةِ النشأة الأولى للكائناتِ بالرصد والتّجريب. نأتي الآن -يا كرامُ- لموضوعِ أصلِ الإنسان. سيقول البعض: لماذا كلُّ هذه الضَّجَّة؟! دعونا من الماضي! ركِّزوا لنا على الحاضر! وفيم يُهمُّني معرفةُ أصل الإنسان؟! الله -سبحانه وتعالى- لا يكرِّر قصَّة آدم في سبعةِ مواضعَ من القُرآن -فضلًا عن ذِكر اسمه خمسًا وعشرين مرة- إلا لأمرٍ جَلَلٍ. فخَلقُ آدمَ هو من الحقائق الكُبرى التي أراد الله -تعالى- أن يَرفَع الغُموض عنها بشكل قطعيّ يقينيّ في كتابه ابتداءً، وتأكيدا في سُنَّة نبيّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم، فقصَّةُ آدم تُجيب عن سؤالٍ من الأسئلة الوجوديَّة الكُبرى: من أنا؟ وما أصل البشر الذين أنتمي إليهم؟ فلا يَدعُها الله -سبحانه وتعالى- لحالةٍ من عدم اليقين. قصَّة خَلقِ آدم تُخبرُنا عن أصل الإنسان، طبع الإنسان، وظيفة الإنسان، عدوِّ الإنسان، أمرٌ جلَلٌ عظيمٌ، قال الله فيه: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ۝ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ۝ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ۝﴾ [القرآن 38: 67-69]. قِصَّة خَلق آدمَ ترتبط بالغَيبيَّاتِ الكُبرى: الله، الملائكة، الجِن، الجَنة، النار، الروح، أصل الحياة، غاية الحياة… ترتَبط بها ارتِباطًا وثيقًا، وهي الغّيبيَّات التي يَنفيها الإِلْحاد مُتَّكِئًا على الداروينيَّة. تتساءل: وفيم يُهمَّنا أصلُ الإنسان، ونحن نُعاني سياسيًّا واقتصاديًّا ونتَجَرَّع الظلم من مُجرِمِي الأرض؟ فأقول لك: من مصلحة مُجرِمِي الأرض أن يعتقد النَّاس بأنَّهم ما هم إلا شكلٌ حَيَوانيٌّ ظَهَر بمجموع الصُدَف، فتَنظُر لنفسِكَ كحيوان جاء عبثًا، وما أسهلَ إذلالَ من ينظُر لنفسه بهذِه النَّظرة. بينما يخبرك الله -تعالى- بنشأة أبيك آدم؛ لِتعْلم أنَّك مُكرَّم، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [القرآن 17: 70]، أُنزِلْتَ لمَهمَّةٍ عَظِيمةٍ، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [القرآن 2: 30]، فلا تخضَع لأحدٍ إلَّا له -سبحانه: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ... فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ... وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝﴾ [القرآن 2: 38] ثُمَّ إنَّ المسألةَ تَتَجاوزُ أصْلَ الإنسان إلى القرآن كُلِّه، فإذا كانتْ قضيَّةً محسومَةً مُحكَمَةً كخلق آدم قابلةً للتَّأَوُّل -بل لتحريفِ المعنى- بِناءً على نظرَيَّاتِ العلمِ الزَّائف، فما الَّذي يمنعُ أن يكونَ القرآنُ كلُّه رموزًا مائعَ الدَّلالةِ؟ تمييع دلالة آيات خلق آدم يفتح الباب لتمييع دلالة آيات الحقائق وآياتِ التَّشريع معًا، ولا يعودُ هناك معنًى لوصفِ القرآنِ بالكتابِ المبين ولا لقولِ الله -تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ... وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ۝﴾ [القرآن 16: 89]. بل وصلَ الأمر ببعضِ محاولاتِ توفيقِ الداروينيَّة مع القرآنِ إلى ادِّعاء أنَّ آدمَ ليس أبَا البشرِ الحاليِّين كلِّهم بل عِرقٍ منهم، وبالتالي فَلَكَ أن تتصوَّر كيف تُصبح الآيات المَبدوءةُ بـ(يا بني آدم) كأنَّها خِطابٌ لجُزءٍ من البشر، لعِرْقٍ مُعيَّنٍ، بينما الآخرون غيرُ مخاطبين بها. مما تقدَّم تَفهَمُ لماذا كان العبثُ بدلالة آياتِ خَلق آدمَ بناءً على خُرافةِ التطوُّر قنطرةً لضياعِ قُدُسِيَّةِ الوحي في نفوس عددٍ من شباب المسلمين، بينما دراونة العرب يقولون مقالةَ مَنْ قَبْلَهم: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [القرآن 4: 62]. تعالَوا بدايةً -يا كرام- نرى ما المُحكَمُ في شأن خَلْقِ آدمَ -عليه السلام- ثمَّ نُناقش تفسيرَ مُؤَسْلِمِي التَّطوُّر للآياتِ الَّتي يستدِلُّون بها. هل الخلق الخاصُّ لآدم أمرٌ مُحكَمٌ قطعيٌّ؟ ونقصِد بالخلقِ الخاصِّ الخلقَ المُنفَصِلَ المُميَّز عن باقي المخلوقات. تعالَوا نَتْلُ بعضَ الآياتِ التي تَضَعُك في أجواءِ هذا الحَدَث العظيم ثُمَّ نَقِفُ عندها مُتَأمِّلينَ؛ لنرى: إن كُنتَ تُؤمِنُ بالقرآن، فهل هذا الخلقُ الخاصُّ هو أمرٌ يحتملُ الإبهامَ واللَّبسَ والغموضَ والترميزَ؟ أم أنَّه واضحٌ محكَمٌ قطعيٌّ؟ هل ظُهور آدمَ هو حدثٌ بيولوجي تمَّ بأسبابٍ مادِّيَّة؟ أم أنَّه حدثٌ استثنائي خارِجٌ عن معهودِ الأسبابِ مُحتَفٌّ بعالَمِ الغيب بما فيه من ملائكةٍ وجنٍّ وكلامِ الله لآدمَ واختبارِه له؟ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۝... وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا... وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ... وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ۝﴾ [القرآن 2: 34-36] ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝﴾ [القرآن 38: 71-72] ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ۝﴾ [القرآن 15: 28-31] فأوَّلًا: فصَّل اللهُ تفصيلًا في المراحل الَّتي مرَّ بها خَلْقُ الإنسان: الترابِ والطينِ والصَلْصالِ من الحمأِ المسنونِ والصلصالِ كالفَخَّار، إلى أن تَكوَّنَ هذا الجسمُ الَّذي نُفخَتْ فيه الرَُوحُ. ماذا تفعلون بهذه الآياتِ يا مؤسلمي تَطوُّر الإنسان؟ كيف تُوفِّقُون بينها وبين أوهامِ داروين؟ ستَجدُ منهم من يقول: المقصودُ بهذه الآيات هو أنَّ الله خَلَقَ الكائنَ الأوَّل أو الخلِيَّة الأولى الَّتي تَطوَّرتْ عنها الكائنات، ثمَّ بعد ذلك اشتغَلَ التَّطوُّر، فأخرجَ لنا كُلَّ الكائناتِ الحَيَّةِ ومنها الإنسان عَبرَ مئاتِ الملايين من السنين. فبِناءً على قولِهم: كأنَّ الله فصَّلَ تفصيلًا في المراحلِ الأولى لخَلْقِ الكائنِ الَّذي سيكونُ منه الإنسانُ ولم يذكُرِ المراحلَ الكثيرةَ بعد ذلك، ولم يُشِرْ إليها في القرآن -ولو مرَّةً واحدةً. انظر إلى التَكلُّف حينَ تَفرضُ علينا سيناريوهاتُ مؤسلمي الخرافةَ أن نُقحِم في الآيات: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ مرورًا بكائناتٍ انتقاليَّةٍ ومخلوقاتٍ شبهِ حيوانيَّةٍ عبرَ ملايين السنين. ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ عندما يقول الله -تعالى: "سوَّيته" أَيْ سوَّيتُ هذا البشرَ… "ونفختُ فيه"؛ أيْ في هذا البشرِ، لكنْ كأنَّ مؤسلمي الخُرافة يُضيفون إلى الآياتِ: سويتُ سلَفًا حيوانيًّا للبشر ونفخت فيه من روحي. ماذا تفعلون -يا مُؤَسلمي الخرافة- بالأحاديث الصَّريحة الصَّحيحةِ المُؤَكِّدةِ لمعنى الآيات، كالحديث في صحيح مسلم ومُسند أحمدَ وصحيحِ ابن حبَّان ومُسند الطيالسي وأبي يَعلى وغيرِهم عن أنس -رضي الله عنه- قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما صوَّر الله آدمَ في الجنَّة تركَهُ ما شاء الله أن يَترُكَه،... فَجعَلَ إبليسُ يطيفُ به ينظُر ما هُو، فلمَّا رآهُ أجوفَ عرَفَ أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَك»، وليس في ذلك أسلافٌ حيوانيَّةٌ ولا مراحلُ انتقاليَّةٌ. فأوَّلًا: الآياتُ والأحاديث صريحةٌ في خَلق الإنسان مِن مَراحلَ مُحدَّدَةٍ لا مكانَ فيها لإقحام فكرةِ الأسلاف الحيوانيَّة. ثانيًا: لو كان القرآنُ يتكلَّم في هذه الآياتِ عن خَلقِ الكائنِ الأوَّل أو الخلِيَّة الأولى الَّتي منها انحدَر الإنسانُ وبقيَّةُ المخلوقاتِ لوَضَّح القرآنُ أنَّ هذه مراحلُ خلقِ الكائناتِ الحيَّةِ كلِّها لا آدمَ فحسب، ولكان مُقتَضَى التِبيانِ أن يقولَ القُرآن: (إني خالقٌ الخَلقَ كلَّه من طين)، وليس ﴿بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾.. ثالثًا: الآياتُ تُبيِّن شرَفًا خاصًّا في خَلْقِ آدم، قال الله -تعالى- في سورة (ص): ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين﴾ [القرآن 38: 75] ﴿لِـمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾... لو كان المعنى أنَّه خَلَقَ الكائنَ الأوَّل بيديه، ثُمَّ بعد ذلك اشتغل التطوُّرُ فأخرج لنا كلَّ الكائنات الحيَّةِ ومنها الإنسان، فمعنى ذلك أنَّ كُلَّ الكائنات الحيَّةِ على كوكب الأرض مخلوقةٌ بيدَيِ اللهِ، وبالتالي فيشترك في هذا التَّشريفِ النَّمْلُ والخنازيرُ والفئرانُ، ولمَا كان لخَلْقِ آدمَ بيدَيِ اللهِ مِيزةٌ، ولقالَ إبليسُ: يا ربّي، ما المِيزةُ في أن تخلُقَ آدمَ بيديكَ... وقدِ اشتركَ في ذلكَ مُحَقَّراتُ المخلوقات؟ بينما ذكر الله الخلق بِيَدَيْهِ في سياقِ إظهارِ شرفِ آدمَ وتميُّزِه عن غيرِه: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾. وفي حديث الشَّفاعة الذي رواه البخاري ومسلم أنَّ الناس يأتون إلى آدم فيقولون له: «يا آدمُ أنتَ أبو البشر، خلقك اللهُ بيدِه» ولو لمْ يكُن لخلق آدم بيدَيِ اللهِ ميزةٌ لمَا كان لذِكْرِ الناس له يومَ القيامة أيُّ معنًى؛ فكلُّ الأنبياء خلقَهم الله، بل وكلُّ الناسِ وكلُّ المخلوقات. رابعًا: قولُ الله -تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ... خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [القرآن 3: 59] هذه الآيةُ جاءتْ في سياقِ الرَّدِّ على النَّصارى الَّذين ادَّعوا أنَّ مجيء عيسى من غير أبٍ دليلٌ على أنَّه ابْنُ الله، فَبَيَّن اللهُ لهم أنَّ آدمَ جاءَ من غير أبٍ ولا أُمٍّ، ومع ذلك فهم لا يقولون بِبُنوَّة آدمَ لله، فعيسى هو كآدَمَ مِن حيثُ الخلق المعجز لكلَيْهما. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ وخَلْقُ آدمَ أظهَرُ في الإعجازِ وأبْعدُ عن معهودِ البشر؛ إذ أنَّ الله ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾. قال مؤسلمو التطوُّر: لا، لا، خَلَقَه من تُرابٍ تَعودُ على عيسى، والمعنى أنَّ عيسى كآدمَ في أنَّهُما من ترابٍ، وبما أنَّنَا نعلمُ أنَّ عيسى وُلِد من أُمٍّ، فمعنى الآيةِ أنَّ الأسلافَ الحيوانية لكِلَيْهما هي المخلوقةُ من تُراب. فنقولُ: بهذَا الفَهم الخاطئِ لا يكونُ في الآيةِ أيَّة حُجَّة على النصارى، لأنَّ معناها يُصبح: إن مَثَل عيسى عندَ الله كمثَلِ آدمَ الَّذي خَلقَه الله مِن أَبوَين شِبهِ بشريَّيْن، وهؤلاء كلُّهم أصلُهم من ترابٍ. وهذا الإخبارُ ليسَ فيه حُجَّةٌ عقليَّةٌ مُلزِمةٌ للمخالفين الَّذين أَلَّهُوا عيسى لعدمِ وجودِ أبٍ له، وهَذا مثالٌ على بَتْرِ مؤسلمي التطوُّر للآيات عن سياقِها، فالآياتُ الَّتي تُلزم النصارى بحُجَّةٍ عقليَّةٍ جعلوها وكأنَّها آياتٌ تَتَكلَّم عن أصلِ الجنس البشريِّ بما لا علاقةَ له بموضوع سورة آل عمران ولا هذا الموضعِ منها. خامسًا: قال الله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [القرآن 4: 1] فليسَ آدمُ وحدَه هو الذي خُلِق خلقًا خاصًّا، بل وكذلك زوجُه حوَّاءُ، بينما مؤسلمو تطوُّرِ الإنسان يعتبِرون أنَّ آدمَ وحوَّاءَ تطوَّرَا عن مخلوقاتٍ سابقة وحَصَلَ بينَهما تزاوجٌ. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾… كيف مِنْهَا؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ، فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ» والضِّلَع أحدُ عِظامِ الصَّدر. يقولون: أنتَ تُؤمن بأنَّ حوَّاء خُلقِت من ضِلَع؟ هل هذا كلامٌ علميٌّ؟ نعَمْ، بيَّنَّا أنَّ الظُّهور الأوَّل للإنسانِ لا بُدَّ أن يكونَ خارِجًا عن مألوفِ الناسِ؛ فالتَّوالدُ بالطُّرق المُعتادَةِ لا يُمكنُ أن يتسلسل إلى ما لا بداية، وكُلُّ المُحاولاتِ لتفسيرِ ظهور الرَّجُلِ الأوَّل والمرأة الأولى بتفسيراتٍ مادِّيَّةٍ تستثني الخالقيَّةَ ستقودُنا لتَخاريفِ العلمِ الزائف، فَلا تَستَغرِبْ في قُدرَةِ الله أن يُخرِجَ زوجَ آدم من ضِلعِه أو ممَّا شاءِ فيه، فهذا ممَّا لا يُعلم إلا بالدَّليل العِلميِّ الخَبَريِّ. إذنْ، فمؤسلمو تطوُّرِ الإنسان لم يصطَدموا بالنُّصوص الدَّالة على خلقِ آدمَ فحسبُ خلقًا خاصًا بِلا سَوابقَ، بلْ وخلقِ زوجِه منه أيضًا. كلُّ ما سبقَ -يا كرامُ- يَدُلُّ دلالةً قطعيَّة على أنَّ الله خلق آدم –أبا البشر والإنسان– وزوجَه خَلقَهما خلقًا خاصًّا، وأنَّ الإنسانَ لم يأتِ نتيجةَ تطوُّرٍ من أنواعٍ حيوانيَّةٍ أُخرى سابقةٍ له. ستجِدُ من يقول: أي أنتم تتصوَّرون أنَّ الله شَكَّلَ آدمَ ونفخ فيه الرُّوحَ هكذا فصار بشرًا؟! ما المُستَنْكر في الأمر؟ قَد أعطانا الله -تعالى- مثالًا للإِيمان بذلكَ في مُعجِزَة من مُعجِزات عيسى -عليه السلام- إذ قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [القرآن 3: 49]. فهل كان عيسَى يَنفُخ في الطِّين فيتحوَّلُ لكائناتٍ انتقاليَّةٍ عبرَ ملايين السِّنين قَبل أن يُصبِح طيرًا أمامَ قومِه؟ هذه هي القِصَّةُ المُحكَمَة لخَلْقِ الإنسان. تعالَوا الآنَ نناقشْ ما يَستدِلُّ به مؤسلمو تطوُّر الإنسان عن كائناتٍ أدنى! أوَّلًا: قالوا: حين أخبر الله -تعالى- الملائكةَ أنَّه جاعلٌ في الأرض خليفةً، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [القرآن 2: 30]. قال مؤسلمو التطوُّر: كيف عرَفَتِ الملائكةُ أنَّ البشر الذين لم يُخلَقُوا بعدُ سيفسِدُون في الأرض ويسفِكُون الدماء؟ !ذنْ لا بُدَّ أنَّ الملائِكَةَ رَأَتِ الأسلاف الَّتي تطوَّر منها الإنسانُ تفعلُ ذلك في الأرض وعلى أساسِه قالتِ الملائكةُ ما قالت. لا مهلًا! دعنا نقسِّم الكلام لنصفَين: أنتُم افترضتُم أنَّه لا سبيلَ للملائكةِ إلى معرِفَة ذلك إلا برُؤيَة من أفسدوا في الأرض من قبلُ، ثم افترضتُم أنَّ الإنسانَ يجبُ أن يكونَ تولَّد من هؤلاء المُفسِدين السَّابقين، وكِلَا الافتراضَيْن لا دليلَ عليهما. بِغَضِّ النظر عن: كيف عرفتِ الملائكةُ… هَلْ جعلَ الله -تعالى- في نفوسِها عِلمًا بما سيكونُ من الإنسان دون سابِقِ مثالٍ، أمْ أنَّ الملائكةَ رَأَتْ أفعالَ الجِنِّ، أم أنَّه كانت هناك مخلوقاتٌ سابقَةٌ تُفسدُ في الأرض بالفعل... ما دليلُكم أنَّ هذه المخلوقاتِ التي أفسدَت وسفكَتِ الدماء - إنْ وُجدَت- هي أسلافٌ للإنسان؟ بل وما دليلُكم على أنَّها كانتْ -لا زالت- حيَّةً لم تُهلك حين أنبَأ اللهُ الملائكةَ بأنه جاعلٌ في الأرض خليفةً؟ وكيفَ تُعارضون بهذه الافتراضاتِ الَّتي لا دليلَ علَيْها تلك الآياتِ المُحكَمَات الواضحات في خَلق الإنسان خلْقًا مستَقِلًّا بلا سوابقَ ولا أسلافٍ؟ فلا دليل لكم في هذه الآية. ثانياً: قول الله -تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖوَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ۝ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۝﴾ [القرآن 32: 7-9] قال مؤسلمو تطوُّر الإنسان: هذهِ الآياتُ تعني أن بَدْءَ خَلْقِ الإنسان كان من طينٍ، ثُمَّ جاءت مراحلُ انتقاليَّةٌ من كائناتٍ شِبهِ بشريَّةٍ تناسلَت بالماءِ المهينِ، ثمَّ انتَقى اللهُ منها الكائنَ الَّذي سوَّاه ونَفَخَ فيه من روحِه، وبذلك خُلقَ آدمُ، والآياتُ تُرَتِّبُ المراحل كما ذكرنا. فنقول: مشكِلتُكم أنكم جعلتُم هذه الآيات كلَّها متكلِّمَةً عن الإنسان الأوَّل. بينما الآيات تتكلَّم عن جِنس الإنسان. ﴿بَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾: فبدأ خلقَ جِنسِ الإنسانِ من آدمَ الَّذي خلقَه الله من طينٍ كما تُبيِّن الآياتُ المحكَمَاتُ. ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾: تناسَل الإنسانُ بعدَ آدمَ من الماء المهين (النُّطَف). ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾: سوَّى كُلَّ إنسانٍ في رَحِمِ أُمِّه ونفخ فيه من روحه، كما قال في الآية الأُخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۝﴾ [القرآن 82: 6-7]. أما على تفسيرِكم الغريبِ فيصبحُ هناك اضطرابٌ في الضَّمائر: ﴿بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾… ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾: (نسلَه) هذه تَعودُ على مَن؟ حَسْب كلامِكم تعود على الحيوانات وأشباه البشر، وهُم غيرُ مذكورين في الآيات قبلَها ولا مفهومٌ وجودُهم من السياق. ﴿ثم سواه﴾: أيضًا حسب كلامكم يعودُ الضَّميرُ على أشِباه بَشَرٍ كانوا قبل الإنسان. تكلُّفٌ وإقِحامٌ لمعانٍ غريبةٍ ومخالِفَةٍ لقواعد اللُّغة، كلُّ هذا للانتصارِ لفكرةٍ لا دليلَ عليها، بل وتخالف المُحكَم القطعيَّ من القرآن. فهذه الآياتُ أيضًا دالَّةٌ على الخَلق الخاصِّ للإنسان، لا على تطوُّره عن كائناتٍ أدنى: ﴿بدأ خلق الإنسان من طين﴾. ثالثًا: قال الله -تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ... إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِين﴾ [القرآن 6: 133]. قال مؤسلمو تطوُّر الإنسانِ: هذه الآيةُ تُشير إلى أنَّنا نشأنَا نحن البشر من ذرِّيَّة قومٍ آخرينَ غير البشر. وهذا استدلالٌ عجيبٌ حقيقةً! الآيةُ تهديد للمشركين أنَّه -سبحانه- قادرٌ على أن يُفْنِيَهم ويأتيَ بقَومٍ لا يكونون مثلَهم في العناد والعصيان، فالدُّنيا لن تدومَ لهم كما أنَّها لم تَدُمْ لآبائهم، فقد أنشأهم الله من ذُرِّيَّة أجدادِهم ﴿قومٍ آخرين﴾، هذا سياقُ الآيات، وليس متعلِّقًا ببيانِ أصلِ الجنس البشريِّ كلِّه كما يدَّعون. وذَكر الإمام الطبريُّ معنىً آخر: أنّ (مِنْ) في الآيةِ بمعنى التَّعقيب، كما يُقال في الكلام: (أعطيتُك مِن دينارِك ثوبًا)، بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا، فيصبح معنى الآية: كما أنشأَكم -أيها المخاطَبونَ- مكانَ -أو بدل- آخرينَ هُم ذرِّيَّةٌ لقَوم هلَكوا قبلَكم، فإنَّه كانَ من سُنَّة الله -تعالى- أن يُهلِكَ الأمم المُكذِّبة إلا ذُرِّيَّةً مِمَّن آمن، حتَّى يَدِبَّ فيهم الفسادُ عبْرَ القرون فيُهلكَهم وتقومَ بدلًا منهم حضاراتٌ ويَظهَرَ أقوامٌ يَبقَونَ إلى ما شاء الله قَبلَ أن تَحِلَّ فيهم سُنَنُه، فما علاقة هذا كلِّه بتطوُّر الإنسان عن كائناتٍ أدنى؟! رابعًا، قالوا: قولُه -تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [القرآن 3: 33] قالوا: الاصطفاءُ هو الاختيار، واللهُ لا يختَارُ آدمَ إلَّا مِن بَينِ أقرانٍ له، وهم أَشباه البشر الذين كانوا قبلَه. فنقول: أوَّلًا: ليس في اللُّغةِ ما يُلزِم بأنْ يكون الاصطفاء من نفْسِ الجِنس؛ فالله اصطفى آدم على الملائكةِ والجِنِّ بخَلقِه بيدَيْه وبتعليمه الأسماء كلَّها وبإسجادِ الملائكةِ له. وحتَّى من بين البشر؛ فإنَّ آدمَ قد اصطُفِيَ بالفِعلِ بالنُّبوَّة على أبنائِه الذين كانوا في حياتِه، وعلى من جاء بعدَه من البشر، كما اصطفى مَن ذُكروا بَعدَه في الآية، فالله اصطَفى نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ممَّن كان قبلَهم وفي زمانِهم وبعدَهم. خامسًا: قول الله -تعالى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾. [القرآن 71: 13-14] قال بعضُهم: هذه الأَطوار هي المراحِل الانتقاليَّةُ في التطوُّر، وهذا الاستدلال هو أشبه بالكوميديا، لكنَّها غيرُ مُضحِكَة بل مسيئَةٌ؛ لاجترائِها على كتاب الله -عَزَّ وجَلَّ. فمِن الجَهْلِ المُدقِعِ أن تأتيَ لتُفسِّر لفظًا قرآنيًّا بلفظٍ مُستَحدَثٍ لم يكن موجودًا وقتَ نزولِ القرآن. تصوَّر لو أنَّ مُغفَّلًا قال: القرآنُ ذَكَرَ الأطباقَ الفضائيَّة. - كيف ذلك؟! = ألم ترَ إلى قول الله -تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [القرآن 84: 19] الأطوارُ هي -كما فهِمَها العربُ عبْرَ القرون- مراحلُ تَخَلُّقِ الإنسانِ: نُطفَةٌ، عَلَقَةٌ، مُضغَةٌ، وهكذا... لا أنَّ القرآنَ يُخاطِب النَّاسَ بألفاظٍ تضِلُّ الأُمَّة في فَهمِها ثَلاثةَ عَشَرَ قرنًا حتَّى يُفْهِمَهم إيَّاها داروين. هذه الآياتُ هي أكثر ما يستدلُّ به مؤسلمو الخرافة، ولاحظْ أنَّهم يُضطرُّون لمُخالَفَةِ كُلِّ القواعد، فيقطَعون الآيةَ عن سياقِها، ولا يُفسِّرونَها بالآيات الأُخرى في المَوضوع، ولا يُجيبون عن الآيات الَّتي تدحَض دعواهم، وطبعًا لا يَلْتَفِتُون للسُّنَّة الثابتةِ. كلُّ هذا من أجلِ ماذا؟ من أجلِ علمٍ زائفٍ أثبَتْنا بُطلانَه، من أجل موافقةِ "المجتمع العلميِّ" الغربيِّ أو -بالأَصحِّ- الصوتِ الطاغي فيه، الَّذي يُحاول تفسيرَ الكون والحياةِ تفسيرًا مادِّيًّا معَ إقحام غيبيَّات غَبيَّةٍ من أجلِ تَجنُّب الإقرار بالغَيب الصحيح. أنتم بذلك يا مؤسلمي التطوُّر تُرَحِّلون المشكلة؛ فإنَّكم ستصطَدِمون مع هذا المُجتَمَع "العلمي" في مرحلةٍ ما؛ فحتى لو قُمتُم بأسلمة فكرةَ تطوُّر الإنسان وقلتم أن الإنسان تطوَّر عن الكائن الأوَّل أو الخليَّة الأولى بإرادة الخالقِ فإن المجتمع العلميَّ الغربيَّ يُفسِّر هذه الخليَّة الأولَى بنظريَّاتِ العلم الزائف، كقولِهم أنَّ أشِعَّةً كونيَّةً ضربَتْ موادَّ عضويَّةً في المُحيط، وأخرجَتْ منها شريطَ الحمضِ النوويِّ RNA، ثمَّ بمجموع الصُّدفِ خرجَت خليَّةٌ بكُلِّ ما فيها من إبداعٍ وتناسُقٍ وتكامُلٍ وتعقيدٍ -ويُسمُّون هذه المكابراتِ الإلحاديَّةِ والغيبيَّات الغبيَّة، يسمونها تفسيرًا عِلمِيًّا- فهل ستُتابعونَهم في هذا أيضًا؟ أم أنَّكم ستقولون أنَّ هذه الخليَّة الأولى خُلِقَت، وبذلك تُخالفون المجتمع "العلميَّ المادِّيّ" في نهايةِ المطافِ، وتقعون فيما حاولتهم التَّهرُّب مِنه؟ لا يلزَمُنا تقليدُهم ولا موافقَتُهم، فهم عندهم خَلَلٌ جوهرِيٌّ قادَهم إلى هذه التفسيرات، ألَا وهو حَصْرُ العلم في الـ(Science) وتعطيلُ دلالة الـ(Science) عقلًا على وجودِ الخالقِ، ممَّا اضطَّرَّهم إلى غيبيَّاتٍ غبيَّةٍ نسبوها إلى العلم وهو منها براء؛ فغيبيَّاتُهم هذه لا هي رصدِيَّةٌ ولا تجريبِيَّةٌ ولا علمٌ عقليٌّ ولا فطريٌّ، بل حقيقةُ المادِّيَّةِ (Materialism) أنَّها ستارٌ لعقيدةٍ إلحاديَّةٍ متَعصِّبةٍ عمياءَ، كما بيَّنَّا في حلقةِ (المخطوف). كُلُّ هذا النقاشِ -إخواني- في حلقة اليوم كان يُغني عنه الحلقاتُ الماضيةُ الَّتي بيَّنَّا فيها أنَّ نظريَّة التَّطوُّر خرافةٌ؛ فبَعد إثباتِ بُطلانِ خرافةِ التَّطوُّر يُصبح سؤال: (لماذا لا نُحاول التَّوفيقَ بينها وبين ديننا؟) مساوِيًا لسؤالِ: (لماذا لا نُحاوِل أسلمة الخرافة؟)، (لماذا لا نُحاوِلُ التَّوفيقَ بين كلامِ الله -تعالى- وخُرافاتِ العِلم الزائف؟) سؤالٌ يُجيبُ عن نفسِه بنفسِه، وما طَرَحْنَا نِقاشَ اليوم إلَّا زيادةً في الحُجَّة وبيانًا للمَحَجَّة. إذا فهمتَ ما تقدَّم علمت كمِّيَّة المغالطاتِ في قول بعضِهم: "إذا ثبَتَت نظريَّةُ التَّطوُّر في المستقبل فيمكِنُ حينئذٍ إعادةُ تفسيرِ آياتِ القرآن لتناسِبها". كلامٌ خاطئٌ في شِقَّيْهِ، فأوَّلًا: عبارةُ (إذا ثبتت نظريَّة التَّطوُّر في المستقبل): أمَّا إن كان الحديثُ عن ظهورِ الكائناتِ بالتغيُّرات العشوائيَّة والانتخابِ الأعمَى بلا قصدٍ ولا إرادةٍ من فاعلٍ عليمٍ قديرٍ -كما هو الوصفُ لخرافةِ التَّطوُّر عند أصحابِها- فقولكم "إذا ثبت هذا في المستقبل" مساوٍ لقَولِ: إذا ثبتَ في المستقبل أنَّ اللَّامُمْكِنَ ممكن، وأنَّ ما يَحكُم العقلُ السَّليمُ باستحالتِه يحصُل... وحينئذٍ فلا عقلَ ولا علمَ ولا برهانَ. وأمَّا إن كنتم تقصدون بالتَّطوُّر مُجرَّد فكرةِ النشوء الأوَّل للكائنات من أصلٍ مشتَرَك، فقولُكم: "إذا ثبتت نظريَّة التَّطوُّر في المستقبل" يُخالف طبيعةَ العلم الرصديِّ التجريبيِّ، ويخالفُ بدهيَّةً من بَدهِيَّات فلسفة العلم؛ فإنَّ ما كان قبلَ التاريخ الإنسانيِّ لا يقعُ تَحت الحسِّ ولا التجريبِ، فلا دليلَ عليْه إلَّا من خَبَرِ المصادِرِ الَّتي دلَّت الأَدلَّةُ على صدقِها، أمَّا العلمُ الرصديُّ التجريبيُّ فإنَّه لن يُثبِتَ لك في الحاضِر ولا المستقبل شيئًا خارِجًا عن نطاقِ بحثِه، وتُكونُ تَستَخدِمُ أداةَ الاستدلال الخطأ. وأمَّا قولُهم: (فيمكن حينئذٍ إعادةُ تفسير آيات القرآن لتناسبها)، فهو يُشعر بأنَّ الآياتِ المُتَعلِّقة بأصل الإنسان مُبهَمَة المَعنى قابلةٌ للقَوْلَبة، وقد رأيْنا أنَّ من حِكمَة الله -تعالى- أنْ جعلَها مُحكَمَاتٍ واضِحاتٍ بَيِّناتٍ مُفصَّلات، بما يمنعُ الحيرةَ والتَّردُّد. فلا تُحرَّف دلالاتها لخرافاتِ العلم الزائفِ. نسأل الله أن يهدينا لما يحب ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله. وقد رأينا أن من حكمة الله -تعالى- أن جعلها محكمات واضحات بينات مفصلات،