في مصر كما شكلها الانجليز خلال احتلالهم. وانتقال الطائفة المسيحية من وضع استضعاف الى صدارة السلطة والنفوذ في مصر يقول الطفولة والصبا. رأيت القرن التاسع عشر بعين الطفولة ورأيتوها وخلوا من الغش لم يلبسه شيء من مخترعات القرن العشرين. وهذا فدخلناها وكان التلاميز يلبسون الجلاليب الى ان زار الخديوي عباس هزه المدرسة حوالي عام الف وثمانمائة وتسعة وتسعين يطالبون باتخاذ الزي الاوروبي. وحصلت المدرسة من كل تلميز على خمسة وعشرين او ثلاثين او يصرخون من القلب واذكر اني كنت في الاسكندرية في ذلك الوقت اتنزه مع اخي. ان كنا نأكل في المطاعم فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان. فلم استطع الاكل جملة بسم الله الرحمن الرحيم قراءة لكتاب تربية سلامة موسى وهو كاتب مسيحي مصري. ولد عام الف وثمانمائة وسبعة وثمانين. اي بعد الاحتلال البريطاني لمصر. وكان كان يدعو الى الالحاد ويكره الاسلام وهو متعصب للعرق الابيض ويحتقر السود. واهمية كتابه انه يمثل رصدا مهما للحياة الاجتماعية والثقافية ما لا يستطيع ان يقولوه اوروبي لان ايماءات القرن العشرين كانت تبدو واضحة في اواخر القرن التاسع عشر في اوروبا اما في مصر فقد حدث العكس وهو ان تراث القرن التاسع عشر بل بعض القرون التي سبقته بقيت عالقة ببداية قرننا هذا. وما زلنا في عام الف وتسعمائة وسبعة واربعين نرى هذا التراث على اثقله. في طبقاتنا الفقيرة وليس هذا من ناحية الوسط فقط. حيث الفقر المزل بل من ناحية النفس ايضا حيث الرضا بالحظ المقسوم والايمان بالخرافات والتسليم بالنظم الاقطاعية كأنها الشيء الطبيعي لمجتمعنا اجل لقد ركبت الحمار من محطة القاهرة الى عابدين رأيت الجاموسة وهي تحضر كل يوم من العزبة الى منزلنا بالزقازيق كي تحلب ثم تعود وضربت من اختي لاني ناديتها باسمها من الشارع. اذ كان يعد من الشعائر الاجتماعية العامة الا تعرف اسماء الفتيات وعشت في الزقازيق انك لم تكن تعرف المصابيح. حتى اننا كنا حين نزور بعض اقاربنا نحمل معنا فانوسا نسترشد به في ظلام الشوارع. ورأيت احد المجرمين يشنق في ميدان الزقازيق وبقيت نحو عام وانا افزع من اسمه وكان يدعى السيد اهله ولم اكن استطيع النوم الا وانا متعلق بعنقه ولم اكن استطيع الدخول في المرحاض الا بمرافقة الخادم. لان رسم المشنقة بقي حيا في مخيلة الصغيرة. وكان من المألوف الذي كنا لا نحس في وخز او عيب ان يجري خلفنا الفلاح نحو ساعة. ونحن على الحمير وهو يلهث كانه والحمار سواء. وكانت لنا دار قراء في الزقازيق تتسع لحمار او بغل في فنائها الذي يستقبل السماء وتفرش ارضه اشعة الشمس. وكانت هذه المطايا او تنبيلات العائلة وفقا لشعائر القرن التاسع عشر. ولعل ارماد عيني في صبايا كان يعود الى رغث هذه البهائم. والزقازيق بلدة جديدة لا يرجع تاريخها الى اكثر من ثمانين عاما وجميع عائلاتها لهذا السبب ينتمون الى بلدان اخرى. وكذلك كانت اسرتي فانها ترجع الى البياضية في مديرية اسيوط وقد تركنا البياضية منذ نحو مائة واربعين عاما. اي في نهاية الحكم الفرنسي وبداية حكم محمد علي. واسرتنا في مديرية الشرقية تعرف بلقب العيب فيه ولا يزال هذا اللقب في البياضية على الرغم من فارقة من فرقة تقارب قرنا ونصف قرن. والاصل والفرع يعيشان في يسر ولكن ليس فهناك اي تعارف بين اعفياء البياضية واعفياء الشرقية. ولم نزر هذه القرية منذ مائة واربعين سنة. اما لماذا هاجر فرعون الحاضر في الشرقية هذه القرية الصعيدية فاننا نجهل تفاصيله. ولكني ارجع هذا التفسير التالي لما غزا نابليون مصر في اواخر القرن الثامن عشر انتعش الاقباط. ولم يكن الشعب المصري مسلمين ومسيحيين يحسوا الوجدان الوعي الوطني الذي نحسه في عصرنا. وذلك لان الوجدان الديني كان يقوم مقامه وفرح الاقباط بدخول نابليون واستطاعوا ان يجرؤوا على تغيير ملابسهم. وان يرحلوا عن قراهم في الصعيد الى القاهرة. وبلدان الوجه البحري كانوا اذ وكانوا الى ذلك الوقت يتعممون بالعمائم السوداء مع ازياء اخرى يختصون بها ويتخذونها مضطرين منذ القرون المظلمة وكانت هذه الازياء الخاصة تمنع تنقلهم وارتيادهم مدن القطر مدن القطر. فلما جاء نابليون نزعوا هذا الزي واتخزوا الزي المصري العام الذي كان ينفرد به اخوانهم المسلمون. وبذلك اتيح لهم التنقل وانا اعد هذا السبب الاصلي لنزوح ابي ابي جدي من البياضية الى القاهرة ثم الى الفرافرة في مركز قمح ثم الى الزقازيق ومما يؤدي هذا التفسير قول الجبرتي في حوادث عام الف ومائتين وثلاثة وثلاثين هجريا. فيه نودي على طائفة من المخالفين الملة من الاقباط والاروام بان يلزموا زيهم من الازرق والاسود ولا يلبسون العمائم البيض. لانهم خرجوا عن الحد في كل شيء. ويتعممون هنا بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن. ويركبون الرهوانات والبغال والخيول. وامامهم وخلفهم الخدم يطردون الناس عن طريقهم ولا يظن الرائي لهم الا انهم من اعيان الدولة ويلبسون الاسلحة. وتخرج الطائفة منهم الى الخلاء ويعملون لهم نشانا يضربون عليه بالبنادق وغير ذلك فما احسن هذا النهي الا ودام ولكنه لم يدم كما اشتهى هذا العالم الازهري الجبرتي ويبدو ان الاقباط والاروانج عادوا فتوسلوا بالقناصل الفرنسيين والايطاليين الى محمد علي فالغى هذا التمييز. فاستطاع الاقباط ان يختلطوا بسائر الشعب وان يرتحلوا وينتقلوا كما شاؤوا. وواضح ان الازياء السابقة التي كانوا يتخذونها منذ الحاكم بامر الله كانت تجمدهم في قراهم. لانهم كانوا اذا اذا انتقلوا الى مدينة غريبة صاروا عرضة على الاقل للتهزئة والتعبير ان لم يكن لاكثر من هذا. وهجر ابو جدي قرية البياضية حوالي عام الف الف وثمانمائة او عام الف وثمانمائة وعشر. في عمامة بيضاء وكان هذا من الانتصارات الخطيرة القرن التاسع عشر من اعلى القرون السابقة وجميع افراد عائلتنا يعدون بحسب الترتيب المزاجي لكارتيشمر انطوائيين يتسمون بالوجه الطويل والقامة النحيفة والاعتكاف او كراهة الاختلاط. واحيانا يبدو هذا المزاج في مبالغة شاذة. حتى اني اعرف اشخاصا في اسرة العف عاشوا كأنهم كانوا رهبانا يطوقون المجتمع ولا يحضر احدهم عرسا او جنازة الا بضغط وقد لا يجدي الضغط ولكن هذا الشزوز كان بالطبع نادرا ومات ابي ولما يبلغ عمري السنتين ونشأت لذلك في بيت لا يزوره ضيف الا اذا كان من الاعمام او الاخوال فزادني هذا الظرف على ما ورستم من المزاج الانطوائي وقد صار هذا الانزواء بعد ذلك فضيلتي ورزيلتي معا. فقد كانت تمضي علي السن والسنتان لا اعرف فيها القعود على القهوة. كما اني الى الان اجهل العاب الحظ الاجتماعية البسيطة بالورق او غيره مما يتسلى به كما اجهل التدخين وما زلت افر من المجتمعات في استحياء او كراهة. ومع اني احس احسن الكتابة فاني اسيء الخطاب. لان الاولى تؤدي في في انفراد والثانية تحتاج الى مجتمع. وقد عانيت كثيرا من هذا النقص الاجتماعي في حياتي بعد ذلك. ولكني اعزو الى انطوائيات هذا الاعتكاف في مكتبتي وهو وهو الذي بسط لي افاقا واسعة من الحكمة وامتعني بجنات نظرة وغرس في نفسي ديانة بشرية واولى الذكريات التي تمثل في ذهني من ايام الطفولة. صورة امي وهي قاعدة الى فراشي تصلي من اجلي وانا مريض. ولا اعرف كنة هذا المرض الذي الزمني الفراش نحو عام او عامين. والاغلب اني مرضت به وانا في الخامسة او السادسة ولعله كان حمى الملاريا لان الزقازيق كانت في ذلك حافلة بالبرك الاسنة ولما قاربت الشفاء كان خادمنا عطية يحملني الى ضريح ولي مسلم يدعى ابا عامر. ولا يزال ضريحا بقرب الزقازيق. وكان يشتري الشمعة ويتصدق بخروش ويدور به حول الضريح ويتمسح به. ويقرأ الفاتحة جملة مرات وانا على عاتقه وكان عطية متعلقا بي يهمل شؤون البيت كي يقعد بجواري ويلاعبني وانا مريض وبقي اكثر من عشر سنوات بعد ذلك بمنزلنا وكان حبه لي ساذجا يطغى. فكان يلقمني الطعام حتى اعجز عن البلع وكان هذا العجز علامة الى علامة الشبع عنده. ولم يتركنا الا بعد ان اشترى فدانا واثر الفلاحة على الخدمة المنزلية. ومما اذكره من تلك السنوات اي بين عام الف وثمانمائة وخمسة وتسعين وحتى عام الف وثمانمائة وثمانية وتسعين ان وباء الكوليرا فشى في الزقازيق فكانت النعوش تخرج متوالية وليس ورائها سوى شخصين او ثلاثة. وعم الذعر بين السكان ولكن توالي الموت كان ايضا مجالا للفكاهة وكنا نحن الصبيان اكثر السكان فكاهات فكنا نسير جماعات صغيرة فاذا سمعنا فزعة الموت بصراخة بصراخ النسوة قابلناها بهيه ثم نجتمع امام البيت كي نرى الشعائر الاخيرة وكانت هذه الشعائر تجرى في سرعة واقتضاب. وكان مما يحدث ان بعض الصبيان الذين كانوا في جماعتنا يقع هذا الوباء في بيوتهم ولكنا لم نكن نظن عليهم بهذه المظاهرات. ولم يكونوا هم على وجدان بالمواساة اذ سرعان ما كانوا يعودون الينا قبل ان ينفضوا المأتم واعني بالمأتم صراخ النسوة يجتمعن في البيت اما اقامة السرادقات للعزاء فلم يكن الوقت يتسع له لوفرة الوفيات وادخلت الكتاب ولم تكن بدعة المدارس قد ظهرت في الزقازيق. وقضيت من السنين ما لا اذكره وانا اجهل القراءة وكانت غاية العريفة ان يعلمني عن ظهر قلب بعد الصلوات. فلما حفظت نعظمك يا ام النور وهو دعاء الى العذراء رافقني الى البيت وقعد هو امام امي وانطلقت انا اسرد الدعاء. وناولته امي على اثر ذلك جنيها وتألفت وتألفت في الزقازيق وتألفت في الزقازيق جمعية خيرية من الاقباط. وكان اول نشاطها ان انشأت مدرسة عصرية. اي انه وكان بها مقاعد من الخشب ومعلمون في زي اوروبي. وانتقلنا من الكتاب اليها وشرعنا نتعلم وندرس في جد. ثم ظهرت المدرسة الامينة ثمن بزلة بيضاء لكل منا. ودارنا الخديوي ونحن في هزا الزي الابيض الناصع ولم نعد بعد ذلك الى الجلاليب. ولا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الاميرية. فيما بين عام الف وتسعمائة عام الف وتسعمائة وعشرين ان يقول انه كان هنيئا بالحياة المدرسية. فقد كانت هذه المدارس ثكنات وكان كل ما يستحق الاهتمام فيها هو النظام اي الطاعة. ولم نكن نعرف ذلك الروح الديمقراطي الذي يعم المعاهد التعليمية في هذه السنين. وكذلك لم تكن هناك اية الفة بين المدرس والتلميز وكانت هذه الصفات ابرز في المدارس الثانوية منها في المدارس الابتدائية. حتى كان العام يمر والتلاميز لا يعرفون اسم المعلم الانجليزي الذي كان ينطق صمته قبل حديثه بالغطرسة. وكان المعلم يسرع الى العقوبة لاقل اماء الفة من التلميز. وكانت العقوبة المألوفة ان يحرم التلميز من الغداء ويعطى رغيفا يأكله وهو واقف الى جنب زملائه القاعدين الى المائدة ولست اظن انه كان يقصد بهذه العقوبة سوى تعميم الذلة والهوان بيننا وكان التعليم في المدارس الابتدائية اقل فيلا. لان المعلمين كانوا مصريين. ولكن حتى حتى هنا كان القرن التاسع عشر يثب علينا باساليب في الضغط والعربدة. فكان المعلم احيانا يعمد الى اسلوب في العقاب يفشي بيننا الكراهة والوقيعة. ذلك انه اذا اخطأ احدنا ورد او تلميذ اخر الى الصواب عمد هذا الثاني الى لطم الاول على خده. فاذا تعطف هذا الضارب وادى العقوبة تأدية شكلية استعاده المعلم وطالبه بالضرب الجدي. فاذا انطلقنا بعد ذلك من الفصل الى الفسحة. امسك المضروب بخناق الضارب وانتقم منه. ولكننا كنا نهنأ نهنأ بالاجازات المدرسية التي كنا نقضيها في الريف. وهي لا تزال تبرز في ذهن كاجبل وانصع ذكرياتي. وفي هذا الريف اكتسبت كثيرا من الاختبارات من الاختبارات التي لا تتحقق لاطفال المدن. وكانت قريتنا تبعد عن الزقازيق نحو ساعة على الحمار وكنا نلعب مع صبيان المزارعين الى الساعات الاولى من الصباح. واحيانا كنا ندبر السرقات في الحقول للخيار او البطيخ. ولا يزال عالقا ذاكرة بعض الاقتحامات والصبوات وقد تسلقت ذات مرة شجرة كان في اطرافها العليا عش. فلما بلغته وجدت فيه فرخي غراب. فامسكتهما بيدي وشرعت اهبط. ولكني ما كنت اترك العش حتى وجدت ثورة من اللطم المؤلم والعض الشنيع. تغمر رأسي ووجهي وطار عقلي وانا في هذا الاضطراب. فلما انتبه الي الى فلما انتبهت الى ان هذه الثورة هي ام الفرخين يساعدها اب او عم. ولو كنت ادركت لخليت عن الفرخين ونزلت في سلام ولكني لفرط الالم والرعب بقيت في غشية مغمض العينين وانا ممسك الفرخين اتحسس طريقي الى طريقي الخطر على فروع الشجرة الى ان الارض. وهنا افقت وفتحت عيني فوجدت ثلاثة او اربع من الغربان تصرخ بي وتسب وتهاتر. بعد ان افخنتني ودرجت رأسي ووجهي بالدماء ومرة اخرى في احدى جولاتي سمعت خشخشة في دسم عند حرف القناة. فلما اقتربت وجدته جحرا وظننت اني قد هبطت على عشب ساخرج منه بغنيمة. فلما ادخلت يدي قبضت على جسم طري فجررته فاذا به ثعبان. ولكن الريف لم يكن كله على غرار هذه المفاتيح ماذا؟ فان مباهجه والانسة الديموقراطية التي كانت تتعقد التي كانت تنعقد بيني وبين الصبيان الذين كانوا في سني والليالي التي كنا نحييها في السمر او اللعب والاستحمام في القناة. وركوب الفرس والجولة الى السوق الاسبوعية. ثم الى ذلك معيشة الريف الساذجة كل هذا كانت تحفل به حياتنا في الصبا. وكنا نجد اهتمامات تشغلنا. ولم تكن كلها صبيانية فاني اذكر ان ولادة الجاموسة حركت عقلي وقلبي جملة ايام وما زالت صورتها الى الان ترتسم في مخيلتي وهي في حرج الولادة تئن وتلهث وتتلفت. وجميع هنا حولها في عطف نتألم لها. وكان بعضنا يدعو لها بالسلامة كأنها صديق من البشر حتى خرج المولود بعينيه الواسعتين وهو يترنح نحن نسنده وامه تحنو عليه وتلحث وحصلت على الشهادة الابتدائية في عام الف وتسعمائة وثلاثة ولا اعرف بالضبط كم كان عمري. لان اثبات الميلاد لم يكن في ايامنا من القواعد الصارمة ولكن اغلب الظن اني ولدت حوالي عام الف وثمانمائة وسبعة وثمانين. ودخلت السنة الاولى في المدرسة الاميرية وانا في الحادية عشر. وهو السن التي قال فيها ابني بعد ذلك هذه الشهادة. ومع ذلك كنت اعد من صغار السن في الفصول. اذ كان بيننا من بلغ العشرين. وعندما اقارن بينما تعلمت المدرسة الابتدائية بالضرب وسائر العقوبات بما تعلمتوه عفوا في الريف من من اختبارات في الحياة اجد ان لي فقد علمني اكثر واكسبني من المعارف الذهنية والروحية. ما يعد تربية حقة. ما زلت انتفع بها الى الان. فقد اكتسبت من ريف هذا الحب للطبيعة الذي جعلني احس سائر حياتي ان الارض هي الام. واكاد وانا في الريف على ويكادوا انا في الريف احس مثلما احس احس ذلك الراهب في قصة الاخوة كرامازوفا حين انبطح على الارض يقبلها مثل هذه العاطفة المقدسة. وظن ان هذه العاطفة هي المبعث الذي انبعث منه بعد ذلك كوجدان الدين والبشر واستطلاع الدائم لعالمي النبات والحيوان واهتمامي بشؤون العمال. وكانت حياتنا بالريف سليمة من الناحية الصحية انه على الرغم من اننا كنا ندوس الحقول ونخوض القنوات بلا حذاء ونستحم في القناة. فاننا لم نعرف البلهارسيا او الانكلستوما وذلك لان التربة لم تكن قد استشبعت بالماء كما هي الحال الان. بعد ان عمت مشروعات الري التي احالت ارض القطن المصري كلها تقريبا الى عزبة القطن دون اي اعتبار لصحة الفلاحين. واذكر ان التربة كانت ايام الجفاف تتشقق وكان عرض الشق يزيد على عشرة سنتيمترات نحو نصف متر وفي مثل هذا الوسط لم تكن الديدان تستطيع الحياة وكانت صحة الفلاحين سليمة واجسامهم قوية. ولكن الانجليز المتسلطين على بلادنا وقت از رأوا ان انتاج القطن خير لهم من صحة الفلاحين. وكانت الحياة الدينية ابرز من الحياة الاجتماعية او المدنية في العائلات القبطية. وهذا على عكس ما نرى الان فاني اذكر انه كان لعيد الميلاد ضجة عظيمة تمتاز بمقدمات ولواحق. ان كنا نعد له الايام ونتهيأ بالملابس النقل والذبائح وكانت تفيد الى بيتنا عجوز تقضي في كل عيد نحو شهر. لا اعرف اصلها ولكني اذكر اسمها خرستا وكانت تقص علينا الاساطير البديعة كما تصنع لنا انواعا من الكعك المزخرف. وقد ورث الاقباط التعاليم الكنسية كما كانت حين تجمدت في الدولة في زنطية فيما بين القرن الرابع والقرن السادس ولذلك كانت العذراء بارزة بروزا يبرر وصف الاوروبيين للعقيدة المسيحية في مصر في نهاية القرن الماضي. واوائل القرن الحاضر بان الى بانها ميروبلوجي ميولوجية. ولكن انتشار المذهب البروتستانتي في مصر استفز الكنيسة القبطية واثارها الى الوجدان المسيح وكثير من الاقباط يأسفون على انتشار المذهب البروتستانتي في مصر ويجدون فيه شقاقا لم يكن ضروريا. ولكني اظن انه لولا هذا المذهب كما تنبهت كنيستنا الارثوذكسية ولما استيقظت من نعاس القرون الماضية. وكانت المرأة مسلمة او قبطية تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال وكان هؤلاء يزورون او يزورون في منظرة لا تشترك في لقائهم المرأة. وكان البرقع عاما لا تخرج امرأة الا وجهها مقنع واذكر ان امي واختي اخوتي المتزوجات التزمنا البرقع الى حوالي عام الف وتسعمائة وسبعة او الف وتسعمائة وثمانية حين تركنا وظني ان هذا الترك كان من اثر البروتوستانت ايضا. لانهم كانوا الصق بالغربيين واكثر اخذا بطرقهم منا نحن اقباط الارسوزوكس امي واخوتي لا اذكر ابي لانه مات وانا دون السنتين في عام الف وثمانمائة وتسعة وثمانين. ولكن جو البيت في طفولته كان حافلا بذكراه. فقد كانت امي تصف سنة وفاته بالسنة السوداء وبقيت بذته معلقة الى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته حتى القميص المنش بوقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت اسمع القصص عنه وقد بقينا عقب وفاته نتناول مؤخر مرتبي عشرين شهرا تقريبا وهذا بالطبع غير المعاش. ومن هنا يعرف القارئ مقدار الافلاس الذي كانت قد هوت اليه الحكومة. وقد كان الموزفون تتأخر مرتباتهم سنة او سنتين وكانت الرشوة تتفشى لهذا السبب. وكانت وظيفة ابيت رئيس تحريرات مديرية الشرقية. ولم يزد مرتبه على سبع جنيهات ونصف جنيها ومع ذلك ترك لنا وقت وفاته اكثر من مائة فدان. وكان الثمن المعتاد في تلك السنين ان عشرة جنيهات او عشرين جنيها للفدان لقد اطلعت على عقد بيع لجدي في نحو سبعين فدانا وكان اهتمام الكاتب في العقد بشأن ادوات الزراعة كالمحراث والنورج اوصاف الماشية من بقر او جاموس او حمار اكبر جدا من اهتمامه وسألت انا في لهفة عما حدث له وعرفت شر ما يعرف ونزلنا من الترماي وقعدنا في قهوة قريبة وقص عليها قصته بل مأساته وهي انه وقع ضحية للكوكايين. وانه قد مضى عليه اعوام وهو الارض التي لم تستغرق سوى سلاسة سطور. بينما استغرقت الاشياء الاولى اكثر من اربعين او خمسين سطرا. وكان اتخاذ البذلة الاوروبية جديدا في تلك اي قبل وفاة ابي بين الموظفين. وكانت البدلة المألوفة شيئا يسمى السترة الاسطنبولية. وكان السوداء بين ريدينجوت والبنجور وكنا نسمع القصص التي تروى عن التجارب الاولى في خلع الملابس القديمة واتخاذ البزلة الاوروبية. وكانت هذه القصص مجالا للتنادر والطفولة في ايامنا كانت اكثر امتاعا ولكن اقل تنبها مما هي الان. لان لاننا قضيناها في الزقازيق والريح وكانت الزقازيق تخلو من تلك الحركة الصاخبة الخطرة التي ترى الان في القاهرة. فكنا نجول فيها مطمئنين او نخرج منها الى الحقول المجاورة ولكن لم يكن هناك ما ينبه الذهن ويبعث الاستصلاح ومما اذكره انا في الرابعة او الخامسة ان شابا يدعى زغبان غرق في القناة التي امام بيتنا. واخرجت جثته ورأيتها محمولة محمولة على عاتق احد شبان وخلفه عدد كبير من الرجال والنساء في لغط وصراخ ثم صار لزغبان هذا روح او عفريت يتردد في الظلام فنخوف به. وتذكره الام لطفلها المشاغب فيسكت ويخنس حدث هذا حوالي عام الف وثمانمائة واثنين وتسعين وفي عام الف وتسعمائة وخمسة واربعين اي بعد ثلاث وخمسين سنة كنت اسير الى هذه انا فسمعت من احدى الامهات اسم زغبان تخوف به هذه الام طفلها وهنا عبرة تفسر لنا نشأة الخرافات وعاشت امي معي الى عام الف وتسعمائة وستة عشر. حين ماتت في السالسة والسبعين. وكانت امرأة متدينة تعني بالصلاة والدعاء وقت مرضي ايام الطفولة اكثر مما تعنى باستشارة الطبيب وقد قضيت طفولتي وانا في ملابس سوداء احمل عبئا من عبئا من التعاويذ يعوق حركة الحرة. بل لا تزال في اذني علامة الخرم الذي علق به في قرط ايهما باني لست غلاما بل بنتا حتى تتقي بذلك العين وقد رأيت وانا اقرأ الارض الطيبة لبر البيك ان هذه العقلية تسود الصينيين ايضا فان الام في هذه القصة تتحدس عن ابنها كأنه بنت حتى لا تصيبه الالهة بالعين. وقيمة الذكر تزيد على قيمة الانسى كل من حط شأن المرأة. ولذلك كان للغلام ولا يزال الى حد كبير مكانة كبيرة في مثل الصين او الهند او مصر. يمتاز بها على اخوته بنات وجميع الامهات المصريات اللاتي ولدن قبل مائة عام لا يختلفن فهن طراز واحد من حيث الامية والايمان بالخرافات واحترام التقاليد التزام الحجاب ولكن اذا كان النور قد نقصهن فان الطيب لم تكن تنقصهن. لان المطامع المالية الحاضرة لم تكن معروفة والتفاخر بالاثاث والازياء لم يكن ايضا معروفا الى الحد الذي بلغه اليوم ولا اذكر يوما رأيت امي تأكل وحدها اذ كان على الدوام هناك امرأة اخرى فقيرة تتغزى معها وقد تركت امي في نفس زكريات من الحنان لا تزال تعود الى ذهني فتغمرني بلذة اليمة. اما زلت اذكرها وانا في طفولتي وانا في الحمى تقلب واستيقز في فترات فاراها قاعدة الى جنبي تدعو وتصلي كانها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها. حين كنت اودعها للسفر الى القاهرة وانا بالمدرسة السانوية كانت تناديني عقب خروجي من البيت وتصر على ان ادخل البيت ثانية. كأن في هذا رمزا الى عودتي سالما بعد السفر. وكان اكثر الحاحها علي قبيل موتها ان اتزوج ولذلك في ليلة العرس وانا قاعد الى جنب عروسي وانا قاعد الى جنب عروسي في الزفاف في عام الف وتسعمائة وثلاثة وعشرين بعد موتها بسبع سنوات تذكرت الحاحها وغيابها عشت وانتفض جسمي وطفر الدمع الذي لم اجرؤ على مسحه. ولكن عروسي اخبرتني بعد ايام ان بعض الحاضرين للزفاف يقولون اني كنت ابكي وانا اصغر اخوتي ولذلك لا اذكر اثنتين من اخواتي بالبيت لانهما تزوجتا قبل ان ابلغ وجداني. وكل ما اذكره عنهما اننا كنا نرحل مع الى مقر روما في ميت غمر بالهدايا من الخراف والدنادي والفواكه والنقط. ونحمل كل هذا معنا على العربات ان لم يكن بين الزقازيق غمر خط حديدي وظن ان هذا كان يقع في فيما بين الف وثمانمائة وواحد وتسعين والف وثمانمائة وخمسة وتسعين. ولا يزال وامر اثر نظر في ذاكرتي ذلك انه كان يقصد اليها الغليون من اثينا او ازمير او بيروت. والغليون هو سفينة شراعية تحمل نحو عشرة او اكثر من الاشرعة وكانت تجتاز البحر المتوسط سم النيل الى ان تصل الى دمياط في المنصورة فميت غمر فبنها في القاهرة. وتحمل معها جميع المتاجر من تركيا ويونان لبنان وكانت ترسو الى الشاطئ فكنا نقصد اليها نحن الاطفال مع مئات من الكبار ونشتري النقل والفواكه المجففة والحلوى الطحينية. وكانت تبيع كل شيء تقريبا. حتى ملابس الاطفال اليونانية اللونية في احمرها واصفرها واخضرها وكان رسو احد هذه الغلايين اشبه بالاعياد. لان المدينة كانت تهرع اليه وتشتري حاجاتها وتطن الشوارع بالحركة اما اختي الثالثة فلا اذكرها بالبيت ولكني اذكر ضجة العرس التي علقت بذاكرتي لما كان فيها من موسيقى وترينيات وسرادق يملأ الشارع امام البيت وبقي هذا السرادق نحو سبعة ايام او اكثر. وانتعشنا فيه باللعب والسهر. اما اختي الصغرى فهي الرابعة واذكرها بنتا بالبيت قبل زواجها وكانت تقودني الى الكتاب ثم تأتي الي وقت الانصراف وتعود بي الى البيت. وكانت بيننا الفة دامت سنوات الى ان تزوجت وتركتنا. ويبدو اني اسأت لاستعمال هذه الالفة في ذات يوم وقفت في الشارع امام البيت وناديتها باسمها كي تفتح لي فما ادري الا وقد انفتح الباب وانهالت علي ضربا لاني ناديتها باسمها. لان الحجاب كان لا يزال يغشى بيوتنا. وكان يقضي يقضى الا تذكر اسماء البنات كما يجب الا ترى وجوههن وظني انها حجزت بالبيت منذ العاشرة وافسد هذا الحجاب برنامج تعليمها فقد كانت بالزقازيق مدرسة قبطية للبنات ولكن الرجعية الاجتماعية كحالت دون الانتفاع بها. ولذلك لم تتعلم واحدة من اخواتي من اخواتي اذ كن يحجزن بالبيت وهن حول العاشرة وهذه الالفة التي دامت سنوات الصبا بيني وبين اخت الصغرى بالبيت بقيت حبا وصداقة الى يوم وفاتها في عام الف وتسعمائة واربعة واربعين حين قعدت امامها وهي في عذاب الزبحة الصدرية تكافح الموت. الى ان غشيتا غيبوبة الليل الطويل. وما زلت اذكر تلك الساعات المؤلمة التي كانت تهيأ للاحتفال بالزواج فاني لم اكن على وجداني بانها ستفارقني وكنت مغتبطا بضجة العرس زائطا. اما هي فكانت تخطفني وانا امر عليها اعدو فتعانقني وتلهث وتشهق بالبكاء وبقينا الى يوم وفاتها ونحن نتزاور مرة على الاقل كل اسبوع وفي الوسط العائلي المصري يسود الوئام والحب اللذان لا يفسدهما سوى المطامع المالية من احد الاعضاء ولكن احيانا تسود الشهامة. وقد كان ابي موظفا في مديرية الشرقية وكان هناك قانونا يحرم على الموظف ان يشتري ارضا في المديرية التي يعمل فيها. وذلك تلافيا من استعماله وظيفته وسلطته لمصلحته الخاصة. فكان ابي اشتري الارض ثم يسجلها باسم احد اولاده. فلما مات كان معظم ارضنا مسجلا باسم البنتين الكبيرتين. اللتين تزوجتا في ميت غمر. وكان الزوجان شقيقين وكان ابوهما غبريال سعد بيك رجلا شهما. فلما رأى ان ثروة ابينا توشك ان ينتقل كثيرا منها الى زوجتي ابنيه اي اكثر ما تستحقان انتظرا حتى بلغت سن الرشد ثم جمعهما مع زوجيهما وحملهما جميعا على التنازل لي انا وشقيقي وكنت انا في الثالثة او الرابعة وشقيقي في السابعة او الثامنة. وقد سمعت من امي بعد ذلك بسنين ان هذا الرجل الشهم لم يبالي ان ان ينتهي وابنيه حتى يجبراهما على الموافقة على التنازل ان مسل هزه الشهامة نادرة في ايامنا. ولابد ايضا انها كانت نادرة واقتئز. ولذلك فان فضل هذا الرجل عظيم وقد بورك له في عائلته حتى اصبح نسله يعقوب يعقوب نيان يتجاوز المئات عدا كلهم تقريبا ناجح موفر المال والعمل والكسب والراضون عن النظام الاجتماعي الحاضر في مجتمعنا لاقتناء كثيرا ما يذكرون العائلة وان نظامنا مؤيد يؤيدها. مع انه لا يفكك العائلات البغض مكان الحب بين اعضائها سوى الخلافات المالية التي تلابس هذا النظام وقل ان نجد عائلة متوسطة او ثرية بلا خوف ما لي بين اعضائها مرجعة مرجعه طمع احد اعضائها ورغبته في الاستئثار دون الاخرين ولن تنجو عائلاتنا من هذه الخلافات التي سودت العلاقات. ولو اننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني غير اقتنائي لمكان هناك لهذه الخلافات التي تكاد تعم العائلات في ايامنا واحد على اخر او طمع واحد في الاخر. وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا اننا نتعلم منذ الطفولة بان هذا لي وهذا لك. وان يجب ان اتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع وكنا فيما بين الف وتسعمائة وثلاثة والف وتسعمائة وثمانية في تبلبل سياسي وفي تبلبل اخر ادبي واجتماعي. فقد كانت تسود وجداننا ياسين زعتان الاولى والكبرى هي الاتجاه نحو الدولة العثمانية والدفاع عن روح خبيث يقال لنا انه يعمل للرجولة مع انه يعمل للعداوة والبغض والحقد. وقد لقيت اختي الصغرى عناء بل سرقة صريحة من بعض عائلاتنا ولم يكن المرتكب لهذه السرقة يحس انه مجرم. بل كان يتباهى لان روح المباراة هذه الروح الاقتناء الذي نشأت ننشأ عليه قد اكسبه هذه العقلية. وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجات متفاوتة ولذلك قل ان نجد مثل هذا الرجل الشهم الذي اشرت اليه غيبريال سعد بيك. يعارض هذه الروح الاقتنائي ويطلب الخير لغير ابنائه. وجميع العائلات المصرية موبوءة بالشقاق الذي يرجع الى مطامع ثم خلافات مالية بشأن الميراث او الوصية او الوقف وقد عرفت عائلات بقي الخلاف فيها بين الاخوة نحو عشر سنوات وهم مشتتون في المحاكم الاهلية ثم المحاكم المختلطة اذ كان احد الاخوة يعمد الى اجنبي مشاكس فيأجره فيأجره على المعاكسات التي تنقل القضايا من المحاكم الاهلية الى المحاكم المختلطة. وتصل الى اسكندرية يفعلون هذا وينقطع كل منهما عن زيارة الاخر وتنمحي عاطفة الاخوة بينهم فيعودون اعداء يبحثوا كل منهما عن دم اخر ولا يكاد اجد عائلة تخلو من هذه الخلافات الا اذا كانت تخلو من العقارات الموروثة وقد عرفت عائلة مسلمة قريبا من عزبتنا ترك الاب فيها للورثة اكثر من مائة وخمسين فدانا ثم جعلها وقفا وعين ناظرا للوقفة اكبر ثم فشل الخلاف بين الورسة وكانوا يزيدون على عشرة. فلم يكن من هذا الناظر الا ان اجر الارض الموقوفة كلها الى رجل يوناني او ايطالي وجاء هذا الرجل الى الارض يزرعه بنفسه واصبح الورسة يتضرعون اليه كي يعطيهم نصف اردب من الذرة او القمح او جنيها او جنيهين. واعرف رجلا اخر وكان ثريا باع ارضه لورثته ولم يكن الغرض من هذا البيع سوى التمييز لبعضنا دون بعض. وكان هذا البيع بالطبع سوريا. وكان يعتقد انه سيبقى متصرفا الى يوم وفاته. ولكنه عندما قصد الى عزبته عقب البيع كان كي يبيع القطن قابله الخولي واخبره بانه لا يملك شيء لان ابنه الذي اشترى منه يمنعه من التدخل في ارضه. وحزن الرجل واحتقن الحزن في قلبه فاصابه فالج. مات به بعد اقل من شهرين وايام صبايا يملؤها شقيقي الذي يكبرني باربع سنوات وكنت اعده بطلا لجراءته واقتحاماته. وقد ذهبنا معا الى كتاب المسيحي ثم الى كتاب اسلام ثم عدت الى كتاب المسيح وخرجت مع هزه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث او اربع سنوات وانا لا احسن قراءة سطر. وانما احفظ عن ظهر قلب بعد الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن ولم اشرع في القراءة الا بعد ان دخلت المدرسة الابتدائية التي انشأتها الجمعية الخيرية القبطية في الزقازيق وكان شقيقي طفلا ذكرا بعد بنات اربع ويقر من بعض الاقتحامات انه انه الف في الزقازيق عصابة كنت احد اعضائها الف علي الشمس باشا عصابة اخرى. ففي ذات يوم انفردت بنا عصابة عين الشمس واوسعتنا ضربا وايلاما لخصومة كانت قائمة بينه وبين شقيقي ولكننا بعد ذلك استدركنا عن الشمس الى طريق الناء شمال الزقازيق ثم ادخلناه بالعصا والاحجار حتى عاد مريضا. وكان والده امين الشمس باشا لا يعرف عائلاتنا لصداقة قديمة بينه وبين ابيه ولم اكن امر عليه وهو امام منزله حتى اقبل يده فيسألني عن اعضاء عائلتنا. وكان فيما بين عام الف وثمانمائة وخمسة وتسعين عام الف وتسعمائة والف وتسعمائة مغضوبا عليه من رجال الحكم لانه كان عرابيا في ثورة الف وثمانمائة واثنين وثمانين اذ انضم الى الحركة الوطنية ضد الخديوي توفيق مع انه كان شركسي الاصل. وكان الصراع بين عرابي والخديوي صراعا الى حد بعيد. بين الاتراك والشرقس من جانب وبين المصريين من جانب اخر ولكن مين مين الشمسي باشا عرف عدالة المطالب المصرية وانضم الى العرابيين ولما كنت في انجلترا في عام الف وتسعمائة وثمانية ارسلت اليه خطابا اقترح عليه فيه انشاء مدرسة لتعليم ابناء الفلاحين الذين يعملون في ارضه وارضنا وكنا متجاورين لان عزبته كانت ملكا لجده ولا يزال اسمها كفر سليمان باسم جدي. ما ارسلت ومثل هزا الخطاب الى كبراء المالكين من عائلاتنا. ولكن خطابي لم يجد سوى التسليح عندهم جميعا. لان الوجدان التعليمي كان لا يزال في مصر خامدا ولم يكن خطابي سوى ثمرة الوسط المتمدن المتنبه لقيمة التعليم في لندن وقد باع جدي كفر سليمان هذا الى الشمس باشا قبل ان اولد انا بنحو خمسة عشر سنة. حوالي عام الف وثمانمائة واثنين وسبعين لكني نشأت على الاصطلاح بان بانه الكفر القديم وهو يبعد عن كفرنا الجديد بنحو كيلو متر. وقد زرته وانا طفل مع بعض اقاربي فاروني بيتا او زريبة كانت تسمى بيت العبيد. اي المكان الذي كان يحجز فيه العبيد في الليل ويقفل عليهم حتى لا يفروا وبالطبع لم تكن في ايام عبودية ولا عبيد. ولكن الذكرى كانت قريبة فاني وانا طفل كنت اخوف بكلمة فرج. وهي اسم عبد مات في احدى غرف المنزل وبقية ذكراه تتسلل للتخويف من اخوتي الي وكذلك رأيت امرأتين سوداوين احداهما كعب الخير والاخرى زهراء. وكانتا جارتين عندنا عندنا شمالهما قانون تحرير العبيد ولكنهما لم تنقطعا عن زيارتنا. بل كانت احداهما تقضي الشهور عندما تترك زوجها في بيتنا وكانت الى ام مفاوضات الصلح مع زوجها حين كان يعود لطلبها وكانت ام وكانت بيني وبين شقيقي نحو اربع سنوات. فلذلك لم تكن بيننا رفقة او زمالة. وقد وجدت هذه الرفقة والزمالة في ابن خالي لي يدعى ميخائيل وكان من سني وقد ترافقنا طفلين ثم صبيان ثم شابين ومن الذكريات البارزة في صبايا مدينة بسطة الفرعونية. فقد كنت ازورها مع ابن خالتي هذا حين كانت لا تزال بيوتها قائمة والغرف في بعض هذه البيوت كانت لا تزال تحتفظ بجوها الحميم حتى مكان المسرجة في الطاق كان واضحا بسواد دخانها وكانت الشوارع الضيقة سالكة بين البيوت. وهذا الى عشرات من التماثيل الحجرية. ولم يبالي الانجليز ان هذه المدينة مع قيمتها التاريخية العظمى اذ جعلوا بيوتها وانقاضها سمادا كفريا ينقله الفلاحون الى حقولهم. ولم يعد لها من اثر الان وكان ميخائيل يسكن في بيت يجاور منزلنا. فلم نكن ننفصل طوال النهار واليه اعزو نزعتي الثقافية قد كان منذ صباه يحب الشعر ويتفحص وكنت اعجب بفصاحته وكنا نشتري المؤيد ونقرأه معا. بل تجرأنا ذات مرة على ان نؤلف كرامة جعلنا فيها البطل ملكا يقص حلما على المسرح ثم يتحقق هذا الحلم. ولكننا لم نثابر الى النهاية فقطعناها في المنتصف الفصل وقد ثابرت انا بعد ذلك على الدراسة وانقطع هو عنها. ولكنه لم يقاطعها. فاني ما زلت الى الان عندما التقي به اجد فيه الالتفات الى الحركات الادبية بل اجد النقد الزكي ولكن من ينظر اليه هذه الايام لا يعتقد ان سنه تزيد على الاربعين مع انها لا تقل عن التاسعة والخمسين او الستين عاما. وقد يعزو بعضهم هذا الشباب الى حياة السرور التي كان ولا يزال يؤثرها على اي اهتمام اخر وبقينا مترافقين مدة التعليم الابتدائي ثم افترقنا حيث توزف هو والتحقت انا بالمدارس السانوية بالقاهرة. ولكنا كنا ايام الاجازات لا وقد اهتزت سرورا وتأملا قبل سنتين عندما زارني بالقاهرة احد الاقارب المزارعين ورأى حوالي مئات الكتب ثم تنهد وقال لم يغرس فيك هذه العادة المرزولة سوى هذا الملعون ميخائيل ابن خالتك. وقد قال هذه الكلمة الصادقة لانه كان يرانا فيما بين عام الف وتسعمائة وواحد وعام الف وتسعمائة واربعة نقرأ معا وندرس معا في هوس لم يكن يجد فيه هو سوى خصار المال والذهن والوقت ولا تزال ذكريات الصداقة والرفقة بيني وبين ميخائيل عذبة في ذهني ولم اعرف صديقا بعد ذلك لازمني وتناسقت معه في الصداقة المنيرة المريبة سوى عزم الدويري الذي عرفته في عام الف وتسعمائة وثلاثين وفقدت في عام الف وتسعمائة واربع واربعين. وكان في بداية صداقتنا خاما اخضرا في ثقافته يقرأ الكتب العربية ويصطاد المصابيح الخافتة ولكنه بعد ان عرف المؤلفين بعد ان عرف المؤلفين الاوروبيين انغمس في المذاهب الاوروبية والسياسية الجديدة واستضاء ذهنه بها. وصار بالعقلية العالمية وجر عليه هذا النور الجديد عسفا من البوليس السياسي لم يباله. وكنت كثيرا ما اذكره باعجابه القديم ادباء البهرجة البلاغية ثم احتقاره لهم بعد ذلك ويضحك كثيرا بل الحق انه استحال بعد ان عرف الاداب الاوروبية خصما لهم يعد وجودهم عائقا لتطورنا الثقافي والسياسي وظني ان هذا هو اختبار جميع المنتقلين من الادب العربي الى الادب الاوروبي حين يقرأونه في لغاته الاصلية غير مترجم. وقد ترك موت عزم في نفسي لوعة لما لم تنطفئ انه عندما كانت القهوة توشك ان تقدم على الاعلان محطة يصفر القطار ويطير في سرعة مفاجئة فيرتبك الخديوي يضطرب المستقبلون يا عم الهرج ان كان هذا الصغار يلذ لكتشينر وقد ذكر هذه القصة جورج لويد مع الاعجاب قد رأيت اخوتي يمتن واحدة اثر الاخرى والموت يفقد لزعته عندما تكون السن متقدمة. لان الرحلة الاخيرة الى الليل الطويل تسير هونا والموت يأتي على ترقب ولكن عندما كان الموت يفجأ يفاجئ احداهن وهن لا يزالن في بداية العقد السادس او السابع كان وقعة في وقعه في القلب اطول على العقل يحدثان جمودا كأنه كابوس اليقظة ولكن السنين تحيل بكيمياء الزمن بهذه الكوارث حتى اني عندما اذكرهن الان احس الحزن عليهن في حنان ورقة وليس في الم وغضب واستطيع الان ان اعرض لجميع الشخصيات البارزة في عائلاتنا سواء اكان هذا البروز الفضيلة ام للرزيلة وهذه الشخصيات هي الان فوق الخمسين او الستين وعندما ارجع بذاكرتي الى ايام طفولتهم والى الظروف البيئية الاولى التي سعدوا او تعسوا بها التعليل الكافي لسلوكهم الحاضر. واستطيع ان اقول في ضوء ما اعرف من سيرتهم بل احيانا سيرتهم الحميمة. ان التعاسة الاولى التي ينكب اي انسان في حياته انما هي التدليل. وان التعاسة الثانية هي الاضطهاد. فجميع اولئك الذين لقوا تدليلا او اضطهادا في عائلتنا ان طفولتهم فسدوا. ومعنى الفساد هنا ليس العجز عن الكزب او حتى العجز عن الانتصار المألوف في معركة الحياة ولكني اعني ذلك الفساد الاجتماعي الذي يقارب الاجرام بل هو اجرام تخفيه رفاهية العيش. فان الشخصية السيكوباتية التي وصفها صديقي الدكتور صبري جرجس في كتابه في كتابه واضحة في عائلتنا في جميع اولئك الذين لقوا تدليلا او اضطهادا ايام طفولتهم. وقد يقع الاضطهاد لان زوجة الاب اساءت الى ابن زوجها في معاملة وميزت عليه اطفالها دونه. فعلمته المكر والخبث والكذب والغش. فنشأ على هذه الاخلاق التي صار يعامل بها المجتمع. ولكن في ذهني زوجة اب اخر عاملت ابن اخت الدكتور رزق الله موسى في طلخا بالنزاهة والرفق والحب فنشأ قديسة وفي ذهني اخر في الخامسة والستين من عمره دلله ابواه فنشأ وكل حياته جرائم. ولكن اولئك الذين وجدوا النزاهة والانصاف في التربية ايام الطفولة هم الان في شيخوختهم. مثال الطيبة والاحساس الاجتماعي السامي القاهرة فيما بين عام الف وتسعمائة وثلاثة والف وتسعمائة وسبعة في عام الف وتسعمائة وثلاثة اجتزنا امتحان الشهادة الابتدائية وكنا في القطر كله لا نزيد على ثلاثمائة او اربعمائة تلميز. عقد الامتحان في القاهرة ولم يكن بالقطر كله سوى ثلاثة مدارس ثانوية. كانت في نظامها ثكنات يتسلط عليها الانجليز بالاوامر العسكرية والعقوبات العسكرية والتحقت بالمدرسة التوفيقية ثم بالمدرسة الخيداوية. وكان شمال المدرسة التوفيقية وشرقها وغربها ارضا زراعية لا يباع الفدان فيها اكثر من مائتي جنيه. وقد ارتفع سعر الفدان الان عام الف وتسعمائة وسبعة واربعين في هذه الارض بالذات الى نحو عشرين الف جنيه. ولم يكن للمالكين اي فضل في هذا السراء ولم يتعبوا لايجاده. اذ ان الفضل لسكان القاهرة وتقدم المدينة وكان الانجليز يحاربون شيئين في الامة لا ثالث لهما وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين. وهما التعليم والصناعة ونجحوا في ذلك نجاحا عظيما فلم يسمحوا طوال اشرافهم على وزارة المعارف بانشاء مدرسة ثانوية للبنات في اي مدينة من مدن القطر وكانوا يعلموننا ان بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة. كأن القدر قد قضي علينا بالفقر الابدي. وكانوا يصرون على المحافظة على تقاليدنا كانت المدرسة السنية الابتدائية في القاهرة وكانت نظرتها انجليزية تصر على اتخاز البرقع للتلميزات وهن في العاشرة او الثانية عشر من العمر. وكان معلم اللغة العربية يفصل من وزارة وزارة المعارف اذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكيتة. وتقدمت الانسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في عام الف وتسعمائة وسبعة ومن بيتها فرفض فرفض نارينلو بالمستشار الانجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان ولكنها استمرت على الكفاح واحدثت ضجة الجرايد وتقدمت في السنة التالية فقبلت ونجحت ولكن الانجليز تنبهوا فلم تخز فتاة مصرية بالشهادة السنوية منز الف وتسعمائة الثانية الى الف وتسعمائة وتسعة وعشرين حين تقدمت الفتيات اللاتي انشأنا انشأت لهن وزارة المعارف مدرسة سنوية في في الف وتسعمائة وخمسة وعشرين. اي بعد اعلان الاستقلال في سنتين وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين الف وتسعمائة وثلاثة والف وتسعمائة وسبعة سلسلة من التعذيب. فكان احدنا طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالاجازة الاسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة ان يحضر احدنا في منتصف الساعة السابعة صباحا اي في الظلام مدة الشتاء ثم لا يترك لا يترك المدرسة اخر النهار الا بعد الحبس ساعة او اكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات ان المعلم الانجليزي قد طلب من التلميذ اذا ان يقعد فوقف او يقف فقاعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا اكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحا فيزداد عقوبة عقوبة والزيادة تتراكم وهذا الى عقوبات اخرى مهينة مسل حرماني من الغذاء الا برغيف يأكله وهو واقف امام زملائه. وكان ناظر المدرسة يدعى شرمان وكان يتأنق في وحدث ان الجمعية الخيرية الاسلامية ارسلت على نفقتها بعض تلاميزها من من مدارسها الابتدائية وكانت يشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخذلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة حتى لا يتميزوا ابو فقرهم امام زملائهم. ولكن شرمان اصر على ان يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر. فلبسوها وكانوا ينزغون منا في خجل ولست اشك انه حين اعلنت الجرائد وفاة شرمان هذا غرقا في اواخر الحرب الحرب الكبرى الاولى. عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميزه قد يستنكر القارئ هذه العاطفة منا ولكني اؤكد ان التلمذة في تلك السنين كانت عذابا لا يطاق. وكان للمعلمين الانجليز لذة في تعذيبنا وكان العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الاحساس البشري حتى لقد كنا احيانا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي. وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا اكاد اعد اسبوعا واحدا في في يا هنأت به ولذلك تخلفت في الدراسة وكان من اسباب هذا التخلف ايضا اني مرضت بعيني واحتجت الى اجراء عمليتين لا يزال اثرهما مشوه كما اني اعزو الى عذاب مدرسة هذه العربدة الجنسية التي انغمست فيها الترفيه عن نفسي وازالة الكمد الذي كانت تحدثه هزه الحياة المدرسية المرهقة ولكن القاهرة في تلك السنين عام الف وتسعمائة وثلاثة والف وتسعمائة وسبعة كانت حافلة ببشائر النصر الجديد. فقد رأيت فيها الاوتومبيلا اول مرة. ولكن الحياة القادمة ما كانت لا تزال راسخة فكان السقاء يحضر الماء في قربته لمنزلنا. ان كنا احيانا نركب الحمير من مكان الى اخر لان الترماي كان يسير في شوارعه قليلة ولم يكن شيئا من المنازل قد بني على الضفة الغربية من النيل. وكما انه ليوبلس كانت لا تزال صحراء. بل ان شمال المدرسة التوفيقية عام في عام الف تسعمائة وثلاثة كان كما سبق ان ذكرت خاليا من المباني الا القليل المتفرق وكنا نتحدس في تلك السنين عن شيئان يحركان المجتمع المصري هما الاحتلال الانجليزي وحركة قاسم امين لتحرير المرأة. كما كما اكن اهتم ولم اكن اهتم بالحركة الثانية كثيرا. وكان الحزب الوطني اعظم قوة تكافح الاحتلال في ذلك الوقت. وكان قد وفي عام الف وثمانمائة وسبعة وتسعين ستة من الشبان المتنبهين هم احمد لطفي السيد باشا ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد محمد عثمان والد امين عثمان باشا. ولبيب محرم شقيق عثمان محرم باشا. وسعيد الشيمي وكانت اللواء جريدة الحزب الوطني استهوى النفوس وكنا نسارع الى شرائه عقب الانصراف من المدرسة ولكن الشبان الاقباط كانوا يجدوه الينا بعض والاستياء من الدعوة الدينية في الحزب الوطني وكذلك الدعوة العثمانية. اي التركية. وكان منطقهم يقول اذا كنتم تدعون الى جامعة اسلامية والى الحقوق العثمانية في مصر مع ان الاتراك ليسوا فقط اجانب. بل ان تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر. فان لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني وقد انتهى موقفهم هذا الى ان حمل مصطفى كامل عليهم واثار تعصبا دينيا ساءت عواقبه واستغله الانجليز ايام كرومة روجرست ولم يصلح هذا الفساد القومي غير احمد لطفي السيد حين اسس الجريدة. ودعا دعوة مصرية بحتة ليس فيها شيء من الدعاية للاتراك او للعرب او للاسلام ولكن حتى مصطفى كامل قبيل وفاته بخمسة اشهر او ستة اعلان في مقالات ان مصر يجب ان تكون للمصريين فقط. وصار لهذا يعارض الخديوي عباس تسليم مآلاته للدولة العثمانية. وبلغ من معارضته له ان جريدة المؤيد وصفته بانه قد اصبح يشبه عرابي والواقع ان المجتمع المصري في بداية هذا القرن كان مجتمعا تركيا او تركي فكان الاصطياف في اسطنبول اسطنبول مألوفة وكانت الحكومة المصرية تؤدي الجزية السنوية لتركيا وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة او خلاسية. وقلما كنا نجد مصريا ثريا زلك حين نتأمل العائلات المصرية الثرية في عام الف وتسعمائة وسبعة واربعين نجد انها كلها حادثة العهد بالسراء. وهذه الحال تفسر لنا سيكولوجية الحركة العرابية فان عرابي كان يتأمل وطنه في عام الف وثمانمائة وثمانين فلا يجد فيه مصريا صميما يملك شيئا يؤبه له اتمنى جميع الاثرياء كانوا من الاتراك او الالبان الذين كان محمد علي قد اختصهم بالامتيازات. واقطعهم ارض المالكين المصريين السابقين الذين استولوا على عقود امتلاكهم واحرقها ولذلك كنا لا نعرف رئيسا للوزارة الا وهو تركي الاصل. بل احيانا كانت تؤلف تؤلف الوزارة وليس بين اعضائها مصري صميم واحد ايام اسماعيل وتوفيق وكنا نرى هؤلاء الارستقراطيين على ثقافهم ونذالتهم وهم في عرباتهم يتنزهون على جسر قصر النيل. وكان يتقضهم قواص او قواصان كل منهما في سترة تهريجية يحمل عصا طويلا في طويلة في وضع عمودي. ويعدو امام العربة وهو وهو يصيح باعلى صوته ايه وكانت الجرائد المقروءة في تلك السنوات ثلاثا اللواء الذي كان يحرك الامة الى المطالبة بالجلاء ويقرأه جميع الشبان. والمؤيد والذي كان يؤيد البديوي ويقرأه ابناء البيوتات والمحافظون من المصريين والمقطم الذي كان يؤيد الانجليز ويقرأه الموظفون. اما الاهرام فكانت في ركود يشبه الموت لا يقرأها غير عدد صغير من التجار ان كان الخديوي عباس محور الحركة الوطنية في اوائل حكمه وهو الذي اوعز بايجاد الحزب الوطني. وكان يعاونهم بالمال ومما زاد الخديوي اتجاها نحو الحركة الوطنية تلك الاهانات الشخصية التي كان يجدها من كرومر وقد حصل هذا الرجل على تربيته السياسية في الهند. وكان يعامل المصريين كما كان يعامل الانجليز الهنود قبل خمسين او ستين عام. وكانت له في ذلك كاساليب طفلية وكد رأيته ذات مرة وهو ينزل من عربته فلم ينزل مستويا على قدميه كما يفعل البشر بل تقدم له خادم مصري وحمله كأنه طفل من العربة في عناية ورقة حتى حط جثته على الارض قد فعل هذا في ظنك يثبت انه سيد مطاعن او ملك غير رسمي. وتشاجر مرة مع الخديوي لان لان الحوزي الذي كان يسوق عربة الخديوي الانجليزي وحاول مرة عقب انتقاد الخديوي للجيش المصري الذي كان كيتشنر قائدا عاما له ان يعين وزيرا انجليزيا. وكان اؤمر هذا من عتات المستعماريين وهو الذي احال القطر المصري كله الى عزبة للقطن وقتل الصناعة المصرية قتلا تاما حتى اننا حوالي عام الف وثمانمائة وسمانية وتسعين انشأنا مصنعا في القاهرة لغزل القطن ونزبه. وجئنا له بمدير انجليزي فاصر كرومر على فرض الضرائب الباهظة عليه حتى ثم عين مديره الانجليزي في الحكومة المصرية وبفضل الحزب الوطني بل بفضل الشاب مصطفى كامل. تزايدت الحركة الوطنية واخذت موجاتها تعلو وتسبت. وراء كرومر عجزه عن مكافحته حمله الغيظ على العنف الاحمق بل على التوحش الاجرامي. فانتهز حوالي سنة الف وتسعمائة وسبعة فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي احدى القرى في المنوفية وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربونه فاشتبك الريفيون مع الانجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الانجليز از او بالاحرى بوفاتهم وعندئذ عينت محكمة مخصوصة وكان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا ومن اعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا. ان كان المحامي عن الانجليز المرحوم الهلباوي الذي صار بعد ذلك كعضو في حزب الاحرار الدستوريين. وشرع في محاكمة الدنشوائيين وعم وعم الامة توتر النفس وغالة العواطف. وكتب المقطم بان المشنقة ارسلت الى دنشواي قبل ان تنتهي المحاكمة. فخجلت الحكومة وكذبت الخبر ولكن المرجح ان المقدم كان صادقا لانه كان يتصل اتصالا وثيقا بالانجليز في ذلك الوقت. وصدر حكم المحكمة بجلد البعض وبشنق الاخرين انفذت الاحكام في القرية ذاتها ورأى الاطفال اباءهم يشنقون او يجلدون ورأت الزوجات والامهات والشقيقات والاباء اعزائيهم وهم يتذلون من الحبال ودارت في رأسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين عن بلادنا واهلنا. وخجل الانجليز انفسهم من هذا الحادس الاجرامي. فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر وكان يرأس الوزارة الانجليزية في ذلك الوقت رجل من الحريين يدعى هنري كومبل بانيران بنيرمان ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برر جريمة جريمة كورومر بان وقف في البرلمان يقول ان التعصب الاسلامي قد تفشى في افريقيا الشمالية كلها بما في ذلك مصر. وكتب المقطم مقالا عنوانه التعصب يمتد ويشتد. اي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب ان يكبحوا وما زالت كلمات هذه المقال ترن في ذهني. ولا تزال دنشواية عندي من الذكريات النفسية الاليمة وقد وجدت تعزية في شيء واحد هو ان الوجدان الوطني اصبح عاما وتنبهت الامة كأنها استيقظت من نوم. فكنت اجد بعض الشبان يشترون المقطم ويمزقونه حتى لا يقرأه احد. وحتى الاقباط الذين كانوا متوجسين من حركات الاحزب الوطني الدينية اصبحوا وطنيين يكرهون الانجليز وكانوا وكان هذا الانفعال الجديد ملحوظا في اعضاء عائلتنا ولكن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الاسلامية من ناحية ان الرغبة في السيادة العثمانية من ناحية اخرى عرقل الاندماج التام للاقباط في الحركة الوطنية فكانوا يشيحون عنها ويذكرون حكم الاتراك ومظالمهم ايام اسماعيل وتوفيق. وشعرت في ذلك الوقت بما زلت اشعر به الان وهو ان الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا. لان الرجعية بالتزام التقاليد وكراهة الروح العصر في السياسة والاجتماع والعقيدة. كل هذا يتألف منه عدو اخر عرقلة امتنا عن التقدم. وكانت نظرية التطور التي تعلمتها من المقتطف قد جعلتني المح بصيصا من الرؤية الجديدة. وان اؤمن بان العلم الذي حقق السيادة وان لم يحقق السعادة لاوروبا جدير بان يرفعنا من حضيض الفقر والجهل الذي وضعنا عليه الانجليز. وان يحقق لنا استقلالنا وجدتني من ذلك الوقت ادعو الى ان نعيش العيشة العصرية وان اناصب الرجعيين المصريين العداء الذي اناصبه للانجليز. وكان علي يوسف صاحب المؤيد من معدودا بين كبراء الكتاب لصحفيين يحسن المناقشة ويلتزم المنطق والتعقل. وكان المؤيد قليل الانتشار يسبقه اللواء ويطغى عليه مقالات مصطفى كامل النارية. ولكن المؤيد كان يثب في الازمات ففي حادث دنشواي مثلا اقبل عليه القراء وهم في كمد وحزن وحيرة يقرأونه ويتعلقون بما ما يكتبه عن السياسة الانجليزية المصرية انظرون للمستقبل من خلال بصيرته. ولكن علاقة الشيخ علي يوسف بالخديوي جعلته يتجه صوب اسطنبول او كما كانوا يسمونه الاستانة العليا حتى انه عندما اسس مجلس المبعوثان في تركيا دعا المصريين الى ان يرسلوا نوابا عنهم فيه. اذ ان مصر جزء من الدولة عثمانية. اما مصطفى كامل فكان يغزو قلوب الشباب وكان اذا اعلن عن خطبة يلقيها تجمع الالوف لسماعه. وكان في شبابه وحماسته اغراء للشبان. وقد مات بالدرن ولم ولما يبلغ الثانية والسلام ياسين وفي تلك السنين شبت الحرب بين روسيا واليابان فاتجه الرأي العام نحو اليابانيين باعتبار انهم امة شرقية مثلنا. فكنا نفرح كما قرأنا عن هزيمة روسيا هزيمة روسية لان روسيا كانت تمسل في اذهان الجمهور اوروبا التي تنتمي اليها بريطانيا. كما ان اليابان كانت تمثل يقظة الشرق. حتى ان مصطفى من الف عنها كتابا باسم الشمس المشرقة واحدث خليل صادق نهضة ادبية في تلك السنين بسلسلة من القصص كانت تخرج كل شهر باسم مسامرات الشعب. وهي قصص مترجمة عن الفرنسيين الانجليزية اشترك في الترجمة لا له فيها كتابنا المعروفون مسل حافز عوض وعبد القادر حمزة باشا. ومحمود ابو الفتح وغيرهم. ولكن الادب لم يتمصر فذلك الوقت لان كفاحنا للامبريالية البريطانية كان يستغرق كل مجهودنا. فكان الكاتب الذي يجد في نفسه القدرة قال التعبير الفني يلتفت الى السياسة قبل الادب ويجاهد في ايقاظ الوجدان المصري الوطني وما نقصنا نحن من هذه الوجهة سده اخواننا السوريون واللبنانيون عنا. وهم بالطبع كانوا اقرب الى الثقافة المصرية الاوروبية منا لانهم تعلموا في الجامعات الكاثوليكية والجامعة الامريكية في بيروت. وهم ايضا لان عددا كبيرا منهم كانوا مسيحيين لم يجدوا العائق السيكولوجي الذي كنا نجده نحن في مصر ازاء السقافة الاوروبية العصرية المصري بدعوى اننا جزء من هذه الدولة العثمانية. وواضح ان موقفنا هنا كان حائرا مقلقلا. ثم كانت النزعة الاخرى وقد بزغت ضعيفة تتلجلج بيل لا تكاد تنطق وهي الدعوة الى الاستقلال المصري التام والتخلص من بريطانيا وتركيا معا اما التبلبل الادبي فلم نكد نحس به في تلك السنوات وكان جميع الكتاب باستثناء اللبنانيين يعانون بالادب دراسة القدماء من العرب الى اكثر ولكن كان هناك تبلبل اجتماعي وضع خميرته محمد عبده وقاسم امين ونمت وراء زكاة هذه الخميرة وفي وسط الاسلام واصبح لها دعاة وخصومة وكان الخديوي عباس محبوبا الى عام الف وتسعمائة وسبعة يجد فيه الشباب رمزا للكفاح. وكانت شراسة كرومر الذي كان يرغب في معاملته كما لو كان احد مهرجانات الهند تنبه فيه هذا الكفاح. وتعلق به الجمهور وشاعت عنه مواقف وطنية. ومما سمعناه في تلك السنين ان وصاية واصف مرقص حنا وعددا اخر معظمهم من المحامين قصدوا الى سرايا عابدين وانتزروا الى ان هم الخديوي بركوب عربته فاصروا على ان يحلوا خيولها ويجرها هم. ولكن الخديوي اتخذ موقفا معارضا لاتجاهات الشيخ محمد عبده نحو الازهر. فكان ال الخديوي يصر على ان يبقى الازهر كما كان منز مئات السنين محافظا لا تتسرب اليه تيارات السقافة العصرية وكان محمد عبده يصر على ان يتطور الازهر الى جامعة عصرية. واتجه المستنيرون من الامة وجهة واتجه المستنيرون من الامة وجهة محمد عبده فزاغه فزاوره عن الخديوي ولكن اعظم ما جعل الجمهور المصري يتغير عن اعلان الخديوي هو ما كان يسمى بسياسة الوفاق فان الانجليز بعد ان رأوا سياسة كورومر الشرسة مع الخديوي قد احالته الى وطن يدس لهم ويؤيد الحركات الوطنية ضدهم. عينوا السر الدونجورست وكيلا لهم بالقاهرة. فتحبب هذا الى الخديوي وزاد في سلطته. وارتاح الخديوي الى هذا التغيير. ارتياحا عظيما جدا وشرع يعارض الحركات الوطنية الدستورية ويسير مع الانجليز سياسة وفاق كان ضررها بالامة فادحة وكانت سياسة الوفاق هذه سببا في انقلاب مصطفى كامل. اذا انه ابى ان يسير مع الخديوي واصر على الكفاح ولم تمضي سنوات حتى اصيبت جرست بالسرطان مات به في انجلترا. واعرب الخديوي عن حبه له وتقديره لسياسة الوفاق بان زاره خفية وهو على فراش الموت. ثم جاء كيتشنر فاعاد سياسة كورومر ولكن في فجاجة العسكري وغشومته وعاد الخديوي الى موقف المعارضة والمعاكسة للانجليز ولو سألت عن الفرق في القاهرة بين عام الف وتسعمائة وخمسة والف وتسعمائة وخمسة واربعين لقلت ان نبض القاهرة قبل اربعين سنة كان ابطأ كما ان الايقاع كان شرقيا في كل شيء تقريبا. فكان الناس يمشون اكثر مما يركبون. وكانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تصطف بعد الى صحراء هليوبوليس او الى الضفة الغربية من النيل وكنا في الملابس نعبر طور الانتقال فاني اذكر اني لبست قفطانا بحزام وانا تلميز بمدرسة الاقباط في الزقازيق. وكنت في العاشرة ان العمر ثم لبست ايضا وانا في الثانية عشر بزلة رمادية من طراز ريدينجوت. اما نساؤنا وانساتنا فبقينا كلهن الى عام الف وتسعمائة وتسعة عشر اتخزنا البراقع والحيبرات وكنا نقضي ليالي السرور عند الشيخ سلامة حجازي. والحق ان هذا الرجل كان ممثلا بارعا ولكنه لم يكن يمثل قدر ما يغني. فقد وجد اقبالا عظيما على اغانيه فكان التمسيل عنده ملحقا بالغناء. وظني انه كان يفعل هذا مضطرا لان كفاءاته المسرحية كانت عظيمة جدا لابد انه كان يتألم لان الجمهور لا يقدرها بل يؤثر عليها الغناء. وكانت هناك الى جانب مسرح الشيخ سلامة ميلاتي اخرى كان غاية في وحش حيث كانت الراقصات يقمن بحركات وايماءات هي في صميمها محاكاة غير فنية للتعارف الجنسي. محاكاة فاحشة رخيصة دنست ليس متهتكة وقد اضطررنا بعد عام الف وتسعمائة واثنين وعشرين الى الغاء هذا الرقص. ولكن بعض الاغاني القديمة الفاحشة لا تزال تغنى الى ايامنا هذه بعد ذلك بسنوات نحس الوجدان المسرحي وندرك معنى الدراما ومغزاها مما ترجمه فرح انطوان ومما مثله الجورج ابيض من عن اللغة الفرنسية اول وجداني الذهبي كنت في سنة الف وتسعمائة وثلاثة تلميذا في السنة الاولى في الثانوية قد تركت بلدتي الزقازيق ورحلت الى القاهرة. اذ لم تكن في تلك السنين مدارس ثانوية هي الا ثلاث في القاهرة والاسكندرية. وكانت سني اذ ذاك نحو الخامسة عشر او السادسة عشر سنة. اشارات اقرأ الجرائد اليومية واشتري مجلتي المقتطف والجامعة واسأل عن الكتب. ولم تكن هناك مجلات اسبوعية وبقيت الحال كذلك الى ان انشأت انا اول مجلة اسبوعية في الف وتسعمائة واربعة عشر وهي المستقبل وعرفت المقتطف وكان اهتدائي اليه من المصادفات البديعة التي اعانتني على التسقيف الذاتي. وكنت اشتري الاعداد القديمة بل احيانا الاعداد الجديدة من الادارة على غلاء ثمنها. ويلتهمها من الغلاف الى الغلاف. وعندما عدت الى الزقازيق وجدت في بيت صديق لي بقرية قريبة من الزقازيق نحو مئة في عدد من هذه المجلة استعرتها وقرأتها جميعها. وكان يحرر المقتطف في تلك السنين الدكتور يعقوب صاروف. وكانت بؤرة اهتمامه الذهني في ذلك في ذاك الوقت نظرية التطور التي كان يسميها نظرية النشوء والارتقاء ولذلك لم يكن يخلو عدد من بحث هذه النظرية. وفي مجتمعنا المصري كثير من القذوم التي ترهق الذهن بالقيود والسدود. وكان الايمان بنظرية التطور نوعا من التفريج والانتقام. ولذلك وجدتني في ذلك الوقت داعية متحمسا لهذه النظرية في البيت والمدرسة. وفي كل مكان اخر وشعرت كأني ممتاز بهذه النظرية. فبعثني هذا الى التوسع فيها وعرفت لذلك الدكتور شبل شميل. وكان رجلا كبير الذكاء محدود المعارف فكان يعتمد على الحجة المنطقية اكثر مما يعتمد على البنية العلمية. وفي الوقت الذي كان يعتمد فيه المقتطف على البيانات العلمية وينقل اقوال البيولوجيين في اوروبا عن هذه النظرية كان شبل شميل ينافح عنها ويدعو اليها بقوة المنطق ولكن يجب مع هذا ان نذكر فضل شبل شميل في انه نقل الى العربية كتاب بخم كتاب ابو خمر في المادية العلمية والحق والحق ان هذه النظرية كانت رؤية جديدة لشاب مثلي لم يكد يخرج من طور الصبا. كما كان شبل شميل بجرأته وذكائه شخصيا تنفيذ لقوة الايحاء والتوجيه في نفسي ولكن مع ذلك لم يستطع المقتطف ولا شبل شميل تكون مدرسة فكرية. لان الركود الذهني كان عاما كما كان الشرق بقواته التاريخية الساحقة يخيم علينا بل يحط علينا بكلكله. فلم يكن المجتمع المصري وقتئذ يجيز لنا ان نبوح ونعلن عن سرائرنا. فكنا لذلك افرادا متفرقين نناقش هزه الافكار والاراء في همس متسترين او في استحياء يشبه الاعتذار اذا صادفنا غرباء. وكثيرا ما كنت اجد ان الحجة تنتقل من رأس الى الذراع ويسارع الى التسليم واعلن صحة العقائد والتقاليد وكذب الاراء والعلوم. لان المنكرين كانوا في العادة اكبر مني سنا واضخم جدا اسمع واني اعزو الى المختطف هذه النزعة العلمية التي لزمتني طوال حياتي الماضية كما اعزو اليه هذا الاسلوب التلغرافي الذي اكتب به والذي يظن كثيرون انه من اختراع كان الدكتور يعقوب صاروخ لا يعرف التزاويق بل كان في الاغلب لا يتزوق الجملة الفصيحة او الكلمة الناصعة او المتلألئة او سائر تلك الالاعيب الصبيانية التي كان الكتاب يرفعون من شأنها يرفعون من شأنها الى قبيل الحرب الكوكبية الاولى وكان يرافق هذا الوجدان العلمي بالنظر المادي وجدانا ادبي اخر شرع يغمرني ويبسط لي افاقا جديدة ذلك اننا في تلك السنين اي حوالي سنة الف وتسعمائة وخمسة او الف وتسعمائة وستة لم نكن نعرف من معنى الادب سوى القواعد الجامدة للبيان البلاغة التي نحفظها عن ظهر قلب في جمود او كراهة. ولكنا كنا نتذوق شيئا من الجمال الفني في مقالات اللواء ومصباح الشرق. وكنا نقرأ كتابا اداب الدنيا والدين للموارد او كتابك ليلة ودمنا لابن المقفع. والواقع ان اسلوب الاول يخالف اسلوب الثاني فان المورد مسهم كن غير ململم او محبوك. في حين ان ابن المقفع موجز رصين مضبوط. ولذلك كانت رؤية جديدة بل الهاما جديدا ان اعرف مجلة الجامعة لفرح انطون ثم اقتنيت مؤلفات هذا الكاتب العظيم فرأيت دنيا جديدة من الادب الاوروبي لم نكن نعرف عنها شيئا من قبل. وقد مس هذا الادب اوتارا في نفوس جميع قارئيه في الشرق العربي لان هذه الدنيا جديدة من الادب الاوروبي كانت تختلف لا بل تناقض ما تعلمنا من ادب العربي. ذلك ان الادب العربي كما كنا نعرفه في ذلك الوقت كان ادب السلطة والتقاليد والعقائد. ولكن الادب الاوروبي او بالاصح الفرنسي الذي نقله الينا فرح انطون كان ادب الثورة والتمرد وادب العقل الذي يحسها القلب الذي يعقل. ادب فولتير وروسو وديدو وبرناردان دواسان بير. وكان جميع هؤلاء مجاهدين يكافحون استبداد الملوك والامراء واستبداد العقيدة التاريخ وكنا نحن في مصر في حالة اجتماعية وسياسية تحملنا على الترحيب بهذا الادب فتحنا له قلوبنا لا بل تفززنا وتمردنا وكان هذا الادب هو الذي هيأ فرنسا التهيئة الذهنية للثورة الكبرى. ويبدو لي الان ان فرح انطون لم يكن على جهل بما يعمل. فانه خرج خرج من لبنان حوالي سنة الف وتسعمائة وكان هذا القطر يغط في ركود تاريخي اس. وقد خيمت عليه الدولة العثمانية ومنعت عنه النور الا بصيصا يتلقاه الشباب في كلية بيروت الفرنسية او الجامعة الامريكية. ودرس فرح انطوني الفرنسية وتشبعت نفسه وذهنه بادابها. الم ما رحل الى مصر وجد شيئا من الحرية ولكنه ادرك ان الظلام الذي كان يشكوه في لبنان ونفسه الظلام الذي تشكوه مصر مع فرقه في الدرجة فقط عمد الى هؤلاء المؤلفين الفارسيين الذين ذكرت اسماؤهم ينقل عنهم او يستلهمهم في كل ما يكتب. ومن هنا كانت جدته ليبا لجميع قراءه فان المقتطف لم يكن يعني بالادب وكان مصباح الشرق جريدة ادبية يصدرها المويلحي ولكن للادب العربي فقط. اما الجامعة فانفجرت بيننا وتشير وتثير اي تنير عقولنا وتشير الى مبادئ ومناهج ادباء فرنسا في اواخر القرن الثامن عشر. وكان يحس اننا في حاجة الى هذه المبادئ والمناهج ولذلك اثارنا بترجمة قصة الثورة الفرنسية الاسكندر دوماس ولا اعرف احدا يقظا في تلك السنين لم يقرأ هذه القصة ولم يعتبر بها وبسائر مؤلفات فرح انطون كان جديرا بهذه المؤلفات ان تحدث حركة رومانسية ابتداعية في الادب العربي ولكنها للاسف لم تحدث. فان خلاصتها ان الانسان حسن مسالم. ولكن المجتمع سيء يحمل على الرذائل. وما كان ابدعها من فكرة لمثل امتنا في مثل هذا العصر. اي حوالي عام الف وتسعمائة وخمسة والف وتسعمائة ستة فان هذه الفكرة كانت جديرة بان تختمر وتبعث النشاط الذهني في جميع القراء. كما تبعث وجدانا ادبيا جديدا ينضج ويتوالد في شتى الافكار والاراء. ولعلي محتاج هنا الى ان اشرح ماذا اقصد اليه من الاتجاه الرومانسي في الادب. فان الادب يمكن ان يقسم من ناحية المزاج والاتجاه وقواعد التفكير واللغة بانه ادب كلاسي اتباع او ادب رومانسي ابتداعي. وليس احدهما خيرا من الاخر. ولكنهما مختلفان وفي فترة ما تحتاج الامة الى النزعة التباعية في حين انها في فترة اخرى قد تحتاج الى النزعة الابتداعية النزعة الاتباعية النزعة الاتباعية تقتضي العناية بالماضي والجري على اساليب السلف والتقيد بالنصوص في قواعد التفكير واللغة. ففولتير اتباعي وطاحة في كتابه عن المعري التباعي والعقاد في كتبه عن رجال الاسلام الاولين اتباعه وقس على هذا وان نزعة الابتداعية تقتضي خلال اكثر من التقيد بالنصوص. وهي تجنح الى التحلل بالنص والقاعدة. ولذلك كان روس ابتداعيا كما ان طه حسين في الايام ابتداع كذلك توفيق الحكيم ابتدائي في معظم ما يكتب. ونحن محتاجون الى النزعتين ولكن في مصر اكثر احتياجا الى النذعة الابتدائية لانها في النهاية نزعة التجديد واقتحام المستقبل. وكان فرح انطون فيما الف ونقل رومانسيا ابتداعيا بل ان اول الكتب التي نقلها عن الفرنسية كانت كتاب ايميل لجانج روسو. وهو يعد اساسا للحركة الرومانسية في اوروبا. حيث يقول بان الطبيعة البشرية حسنة يفسدها المجتمع والحكومات والقوانين. وهذا الكتاب مع الاسف لم يطبع الى الان. ولكن حياة فرح انطون في ذلك الوقت بترت لانه وقع في مناقشات تمس الدين مع الشيخ محمد عبده. عبارة مجلته بعد الرواج ورحل الى القارة الامريكية حيث اشتبكت بخصومات صحفية لم يكن القلم وحده ذات الرأي والحجة فيها. فعاد مهزوما الى مصر وكان اثر فرح انطون في نفسي اني اكبرت الاوروبي اكبارا عظيما ولم يكن هذا غريبا في مثلي فان فرح انطوني استبدل بالموارد عندي جان جاك روسو وحملني على ان استبدل بالكلمات والعبارة المذهبة ادب المبدأ والفلسفة والفكر. وعرفت فرح انطون بعد ذلك حين اشتغلت معه في جريدة اللواء وكانت جريدة الحزب الوطني يرأسها المرحوم عثمان صبري حوالي عام الف وتسعمائة وعشرة فزادني توجيها نحو الادب الاوروبي وعاش فرح في مصر الى الف وتسعمائة واحد وعشرين حين توفي وهو في الحادية والاربعين. وكان وفاة نكبة على النهضة المصرية السياسية والادبية. وكان من اللبنانيين القلائل الذين اندغموا في الحركة الوطنية المصرية انضغاما تاما كان سعد الزغلول يحب ويقدره وزاره واصف غالي باشا وهو في فراش المرض قبيل وفاته بمنزل اخته السيدة روزا حداد. وقدم له تحية الوفد. والان اعود ذاكرتي الى هذه الشخصية الفذة واتساءل ما مقدار ما ضاع منا بوفاته؟ الحق ان ما فقدنا فيه عظيم فادح فلو انه عاش الى ايامنا مثلا لطبع النزعات الادبية والسياسية في مصر بطابعه. ولكنه كان يوجه الادب المصري هذه الوجهة الرومانسية التي اسف على انه لا يتجهها الان. لاننا على الرغم من كل جديد في هذا الادب ما زلنا نعيش في اسر التاريخ بادب بادب اغلبه سلفي نفكر بمزاج سلفي في لهجة سلفية. وادبنا هو ابعد الاداب عن روسه. بل لقد اصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية ايضا كما نرى في حركة الاخوان المسلمين وكان فرح انطون بشرى النزعة والايمان يؤمن بالانسان ويكره الاساطير الغيبية بل يشمئز منها. وكان يمتاز بالذهن استطلاعية يروض كل جديد في الثقافة الاوروبية. هو اول من كتب عن نتشا واظن اني انا كنت الثاني لان اول مقال صحفي لي كان في المختطف سنة الف وتسعمائة وتسعة بعنوان نتشيا وابن الانسان. وقد وصلت الى وصلت الى نتشا مستقلا وانا باوروبا. ولذلك عقب عودتي من اوروبا واتصالي به كنت لا اجد موضوعا اختلف فيه معا. وكنا نتحدث عن الاشتراكية والنزاعات الادبية الجديدة والسياسية في مصر نكاد نتفق في كل شيء حتى في العقيدة الدينية. وفيما بين عام الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة وعشرة ظهر قوة جديدة في مصر كان لها اثر اخر في توجيه النفس. وكانت هذه القوة احمد لطفي السيد. وفي تلك السنين كانت الوطنية المصرية في طور اليرقة لم تنسلخ بعد الى الجسم باسم الحي الكامل وكانت عرضة لاخطار شتى وتطوحات مختلفة وحسب القارئ ان حزب القارئين يعرف ان كلمة وطنية ليست عربية. واننا انما سككنا هذه الكلمة كي نعبر بها عن وجدان جديد ان مصر في بداية هذا القرن كانت لا تزال في اسر الماضي. كانت الدولة العثمانية هي دولتنا التي كنا نكافح بها الامبراطورية البريطانية وكان بيننا متنبهون تعلموا في مدارس الفرنسية او نبهتهم الحوادث وايقظت فيهم وجدانا وطنيا. الم يكونوا يصغون منطق اللواء مؤيد في الدفاع عن الاستقلال مصر بحق الاتراك في سيادتها. وكان الاقباط ينفرون من هذه الوطنية العثمانية نفورا عظيمة. وظهر لطف السيف في الجرائد يدافع عن هذه البديهية الواضحة وهي ان مصر يجب ان يملكها المصريون دون الاتراك ودون الانجليز. ووجد في الاول مصادمة قوية من الكتاب الذين الفوا الدعاية للاتراك. ولكن عانى ما انتصر وظفر بالرأي العام في مصر. ووجد الاقباط منطقا في هذه الوطنية كما وجد المثقفون فيها املا جديدا يعبئ الامة للاصلاح والتجديد فاقبلوا على الجريدة بمقالات لطفي السيد فيها وكثيرا من وكثير من القراء في ايامنا اي بعد نحو خمس وثلاثين سنة من هذه الحركة لا يعرفون مقدار هذه الحركة وفضل احمد لطفي السيد فيه. ذلك اننا جميعنا قد اعتنقنا هذه الوطنية وطنية مصر للمصريين ولم نعد نعرفها نعرف غيرها ولكن على القارئ ان يذكر ان الدولة العثمانية كانت شيئا اكبر من تركيا الحاضرة وكانت امبراطورية شاسعة لها جيوش وموظفون في اليمن والحجاز والعراق وطرابلس. وكانت الرحلة السنوية الى اسطنبول او كما كان يصفيقها الصحفيون وقت از دار السعادة لا تقل في عدد المسافرين المتنزهين عن الرحلة الى باريس. وكان حبل الدسائس لا ينقطع بين القاهرة واسطنبول ولكنه مع ذلك كان وهي كما كانت هذه الدسائس عقيمة. وكان لطفي السيد عبدالعزيز فهمي وقاسم امين جيلا جديدا في مصر بعد الجيل الذي كان منه الافغاني ومحمد عبده. وكان هذا الجيل اكثر جرأة. ولا ذلك نجد ان قاسم امين يدعو الى سفور سفور المرأة والغاء الاعراب في اللغة ولطفي السيد يدعو الى لغة مبسطة تقارب العامية. كما نجد عبدالعزيز فهمي الذي الان يدعو الى الخط اللاتيني وقد حفظ هذا الاخير شبابه الذهني الى ما بعد السابعة والسبعين. وهو يعاني الان من هذا الشباب عنتا من خصومه اولئك الشبان الذين شاخوا قبل الثلاثين والاربعين والواقع ان لطف السيد مهد لحركة سنة الف وتسعمائة وتسعة عشر بجمع الامة على رأي موحد في الوطنية. كما انه جعل التجديد مسار لا يتهم القائمون به بالهوج او الرعونة بل اصبحت الدعوة الى حرية المرأة وتعليمها شيئا وقرى ومحترمة. واحترمت الجريدة بعد ان كانت موضوعا للنكات البذيئة وقد سبق ان قلت ان اسلوب المقتطف كان علميا مقتصدا واني اخذت عنه ما اسميته الاسلوب التلغرافي ولكن اسلوب لطف السيد كان موجزا ايضا وهو اشبه الاساليب باسلوب ابن المقفع واظن اني تأثرت به ايضا. قد كان هؤلاء الثلاثة يعقوب صاروف وفرح انطون ولطفي من القوات التي صاغت شخصية الثقافية الذهنية. فان الاول وجهني الى طريق العلم والثاني بسط لي افاق الاوروبية للادب والثالث جعل من المستطاع لي بوصف اني غير مسلم ان اكون وطنيا في مصر رومر وجوريست وكيتشينر في عام الف وتسعمائة وسبعة كنت قد بلغت حالا من القلق النفسي والثقافي جعلت مقامي في مصر شاقة قد كنت اعاني هذا الكرب المدرسي الذي احدثه الانجليز بنظام الثكنات في المدارس الى جنب نكد عائلي اخر اوجدته تلك المطامع العائلية الصغيرة التي اجد من البر ان انساها. والقارئ يعرف اننا في مصر نكابد خلافات عائلية تتعدد. مراجعها من التميز المالي او المطامع المالية بين ورثت الى اشتباكات التي تعود الى مصاهرات سيئة تحيل العائلات الى قبائل تحيي الثأر وتعيش السنين وهي في الشقاق والنزاع. وقد كابدت من كل ذلك مضضا والما. ولكني كنت اجد العزاء في الشغف بالثقافة. بل لقد كانت هذه العائلية تحملني على تجنب الاختلاط بالاعتكاف للدراسة كما كانت الدراسة نفسها سرورا انشده كي اخفف عن نفسي هذا البلاء هنا ارجع بالذاكرة الان الى تلك الايام اجد ان بؤرة هذه المتاعب كان واحدا او اثنين قد اسيء اليهما في طفالتهما بالتدليل المسرف. فنشأ كلاهما على العدوان والعناد والخطف والحق انهما لا يزالان على هذه الحالة الى الان وسافرت الى اوروبا وانا على غير وجهة تعليمية معينة سوى الحصول باي وسيلة على الثقافة العصرية. وقد كان ميراث من ابي الذي مات وانا دون السنتين يكفل لي نحو خمس وعشرين او ثلاثين جنيها في الشهر دخلا ثابتة. فلم احس الحاجة الى اعداد مهني اتكسب به لم تكن الوزائف مغرية في ذلك الوقت لان الحاصل على الدبلوم لم يكن يزيد مرتبه على ثمانية جنيهات قصدت الى باريس عن طريق اسطنبول وكانت الدولة العثمانية اي تركيا في في تضعضها قد شاع فيها التفكك والانحلال وكان غايتي من اختيار هذا الطريق ان ارى اوروبا قبل ان اهبط باريس قد يلز للقارئ ان اروي له ثلاث حوادث وقعت لي في السفر لا تزال بارزة في ذهني اولها انه كان يرافقني في قمرة الباخرة موظف تركي كان قادما من اليمن الى اسطنبول كان يعرف العربية وكان يعين مساءه بشرب زجاج من العرق ويعين صباحه بملء فمه ماء ثم ينفخ طربوشه نفخا من فمه ويمسحه بعد ذلك وكنا نتحدث كسيرا عن السياسة التي كان يفيض ويصرح في شؤونها عقب الكؤوس الاولى من العرق وكان يسب اليمنيين والعرب عامة وكانت الباخرة قد قامت من بورسعيد تقصد الموانئ الشرقية على البحر المتوسط وتلبث في كل منها نحو منذ ثلاث او اربع ساعات. فكنا ننزل التفرج فلما بلغنا ازمير اقترح علي ان يرافقني وان نستأجر عربة لرؤية المدينة. فلما واجهت من العربات على رصيف الميناء جعل يسأل الحوزية بلغته التركية عن اسمائهم. فطلبت منه ان يخبرني عن السبب لهذه الاسئلة. فاجابني اسأل كي اعرف اذا كان مسيحيا ام مسلما. لاننا يجب الا نركب الا مع حوزي مسلم. ولم يكن يعرف اني مسيحي. وبصرت فاذا باحدى المشكلات التي ادت في النهاية الى موت السلطنة العثمانية. اذ ليس شك ان الاقليات من العرب والارمل لما نالها من اسف حطمت بنيان هذه السلطنة لان هذا التعصب الديني كان يرافقه تعصب عنصري اخر ضد العرب. كما نعرف نحن مما فعله شريف حسين الذي قلب العرب وانضم الى الانجليز وحارب الاتراك في الحرب الكبرى الاولى والحادثة الثانية اني وانا في اسطنبول دخلت قهوة تركية كان دخانا آآ كان دخان النار جيال النار جيلات قد انعقد فيها بحيث لم يكن الداخل لا يستطيع التنفس او رئة السقف. وصدمني هذا الجو فارتددت بعد ان فتحت الباب وعدت الى الشارع ولكني تأملت وقت وقلت في نفسي يجب ان اعرف هذا الوسط التركي بعيوبي ومميزاته ورجعت الى القهوة وقعدت وانا من الاصل اكره الدخان. وظني اني على استهداف طبي منه مثل مثل اولئك الذين يستهدفون الهباء القطن او القمح او عطور بعض الازهار. ولم يمض علي هذه القهوة نصف ساعة حتى شعرت بغثيان فخرجت وقت وقتا في الشارع وقصدت الى الفندق وانا في غاية الكرب في الرابعة بعد الظهر واويت الى الفراش وفي رأسي ضربان كان مطرقة تدق دماغي وتورمت الغدد في عنقي ولم افق الا في الصباح يومي التالي وكان واضحا اني تسممت بدخان هذه القهوة. اما الحادث السالس فهو رؤية السلطان انا عبد الحميد وهو يقصد من قصري الى المسجد لصلاة الجمعة. وكنا نحن المتفرجين قد اصطففنا على الطريق وامامنا الجنود الاتراك لصف عسكري وكانت المدافع تطلق قنابلها والنواقص تدق في المسجد على غير مألوفنا في مصر والمؤذن يهتف باللغة العربية ويدعو الى الصلاة وخرج عبد الحميد في عربته وكان قد تجاوز الشيخوخة الى الهرم المتحطم فكان منحانيا يكاد رأسه يلمس ركبتيه. وكانت اعرب تسيير على مهل وهتاف القائد بادي شاه شو كياشا يبعس في كل منا حماسة تاريخية وان تكن غير ديمقراطية ولكن افسد علينا هذه الحماسة التاريخية منظر اخر هو ضابط شرقسي كان واقفا قريبا منا وكان غاية في جمال الوجه وفتنة القوام وزادت هذا الجمال شكته العسكرية الزاهية وكان الى جنب وخلف سيدات اجنبيات فاخذت عيناي تتجسس عليهن كي ارى وقع المنظر في هنا ان كان ما توقعت فقد تركت اعينهن عبدالحميد وتجمعت نظراتهن في غرة مفردة هي هذا الضابط الشركسي. وهكذا اذا انتصر عرش الجمال والشباب على عرش السلاطين والاتراك انقطعت الطريق من اسطنبول الى باريس على مراحل قصيرة كي ارى العواصم الاجنبية حتى استقررت في باريس. وساروي في فصل اخر ماذا رأيت في وكنت قد تركت مصر عقب خروج كروما للطاغية الانجليزي الذي عاث وعربد في كياننا الاقتصادي والسياسي. وعطل بلادنا من التطور وكان سبب لخروجه فظيعة دنشواي التي فضحت الاستعمار البريطاني في جميع انحاء العالم المتمدن ولم يكتب الى الان في اللغة العربية تاريخ كورومر. وقد كان هذا الرجل جاهلا يتشدق بعبارات لاتينية او اغريقية قديمة. فلا يعرف شيئا من العلوم في العصرية الجديدة ولما ترك مصر استخدمته مجلة اسبيكتاتور في لندن لكتابة النقد للكتب السياسية الجديدة. ان كنت اقرأ مقالاتي هذه وانا في لندن فلا اجد نورا او معرفة. ولكن حزلقة لغوية جوفاء واراء سخيفة مغرضة وكان استعماريا مسرفا في الاستعمار فمنع التعليم وخاصة تعليم المرأة. وقتل الصناعة المصرية واحال القطر المصري الى عزبة القطن. فلما اصر السر هنري كامبل بنرمان رئيس وزارة الاحرار على طرده من مصر عقب فظيعة منشواي وقف في دار الاوبرا يودع لقائه الانجليز واعدائه المصريين فقال هذه الكلمات التالية التي تدل على حنقة وعجز وذلك في الرابع من مايو عام الف وتسعمائة وسبعة اخاف ان اكون قد اتعبتكم ايها السادة بطول الكلام ولكن ما قلته الى الان كان عن الماضي. فاذا تكرمتم علي بالاصغاء فاني اقول شيئا عن المستقبل ما هي حقائق الحال المصرية الان؟ اولها ان الاحتلال البريطاني سيدوم الى ما شاء الله. وقد قالت لنا كحكومة صاحب جلالة الملك ذلك رسميا والثاني انهما الثاني انه ما دام الاحتلال البريطاني باقيا فالحكومة البريطانية تكون بالضرورة مسئولة عن الخطة عن الخطة التي تجري عليها الحكومة المصرية ولا يكونن عند احد اقل ريب في هذه الحقيقة الثابتة. والنتيجة التي استخلصها من هذه المقدمة ان نظام الحكم الحاضر دائم واذا كانت هذه الكلمات تدل على فانها ايضا توضح سياسته التي اتبعها في مصر. وجاء بعد كرومر من يدعى جورست مكانة قد ادرك ان الخديوي عباس يرأس الحركة الوطنية ويؤيد مصطفى كامل في جهاده الوطني. واراد ان يجتذب الخديوي الى الانجليز فاخترع ما كان يسمى سياسة الوفاق اي ان الانجليز يجدون المحالفة مع الخديوي اسوس له وانفع لمصالحه من الخلاف المستمر والتصادم بينهم وبينه وكان ما اراد جوريست في الخديوي تنكر المصطفى كامل بعدما اطلقت يد الخديوي في نضارة الاوقاف. بل اصبح يناوئ حزب الامة الذي كان يطالبه بالدستور كان احمد لطفي السيد قد اصدر بمعاونة بعض الاعيان الجريدة وجعل رسالتها الاولى الدعوة الى الدستور وكان من وقت لاخر يحمل على الخديوي لانه وتتاح له الفرصة لمنح الدستور ولكنه لا يمنحه. ووقعت البلاد من هذا الوفاق بين عميد الاستعمار البريطاني وامير البلاد في هاوية من اليأس وتوطدت الصداقة بين عباس باشا وجوريست حتى انه بعدما مرض هذا سافر اليه الخديوة وزاره في لندن. وهو في فراش الموت كما سبق ذكرت ثم كان هذا الانبعاث الوطني الجديد في الامة. فعمد جوريسيت الى مناورة استعمارية اخرى هي ايجاد الخلاف والشقاق بين المسلمين والاقباط كان الموظفون الانجليز يحرضون الاقباط من ناحية على المسلمين ثم يعودون فيحرضون المسلمين من ناحية اخرى على الاقباط وشرعت المصالح الحكومية تخرج الاحصائيات غير مطلوبة كي تبين عدد الموظفين من القبط والمسلمين وشرع كل فريق يعقد المؤتمرات ويطالب بطلبات كان آآ كان مصر لم يعد لها طلبات قبل الانجليز المعتدين علينا جميعا وانما صار كل ما نطمع فيه ان يطلب المسلمون من الاقباط ترك هذه الوظائف او تلك. ويطلب الاقباط من المسلمين هذا الحق او غيره. وهكذا انتهى الى تهنيد مصر وسعد الانجليز وشقينا نحن وشقينا نحن ونسينا الدستور ونسينا الاستقلال وخيم الشر على الامة حتى ان شابا يدعى عبد كاتبا يدعى عبد العزيز جاويش كتب في اللواء جريدة الحزب الوطني يقول في في رعونة ان المسلمين كانوا يستطيعون ان يصنعوا نعالا من خدود الاقباط وعاشت مصر اياما سودا فيها العدو وابتأس الصديق. ان كتل بطرس غالي باشا رئيس الوزراء فحمل قتله على انه ثمرة التعصب الديني وهكزا تحققت الاسطورة التي اخترعها ادوارد جراي وزير الخارجية البريطاني كي يبرر بها فزيعة دنشواي وهي ان التعصب الاسلامي قد فشل في مصر عام افريقيا الشمالية واستغل المستعمرون هذه الاسطورة ومات جوريست قبل ان ينال جميع الثمرات التي كان ينتظرها من الوقيعة التي بان الاقباط والمسلمين وجاء بعده كيتشينر وكان عسكريا فظا غليظ العقل يحمل حقدا قديما على الخديوي. وبقي لالف وتسعمائة واربعتاش وكانت غايته محو الوطنية وضم مصر الى الممتلكات البريطانية. وسار سيرة الضغط والعداء للامة والخديوي وافشى التجسس في الحكومة. وارسل البعثة المصرية الى موسكو كي يتعلم رجالها طرق التجسس التي كانت تستعملها حكومة القيصر نقول في مكافحة الاحرار الروس حتى تصل حتى تصل الى شنقهم او نفيهم الى سيبريا وقام قلعة تحت وقام قلعة تحت ستار ثكنة في ميدان باب الحديد ان لا تزال قائمة الى الان وعلى كل زاوية منها مزاغل من الحديد وكنت اقرأ هذه الاخبار في الجرائد التي واظبت على الاشتراك فيها وانا بفرنسا وكلي يأس واهتمام. وكانت تصل الي ايضا خطابات خاصة من اقاربي واصدقائي تلقائي الاقباط وهم حانقون على اخوانهم المسلمين. وخاصة لهذا المقال البذيء الذي كتبه ذلك الكاتب الشاطح عبدالعزيز جاويش عن خدود الاقباط نعال في نقاش صحفي بين جريدتي اللواء والوطن. ولكن مع هذا الظلام الذي عم مصر فيما بين الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة واثني عشر كانت هناك اشاعة من نور منها الدستور الذي دأب حزب الامة ولسانه الجريدة في في المطالبة به. ومنها هذا التطور الحوض في الوطنية المصرية والفضل فيه ايضا للجريدة. واعني به الانتقال من الوطنية العثمانية للوطنية المصرية البحتة. وقد كانت هناك تطورات اخرى غير ملحوظة لانها سارت في هدوء قد رأيت مصر سيدة فقد رأيت مصر سيدة مصرية تكتب في الجرائد باحثة البادية هي ابنة المرحوم حنفي ناصف بل رأيت ايضا الانسة النبوية موسى تنجح في نيل الشهادة الثانوية على الرغم من معارضة لها ومنعها من التقدم للامتحان في السنة الاولى. ومن التطورات غير الملحوظة ان الثروة انتقلت من العائلات التركية الى العائلات المصرية. وذلك ابناء الاتراك قنعوا بثرواتهم الموروثة ولم يتعلموا في حين اقدم الشبان المصريين على التعلم فصار منهم الاطباء والمحامون والمهندسون وعامة الموظفين وكان هذا انتصارا عظيما للعنصرية المصرية والقراء الذين الفوا رؤية وزراء من المصريين فيما بين الف وتسعمائة وعشرين والف وتسعمائة وسبعة واربعين قد يتعجبون حين يعرفون ان المصري القح لم يكن يعين وزيرا الا نادرا بل نادرا جدا قبل الف وتسعمائة وكان بطرس غالي باشا اول رئيس وزراء مصر للوزارة منذ الاحتلال البريطاني. كما انه فرح الامة باختيار سعد زغلول باشا وزير المعارف في وزارة بطرس باشا كان يرجع بعضه الى انه مصري للعنصر والتفات هنا الى هذا الموضوع يدل القارئ على اننا منذ بداية هذا القرن كنا على وجدان العنصري بالعنصرية المصرية. وقد ضعف هذا الوجدان بتقهقر التركية في الوظائف الحكومية وعدت الى مصر بعد قضاء سنة في فرنسا في الف وتسعمائة وتسعة. واذكر اني حين نزلت في الاسكندرية سارعت الى قطع التذاكر عند شركة كوك لرؤية مدن الصعيد الى الاقصر. وقضيت شهرين اتنقل من بلدة الى اخرى ادرس الاثار المصرية. كان الباعث المخزي على هذه الرحلة اني لم اكن القي واحدا في اوروبا الا وكان يفاجئني بالسؤال عن تاريخ الفراعنة الذين كنا تمام الجهل. لان الانجليز كانوا يشعرون ان هذا التاريخ الذي يشتعل مجدا وعظمة يجب ان لا يعرفه ابناء الفراعنة في القرن العشرين. لئلا مثل هذا المجد ايضا فيطلبون الاستقلال. ومن ذلك الوقت وانا اهتم بالفراعنة والثقافتهم وكان كتابي مصر اصل الحضارة ثمرة هذا الاهتمام وعدت الى القاهرة بعد هذه الرحلة وكانت الحركة الوطنية على اشدها فكانت هناك المظاهرات من الطلبة. كما كانت هناك الصحف التي تطالب الانجليز بالجلاء والخديوي بالدستور والشعب بالنهوض فكتبت انا بعض المقالات في اللواء جريدة الحزب الوطني كان يرأس التحرير فيها المرحوم عثمان صبري. كان رجلا حكيما عرف الهوة التي ارى فيها عبدالعزيز الجاويش الامة حين وصف خدود الاقباط بانها تصنع نعالا. فالشرع يستصلح ويسترضي ويضع الوفاق مكان الشقاق ودعاني الى التحرير وكان من اعظم ما ما طلبت له طلبت له اني وجدت هناك فرح انطون صاحب الجامعة التي وجدت فيها الثقة طب الذي شعل في نفس الرغبة في درس الاداب الاوروبية وقد انتفعت كثيرا بصحبة فرح انطون في ذلك الوقت فاني زيادة على ما كنت استمتع به من حديثه في الصباح كنت اجتمع به في المساء في احدى القهوات بميدان الاوبرا وكان فرح جميل الطلعة عصري الذهن اوروبي التفكير. يكره الاتراك والانجليز على السواء. وكان مسامرا يتنقل من الادب للسياسة ولا تفوتون نكتة العالية والاقتباس الفريد وكان المندوبون الانجليز كورونا كوتشينر سواء في الغاية سواء في الغاية وهي استغلالنا ونهب اموالنا ولكنهم كانوا يختلفون في الوسيلة قد كان كروما اللوردن لا يعد لا يعد هتلر شيئا في جانبه من حيث الاعتقاد بان الاريين يفضلون الاسيويين والافريقيين وكان يصر على مظاهر السيادة البريطانية في كل شيء بحيث كان يصرح بانه يجب على الرئيس المصري ان يخضع للمرءوس الانجليزي. وكان لكل وزارة مستشارة هو في حقيقته وزيرا يتصرف كما يشاء. وليس على رؤسائه سوى الخضوع واستطيع ان الخص سياسته كما اذكرها الان فيما يلي واحد قتل الصناعة المصرية قتلا تاما بحيث لا يجوز لمصر ان ينشئ مصنعا اذ على مصر ان تستورد جميع المصنوعات من انجلترا. بل من غير انجلترا اذا اقتضى الامر ذلك حتى لا يتعلم المصريون شيئا من الثقافة الصناعية اثنان احالة القطر المصري كله الى عزبة القطن القطن كأنه ضاحية زراعية لمصانع لنكشير وتوجيه نشاط الحكومة كله الى هذه الغاية حتى فقدت كلمة مشروعات معناها اللغوي عند الحكومة واصبح معناها الوحيد زيادة المياه للري حتى تزيد مساحة الارض التي تزرع قطنا. وكانت هزه الزيادة في المياه السبب في تفشي البلهارسيا والانكلستوما واستشباع التربة بالماء حتى وهنت ثالثا قصر التعليم وتحديد عدد المدارس لتخريج الموظفين للحكومة فقط وذلك بعد قصر نشاط الحكومة على مهمة واحدة هي زراعة القطن رابعا المحافظة على تقاليدنا التي ورثناها من القرون المظلمة وكانت تؤخرنا واهمها بقاء البرقع والحجاب للمرأة وتثبيط تعليمها التابعة من جاءوا من بعده هذه الخطط كلها حتى اننا لم نؤسس مدرسة سانوية للبنات الا في عام الف وتسعمائة واثنين وخمسين اما جوريست فكان بعيدا عن صراحة كورومر ولكنه كان يسير في الخطة نفسها من حيث تثبيت التعليم ومنع الصناعة وزيادة الزراعة القطنية. وزاد على تلك الواقعة بين المسلمين والاقباط. وزاد ايضا حبا متبادلا بينه وبين الخديوي وعباس على حساب الشعب. اما كيتشينر فقد عاد الى صراحة كورونا وكان يكره الخديوي عباس كراهة شخصية. ولم يكن فيه من المميزات السياسية ما يمكنه من اخفاء هذه الكراهة. وكان صغيرا في اساليبه شرسا في مبادئه امبريالية فقد اراد الخديوي عباس حوالي الف وتسعمائة وثلاثة عشر ان يزور بعض المدن وكان الاعيان يستقبلونه على المحطات. ان كان من صغار لان هذا الاخير كان نفسا وذهنا لا يختلف عن كيتشينر صغارا وانحطاطا. وقد كانت شهرة كيتشنر حربية ولذلك كانت له الكلمة العليا في الحرب الكوكبية الاولى وقد عانى الانجليز اعظم خسائر باستماعهم لمشورة كيتشينر الذي اوصى بانفاذ حملة الى الدردنيل كانت من بدايتها لنهايتها خسارا فادحا انجليز وهزائم متوالية من كرة ولم ابقى سوى بضعة اشهر في اللواء جنيت فيها مرانة حسنة على الكتابة وبعض الدراية على الشؤون الداخلية في مصر. ثم سافرت الى فرنسا عن طريق سويسرا التي تركت لاجمل الذكريات النفسية عن جمالها وبحيراتها ومدنها وناسها وحريتها وثقافتها. وكنت انا بفرنسا اتتبع الوطني في مصر واشترك في معظم الجرائد والمجلات ووجدت في الجريدة نزعة وطنية جديدة خلاصتها ان الجهاد يجب ان يتركز في بؤرة وطنية هي ان مصر للمصريين وليست للانجليز او الاتراك. وان الشعب يجب ان يحكم نفسه بدستور حتى لا يترك الخديوي حاكما مطلقا للبلاد وقد ادت هذه الدعوة الى تقهقر الحزب الوطني من الاعتناق الاقباط الوطنية المصرية التي كانوا قبل ذلك يتوجسون منها ويخشون ان تكون وطنية تركية لمصلحة السلطنة العثمانية واخذت واخذت الحركة المطالبة بالدستور تنتشر وتعم الامة واصبح الخديوي بعيدا عن الحركة الوطنية ان لم يكن مناهضا لها الافاق الاوروبية تتفتح لي. لما فوجئ العالم في اوائل اغسطس من هذا العام الف وتسعمائة وخمسة واربعين بالقنبلة الذرية فكثير من شبابنا المتعلمين انهم محتاجون الى ان يراجعوا حياتهم وان يفتشوا اذهانهم كي يعرفوا موقفهم على هذا الكوكب. قد اضطر كثير منهم الى ان يغيروا الاوزان والقيم الثقافية التي كانوا يرتضونها من قبل. وان يستبدلوا فيها بها قيما واوزانا اخرى. قد احدثت هذه القنبلة صدمة تنفي اذان هؤلاء المتعلمين اؤكد انها لا تقل في قيمتها الروحية عن الصدمة المادية التي احدثتها في اوروشيما وانجازاكي في اليابان. اعرف من هؤلاء الشبان اثنين كلاهما يستمتع بمركز مالي حسن كما انه على اطلاع الحسن بالطيارات الثقافية العصرية وقد كان الى اغسطس الماضي قانعا بمعارفه وتطوراته الذهنية. ولكن هذه القنبلة كشفت له عن نفسه فجأة فقال لي واحد منهما اشتهي نعيش طويلا كي يتعلم واعرف كثيرا من تطورات العالم بعد ظهور هذه القنبلة. وقال الثاني اني احسك اني احتاج الى تربية جديدة كاملة اولد بها من جديد اتعلم معرفة جديدة. واقف على كنة هذه القنبلة وعواقبها الحربية والمدنية قد ذكرت مثل هذين الشابين كي اقول اني في عام الف وتسعمائة وثمانية احسست مثل هذا الوجدان. وضاقت نفسي الى حد الانفجار وقد وجدت من الادب الذي نقله الى العربية فرح انطون ومن نظرية التطور التي دأب في شرحها يعقوب صاروف سنوات في المقتطف اني ازاء رؤية اعمى الى الا عن بصيص منها. وان هناك افاقا مغلقة يجب ان يكون همي واهتمامي في حياتي ان افتحها. وذلك بعد ان استقر عندي ان جهلي عميق واني في مصر اعيش في حياة ذهنية صحراوية تقفر من التفكير الخصب. لذلك قررت وانا في التاسعة عشر ان اترك مصر وارحل الى اوروبا كي ابحث عن الحياة واربي نفسي واولد من جديد وكنت في ذلك الموقف الذي وجدته في اغسطس من عام الف وتسعمائة وخمسة واربعين من ذلك الشابين اللذين ذكرتهما واحسست كأني اريد ان انسى واغرق قلب كلما سبق ان تعلمت. وان امسح لوحة ذهني كي انقش فيها المعارف التي اختارها بنفسي. وكان من حظي الحسن كما سبق ان ذكرت ان من الناحية المالية بفضل مارست من عقار صغير بغل لم تحوجني قط الى الاهتمام بالكسب ولم يكن الاسراف او الاستهتار في مزاجك ولذلك لم ابالي في دراستي ان اعين هدفا بنية الارتزاق والكسب. بل كان كل قصد ونشاطي ان استنير وان اقشع الظلام المخيم على عقلي نشرعت اخذ تربيتي في يدي واعين برنامجي او برامجي لا للدرس فقط بل للحياة ايضا بل الحق ان الدرس كان عندي في الحياة هو الحياة لاني شعرت اني اعيش الادرس واني ادرس لاعيش. ويبدو لي اني احسنت اختيار في هذا البرنامج لاني اجد في عام الف وتسعمائة وخمسة واربعين انها موميا الثقافية لا تزال هي نفسها تلك الهموم التي كانت تشغل قلبي وذهني طاب لي ان اتردد على المراكشيين التجار واتحدس معهم بالانجليزية والعربية وقصدت الى طنجة مدينة ابن بطوطة وهناك قضيت نحو عشرين يوما كان اعظم وقعة في نفسي اني اقتنعت بان الشرق مفلس وان الطراز ثقافي الذي في عام الف وتسعمائة وثمانية والف وتسعمائة وتسعة واذا كان هناك تغير فهو في التوسع والتفرغ فقط في الف وتسعمائة وثمانية سافرت الى فرنسا وهبطت باريس شباب وفراغ وباريس. وانا في التاسعة عشر ولكن لا فان باريس عندي لم تكن مدينة الانوار التي كان يحج اليها المصطافون ويجدون فيها ما يشتهون لان هذا الذي يشتهونه قد وضع لهم وحدهم. اذ ان سواد الباريسين يجهله. وباريس من حيث الانغماس الجنسي تعد تعد من انسك العواصم الاوروبية ثم كانت شهواتي الملتهبة في تلك السنين ذهنية اكثر مما كانت جنسيا. ان كانت الدهشة عندي على اعظم ما تكون حين وجدتني في مجتمع يخالف المجتمع الذي نشأت فيه في مصر. ولم تكن دهشة منبهة فقط بل كانت صدمة موقظة كنت في مصر قبل الف وتسعمائة وثمانية اعرف الحجاب وارتضي شعائره ولا اجد غرابة او عيبا في التلميذات الصغيرات يدخلن المدرسة السنية ابتدائية على وجوههن براقع بيض. وكنت اجد الفصل بين الجنسين شيئا مألوفا. والبيت في مصر خضر كامل ونساؤنا مخدرات ميلاد ولا اكاد اذكر اني طوال عمري في مصر قبل سفري الى فرنسا قد تحدست الى انسة او قعدت الى سيدة او فتحت عيني في وجه امرأة مصرية فلما وجدت المجتمع الباريسي واختلطت به ورأيت فيه المرأة الفرنسية على حريتها وصراحتها وطلاقتها شعرت ان افقا جديدا يتفتح امامي لم يستطع يعقوب صاروخ او فرح انطون ان يفتحه لي من قبل. فانهما لم يمس هذا الموضوع اي حرية المرأة لسبب واضح وهو انهما مسيحي يعني وكان بالطبع يخشان ان يعاب عليهما النقد للعقائد او التقاليد الاسلامية. ولم اكن قد عرفت قاسم امين او بالاحرى لم اتحمس له. ولا ادري لعلة لغيابه عن وجداني في ذلك الوقت. لذلك كنت حين اضطر الى محادثة احدى الباريسيات احس ارتباكا يغمر كياني فلا اجد اللعثمة في لساني فقط بل التخاذل ايضا في سائر اعضائي وقد احتجت الى سنوات كثيرة حتى اتغلب على هذا الشعور المتعس الذي غرسته في نفسي تسع عشر سنة من الفصل بين الجنسيين في مصر. وواضح ان هذا الشلل النفسي منع عاطفة الحب او كظمها في الوقت الذي كان يجب ان تنفرج فيه او تتسامى. ذلك ان الحب فنا كنا نجهله نحن في في تلك السنين وكانت اية محاولة مني نحو التعرف الحميم بانسة تنتهي بخيبة تكوي القلب والعقل معا. وفي مصر في وقتنا هذا من انظر للاختلاط بين الجنسين بعين المقت او النفور. ولكني حين اقارن حالي سنة الف وتسعمائة وتسعة وما كنت عليه من تعس جنسي ووكس عظيم عاطفي بحال شبابنا الان في سرورهم ولهوهم اراني مضطرا الى الاعتراف بانهم سعداء يغتبطون في ظروف كنت انا فيها شقيا يرفى لي وحبست نفسي في مدرسة ابتدائية في قرية قريبة من باريس تدعى موليري من قرى القرون الوسطى واندغمت في عائلة ناظر المدرسة اتعلم اللغة الفرنسية في نشاط ومثابرة حتى نبزت بين المعلمين بعبارة اي المعنى. وذلك لالحاح على السؤال لم تمضي اشهر حتى وجدتني اقرأ الجريدة اليومية بل الكتاب في فهم وتعقل بمساعدة المعلم. ان كان انتفاعي بجرائد فرنسا اليومية عظيمة لانها وجهتني في السياسة وجهة عالمية كانت جرائدنا في مصر في ذلك الوقت تعجز عنها انقطاعت صلتي بمصر باستثناء الجريدة التي كان يصدرها لطفي السيد وكان يلقن بها تعاليمه الجديدة مصر للمصريين لا للاتراك ولا للانجليز حرية المرأة حرية المرأة الحكومة الدستورية بايجاد البرلمان ان كان يكتب في هذه الشؤون وغيرها باسلوب اقتصادي بعيد عن الزخارف التي كنا نتعلمها في المدارس الثانوية ونحسب انها قمة البلاغة وتاج الفصاحة. قد عرفت ان مجلة المقتطف قد جمعت هذا العام الف وتسعمائة وخمسة واربعين عددا كبيرا من مقالاته التي كتبها بالجريدة فيما بين الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة واربعة عشر والقارئ يستطيع ان يجد في هذه المقالات ذلك التوجيه الوطني الذي وجدته انا في تلك السنين منها وكانت المرأة الفرنسية كما قد عرف القارئ مما ذكرت اعظم ما حرك وجداني الاجتماعي. بل كذلك حرية المرأة في اوروبا الغربية. فان هذه الحرية كانت لهبا يلسع يجرحني في كرامتي الوطنية كلما ذكرت حال المرأة المصرية. والى هذه السنوات والى هذا الوجدان تعود ثورتي بعد ذلك فعل التقاليد المصرية التي لم اعد اطيق صبرا عليها. وكثيرا ما فقدت صداقات كنت احرص عليها لموقفي من هذه التقاليد. بل هناك من اصدقاء قائما يقول اني فقدت مكاسب وبعد ذلك قرأت هنري كسبين ودعوته الى شخصية مستقلة للمرأة. ثم عرفتم المنظمات والجمعيات النسوية التي كانت في لندن تطالب بحقوق الانتخاب والنيابة. وامتلأ قلبي وذهني نورا وتفاؤلا بمستقبل البشر. قد نشأت في مصر في وسط ريفي. ولذلك التفت الى الريف في فرنسا وتعلمت منه فاننا في مصر لا نرحل الى الريف الا مضطرين كارهين. لاننا نتوقع الغبار على السكك والاهمال الصحي في المساكن. وريفنا فضلا عن هذا صحراء الروح لما يقيم عليه من جهل وفاقة وقذر للجسم كأنه الدنس للنفس ولكن ريف فرنسا جنة العين وكنت اجد السعادة العظمى في فسحة اقضيها ماشيا على الطريق الزراعي التي يكسوها البلاط وقتئذ بين حقول تموج بحركة الحياة النامية في البقول او تزدان بالقروم واشجار الفاكهة الزاكية. وما زلت اذكر ذات مرة اني رأيت على مسافة في جولات هرما صغيرا احمر اثار استطلاعه. فقصدت اليه فلما بلغت وجدت شجرة قد كساها التفاح الاحمر كاد يخفي اوراقها القرية الفرنسية مهما صارت تحتوي كثيرا من المرافق الاجتماعية حتى لكأنها مدينة صغيرة. فان فيها المطعم والحانة والفندق والسوق ولذلك كثيرا ما يقضي الباريسي اسبوعا او شهرا في الريف كما يقضي احدنا مثل هذه المدة في الاسكندرية او رأس البر. وفي الحرب الكبرى الثانية اشار المارشيال بتاني شبهات وشكوكا بشأن المجتمع الفرنسي. اوهمت كثيرا من القراء المصريين ان هذا المجتمع مريض قد تفكك فيه العائلة وتزعزع الايمان الواقع ان كل هذا وهم. فانه ليس في اوروبا عائلة متماسكة كالعائلة الفرنسية. ولا يزال نظام هذه العائلة بطرياكيا لا تخرج فيه السلطة الاب وليس في كل اوروبا الغربية امة تحترم الكنيسة كما يحترمها الفرنسيون. وحسب القارئ ان يعرف ان جميع الكنائس في فرنسا وبعضها ينفرد في ريف مائي تترك مفتوحا ليلا ونهارا ومع ذلك لا يشرك ما فيها من الاثاث الغالي الذي يقدر احيانا بمئات او الوف الجنيهات. وهذا على الرغم من حرية الفكر المستفيضة. لا بل على رغم من الدعايات النشيطة ضد الدين والكنيسة. وما زلت اذكر منظرا كان له اثر الصدمة الموجعة لاول شهر كنت فيه في باريس في الف وتسعمائة وثمانين فقد رأيت جنازة تسير في احد الشوارع تتقدمها راية كتب عليها لا رب ولا سيب ومثل هذا المنظر يوهم ان الامة الفرنسية قد استغاض فيها الكفر والالحاد. ولكن وقفة واحدة خارج الكنيسة او داخلها يوم الاحد كانت كذب هذا الوهم فان كاهن القرية هو الرئيس الروحي الذي يخاطب السكان بلهجة الامر تحيط به هيبة التقاليد. والواقع انه ليس في اوروبا كلها كنيسة حية كالكنيسة الفرنسية والحانة على الرغم من اسمها وشهرتها هي في باريس والمدن والقرى مؤسسة اجتماعية للسمر بين الرجال او بين الرجال والنساء كثيرا ما يجد فيه الزائر الطعام الى جنب الشراب ومع ان في فرنسا الاف الحانات ومع ان الاطفال يشربون الخمر فاني لا اذكر اني رأيت طوال اقامتي في فرنسا في الف وتسعمائة وثمانية والف وتسعمائة وتسعة رجلا سكرانا ولعل مرجع ذلك ان الفرنسي يأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويعمل وله في كل ذلك مأرب مأرب فتى يحمله قال ان يتأنقوا في معيشته. فهو يتجنب السكر عن تألق وفن كما يجد في التمالك كرامة ولياقة والمائدة الفرنسية باوانيها وزهورها هي متعة فنية للعين كما هي لذة للذوق من مهارات المهارة الطاهتة بمهارة طهاتها وبديها ان لتماسك العائلة الفرنسية نتيجة هي ان فرنسا اقل اقطار العالم كله طلاقا. وان البيت الفرنسي يشبه في كثير من الاحيان متحف يحوي كثيرا من التحف القديمة والطرف الغالية. والجيل الجديد يرث عن الجيل السابق تقاليدا في البيت هي الشعائر الاجتماعية التي يتعارف بها افراد كما يرث الاب يرث الابناء تراث الاباء من اثاث مادي او ذكريات روحية. وتعلمت اللغة الفرنسية في سرعة عجيبة وقد هبطت وحدي بلا معونة على طريقة وجدت بعد ذلك ان المربين التفتوا اليها هي ان الجملة دون الكلمة هي التي تحفظ وتستذكر. وحين كنت ازور اليس كنت على الدوام اعني بحضور احدى الدرامات؟ وقد اتيح لي ان استمتع برؤية سارة بيرنار وهي تمثل العقاب الصغير لكنها كانت في كويلتها قد ذهبت هنا لمعة الشباب مع بقاء البراعة الفنية وذهبت في قراءة الجرائد الفرنسية اليومية وكانت تباع باثمان التراب. وتعرفت الى الاحزاب الفرنسية وشغفت بقراءة الاومنتية التي كانت تعبر عن الاراء الاشتراكيين. وكانت الاشتراكية رؤية جديدة حملتني على ان اذكر الطبقة الفقيرة في مصر واجعلها موضع اهتمامي. مكسبات الجرائد الفرنسية عقلية السياسية الاوروبية. واستطيع ان افهم كثيرا في ضوء المذهب الاشتراكي. وكانت جرائدنا في مصر محلية قد انهكها الكفاح للاستقلال وحال بينها وبين دراسة الشئون العالمية. ولذلك انتفعت كثيرا بهذه النظرية الواسعة وخاصة لان اقامتي في فرنسا صادفت تلك السنوات التي سبقت الحرب الكوكبية الاولى فكانت الخمائر تختمر لمن لمن يتشمم الاخبار ويتنسم الطوالع. ومع ان اللغة الفرنسية هي لغة الافصاح والايماض لغة الادب الحر الذي يمتاز بعبقرية خاصة في الدقة والوضوع. ومع ان باريس بؤرة الاداب الاوروبية بل شعلة الثقافة التي تعشو الى ضوئها عيون الاوروبيين. ومع ان فرنسا لا تزال في وجدان فكرة اكثر مما هي قطر فاني الى الاتجاه الى العلم وجدتني في مستقبل ايامي اميل الى قراءة الكتب الانجليزية واثيرها على الفرنسية. لان الانجليزية تعبر عن نزعة من عملية تحقيقية كثيرا ما نجدها بعيدة او غائبة عن المزاج الذهني الفرنسي. ولذلك اعز التربية او بالاحرى معارفي الثقافية الى الانجليزية اكثر عزوة الى الفرنسية واذا سألني القارئ هل وجدت في الانجليزية اديبا له مرانة الفن ودقة الحس واناقة التفكير وجمال التعبير مثل انطال فرانس او هل وجدت اديبا في الانجليزية له حكمة فولتير وثورة روسه وجنونهم المقدس في خدمة الحق والفن فاني اجيب بلاني اعترف ان هناك اخرين غير انطول فرنسا وبولتير وروسو ممن اثمرتهم الثقافة الفرنسية. ولا يوجد من يضارعهم من ادباء من ادباء الانجليز او والامريكيين ولكن مازا الكاتب الانجليزي واسمى كتاب الانجليزي عندي هو برنارد شو. ميزته انه يلصق بالحقائق وله قدم ثابتة في الارض حتى حين يرتفع رأسه فوق السحاب. ومع اني ما زلت الى الان اوثر الجريدة الفرنسية في القاهرة على الجريدة الانجليزية. ولا اترك ادبية في فرق فرنسية تفوتني فاني حين احتاج الى دراسة تطالبني بالهرس والطحن بالهرس والطحن اعمد الى الكتب الانجليزية وفضل فرنسا علي انها جعلتني اوروبي التفكير والنزعة. وقد تركت باريس في نفسي احساسا بانها عاصمة العالم المتمدد. ولم يتركني هذا الاحتساس الى الان بل اني ارى من الحق ان نصف المصري او الالماني او الروسي او الصيني الذي استشبع الثقافة الفرنسية بانه فرنسي. كما كان يوصف سكان كان البحر المتوسط من الرومان والمصريين والمشارقة بانهم هيلينيون اذا استشبعوا بالثقافة الاغريقية ونزعوا النزعة الاتينية ان افريقيا لم تكن وطنا جغرافيا للاغريق فقط بل كانت ايضا وطنا ثقافيا لغيرهم من ابناء الامم المجاورة. كذلك فرنسا ليست الان ان وطنا جغرافيا للفرنسيين وحدهم وانما هي وطن كل مثقف درس الثورة الفرنسية واحب بسكال وروسو وعرف كلوت برنار وانا طول فرانس ولا يستطيع احد ان يقول مثل هذا القول عن اي قطر اخر. لقد فتحت لي فرنسا الافاق الاوروبية التي لا تزال تنبسط امامي فتكسب حياتي مخزن حتى حين اعيش في وسط ليس له معنى. فضلا عن مغزى واي عزاء اكبر من هذا انا اربي نفسي في عام الف وتسعمائة وتسعة قصدت الى لندن بعد قضاء شهرين في مصر عقب عودته من فرنسا. وهنا يجب ان اذكر ان السفر كان في ذلك الوقت حرا الجوازات وتقيدات او عراقيل حكومية ان كان السفر الى باريس او برلين او لندن لا يختلف عندي من السفر الى طنطا او اسيوط واذكر اني اخزت الى لندن باخرة قادمة من الهند عليها موظفون من الانجليز في الحكومة الهندية. فقاطعوني حتى على المائدة حين يحتاج كل واحد الى مناولة في الملاحة او اناء المائل او غيره ولم انجح في حمل احد من هؤلاء الانجليز على حديثي معي ونحن على سطح الباخرة. وعوملت كما لو كنت هنديا انا العبد وهم السادة. ولكني وجدت بعض الهنود الذين عزلوا ايضا اجتماعيا مثلي. فكنا نتحدس معا ونحن على وجدان بهذا الاستعراض الامبراطوري اجل لقد عرف الانجليز نظرية الشعب السائد ومارسوها حين كان لا يزال الالمان مبتدئين في تفهم مغزاها يكتبون عنها فقط. وكان هذا والاختبار للاستعراض اللوني لان اوروبا كلها لم تكن تعرف ان يد الاستعراض. ان كنا نحن المصريين نجد الاحترام بل الاكرام في عواصم اوروبا الا في عاصمتين اسطنبول حيس كان الاتراك ينظرون بالاحتقال الى كل عربي. ولندن حيث كان الانجليز على وجدان وقح بسيادتهم بالهنود والمصريين وسائر التي استولوا عليها وقد يسأل القارئ لماذا لم اعد الى باريس بعد ان قضيت فيها نحو سنتين كانت بالطبع لا تكفي للتعلم. وللاجابة اقول ان باريس بعد ان بسطت لي افاق في الثقافة الاوروبية حملتني على ان نسرف في الطموح فقد كنت في مصر اعيش في اعجوبة ثقافية لا اقرأ غير اللغة العربية يستنير عن شئون هذا العالم حتى بقراءة الجريدة العربية. وكان التعلم للفرنسية بمثابة التزوج من الثقافة الاوروبية. وخشيت ان انا بقيت في باريس ان انسى اللغة الانجليزية. التي تعلمتها بمصر. فاضمرت برنامجا لتربية الذاتية. برنامج الحياة وان اعيش في لندن سنة او اكثر ثم اقصد الى برلين في تعلم الالمانية. وامتلاك هذه اللغات الثلاث يكفل الاتصال بالعالم المتمدن كله جملة وتفصيلا من حيث الوقوف على معارفه واتجاهاته وقد اختل هذا البرنامج فيما بعد فاني وانا في لندن شرعت في تعلم الالمانية ولكن صعوبة هذه اللغة وايضا سوء الطريقة التي اتبعها المعلم معي وما جعلني اكف عن الاستمرار في تعلمها. وبدلا من ان ابقى في لندن سنة بقيت نحو اربع سنوات. ورأيت انا بلندن ان اتخذ دراسة نظامية الى بدراساته الاخرى الاختيارية. ولم يكن لي من قصد في هذه الدراسة النظامية سوى الحصول على الشهادة للواجهة لا للكسب ولذلك لم ابالغ اي دراسة والتحقت بالانكولينز ان وهي اشبه بهيئة نقابية للمحامين في لندن تجهز الطلبة الملتحقين بها بدراسات قانونية ينتهي من يجتاز الامتحان فيها بالحصول على شهادة هي في الحقيقة رخصة بان يكون محاميا او وكيلا دعاوي وقد كان اختياري لهذه الدراسة كارثة فاني بعد ان درست الدستور البريطاني بشيء من الحماسة والتوسع وجدت سائر القوانين الانجليزية لا تطاق ولا تستحق في العناء وخاصة تلك القوانين التي تعالج مشكلة التجارة البحرية. ولذلك شمالان فطور حالة دون الاستمرار في الدراسة. ولكن هذا الفطور في دراسة القوانين الانجليزية كان يصحبه نشاطا محموم في الدراسات الاخرى. كنت اتهجد لها في الليل. كما كانت هناك فترات طويلة طول اياما بلا دراسة ولكن في تأمل وفي امتحان ذاتي حين كنت ابحث عن مراسي في هذه الدنيا المبلبلة واذكر اني في احدى هذه الفترات وجدتني قاعدا على الكرسي كاني قد سمرت به وكأني نويت اني لن ابرح هذا الكرسي حتى اصل الى قرار حاسم. ماذا انا عامل في هذه الدنيا؟ من هم خصومي الذين يجب ان اكافحهم؟ من هم اصدقائي الذين يجب ان اؤيدهم ووجدت اني افكر واجيب واحيانا يحتد واحيانا يحتد تفكيري فاسمع كلاما انطق به. اجل ليس لي مأرب في هذه الدنيا فلست ابالي ان اكون ثريا لا بل لست ابالي ايضا ان تكون لي زوجة واطفال. وانما قصدي ان افهم ان اعرف كل شيء واكل المعرفة اكلا. ثم عدت فقلت ولكن لماذا؟ واجبت لاكافح. اكافح الانجليز حتى يجلو عن وطننا وايضا نكافح تاريخنا اكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد. واكافح هذا الهوان الذي يعيش فيه ابناء وطني هو ان الجهل وهو ان الفقر اجل اني عدو للانجليز وعدو لالاف من ابناء وطني لهؤلاء الرجعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة. ويؤمنون بالغيبيات وصارت هذه الافكار هما يؤرق وعقب مقامي في لندن باربعة اشهر فقط اصبت بنزلة شعبية فنهضت منها منهوكا حتى نصح لي الطبيب المعالج بان اعود الى مصر كي انتفع بشمسها. فوجدت ان العودة الى مصر بعد شهور فقط قد تحدث ارتباكا كبيرا في برنامجي. ولما الغرض هو ترك جو لندن اي الضباب والبرودة فاني فكرت في مراكش لقربها من انجلترا. وقلت اقضي بضعة اسابيع هناك واعدهم في مارس حين كونوا قد خف البرد وتجهزت للسفر وكانت الرحلة من لندن الى جبل طارق حافلة بعناء الامواج المضطربة في خليج مسكاي ونغاسة الاقامة مع موظفينا الانجليز العائدين الى مصر والهند وسائر الامبراطورية. وكان هؤلاء ينظرون الينا كاننا كلاب بل اشنع. ونزلت في جبل طارق حيثما يعيش به ويسترشد بقواعده يجب ان يتغير. فقد كانت الحكومة المراكشية تبيع الحشيش للاهالي وتحتكر الاتجار به تؤثر الاتجار به تؤثر بذلك ربحها على صحة الانسان. وقد حدث اني خرجت مع الدليل لرؤية بعض الاثار الرومانية التي تبعد اميالا عن طنجة وكان كل منا على بغلة. ولما وصلنا الى سفحة تل نزلنا للاستراحة فانطلقت بغلة الدليل وفرت فوق التل. فلما طلبت اليه ان ينهض ويدركها اجابني في برود وطمأنينة بان الحشيش قطع قلب. واني يجب ان انهض انا واعدو وراء البغلة حتى امسكها واعود بها اليه ونظرت الى وجهي وتأملت شحوبه وتحقق لي انه ليس هناك مفر من ان استمع لكلامه. وقمت اجري خلف البغل على التل وقد احتجت الى نحو نصف ساعة ونقلت جهدا حتى قبضت عليها وعدت بها لهذا الدليل الحشاش. وقيل لي وانا في طنجة ان الرقص ممنوع. ولكن الدليل اصر في اذني بانه على الرغم من هذا المنع فاني استطيع ان ارى الرقص واسمع غناء المغربيين. ولكن في مكان غير علني. وبعثتني وبعثني الاستطلاع ان استجيب لاقتراحي وقصدت معه بعد الثامنة مساء الى هذا المكان. حيث وجدت فتيات عاريات لا تستر اجسامهن خرقة وهن يرقصن ويغنجن ويغنقنا ويغنينا اغاني مراكشية ويطربن الاجانب وبعض الوطنيين بهذا الابتزال الذي بعث في نفسي اشمئذان رزان عظيما وكانت لغة المغاربة عربية بالطبع ولكنها تنطق بلهجة تغاير لهجتنا في مصر حتى كنت اؤثر التحدس بالفرنسية. فاذا لم يفهمها القيت عليه السؤال باللغة العربية. آآ وكان بعد ان يتأملني في دهشة يجيب بفهم على سؤالي وقد كتبته عن رحلتي هذه بالمقتطف في الف وتسعمائة وتسعة بعنوان اسبوعان في المغرب وعدت الى لندن منتعشا معافى وقد فطمتني الزيارة للمغرب من اي اثر باق من الولاء للشرق عشرات واتعرف الى ينابيع الثقافة الانجليزية العصرية وتتبع مناقشات الصحف. التحقت بالجمعية الفابية التي كانت تنشر الاشتراكية بين المتوسطين مبسوطين والاغنياء دون العمال. وكانت هذه الجمعية في ذلك الوقت تجمع عددا كبيرا من المتيقظين للتطورات الاجتماعية والاقتصادية بزعامة برنارد شو وولز. وكان الثاني قد تركها ولكن اثره كان باقيا. ولم انقطع منذ عرفت هذين المؤلفين عن دراسة دراسة مؤلفاتهم التي تعد تربية عصرية في الاقتصاد والاجتماع والدين والادب والعلم وقد تربى عليهما جيل في اوروبا وامريكا اصبح افراده يقودون عصرهم ويرتادون المستقبل. وعرفت ايضا جمعية العقليين وكانوا يطبعون مؤلفات مبسطة رخيصة عن العلوم والمكتشفات التي تناهض العقائد الدينية المألوفة. وقد طبع الملايين من هذه الكتب التي كان يباع الواحد منها بنحو خمسة وعشرين مليما وقرأت جميع مؤلفاتهما مطبوعاتهم وكان المذهب العقلي يتفشى في اوروبا في تلك السنين ويجد اخصب تربة لنموه في فرنسا. فقد كان في باريس جرائد يومية مثل الهولنترين تكافح الغيبيات ولا انسى مظاهرة جهائة ارتجت لها لندن وسائر العواصم الاوروبية حوالي الف وتسعمائة وعشرة. وقد حدث رجلا من هؤلاء العقليين يدعى فرانسيسكو فيرين اعدم في اسبانيا وكانت التهمة التي حوكم من اجلها انه دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم من الملوكية الى الجمهورية غير تهم اخرى خاصة بالجيش ولكن التهمة الحقيقية كانت انه كان ينشر في اسبانيا المظلمة مؤلفات الاحرار في اوروبا مثل فولتير ونتشا. وقرب تكين وروسو وتلوس ويترجم مؤلفات العقليين وخاصة ما اتصل منها بنظرية التطور. الى اللغة الاسبانية ويبيع هذه المؤلفات باثمان منخفضة حتى تصل للعام ورأى الكهنة والرجعيون ان هذه المؤلفات خمائر سوف تقوض سلطانهم وتلغي امتيازاتهم واحتكاراتهم. تدبروا له تهمة قلب نظام الحكم عنوة واعدموه وهاجت اوروبا كلها لاعدام هذا الرجل فكانت مظاهرات في كل مدينة بل في كل قرية وكانت الخطب النارية في كل ناد ومحفل استنكارا لهذه الجريمة وحضرت هذه وحضرت هذه المظاهرة الكبرى التي سارت مواكبها في لندن وتجمعت اخيرا في ساحة الطرف الاغر حيث القيت الخطب من الاحرار الديمقراطيين في التشنيع بالحكومة الاسبانية واستبداد الكنيسة الكاثوليكية. وعقدت اجتماعات كثيرة بعد ذلك في هذا الشأن وكانت الحركة النسوية على اشدها في لندن حوالي الف وتسعمائة وعشرة فكانت مظاهرات النساء للمطالبة بحقوق الانتخاب. وكان بعض هذه المظاهرات عنيفة تشتبك فيه السيدات والفتيات مع رجال البوليس ان كانت زعيمة هذه الحركة سيدة تدعى المسيس بنك هريست. وكانت جريئة مقدامة ووصلت الاخبار من باريس في مساء ذلك اليوم بان المظاهرات جمحت وقتل عدد من المتظاهرين الذين حاولوا الهجوم على الكنائس والاحزاب الرجعية. وصدرت كتب العديدة في شرح الحركة العقلية التي كان يقوم بها في ريرير ومحاكمته الجائرة التي انتهت باعدامه. واتضح من هذه المحاكمة ان وكيل النيابة الذي شرح التهمة للمحكمة صرح بانه لا يعرف من هو تلستوي الذي كان في ريريا الذي كان في ريري يتعب وينفق ماله في مؤلفاته باللغة الاسبانية ولما وثب الطاغية فرانكو الى الحكم في الف وتسعمائة وسبعة وثلاثين. وحارب الديموقراطيين والاشتراكيين بمعاونة الكهنة وقتلهم ودمر المدن الاسبانية بمساعدة الطيارين الفاشيين من المانيا وايطاليا تذكرت في ريرة وتذكرت ما كان يقول الاحرار وقتئذ عن اسبانيا. وهو ان الفاصل بين اوروبا المتعلمة المتمدنة وبين افريقيا السوداء هو جبال البحر رانس التي تفصل ايضا بين فرنسا واسبانيا وقد انعشتني هذه المظاهرات وبت ليلتي وانا افكر في هذا في هذا الروح البشري في مدن اوروبا المتمدنة وقراها. هذا الروح الذي انطلق بالسخط واللعنة على الحكومة الاسبانية لان عدم ترجلا اوروبيا من ابناء القرن العشرين. في حين هي اصرت على ان تعيش في القرون المظلمة. وان تكون افريقيا متوحشة وقصدت اسأل ما هل مثل هذه المظاهرات يمكن ان يوجد في مدن الشرق وكانت من الاغلاط التي وقعت فيها اني امنت بمذهب النباتيين امتنعت عن تناول اللحم نحو عام كدت اموت من الهزل في نهايته وكانت المطاعم النباتية في لندن كثيرة تقدم لزبائنها مختلف الالوان الشهية التي تغني في الطعم عن اللحم. فلم اجد صعوبة في الكف عن الوان اللحم ولكني اني هزلت حتى كدت امرض والتحقت ببعض الكليات لدراسة العلوم المختلفة التي جذبتني مثل السرولوجية للاستاذ بتري ومثل البيولوجية والجيولوجية والاقتصاد وانغمست في هذه الدراسات كثيرا. وعلى الرغم من الشهرة التي تتمتع بها باريس بشأن حرية المرأة. فقد وجدت ان المرأة الانجليزية اكثر حرية والشبان والفتيات يتحابون ويتغازلون جهرة في الحدائق العامة بل احيانا في الشوارع ولكن الشلل النفسي الذي احدثته التربية الشرقية فينا حال دون الاستمتاعنا نحن المصريين بهذه المسرات في لندن. واحتك الى مرانة طويلة قبل ان اجرؤ على المبادأة والسلوك الاستقلالي في الحب ثم حانت فرصة ذلك اني كنت اصطاف في احدى المدن الصغيرة على الشاطئ الشرقي لانجلترا فعرفت هناك فتاة ايرلندية في سني او اكبر قليلا كانت تعمل في التدريس وكانت تحنق على الانجليز لسلوكهم الامبراطور في ايرلندا كما كنت احمق انا على احتلالهم لمصر وتوددت بيننا صداقة على اساس هذا الحنق ثم صارت الصداقة حبا فغراما واستسلمت لي واستسلمت لها. وكنا نقضي ليالينا في غرفة واحدة. وكانت من الجمال بحيث تحدث في من يحبها او في بعض ذلك العيب بالاكبر الذي كان يعلله فرويد او ديب. وقد استطعت انا بعد ذلك بعشرين سنة ان اشفي صديقا عزيزا الي من هذا المأزق. ولكني في في الف وتسعمائة وعشرة كنت اجهل فيرويد واجهل السيكولوجية وكانت اليزابيث جميلة تمتاز بشرة غاية في النعومة والصفاء. وكانت مدينة قام كنت احس وهي قادمة الي عن بعد انها عالم يخفق. ان كان نشاطها يبدو في حركاتها كأن جسمها وذهنها يتفززان وتناسقن احيانا في التفكير والعواطف فكنا نقرأ الجرائد فمعا ونتفق على مغزى الاخبار. وعدت الى لندن وعادت هي الى مدينتها في وسط انجلترا ولم تنقطع صلة بيننا وعقد في لندن مؤتمر الشعوب المخضعة وكان محمد فريد يمثل مصر وكان ديفليرا يمثل ايرلندا فجاءت اليزابيس وقضينا اياما في لندن حضرنا فيها اجتماعنا اجتماع هذا المؤتمر الذي خطب فيه دفلير باللغة الايرلندية التي لم يفهمها احد ولكنه اصر على ذلك كي يثبت حق امته في ثقافة ولغة مستقلين. وترجمت خطبته الى الانجليزية. كذلك خطب محمد فريد باللغة الفرنسية. وبعد هذه الزيارة القصيرة للندن عادت الى بلدتها وتأكد لي عندئذ ان الزواج غير مستطاع لاني لن ابرأ. وبعثت اليها بذلك مع هدية غالية. وتزوجت هي بعد ذلك ولكني لم ارها ها وهي متزوجة وقد ملأ هذا الاختبار النفسي ظما ومرارا ولكنه بعثني على الاستطلاع والدراسة للشئون الجنسية فعرفت هافلوك اليس اليس واوجست فوريل قبل ان اعرف فورويد. بل ان هذا الاستطلاع الجنسي كان سببا في استطلاعات ثقافية اخرى عديدة خير الكلمات الجارحة عندما تصف رجال الحكومة الذين كانوا يعارضون هذه الحركة. وحضرت احد هذه الاجتماعات واعجبت للحماسة بين الحاضرات المستمعين وهي حماسة تجلت في عن جمع نحو خمسة الاف جنيه في بضع دقائق للانفاق على هذه الحركة. وكان البيت الانجليزي يمتاز برفاهية لا تعرفها في اي قطر اخر في اوروبا وذلك لارتفاع مستوى المعيشة بين الانجليز مما كانوا ينهبونه من المحصولات الامم المخضعة في امبراطوريتهم او رخيصا من هذه الامم ويبيعونه غاليا لهم ولغيرهم. وكذلك بما كان يرد اليهم من دخل اخر هو ارباح من الشركات التي يؤسسونها في في الهند او في مصر او غيرها. ولذلك كثيرا ما كنت اجد منزلة نجار في احدى المصيفات مؤثثا بالرياش التي تعد في مصر وفاخرة لا يحصل على مثلها الا موظف في الدرجة الرابعة. وانتفعت كثيرا بالاختلاط باختلاطي باعضاء الجمعية الفابية. وكانوا كما قلت من اشتراكيين ولكنهم كانوا مع ذلك اماميين في شؤون اخرى وايما حركة كانت تنتشر في الادب او نظرية يقول بها العلميون او دعوة الى بدعة جديدة في الدين او الفلسفة كنا نجد لها يمثلها او تمثلها في الجامعية الفابية. فقد كانت بها اجتماعات بحث اليوجينية اي هذا العلم الجديد لترقية النسل. كما كان بها اجتماعات اخرى لدرس تطورات الاجتماعية او الاقتصادية في المانيا او فرنسا. قد عرفت الادب الروسي عن طريق هذه الجمعية كما عرفت ابسن. ولا اذكر شو او وولز فهما كان من اعلام هذه الجمعية. وكان برنارد شو في تلك السنين في شبابه احمر اللحية يتعلق به الفابيون ويتكأكأون حوله وكان اول لقائي له في الحديث انه رآني اتأمل رسما له على الحائط. فجاءني وقال ما رأيك في هذا القذف؟ فقلت ان الرسم جميل ولا يعد فلما عرف اني قبطين قال انت منوفيزيت فاربكني السؤال لاني لم اكن اعرف هذه الكلمة الضخمة وتبادر الي ان الكلمة تتعلق بالطعام النباتي. لان برنارد شو كان مقرونا في ذهنه الى الطعام النباتي وكنت قد داعبت الفكرة بان ان اقتصرت انا ايضا على النبات وانقطعت عن اللحم جملة اشهر. وظننت ان الخطاب موجه الينا كامة ان كلمة انتم تقال في الانجليزية للمفرد كما للجامع وانه قد حسب اننا مثل الهندوكيين لنقتصر على الطعام النباتي فقلت لا. نحن نأكل اللحم ايضا في مصر. فانفجر بالضحك وطلب مني طلب الي ابحث في المعجم عن منوفي زيت وبحثت عنها ذلك المسافة وجدت انها تتعلق بالغيبيات المسيحية. وان الاقباط يؤمنون ان طبيعة المسيح البشرية قد اندغمت في طبيعته الالهية وان له لذلك طبيعة واحدة اي منوفيزيت. وان هذا المعنى هو النقطة الجوهرية في الخلاف بيننا وبين الذين يعتقدون ان طبيعة المسيح حين كان على الارض كانت بشرية. وان طبيعته الالهية تبدأ من رفعه الى السماء بعد صلبه وكان برناردي شو في تلك السنين الطفل المدلل في الصحافة والادب. وكانت دراما قد بدأت تغزو المسارح وافكاره تستحيل الى مذاهب تتشيع لها او عليها الجماعة المفكرة وقد غزى برنارد شو عصره واشعل نورا كثيرا ما كان يستحيل الى نار حين كان يجد جورا امبراطوريا او ظلمات استعراضية او تعصبية وقد كانت لندن حوالي الف وتسعمائة وعشرة في ثورة فكرية على التقاليد التي كانت تسود الامة في في العصر الفكتوري اي القرن التاسع عشر وقد اختمرت رائد في هذا القرن جملة خمائر في الاقتصاد والدين والاجتماع واتفق وجودي في لندن في الوقت الذي كانت قد شرعت في شرعت فيه هذه الخمائر تغير الاراء والعقائد والاتجاهات. وكان اعظم ما تركته في نفسي العامة الانجليزية في ذلك الوقت هو الشك في القيم والاوزان الاخلاقية والروحية. قد رأيتني اسير في لندن بلا قبعة احتجاجا على العرف مع ان الرأس لم يكن وقتئذ مألوفا كما هو في ايامنا. وكان اكبابي على دراسة كتب العقليين دليلا اخر على هذا القلق الذي كان يشيع في الاوساط المتعلمة اليقظة وزادني قلقا اختلاطي باعضاء الجمعية الفابية وكانوا على وجدان بالتغيرات الكامنة والقادمة يضعون اناملهم على نبض الثقافة الاوروبية ويتعرفون اتجاهاتها وفي هذا العام الف وتسعمائة وتسعة الفت رسالة صغيرة دعوتها مقدمة السوبر مان وارسلتها الى المرحوم جورج زيدان محرر الهلال قال فطبعها لي بعد ان حذف بعض الفقرات الجارية وهي تدل القارئ على القلق العام لشاب من مصري لم تزد سنه على العشرين او الواحد وعشرين سنة. شاب مستهبل الثقافة الجديدة وقطعت ما بينه وبين الماضي. وسددت نظره الى بصيص من نور المستقبل. وقد نفذت هذه الرسالة ولم اعد طبعها. ولكني بعد او تلطيفات جعلتها فصلا من فصول كتابي اليوم والغد. ولا انسى هنا ان اذكر المتحف البريطاني فان هذا المتحف زيادة على ما فيه من الاثار القديمة التي تحوي مقدارا كبيرا من مخلفات الفراعنة يحتوي ايضا مكتبة بها نحو اربعة ملايين مجلد. وكنت اتردد كثيرا على هذه المكتبة. بل لقد قرأت فيها بعض الكتب العربية. قد ذكرت شيئا عن الاستعراض اللوني في لندن. ولكن هذا الاستعراض كان مع ذلك ضعيفا. وكان لا يبدو الا في بعض البنسيونات او الفنادق التي كانت ترفض نزول الهنود فيها وكنا نحن المصريين نعامل احيانا مثل الهنود واحيانا كنا نجد التسامح. لان لوننا كان قريبا من لون الاوروبيين. اما في الريف الانجليزي فلم نكن شيئا بتاتا من هذا الاستعراض والريف في انجلترا هو اجمل ريف في العالم كله. لان الانجليز لا يعنون بالزراعة فالجبل والسهل والبحيرة والغابة لا تزال جميعها على عذريتها لم تمسسها سكة المحراث الا في نبذ صغيرة متباعدة. ولذلك يجد الزائر الجائل في الجائل في الريف الانجليزي طبيعة الساذجة في صميم جمالها. والريف في كل اوروبا يعد مزارا في الربيع والصيف حين ترغل الحقول وتزبد بفيض الحياة الهائجة. والقتل الاوروبية مبلطة شوارع جميلة البناء تغسلها الامطار حتى لا تبدو عقب شئبوب من المطر كأنها صورة مزخرفة بالالوان الزاهية. وكل في قرية مهما صغرت تحتوي الحانة والمطعم والفندق ولذلك يستطيع الزائر ان يجد الراحة اسبوعا او اكثر. قد انتفعت كثيرا واستغللت هذه الحضارة القروية في تأملات ومقارنات مع ريفينا الكالح يا سيف الذي لا يزال يعيش الفلاحون في قراه في جحور التحطم صحتهم. وتجرأ المستبدين على انتهاك كرامتهم ويذكر اني في بعض زياراتي للريف البريطاني قعدت على العشب اتحدس الى فلاح مسن. وكان قريبا منا حقل قد نمت فيه الذرة وزكت ارتفاعا وغصونا فسألت الفلاح هل كما نفعل؟ فلم يفهم سؤالي وعرفت ان الذرة تنمو في انجلترا ولكنها لا تثمر. اي ان الكوز او القنديل لا يتكون لان القمة التي تتألف من اللقاح الذكري لا تتم وانما تزرع الذرة كي تصير مرعى فقط للبهايم وبرودة المناخ هي التي تمنع نمو الذرة الى النضج. وايجار الفدان لم يكن يزيد على نصف جنيه او جنيه فمن يملك مائة فدان في انجلترا لا الا على خمسين او مئة جنيه في السنة ايجارا اما الفلاح المزارع المستأجر فيحصل على نحو عشر جنيهات ربحا من الفدان. وهذا عكس ما نجد في مصر حيس اكثر ربح للمالك واقله بل اقله جدا للمستأجر وزرت فلاحا اخر في بيتي فوجدته يربي نحو خمسين عجلا يشتريها وهي في الاسبوع الثالث من عمرها. ثم يرضعها في بيته بالبزازات اي انه كان يبيع قشطة اللبن ثم يأخز المقيض ويخلطه بزيت القطن ويرضع بمخلوطهما هذه العجول. فيكسب ثمن القشدة او الزبدة في في حين ان العجل يجد في الزيت عوضا عنهما فاذا فطم العجل حبس حتى لا يكاد يتحرك ثم يسمن بالغذاء المركز من كسب القطن وبعض البروتينات والعجل المسن في انجلترا يبلغ وزنه طنا كاملا اتنين وعشرين قنطارا. ويباع لحمه باغلى مما يباع الضأن. قد كانت وقد كان تأمل المزارع الاوروبية يبعثني على الاكتئاب كلما فكرت في الفلاحين في مصر لان المقارنة بين القرية الاوروبية والقرية المصرية انما هي مقارنة بين النعيم والجحيم او بين الجمال والقبيح او بين الكرامة والمهانة تربية الادبية. عندما ارجع بذاكرتي الى البذور والجذور التي نشأت ونبتت منها ثقافتها الحاضرة. اجد انها تكاد جميعها تعود الى الفترة الواقعة بين الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة واحدى عشر. حين كنت في لندن ففي تلك الفترة كانت هناك طائفة من المذاهب والنظرية في الادب والعلم. تتجرثم وقد كان من حظي الحسن انا ادركت الجراثيم الاولى لهذه الحركات. ومع اني الان مشرف على الستين فاني اجد بالاستبطان الذهني ان ما اعرفه او اعتقد وادعو اليه من نظريات او مذاهب في الف وتسعمائة وستة واربعين عندما اخذت جراثيمه الاولى من تلك الفترة ولم تكن الزيادة في السنين بعد ذلك سوى زيادة في نمو هذه النظريات والمذاهب او التوسع فيها او التفرع منها وظني ان هذا هو المألوف ايضا في سير التكشف الثقافي عند غيري. اي اننا لا نكاد بعد العشرين نجدد شيئا. وانما قصارنا ان ندافع عما احببنا او تلقينا راغبين ثم يبعثنا الحب الى النمو بالتوسع والتعمق. انا عندي البرهان على ذلك فاني في الف وتسعمائة وتسعة الفت رسالة صغيرة تبلغ نحو اربعين صفحة بعنوان مقدمة السوبر مان. حين اعود اليها الان اجد فيها جميع الجراثيم الفكرية التي لا تزال تشغل ذهني وهي تمتاز فجاجة في الاسلوب مع فجور في التفكير اذا كانت تدل على عقل خام ناشئ فهي ايضا تدل على عقل مستطلع واثب واندمجت في المجتمع الانجليزي الجديد واعني بنعتي الجديد تلك الطوائف والجماعات المستطلعة المتسائلة في الجمعية الفابية وجمعية العقليين وامثالهما. وكل وكان كل شيء في تلك السنين في البوتقة في سبيل التغيير والتطور قد كان حزب الاحرار في مجدي يقوده كان بالبنرمان وسكويت ولويت جورج ولكن هذا المجد كان يحمل مباراة القرن التاسع عشر. وتراكم هذا الغبار حتى لم يستطع الاحرار ان ينفضوه عنهم. فلم تمض عليهم بعد ذلك نحو عشر سنوات حتى خنقهم فلم نعد نسمع شيئا عن الاحرار بعد الحرب الكوكبية الاولى وكانت جراثيم الاشتراكية تختمر في كل اوروبا. وكان هؤلاء الاحرار انفسهم عجينتها التي نمت فيها هذه الجراثيم. ولم يمض علي عام في لندن حتى وجدتني اتجه نحو اليسار الى نحو اي نحو الاشتراكي. ولم يكن هذا الوجدان سياسيا فقط. فقد وجدتنا اشتراكيا قبل ان اقرأ ماركس لقوات الجذب التي كانت عند الاشتراكيين في ناحية العلم والادب. ذلك ان هؤلاء المجددين في السياسة كانوا ايضا مجددين في العلم والادب. يؤمنون بمذهب ضرو ويؤلفون جمعيات لليجيني اي اصلاح النسل كما كانوا يقرأون الادب الروسي ولذلك ادركتني الاشتراكية في تلك الايام عن طريق الادب اكثر مما ادركتني عن طريق سياسة. وكان التطور لا يزال مزهبا اكثر مما كان نظرية علمية. ولذلك انفق العقليون مجهودا كبيرا في المقاومة السلبية للكتب المقدسة بدلا من ان ينيروا او يشرحوا حقائق التطور واذكر انه في تلك السنوات طغى الادب الروسي على لندن فلم يكن هناك حديث او سمر الا عن جركي او ديستوفسكي وامثالهما. واذكر اني حضرت محاضرات عن فوجدت الحاضرين المستمعين كانهم في معبد خاشعين. كانت المحاضرة ايضا اشبه بعظة دينية وكان هذا طبعا من الانحرافات في تفسير تولستوي لان مقام التلستوي في الفني كان اكبر مجد جدا من تلك التطوحات الوعظية التي شطح فيها. واذكر ان احد الناشرين عرض قصة صغيرة لاحد الروس في المكتبات كأنها حريق. فلم يكن احد يتكلم الا عنها. وهذا يدل القارئ على المكانة العظمى التي احتله دباء الروس في لندن في تلك الفترة حتى اشار اليهم بن مارديشو مرة بكلمة العمالقة ولما عدت الى القاهرة شرعت بهذا التأثير اترجم الجريمة والعقاب لديسوفسكي وطوعت منها على نفقتي جزءا يبلغ نحو المية وعشرين صفحة ولكني اخفقت في نشري حتى بعت هذا الجزء بسعر مليم واحد للنسخة. وثبطني هذا عن المضي في الترجمة لسائر القصة ولكني دأبت في الحديث والكتابة ثبت عن الادباء الروس حتى صار كثيرا من القراء الذين كانوا يجهلونهم على وجدان بهم وفي تلك السنوات عرفت ابس ونتشاور وولز. واذكر اني قضيت ليلة كاملة الى الصباح وانا اقرأ نيتشا وقد اخذني سحر اسلوبه وجراءتي وجرأة تفكيره. ونيتشا لا يحظو ولا يعدو وانما يقتحم ويثب. ولكني عندما ارجع ايضا الى الاستبطان الذهني. اجد اني لم اتأثر كثيرا به او ان اؤثره على او ان اثاره كان مقصورا علي سنوات على الرغم من الحماسة التي كنت اتلقى بها مؤلفاتي واحفظ بها عباراته فان الان خلو او كالخلو من المركبات الذهنية التي استطيع ان اعزوها الى نيتش ولكنه غرس في الاقدام النفسي وحطم عندي ما كان باقيا من قيود غيبية. اما مؤلفات درو مثلا فكنت اقرأها في عناء التفكير حتى كنت اترك الكتاب اياما او اسابيع ثم اعود اليه يحفزني احساس الواجب الى الرغبة فلم يكن له في صدري حماسة. ومع ذلك هو الباقي الان في كيانه الثقافي. وكتابه نظرية التطاوء وكتابي نظرية التطور واصل الانسان واحدى ثمرات دروين ولا تزال هذه النظرية تتفتق في خلاياي الذهنية وتحملني على توسع وتعمق في التفكير البيولوجي والسيكولوجي والاكتئابي معي وهنا ركبسن يعد الان من الكتاب القدامى ولكنه كان جديدا في تلك الفترة بين الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة واحدى عشر وكان وقع في نفسي كبيرة اكبر مما كان في نفوس قرائه الاوروبيين. وذلك لانه كان يجدد في مجتمع كنت اعدوه انا جديدا بالمقارنة الى مجتمعنا المصري الجامد كنت ادمن التفكير في حال المرأة المصرية والمرأة الاوروبية. وكنت كثير الاعجاب بحريتي الثانية. في باريس ولندن وانها تمتلك تملك جزءا كبيرا من مصيرها وتقرره. ولكن دراما ابسم في بيت اللعبة او بيت عروس كشفت لي عن حقائق مرة. وبسطت لي افاقا جديدة لان كما كنت اتوهم عن حرية المرأة او استقلالها في اوروبا انما هو في نظر ابس لم يكن سوى طلاء سطحي يخف حقيقة الاستعباد القائمة لان المرأة لا تجد من المجتمع سوى التدليل لانها لعبة الرجل او هي كالعروس من الخشب يلعب بها الاطفال. اطفال الرجال الذين لا يطيقون المساواة الحقيقية بينهم ان النساء ومغزى الدراما ان المرأة يجب ان ترتفع من الانوثية الى الانسانية ويجب ان ترفض التدليل وان تربي نفسها وتكسب الاختبارات في هذه الدنيا انها انسان قبل ان تكون زوجة او اما. وعندئذ عند اذن ان جابت عن ذهنه غشاوة واتضح لي ان المرأة الاوروبية كالمرأة الشرقية سواء وان ما بينهما من فرق انما هو طلاء الحضارة فقط او هو فقط في فرق الدرجة في الاستعباد وهو استعباد بعيد احيانا عن اية رحمة او راثة لان المرأة التي تعمل كالرجل لا تحصل على اجره. وفي اقطار اوروبية كافرة كانت لا تحصل على ميراثه. وكانت الجامعات ترفق قبولها طالبا. كما كانت ترفض تقابلها ناخبة او مرشحة لنا عضوية المجالس البرلمانية. وليس لهذه الدراما قيمة في اوروبا الان. لان الحالة تغيرت في الف وتسعمائة وستة واربعين عما كانت عليه في الف وتسعمائة وعشرة. بل تغيرت كثيرا جدا. كثيرا من هذه من هذا التغيير يعزى الى هذه الدراما التي اهبت بالمرأة ان انسانا لو شخصيته ومكانته في هذه الدنيا قبل ان تكون انثى او زوجة لا مكانتها في البيت كنت في تلك السنوات لا اعرف عن المسرح الا ما كان يخرجه لنا سلامة حجازي من التمثيل الميلودرامي والاغاني الغرامية. فكانت دراما عندي لهوا فنيا لا اكثر ولكن جعلت دراما اجتماعية بل احيانا فلسفية وقرأت في انتباه وقلق وتفكير وتعب واصبحت اسد في اشمئزاز ذهني عن المرأة المأنثية المغناج. واحترم المرأة العاملة الكاسبة التي تصر على ان تحيا وان تعرف وتختبر وعندي ان ابس كان محوريا في ثقافتي. لان دراما بعثتني على دراسات اخرى متصلة بالموضوعات التي عالجها وفي في اسلوبه الدرامي واذا كانت اوروبا قد اهملت ابسن الان فذلك لانها تعلمت منه وعملت بجميع مبادئه. ويعد برنارد شو احدى ثمرات ابسين فان جميع دراماته اجتماعية او فلسفية ولكنه يختلف عن معلمه او من حيث عجزه عن الكمال الفني الذي استطاع ابس ان يرتفع اليه وقد تأثرت كثيرا ببرونالديشو عندما اسأل لمازا لم الف كتابا عنه الى الان؟ اعود بذاكرتي الى محاولات في هذا التأليف كان يصدون عن المضي فيها اني اعرف الكثير عن برنارد شو. فصعوبتي هي صعوبة اخراج بل هي اكثر. وهي ان زيادة على اني ساضطر الى الاختيار ما الاختيار مع الاسهاب والتفصيل فاني ايضا سوف اواجه من مبادئ من المبادئ والافكار والفلسفات ما يحتاج الى تفصيله مما لا يطيقه قارئ رقيق او جامد لم تتفتح مسام ذهني للتفكير العصري بل المستقبلي. يفكر للمستقبل وهو علمي الذهن يفكر في افاق فلسفية بلغة ادبية. قد امضيت من حياتها نحو اربعين سنة وانا اتعلم على يدي هذا الحكيم الذي اعد حياته في عصرنا نورا ونارا لجميع الذين يعرفون ولا اظن انه فاتني شيء مما كتب وكتاباته هي الان هو هرمونات ذهنية توقظني وتحركني والكاتب ينفعنا اما بما يبسط لنا من معارف واما بما يرسم لنا من خطط واتجاهات. وبالنردشون من النوع الثاني لانه يسدد العقول الزائغة نحو اهداف بشرية جديدة. ويبعثنا على الاستطلاع العلمي للدنيا والانسان والمستقبل. والنزعة العلمية في برنارد شو قوية جدا. ولكنها ممزوجة نزعة فنية ايضا. ولذلك نشعر كانه يحس بعقله ويفكر بقلبه. وهو احيانا يسب ويهاتر ويهدد بالمعاني العلمية. ومشاجرة مع درو بشأن تنازع البقاء هي مشاجرة فلسفية سيتوقف عليها الاجابة عليها وخاصة بعد اختراع القنبلة الذرية حيث مصير الانسان اذا ما اذ ماذا يكون مصير تسعة وتسعين في المئة من البشر اذا ثبت ان الحق للقوة مهما يكن نوع من هذه القوة او اذا كان معنى تنازع البقاء هو بقاء الاصلح كما نرى هذا الاصلح في عصرنا. لقد رد برنارديشو على داروين ذكر بان المسيح لم يكن صالحا للبقاء في النظام البيولوجي الذي وضعه دار للتطور. وبرناردي شو مجاهد وادبه والادب بالجهاد. او كما يسميه هو الادب الصحفي انه يبحث الهموم والاهتمامات العصرية بالذهن العلمي في ضوء المستقبل. قد احدث لي مركبات او عقد ادبية وفنية ذهنية كثيرة في حياتنا الثقافية لا تزال الى الان مثار مثار التفكير والمتأمل والتأمل واحيانا حين اتأمل الكاتب العظيم اجد انه عظيم من حيث انه قادر على ان يترك لنا عقدة ذهنية في المعنى الحسن تترتب عليه افكار واهتمامات متصلة متشابكة نامية فقد ترك ابس في ذهن عقدة ذهنية هي الشخصية الاستقلالية التي هي الواجب الاول على كل انسان وترك برنارديشو عند طائفة من العقد ربما كان اهمها هو النظر البيولوجي للانسان. وان التطور المستقبلي للبشر يجب ان يكون له المقام الاول عند اية حكومة متمدنة بل هو يقترح ان تكون له دولة دولة لكل دولة وزارة خاصة بالتطور غايتها بحث الوسائل كي تتطور الامة ولا عبرة بان تكون له اخطاء واوهام. اذ ماذا نبالي كما يقول نيتشا ان يكون في رأس المفكر بعض الديدان؟ ولم ارى رؤيا واحدة في بالنرد شو من رأيت ثلاثا او اربعة والرؤية الاولى هي الاشتراكية الانسانية. وهي بالطبع لا تختلف عن اشتراكية ماركس العلمية. ولكن برمضان شو لانه اديب وفيلسون وفنان جعل المذهب الاشتراكي مذهبا انسانيا. ودمغ بالخزي كل من يجهل اشتراكية او لا يسعى لها. وهو الذي استطاع ان ينشر هذا المذهب بين الاسرياء لانه اثبت لهم ان اموالهم لا تساوي همومهم وما يتعرضون له من قلق. وان الاشتراكية انما جاءت لتغني وتزيد لتفقر وتنقص والرؤية الثانية هي هي ديانة برناردي شو فان مشاجرته مع دار ينتهي مغزاها الى انها مشاجرة دينية اذ كيف يمكن ان نسكن الى ان نسكن الى كون يكون محوره ومغزاه من تنازع البقاء وبقاء الاصلع؟ وقد قلت ان من الموانع التي حالت دون تأليفي عن برنادي شو اني كنت اخشى الاذهان الجامدة التي لم تتسع مسامها الذهنية للاراء الجديدة. وهنا ايضا اقول اني عاجز عن بعض الاسهالات او التفصيلي لديانة برنارديشو قصاري ان اقول انها ديانتي وان عمودها الفقري هو التطور الذي يعد فيها اسلوبا وهدفا اما الرؤية الثالثة فهي الايمان بالعلم بالعلم بل السلوك العلمي ولكن مع الدين. وعلم بلا دين هو القنبلة الذرية وبقاء اصلح كما يفهم هذا الاصلح او يتخيله تجار مانشستر ونيويورك. ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشرية والتطور الى السوبر مان. وبرنارد شو مثل قد جعل من حياته كتابا اخر. بل ربما كان هذا الكتاب احسن مؤلفاته. لان الناس يقرأون حياته ويستوحون منها القضاة والصلاح الان في التسعين وقد عاش منها ستين سنة وهو نباتي وهو يسير كل يوم ساعيا على قدميه نحو سبعة كيلو مترات. ويقرأ ويكتب كما لو كان في الثلاثين او عشرين وهو يخفف من الم الحقائق بالفكاهة. تلك الفكاهة الجديدة النارية التي تخرج منه كأنها تشنجات الحكمة. او وزخات الفلسفة ومن عجب ان هذا الرجل الذي نسترشد بارائه ونستنير برؤاه احسن الطبقات المثقفة في العالم. هذا الرجل لم يتعلم قط في مدرسة او جامعة خسارة ما حصل عليه تعليم ابتر في السنتين الاولى والثانية من المدرسة الابتدائية. ولكن اذا عد هذا تقصيرا او قصورا في النظام التعليمي وبرامجه فانه يجب علينا ان نعد ارتقاء برنارد شو الى القمة في الثقافة العصرية برهانا على ان الثقافة السامية قد اصبحت مشاعة بين الجمهور. بحيث اذا توافر الزكاء والعناية استطاع اي فرد منه ان يصل. ان يصل من الكتب المطبوعة الى ارقى ما يستطيع المتعلم في الجامعة بل اكثر. وهذا ما لا يمكن ان يقال في مثل مصر وانما يقال مع التأكيد عن فرنسا او بريطانيا او الولايات المتحدة لان الثقافة شائعة تفشوا في كل مكان بكل طرزها الابتدائي والمتوسط ولذلك سرعان ما يتعلم الامي او من هو في مقامه ويتسلق الى القمم وهناك شخصية فذة اخرى كانت محورية توجيهية في حياته هي شخصية هه جيم وولز. وظني انه الان في الف وتسعمائة وستة واربعين في مرض من الموت كل من شو وولد يبحثان العلم وكأنهما يشرفان عليه كما يشرف العمدة في الفة ومعرفة على قريته. ولكن بينهما مع فرق فان شو يتجاوز الاعماق والافاق الى ما وراءهما. وغلظ يتعمق ولكنه لا ينظر الى ما وراء الافاق يعيش على الارض في حين يعيش الشوه في السماء حتى لا نحس ونحن نقرأ اننا نختنق بهواء المدينة ولو اننا نتحدث الى رجل يعرف الا ما فيها. ولا لكن نحس حين نقرأ شو اننا اوزون البحر المعمق وكلاهما طائر ولكن وولز يدرك يدرج وقال من يحلق اما اشوف دأبه الطيران والتحليق والمغزى في شو ان الانسان سيتغير جسما ونفسا لان التطور يقضي بذلك. ورسالته ان يبعث وجدان التطور في قراءه ولكن المغزى في ويلز ان المجتمع سيتغير في نظمه واخلاقه. لان الالات قد احدثت قوات اقتصادية جديدة سوف تضطر شعوب العالم الى ان تكون امة واحدة ورسالته الى ان يبعث في قرائه وجدانا هو ان العالم قريتنا الكبرى. وغلظ هو بلا شك الاب الروحي للعالم الجديد. فانه يدعو الى لغة واحدة ثقافة واحدة بل لقد الف في آآ الف في شرح الطرق التي يجب ان تتخذ لايجاد موسوعة عالمية يتحد فيها ابناء هذا الكوكب في اراء واتجاهات نحو الخير والحضارة وله ثلاث مؤلفات تدل على اتجاهه العالمي اولها خلاصة التاريخ. وقد الفه عقب الحرب الحرب الكبرى الاولى حين كانت عبارة الحرب لانهاء الحرب تجري على الالسنة وتوحي الخيالات الذاهية بشأن اتحاد العالم. وهذا الكتاب هو محاولة نادرة خيرية غايتها ان تفهم ان الحضارة القائمة هي مجهود البشر جميعهم. وان هذه الشعوب الكثيرة المختلفة انما هي امة واحدة. او يجب ان تكون كذلك. وكتابه الثاني علم الحياة. هو دعوة الى النظر العلمي لهذه الدنيا وسكانها من الاحياء وهي دعوة دينية علمية وكتابه الثالث اعمال البشر وثروتهم وسعادتهم هو بحث في حضارة البشر وطاقتهم لحضارة قادمة. وقد اثر ووز عندي نفسيا اكثر مما كان ذهنيا انه كان كسب انه اكسبني مزاجا عالميا يكاد يكون مساويا للحماسة الوطنية. فان اهتمامي بالحركة الوطنية مثلا في الهند كان يحرك عاطفة انفعالي كالحركة الوطنية في مصر وكنوز افريقيا من الحيوان تشغل ذهن وتثير غضبي عندما اقرأ عن عبث الصيادين في الغابات. كما تشغل زهني غضب سياسة الانجليز في تحديد زراعة السودان او ضبط مياه النيل. بل كسبت من ويلز مزاج التساؤل والاستطلاع والتوسع الثقافي في العلم والادب والفن وقد كان اعتدائي الى شو واولز عن طريق الجمعية الفهابية حوالي الف وتسعمائة وتسعة. وكان ولكني واليت الاتصال بهذين الكاتبين الى وقتنا هذا وهما يدرسان السياسة العالمية على افاقها العالمي. ومفتاح دراستهما والاشتراكية والتطور. وفي الفترة بين الف وتسعمائة وسبعة والف وتسعمائة واحدى عشر كان ابسن وشوز عاليقين بقلب يرسمون لي معالم دراساتي في المستقبل. ولكن كان هناك مؤلف اخر تسلط فترة قصيرة على ذهني كان تسلطه ناريا ثم عاد تحريريا اعني بنتشا وقد التهمت مؤلفاتي في حماسة ولذة. فعصفت بي ولكن وكان ظني وقتئذ انه فتح لي ابوابا كانت مغلقة من قبل. ولكن ان الحقيقة اني كنت مأخوذا بسحره في الاسلوب وجراءته في التفكير. وهما سحر وجرأة يستهويان الشباب. وهو يؤلف النثرة وكأنه يقرض ويفكر وكأنه يقتحم وانتفعت كثيرا بتحليله للاخلاق. ولكن هذا التحليل بالطبع فقد قيمته بعد ان عرفت التحليل المركزي. وان كان كلاهما ينتهي لان الاخلاق السائدة ما هي اخلاق السائدين ولكن ماركس وصل الى هذه النتيجة بالتحليل الاقتصادي للمجتمع الى حين وصل اليها نيتشا بالتحليل التاريخي للغة اما اخلاق الاقوياء التي دعا اليها نتشا وجعل منها ديانة جديدة يجب ان يبشر بها الفيلسوف الجديد فقد استهوتني سنوات. بل بل انحزت اليها وامنت بها فيما يشبه الحزبية الفلسفية تأييد من نظرية التطور حين استسلمت لتنازع البقاء وبقاء الاصل. ولكن رويدا رويدا تقهقر نتشا من وجداني وتغير عندي مغزى التطور بالتطور وردت عندي نظرية التطور. فلم يعد نابليون هو السوبر مان ولم يعد للامبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي الذي كان كاد نيتشا انه كذلك وعرفت بعد ذلك ماركس وجوتيه وفرويد عرفتهم على سبيل تلك المركبات او العقد الذهنية التي احدثها داروين. وفي تلك السنوات ايضا كان في لندن مجلات اسبوعية ادبية كثيرة تختص بدراسة الادب الانجليزي والاوروبي. وكانت ذي اثنيوم ثم في اكاديمي اقوى في المجلات وكانت الاولى راقية حاوية موضوعية. اما الثانية فكانت شخصية جدلية. وكان يحررها اللورد الفريد دوجلاس صديق اوسكار كرويلد وكان شاعرا انيقا ولكن تاريخه الماضي وعلاقته الحميمية الشاذة بوسكار وولد الالمان عند فردان كانت فادحة تقدموا بعد جهد كبير عشرة كيلو مترات. ولكن ارتد عليهم الجنود الانجليز والفرنسيون فانتزعوا ومنهم طاحون وقد احدث هذا المنظر فرحا عاما في قيادة الحلفاء كانا يجعلان الجمهور الانجليزي المحافظ يصد عنه. ان كانت مجلته تنزاوي في استحياء في المكتبات يسأل عنها طالبها وربما نستغرب في مصر انه ليس عند الانجليز الان مجلة اسبوعية واحدة للادب. اذا استثنينا الملاحق الادبي للتيمس وهو مجلة جون جون او لندن في وهي تكتب بالعامية. وقد يعد القارئ هذه الحال تأخر للحركة الادبية. ولكني اعد تقدما ذلك ان الادب انتقل من من برج العاجي ادب الادباء الى الميدان الاجتماعي بل السياسي والاقتصادي. ولذلك فان المجلات السياسية الانجليزية تعالج الادب في عناية خبرة تدلنا على انها تعرف قدرة في التفكير والتوجيه او قل ان التطور السياسي في اوروبا قد اصبح حافلا بالانقلابات والانفجارات. وانه جذب اليه جميع الادباء ولذلك صار الادب مذهبيا يتحزب ويتشيع قوائم معينة في السياسة او الاجتماعي والاقتصاد وغاية الثقافة بعد ذلك ان ان نزيد الحياة وجدانا بان نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا شخصية لان الحياة تنادينا الى اليقظة والفهم والجد كلما استولى علينا النعاس والركود. والادب هو احدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان. وعندي ان الرجل المثقف هو الذي ترتفع وجدانه الشخصي الى الوجدان العالمي. ولا يكون هذا الا بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية. وهذا هو ما يجب ان يكون لان الادب للادب هو الادب في الخواء وقد يقال حسب الادب ان يكون انسانيا. ولكن كيف يكون كذلك اذا لم يشتبك في مشكلات الانسانية الحاضرة السياسية والاقتصادية اجتماع ووجدت من هذه الحركات الادبية في تلك السنوات توجيها لي وتربية. وكثيرا من مؤلفاتي ان لم يكن جميعها اتجهت في اتجهت فيها هذه الوجهة الاجتماعية حتى صرت اوصف باني كاتب اجتماعي وكان هؤلاء الواصفين ارادوا ان يميزوا بيني وبين الادباء الذين ما زالوا يفصلون بين الادب ان الاجتماع ولكني مع ذلك اجد فرقا اساسيا اخر بيني وبين بعض الادباء في مصر. هو اني امارس طرازا من البلاغة يمارسون هم غيره ذلك ان ترازي اوروبي وطرازهم عربي قد حملني هذا الفرق على ان الف كتابي اللغة العربية والبلاغات العصرية لان بلاغتنا التقليدية لا ملابس حضارتنا العصرية. وقد وجدت فيها عجزا عن التعبير لشؤون عصرنا فاخترت اسلوبا اخر للتعبير الذي يجمع بين الفن والاقتصاد كما يكون على وجدان بقيمة التفكير ثم التعبير العلمي. فان معاجمنا العربية التي ورثناها عن الادب العربي تقول مثلا ان الطب هو السحر. ولكننا في القرن العشرين نقول ان السحر والخرافة وان الطب قد صار علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجيا ويجب لهذا السبب ان تلابس البلاغة العصرية عند الكاتب العصري هذا الطب الجديد فتكون هي ايضا علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجي. وبكلمة اخرى قولوا ان البلاغ قد لغتي اجتماعية. اي انها تخدم المجتمع وتلابسه. فاذا تغير المجتمع وجب ان ان تتغير البلاغة. ومجتمع القرن العشرين حين يحتاج الى بلاغة القرن العشرين بلاغة العلم والاجتماع الجديدين لا بلاغة العباسيين ولا بلاغة الامويين التربية العلمية لما تركت مصر الى فرنسا في سنة الف دون تسعمائة وسبعة كان التطور من مركباتها الذهنية البارزة بل المركب الاول حتى اني حين قبضت باريس يا جماعة طائفة من الكتب التي تعالج هذا الموضوع. ولكني لم استطع فهمها وقت اذ لاني اسأت لاختيار فلم اقتني الكتب الابتدائية او بالاحرى لم اجدها. فلما الى لندن وجدت العشرات من هذه الكتب الابتدائية وكانت جمعية العقليين تنشرها وتبيعها باثمان التراب بسعر خمسة وعشرين مليما لكل كتاب عليها في دراسة مثابرة مع استخراج الخلاصات وكتابة التعليقات. وقرأت كتاب داروين اصل الانواع وليس في هذا الكتاب شيء يشق على الفهم لكنه يحتاج الى التأمل الكثير. ودور بعيد كل البعد عن التعبير المسرحي. اذ هو متواضع معتدل يكتب في حظر كانه يخشى او يؤمن القارئ بكل ما يقول وهو الضد لينتشا في الاسلوب فان نيتشا ناري سماوي اما ضر فارضي طيني. واسلوب نتش عاطفي ذاتي حتى حين يهتدي الى الحقائق الموضوعية مدار في كتب عن وجدان وتعقل حتى لا تحس انه ينفض عن نفسه عاطفته وذاتيته كما ينفض احدنا الغبار عن شخصه وليس شك ان حب حبي لضرو وتحيز لنظرية التطور منذ نشأته الثقافية الغربي ان العبارات الرمزية نقولها عندما لا نجد خبرا جديدا وهنا الاختلاف بين الحرب الاولى والحرب الثانية في الف وتسعمائة وتسعة وثلاثين. فان الغارات الجوية التي وصلت الى مدننا جعلت هذه الثانية متحركة نشيطة قد ترك اثرهما في اسلوبيا الكتابي فقد قيل ان الاسلوب يدل على الجانب الاخلاقي للمؤلف بل يكشف عنه. ايدل على الاتجاه التفكيري وايثار بعض القيم على مع بعض وانا اؤثر اسلوب دارو اسلوب المنطق الصارم والحذر والاعتدال على اسلوب اخر يوصف بانه ادبي. وكثير ما وصفني الكتاب في مصر اني لست اديبا لانهم لا يجدون عندي تلك الزخارف والتزاويق المألوفة في غيري من الكتاب. ومع ذلك فاني لا انكر سحر الاسلوب العاطفي ولكني اذا كنت التذحر احيانا واستمتع بما فيه من مهارة فاني اوثر عليه اسلوب التعقل والوجدان واذكر اني حين قرأت من الاعماق تأليف اوسكار وايلد اعجبت بسحره. حتى اني عندما بلغت الصفحة الاخيرة عدت فورا الى الصفحة الاولى اقرأ ثانية كأني نستعيد لحنا جميلا وانغاما رائعة. ولكنه لم يترك في رأسي مركبات ذهنية كتلك التي تركها اصل الانواع لداروين. وقد غيرني داروين اما اوسكار وايلد وجون رويسكين وكارلين من الكتاب الذين الذاتيين فقد نسيتهم لانهم جميعا بعيدون عن الحقائق الموضوعية حين اقرأهم الان اشعر انهم يخطبون او يصرخون او يتفصحون. فيجدوا اللذة العابرة في اسلوبهم ولكني احس انهم ليسوا مفكرين اساسيين والمفكر الاساسي في عندي هو داروين الذي يتحدس في اعتدال وحذر. واسلوبه للاسلوب الرصين واقرب الناس اليه في هذا الاسلوب. وقد سبق ان قلت ان احسن ما نقيس به الكاتب ان نعرف مقدار ما تركه لنا من المركبات الذهنية. لانه على قدر هذه المركبات يكون تفكيره محوريا او بذريا. اي اننا لا نأخذ منه معرفة الجامدة فقط. ان نأخذ المعرفة النامية التي تنمو وتشع في الخلايا الرمادية من الدماغ فتتركنا ونحن نفكر ونشتبك في اشتباكات جديدة لا تفتأ تنبهنا الى التوسع وتعمق في ايناع. ومنز الف وتسعمائة وثمانية حين قرأت اصل الانواع وانا في هذا التوسع والتعمق درست البيولوجية والجيولوجية بل سيكولوجية فرويد بحافز من ايحاء داروين. كما ان دورون كان السبيل الى التعرف الى هاربرت سبنسر وكان ضر يصفه فانه فيلسوف التطور والحق ان سبنسر هو المسئول عن تعميم هذه النظرية ونقلها للمجتمع. ولا عبرة بانه ارتكب اخطاء كثيرة في التفاصيل. فان الاخطاء احيانا قد تكون من مثل الاصابات الى انها تفتح قوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل. فاذا كان الناظر اليها قد اخطأ الرؤيا فان فضله لا يزال عظيما لانه فتح القوة وهذا ما هو وهذا هو ما اراه في كثير من المفكرين مثل فرويدوس بنسار بلدرون نفسه. فقد نبهنا في رويت في خطأه عن مركب اوديب كما نبهنا سبنسر في خطأه عن سوء النظام الاشتراكي كذلك نبهنا ضرر في خطأ عن تنازع البقاء وكل هذه الاخطاء كانت قوات جعلتنا نفكر ونبحث لانها فتحت لنا افاقا جديدة وقد انتقلنا بها من الميدان البيولوجي الى ميادين الاجتماع والدين والاقتصاد. ومن الكتاب البدريين الاساسيين الذين تأثرت بهم وما زالت المركبات الذهنية التي وفي خلايا رمادية قائمة بنامية وقد وصلت اليه عن استعراض ضده من كتاب الانفرادية الذين يقولون بالمباراة الاقتصادية مثل هربرت سبانسر وخرجت منه على الله واحتقار وامثاله. ولكن هذا الاحتقار في هذه النقطة المعينة لم ينقص اجباري للقوة التفكيرية عند سبنسر والحق انها قوة عظيمة جدا. فان نظرته شاملة وهو فيلسوف اكثر مما هو عالم ولكنه فيلسوف بعيد عن الغيبيات. وقد احترف هذا الرجل التفكير حتى لا يسأم الانسان حين يقرأه ويكاد يسأل لماذا هذا الجد؟ لماذا يلهث ويعرق؟ الا يفكر في اجازة يستريح فيها؟ والحق انه لم يفكر في وقد اصيب لهذا السبب بانهيار عقلي تألم منه نحو سنتين. وحتى بعد ذلك كان احيانا يطلب من ضيوفه الا يتكلموا بل ان يبقوا في ضيافته او رفقته في صامتين وفي هذه السنين كدنا ننسى هربرت سبنسر ولكن كارلماركس يزداد بمرور السنين قوة بالحياة ان نظرياته تحيا في كل مكان في العالم. والازمة العالمية الحاضرة هي ازمة الصراع المنتظر او الوفاق المحتمل بين المركسيين دعاة الانتاج التعاوني وبين الديمقراطيين دعاة المباراة الاقتصادية. ولذلك لا يمكن احدا ان يصف نفسه بانه مثقفا اذا كان يجهل المركسية ولو كان يكرهها لان الازمة العالمية هي في صميمها ازمة مركسية. وقيمة مركسية في فهم السياسة العالمية والتطورات الاجتماعية والاخلاقية الحاضرة كبيرة جدا ولكن لا قيمة اخرى في فهم التطورات التاريخية والتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بانه هو لا فرويد الاساس الصحيح للفهم السكيولوجي. فان ماركس اثبت ان العواطف الاجتماعية اي التي نكتسبها من المجتمع اكبر قيمة وابعث على التغيير والتطور واثبت في كياننا مما نسميه العواطف الطبيعية ولذلك لا يقتصر فضل ماركس على انه جعل الاقتصاد علما لان الحقيقة انه جعل كذلك الاخلاق والاجتماع والسيكولوجية علوم. ولا يستطيع احدا ان يفهم هذه الثلاث على حقيقتها الفهم الموضوعي الا اذا كان مركسيا دروين ومركز كلاهما قد غرس في رأس مركبات ذهنية وجعلني انظر الى الدنيا والى الاحياء في استعراض علمي وتحليل اقتصادي وسيكولوجي. وعندما ضبط احساسي الديني اجد ان بورد هذا الاحساس هو التطور. وهذا الاحساس الديني في وفاء هو فهم وممارسة. فاني افهم اننا وجميع الاحياء اسرة واحدة بما في ذلك النبات. وان الخلية الاولى التي تنبض بها طين السواحل قبل نحو سبعمائة مليون سنة هي عنصرنا الاول. واننا ما زلنا ننبض ونتغير في تجارب لا تنقطع. وان سنتنا هي لذلك سنة التغيير. جريمتنا هي لذلك جريمة الجمود. ونحن حين نجمد انما نكفر سنة الكون مادة وحياة. ولكن الى جانب الى جنب هذا الفهم الديني يجب ان نمارس ممارسة دينية باحترام الحياة ايا كانت والتعرف اشكالها وحمايتها من الاميين المستهترين بالطبيعة. هذه الطبيعة التي تكتسب في ذهن قداسة كلما فكرت في غابات افريقيا او الهند وما تحوي من صحفي الحياة او كلما فكرت في غياهب المحيط الهادئ او الاطلنطي او المحيطين القطبيين ومن وما بهما من احياء يحاول التجاريون في غير شرف ان يبيدوها بالحاح بالالحاح عليها في الصيد وكذلك لا اقرأ الجريدة اليومية ولا اسمع عن خبر سياسي او مشروع لقانون جديد الا وانظر اليه باستعراض المركسي من حيث دلالته على النوازع المختلفة التي دفعت الي. في حين ان الذي يجهل المركزية تطوح ويتخبط في تقديرات شخصية للممثلين السياسيين او الحربيين مع امن هؤلاء ليسوا سوى ادوات تؤخذ مكانها في دورة الالة الكبرى في حركة المجتمع الاقتصادي. ولذلك ايضا اصبحت فكرة البطل في التاريخ من التي كانت تتقهقر في وجداني كلما تقدمت في التحليل الاقتصادي. ولكن يجب ان اعترف ان مع تقهقرها لم تنمح. وانه لا يزال للشخصية قيمتها في تفكيري وفرق عظيم بل عظيم جدا بين شخص قد قرأ ماركس ودرس التفسير الاقتصادي للتاريخ وبين اخر يجهله ان الاول الذي امتاز بالحاسة بالتاريخية التي اكتسبها من ماركس يجد ان في اخبار الجريدة اليومية من المعنى والمغزى ما لا يجده الثاني الذي يحسب ان الحوادث التافهة والخطيرة والاتجاهات السياسية والتطور والثورة والحرب والسلام كلها اشياء تجرى جسافة. ويأتي فيرويد بعد درو ومركز في ايجاد المركبات الدهنية التي عملت في عملت في سوى تعمقي وعندي ان مركب اوديب الذي يعد محور السكيولوجية الفرويدية هو خطأ ولكنه خطأ منير انه نبهنا كأنه دسيسة عملية تحركنا الى البحث والتنقيب في كهوف النفس المظلمة الى قيمة السنين الاولى ايام الطفولة في تكوين الشخصية قد وصفت اقوال فيرويد بحق بانها سكولوجية الاعماق. وهي كذلك وان كنا نختلف كثيرا عما نجد في هذه الاعماق. ولولا فرويد لما كان هذا الجيش الذي يتألف من الاف العلميين الذين يبحثون النفس البشرية في جميع الاقطار المتمدنة وقد جمعت بين فرويد وماركس وخرجت منهما بازكى الثمرات. بل فطنت الى ان ماركس هو السيكيولوجي الاساسي لانه يجعل وجدان الفرد ثمرة المجتمع عبارة التحليل النفسي من العبارات التي تعزى الى فرويده وهي اللافتة لجميع انواع العلاج السيكولوجي. وليس ثمة شك في قيمة التحليل. ولكن تحس ان التأليف النفسي اهم وانفع من التحليل. وانه الى الان مهمل لانك استكولوجيين مقيدون بفرويد وفي حياتنا العصرية لا يستطيع احد ان يهمل التفكير العلمي بان الحضارة الصناعية السائدة هي حضارة العلم. قد ذهبت في دراسة العلوم التي تدور حول التطور او الاقتصادي او السيكولوجي اكثر من ثلاثين او اربعين سنة. ولذلك استطيع ان اتناول كتابا عن الهرمونات اي مفرزات الغدد الصماء. او كتابا عن ايكولوجية اي علاقة الحي بالبيئة او كتابا عن مشكلات الوراثة او كتابا عن جنون الشيزوفرينيا فاقرأها جميعا في رغبة وفهم ولا اجد ذلك الذي يجده غيري ممن لم يعنوا بالعلوم وكل هذه العلوم هي دراساتها المستقلة. لان ما حضرته من محاضرات في فلندن لم يؤبه به. ومما اسفوا عليه احيانا اني لم اجد ده حوالي الف وتسعمائة وسبعة الذي كان يستطيع ان يعين لي منهجا دراسيا في العلوم. ولكني بعد التفكير اسأل هل يكون افضل لي لو اني كنت قد انغمست في دراسة علمية تجريبية معينة ام الم تكن مثل هذه الدراسة مانعا بطبيعتها الاختصاصية من الوان اخرى من الثقافة الماوسية الشيوعية التي اتمتع بها الان اني لا اكاد اعرف اختصاصيا في علم ما نجح في ان يكون موسوعيا بينطلق في سهولة ويسر الى رياض الفلسفة والادب الاجتماع مع ان كل هذه الميادين فضلا عن العلوم قد الفتها وجلت بل نقضت فيها وفكرت في تناسقها. وسرت فيها بروح المتعلم الذي ليربي نفسه في بعد عن الاغترار والزهو. فاذا اعتبرت القيم قيم الحياة لا قيم التخصص السقافي. فاني اجد اني نجحت في تربية نفسي اكثر مما لو كنت قد تخصصت لان لان المتخصص في الجيولوجية او البيولوجية او الايكولوجية قلما يفكر في دراسة افلاطون او قراءة الجاحظ دراسة الحضارة الفرعونية ولكني انا بالاتجاه الموسوعي الذي اتجهته قد درست هذه العلوم في غير تخصص ولكن مع الاستطلاع الدائم لغيرها من الثقافة. حتى اني اقدر مثلا عدد المؤلفات التي قرأتها عن حضارة الفراعنة بما لا يقل عن اربعين او خمسين كتاب. ولم اترك كلمة مطبوعة للجاحظ ام اقرأها وكذلك استطيع ان كتابا عن بيوتيه او الاصلاح الزراعي في مصر او المسألة الهندية بايسر وعناء ولذلك يرى القارئ اني درست لا للثقافة بل للحياة. قد حملتني دراستي العلمية على ان الفت كثيرا المراحل البعيدة التي قاطعتها قطعتها العلوم المادية كالطب والهندسة والكيمياء والميكانيات والطبيعيات مع تأخر العلوم الاجتماعية التي حال دون التفكير الحر فيها وتغيير قواعدها وتقاليد عشائر وسنن وقوانين تعمل كلها لتجميد تطورنا الاجتماعي الاجتماع باعتباره علما يعيش على مستوى التفكير في الف وستمائة او الف وسبعمائة ميلادية. بل هو في اقطار اسيا وافريقيا يعيش على مستوى سنة الف عيد الميلاد في حين ان الكيمياء او الطب بيسبقانه بنحو ستمئة او اربعمائة سنة. ولذلك نحن لا نعيش المعيشة العلمية في بيوتنا ولا يسود حكومتنا النظام العلمي ولو انه كانت هناك تقاليد وشعائر وسنن وقوانين للكيمياء مثلا كما للمجتمع لبقي هذا العلم على مستواه حين كان كل هم كيماوي ان يحيل الرصاص الى ذهب. كما اننا لو استطعنا التخلص من تقاليدنا ومن الاستعراضات التي تخدم بعض الهيئات والطبقات لكان في مقدورين ان بالاجتماع الى مستوى العلوم التجريبية المادية ولهذا ايضا نجد ان الطالب الذي يدرس الطب نقول له في ان الذباب ينقل عدوى الرمد او او ان لحم البقر الذي اصيب بالدرن تنتقل عدواه الى اكله من البشر. ولكن لا نقول لهؤلاء التلاميذ ان او الطلبة ان الاجور المنخفضة التي يحصل اليها العمال في مصر تفشي بينهم الدرن والعمى والموت. لاننا نخشى هنا الاستعراضات الامتيازية والاحتكارية والاقتصادية. ونخشى كان نصرح للفلاحين بان كثيرا من الغيبيات التي يؤمنون بها خرافية ذات يوم في الف وتسعمائة وثمانية عشر كنت قاعدا في الريف الى قناة صغيرة في ظل شجرة. والى جنبي فلاح قد بلغ الثمانين. ان كنت اتأمل يا الضفادع وهي تسبح فسألت الشيخ عنها فاتضح لي انه لا يعرف انها ضفادع صغيرة ثم تشعب الحديس الى النبات فقال ان لكل نبتة من هذه الاعشاب التي تنمو على شطوط القنوات ملكا يحرسها فلما نهضت اخذت افكر في هذه الرواسب الثقافية التي انحدرت الينا عن الفراعنة والكلنديين والبابليين وجعلتنا نعيش في غيبيات تحملنا عن النظر اخطئ للحقائق هذا العالم وتباعد بيننا وبين النظر العلمي الموضوعي. وقلت في نفسي هذا الرجل غيبي يؤمن بان العالم حافل بالارواح التي احرص الناس والحيوان والنبات. اذا هو من خصوم ذرو. ولكن هذا الفلاح المسن يمثل في سجاجيدته المركزة جهل الرجل العادي والمرأة العادية وكلاهما يعيش بذهنه على رواسب قديمة من العقائد حتى ان فكرة القرينة عند الفراعنة لا تزال حية في ايامنا. اجل. لقد ذكرت الان. فقد كنت طفلا لم يتجاوز السابعة او السادسة كنت قد غضبت وصرخت ورفست وانا على العشاء فقالت لي امي تخوفني. دلوقتي اختك تزعل منك وتضربك. وكانت تعني باختي هذه قرينة الفراعنة وقصدت الى الفراش ونمت بلا عشاء واذا بي احلم ان فتاة قد حضرت وهي تحمل صوتا ترفعه في الهواء كي تتحفز لضربي. وصرخت في النوم واقبلت هي ام في فزع فايقظتني وحضنتني وجاءتني بكوب من الماء. شربت منه بجرعة ثم اخبرتها عن الحلم فاخذت تقبلني وهي تبكي حقق علي يا ابني كنت بضحك ما فيش اخت ما فيش اخت. ولكن مجتمعنا لا يزال في اسر هذه القرينة او ما يشابهها من العقائد التي تتخذ احيانا اسلوب البحث العلمي. كما نرى في اولئك الذين يزعمون انهم يستجلبون الارواح فتنقر على المائدة وتتحدث عن العالم الثاني. ما هذه العقائد تعيش كانها كابوس للمجتمع تعمل على تجميد بتخويفي حتى لا يتطور. ودعاة الروح هؤلاء لا يختلفون عن تلك الام السازجة التي تقول عن عندما يعثر طفلها انقعت على اختك احسن منك تمدح الاخت وتسترضيها حتى لا تصيب طفلها باذى. وهذه القرينة او هذه الاخت التي افزعتني في نومي وهذه الملائكة التي تحرس النباتات عند ذلك المسين هي ضباب العقل الذي كان يجب ان يقشعه العلم. وقد انقشعه كاد في امريكا واوروبا. ولكنه لا يزال يخيم علينا لان الثقافة العلمية لا تزال بعيدة عنا لم نتنفس سواءها الصافي وهذه الثقافة العلمية هي ما افتى ما افتى ارجو ان ان يجعلها اسلوبيا في الحياة الشخصية والاجتماعية. ولكني لم اخطئ قط ذلك الخطأ المالي شف بقى نجعل العلم غاية اذ هو وسيلة فقط. اما الغاية فيعنيها الادب والفن والفلسفة. اي ان غاية العلم هي الدين الذي نكسبه من الادب التاريخ والفن والفلسفة. اي كيف نعيش في مجتمعنا اصلح العيش وارواحه واقصده واشرفه وقد وضعت كتابي نظرية التطور واصل الانسان ولي مأرب هو مكافحة الغيبيات الشائعة. ونشرت كل مقالات في البلاغ قبل طبع كتاب كي اصل الى اكبر عدد من القراء ومن الذكريات السعيدة اني وقفت ذات يوم الى دكان صغير لا تزيد مساحته على ثلاثة امتار مربعة. اشتري ابني بعض الحلوى ما عرفني البائع واخبرني انه قرأ كتابي هذا وفهم ولو اني وجدت التشجيع لرصدت لارصدت حياتي لاخراج كتب شعبية مثل نظرية التطور والعقل الباطن ونحوهما. كثيرا ما كنت اتحسرك حين كنت ارى مؤلفات العقليين في لندن فان كتاب اصل الانواع الذي زلزل به داروين الثقافة الاوروبية كان يباع باقل من خمسة وعشرين مليم. من حوالي الف وتسعمائة وثلاثين وجدت انا والاستاز فؤاد صاروخ فرصة سانية لايجاد حركة علمية شعبية في مصر. وعقدنا العزم على تأليف المجمع المصري للثقافة العلمية كانت الغاية منه ان يضم جميع المتتاليين بالثقافة العلمية ونشرها بين الجمهور. ونجحنا في المشروع نجاحا لم نكن ننتظره وعقدنا الاجتماع السنوي الاول له والقيت فيه محاضرة سيكولوجية عن طبيعة التفكير في ضوء الاحلام في قاعة الجمعية الجغرافية ولكني في ذلك الوقت كنت امارس نشاطا سياسيا مركزا في مكافحة صدقي باشا حين الغى الدستور واستبدل به غيره واتفق مع المستعمرين والمستبدين على اعادة الحكم التركي الشركسي الذي حاول عرابي ان يحطمه. وادى نشاط هذا في السياسة الى طرد من المجمع وكان من حظنا السيء اننا اخترنا معظم الاعضاء من الموظفين. لذلك حين اختير حسين سري باشا ورئيسا لاجتماعه الثاني ارسل الي خطابا يفصلني من المجمع مع الشكر. وكان وقتئذ وكيلا لاحدى الوزارات. ووافق جميع الاعضاء الموظفين ولم يشجع غير واحد غير الموظف هو الاستاذ اسماعيل مظهر. وجاء في عقب طرد الصديق زكي ابو شادي يعتذر الي بانه لم يجرؤ على مخالفة وكيل الوزارة. ولذلك اعطى صوته ضدي ووافق على طردي على انه لم يجرؤ على مخالفة وكيل الوزارة ولذلك اعطى صوته ضدي ووافق على طردي على انه اعرف انه ليس من حق المجمع ان يفصلني لنشاطي السياسي. واتجه المجمع بعد ذلك وجهة اختصاصية غير شعبية. لذلك من الجمهور كثيرا. وعندما اقارن بين الثقافة العلمية والثقافة الادبية نجد ان القيمة العظمى للاولى ان تحرير ان التفكير العلمي يسير على نهج ارتقائي هذا سيء فيجب ان نبحث عن الحسن وهذا احسن ولكن يجب ان انشد احسن مينو بالاكتشاف والاختراع. والتفكير الارتقائي وبطبيعته تفكير علمي. وهو لم ينشأ في اوروبا الا بعد ان اتجه الاوروبيون وجهة علمية في القرن السابع عشر. اما قبل ذلك فلم يكن هناك من يقول بان الشعوب يجب ان ترتقي وتتغير. قد يرد هنا علي بانه كان هناك طوبيون تخيلون حالا سعيدة للبشر غير حالهم الحاضرة. ولكن الفكرة الارتقائية لم تنبت فقط في هذه التربة الطوبية وانما نبتت من البذور العلمية ثقافة الادبية اذا لم تجد الحافز من العلوم تركض وقد كان هذا شأنها في العصور الوسطى. مسط زراعي راكد يعيش في ثقافة ادبية المحافظة. اما الان فالعالم المتمدن يعيش في وسط صناعي متحرك يعيش في ثقافة علمية متحركة متغيرة ومن هنا قيمة التوجيه العلمي في الثقافة العربية الحاضرة. بل يجب ان يرتفع هذا التوجيه الى مقام الدعاية ذكريات الحرب الكبرى الاولى كانت الحرب الكبرى في الف وتسعمائة واربعة عشر متوقعة. وكان اساسها المباراة العظيمة بين الانجليز والالمان. فانهما كانا على تقدم صناعي عظيم تحتاج الى المستعمرات والمواد الخام والاسواق كان الانجليز حاصلين على كل هذا ولم يكن الالمان حاصلين على شيء يؤبه به. فكانت الصناعات الانجليزية تمتاز بالمواد الخامة الرخيصة التي تحصل عليها من الهند واجاوة ومصر وغيرها وتستطيع بيع مصنوعاتها باثمان منخفضة ثم في الوقت نفسه كانت تجد التفضيل في الاسواق في في هذه الاقطار وغيرها واذا لم يكن هذا التفضيل بالامتياز الجمركي الصريح الذي يجعل مصنوعاتها تدخل هذه الاقطار بسهولة. فانه يكون بالاعيب اخرى تؤدي الى التفضيل ويقوم بها موظف المستعمرات لخدمة الطبقة الصناعيين والتجاريين في بريطانيا ولم يطق الالمان هذه الحال اي ان يثرى الانجليز وباوضاع غير عادلة. ويبقى هم في تخلف اقتصادي وشيء من هذه الحال كان ايضا بارزا في مقدمات الحرب الكبرى الثانية التي دعت اليابان فيها الى الرخاء المشترك وكانت الشرارة الاولى للحرب قتل احد الامراء من اسرة الامبراطور فرانس جوزيف. وكان امبراطورا هارما اعلى الامبراطورية هارمة ركيكة ولم تمض الا ايام حتى كان العالم كله مشتعلا واخذ الجمهور في مصر على دهشة وكنت اصدرت مجلة المستقبل في القاهرة فدعيت الى تعطيل في ادارة المطبوعات. ثم شرع الانجليز في اعتقال من يتوجسون في اتجاهاته. ولبثت بعض الشهور وانا اعمل مع مي في جريدتها اي جريدة والدها المحروسة ولكني سأمت الرقابة التي لم تكن تسمح بنشر خبر صحيح الا بعد ان تزيفه حتى تخرج الهزيمة التي كانت تقع بالحلفاء كانها انتصارا رائعا لهم رحلت الى رحلت الى الريف ورأيت كيف كان يسلط الانجليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديريين وحكمديريين وشرطة لخطف محصولاتنا كانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون ايضا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر يهين النفس كما يفتت القلب. فكان الرجل يربط بالحبل الغليظ من وسطه. وخلفه امثاله. ويسيرون على هذه الحالة صفا الى ان يبلغوا المركز ويحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحلون الى فلسطين. ان كنت انجح احيانا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين. وذات مرة وانا بالمنزل سمعت ودخلت على نسوة في فزع ونحيب. وعرفت ان ثلاثة مما يزرعون ارضنا القي القبض عليهم وهم يحرثون في الحرب وخرجت وجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة احد الشرطة. اما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية اخرى واستطعتم مساومات مع الشرطة نحصل على الافراج عنهم. ولكني لم اكن انجح كل مرة ففي ذات يوم قصدت الى المأمور في الزقازيق اطلب منه اطلاق اثنين من الفلاحين. فتأملني ثم قال انا عايز ارحلك انت لفلسطين. فتركته اذا لم تكن الظروف اذ لم تكن الظروف وقت اذ تأذن بالتحدي وفي تلك السنوات السود اثري كثيرا من العمد ثراء فاحشة. فقد فرض الضرائب على جميع الشباب من سن العشرين الى الخمسين كل على مقدار ما يملك فهذا يؤدي خمسة جنيهات وذاك عشر جنيهات حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم الى فلسطين. وعرفت عمدة كان يملك ستة افدنة فقط الجماعة نحو خمسة الاف جنيه بهذه الطرق. ان كان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها. قد استمتعت بعد ذلك بالشماتة عند ما رأيت هذه العمدة وقد قبض علي الانجليز بعيدا عن قريته واجبروه على النزول في ترعة يبحث عن احد قضبان الخط الحديدي لشركة في الف وثمانمائة واثنين وثمانين مثل هذا الاتفاق ايضا. اذ كان يرافق عبدالله نديم خطيب الثورة قسيسا ينهض بعده ويخطب في الدعوة الى الاتفاق بين العنصرين وحق الامة في الحكم النيابي التام دلتا وقد فوجئ وهو على حمار قاصدا الى قرية مجاورة فانزلوه وضربوه واجبروه على العمل في ترميم الخط الحديدي الذي كان الفلاحون قد نزعوه في الف مائة وتسعة عشر. انا عرفت بعد ذلك انه تورط في معاكسات ومشاجرات بينه وبين الاهليين. وضاع كل ما جمع. فقد تعقبوه حكايات جملة سنوات وتمسكوا عليه بمخالفات خطيرة جعلته ينفق في الرشوة واجور المحامين كل ما كان قد جمعه من هؤلاء الفلاحين المساكين وكان معظم النقل في الحرب الكبرى الاولى على الخيول الاسترالية كانت ضخمة يعلف الحصان منها بضعف ما يعرف به حصان من خيولنا. ولذلك كانت والشعير يخطفان من الريف قد قام عمالنا المصريون هم من الفلاحين بخدمة الحملة الانجليزية في فلسطين وكانوا يعدون بعشرات الالوف مات اكثرهم وعمي بعضهم. ومع ذلك عندما انتهت الحرب واشتعلت الثورة في مصر في سنة الف وتسعمائة وتسعة عشر اوقف السفير البريطاني في واشنطن ينتقص من قيمة خدماتنا في الحرب كي يحول دون العطف الامريكي على قضية استقلالنا. فقال ان جميع من قتلوا في الحرب من المصريين لا يزيدون على ثلاثة اشخاص ثلاثة فقط وكثير من الفلاحين يطرقون الارض الى المدن لما لاقون من قسوة المالكين الذين يعصرونهم بالايجارات والمحاسبات. ولكن الريف لا يزال المزدحما بالفلاحين على الرغم من جميع ما يلقى هؤلاء فيه من مصاعب. وظن ان بعض السبب لذلك ان في الارض فتنة تسحر الفلاح وتربطه بها مهما قل كسبه منها فانه يستيقظ قبل الشروق ويخرج الى حقله ترافقه بقرته وحماره وعنزته او نعاجته. وهو يحس برفقة هذه حيوانات ويجد في هذه الرفقة لذة تسمو على الاعتبارات المالية وهو يتشمم من الارض عقب حرفها حين تنفتح التربة الهواء تنفح التربة الهواء بروائحها التي توحي رخاء والبركة. بل هو فكروا احيانا كي يتحقق من النمو الجديد في الذرة او القمح. وفي الشتاء حين يكسوا الندى البرسيم تبدو الدنيا في بهاء لا يعدل الانسان به. اي جمال اخر وقد وجدت هذه الفتنة في السنوات التي قضيتها في الريف مدة الحرب. ان كنت كثيرا ما اتأمل فلاحين وهم يكدون من الفجر الى الغروب. ثم يعودون حين يتغنون بالمواويل خلف البهائم الى بيوتهم. وهذا الحب للارض وللنبات وللحيوان يلصق الفلاح بالريف ويجعله يرضى بالمعيشة الضنينة من حيث الطعام واللباس والمسكن. بل هو يرضى بقسوة الايجارات والمحاسبات. بل ان الفلاح ايضا تجد من الاهتمامات بتربية الدجاج والبط والحمام مما يجعلها مفتونة بهذه الطيور. فتغني لها كما لو كانت تؤدي هواية لذيذة وكثيرا ما رأيت احدى الفلاحات تخاطب البقرة التي عزفت لسبب ما عن الطعام بقولها يا حبيبتي ويا اختي ثم تمسحها بيديها كما لو كان طفلا تدلله ثم ثم يجب ان لا ننسى القمر في الريف فانه يسكب سحره على كل شيء وابناء المدن الذين يرون القمر من خلال المباني لا يعرفون فتنة هذا الكوكب في ريف وغيري بيعد الريف منفى. ولكني اعتقد ان احسن سني الحياة هي التي قضيتها في الريف. فقد اتاح لي اذا اتاح لي الدراسة الجديدة كما التحاليل الاستمتاع بالطبيعة ولم يكن يمر علي يوم دون ان استيقظ في الساعة الرابعة او الخامسة من الصباح واسير في الحقول وهي مبللة بالندى في هدوء الطبيعة الرخيم انتظر بزوغ الشمس فاحييها واتأملها كاني في صلاة وهناك الاف من الناس لم يعرفوا قط هذه الصلاة ولم يحسوا هذا الاحساس الديني في الاتصال بالطبيعة في خلوة الحقول التي تنمو كل نهار بحياة جديدة والسائر في الحقول في هذه الساعة الاولى من النهار تغمر نشوة حقيقية حتى لا يجد خفة في نفسه لا تختلف من تلك التي يحدثها الكؤول لكن دون تحذير للوجدان والريف يهم التجزؤ والانفصال هذا نبات وهذا حيوان وهذا مسكن وهذا حق بل هذا انسان وهذا بهيم. ولكن المتأمل يجد الترابط والتأكيد كأن كل هؤلاء وحدة حية وقد كان ضروري ان يقول على سبيل الفكاهة انه يستطيع ان يقدر عدد العوانس في قرية في انجلترا بملاحظة حقول البرسيم المحيطة. فاذا كان البرسيم مزدهرا ناجحا فانه يدل على ان العرائف كسيرات في في القرية. ذلك لانهن يربين القطط القت تأكل الفئران والفئران تأكل النحل. والنحل هو الذي ينقل الى البرسيم لقاحه من زهرة الى زهرة. فاذا قلت العوانس قلت القطط وزادت الفئران وقل النحل ثم قل ازدهار البرسيم ونحن نرى هنا بالطبع فكاهة ولكن لا مغزاها. وهو ان النبات والحيوان يعيشان في تضامن سمبيزي. اي ان كلا منهما يخدم ايه يا خرا الحياة هذا تتوقف على حياة ذاك وقد كنت ابتهج بالتأمل في الريف لهذه الروابط بين النبات والحيوان. وكثيرا ما كنت اسف وانصح بشأن البومة لان الفلاحين قد ورثوا عقائد غيبية عنها اذ يقتلونها لانهم يتشائمون منها. مع انها تأكل الفئران التي تقتات بذورها خبزهم ثم ان تكاثر الفئران يؤدي الى تكاثر الثعابين التي بها. بل ان للذئاب والثعالب في ريفنا قيمتها السمبوذية في الريفية ايضا لانها تنظف القنوات من الرمم. وقد كنت وما زلت الى الان اجد لذة واهتماما في ان اتابع فراشه بالاجر وراءها كالصبي حتى امسكها واتأملها وابحث عن اعضائها ثم اطلقها وسلوكي هذا كثيرا ما كان يبعث الابتسامات بين الفلاحين الذين يعتقدون ان مثل هذا العبث لا يتفق العقار. وما زلت الى الان متعلقا بريفي اخطف اليه زيارات بل ما زلت احلم بان اقضي السنة الاخيرة من عمري في الريف وريفنا الذي صنعته الطبيعة ريف الحقول والزهر والشجر والطير والفراش. هذا الريف يتلألأ بالجمال ويبعث الحياة تنبض في عروقنا حين نشرب من هوائه ونشم منه خضرة البرسيم او الذرة التي تغمر نفوسنا. ولكن الريف الذي صنعه المجتمع المصري ريف المساكن الكالحة المبنية من الطين المجفف ريف الايجارات والمحاسبات والحرمان للفلاحين. هذا الريف لا يوحي الينا الصلاة بل يوحي الغضب واللعنة والكراهة الحياة في مصر ان المالك يعامل احيانا للفلاحين بروح تجاري لا يبالي هل هو يجوع او يمرض بسبب الايجارات العالية التي يفرضها عليه. واذكر ان احد فحين في عزبة غير بعيدة قدم الي ذات صباح في الف وتسعمائة وخمسة عشر وعرض علي ان ينتقل الى عزبتنا فقبلت وقبيل الغروب حضر هو وزوجته التي كانت تحمل ابنتها على صدرها وكان هو يحمل جرة بها مخلف ان كانت هذه الجارة كل ما يملك من متاع في الدنيا وقد حاسبه صاحب الارض واخرجه خالصا لا عليه ولا له. وفاحت رائحة كريهة من الجرى. فكشف عنها احد الحاضرين وصب منها على الارض وما زال لا يصب حتى فارغت. وكان هذا المخلل الذي ذكر وهذا المسكين لا يتجاوز هذا السائل الكريه. حتى آآ يبلل به هو وزوجته خبز الذرة ثم وكان الهزال واضحا في الثلاثة وكان اوضح في الطفلة التي كانت تتعلق بصدر امها كأنها خرقة بالية معلقة في ترهل ماتت هذه الطفلة بعد نحو اسبوعين وقص علي علي ها وهذا اسمه مأساته. وقد دخل تلك العزبة قبل ست سنوات ومعه بقرة وحمار. وكان لزوجته صندوق ولحاف وحصين ومخدة. ولكن المالك كان يحاسبه كل عام فيخرج مدينة. وباع قارئ بقرته وحماره في تسديد الدين ثم باعت زوجته كل امتعة البيت اشتري الذرة وذات مساء اقبلت على العزبة فوجدت عليا مبطوحا على بطنه وهو يصرخ صرخات عالية. وفزعت عندما رأيته على هذه الحال وظننت ان انه قد تسمم او ان وباء الكوليرا قد نقل الى مصر مع بعض الجنود الهنود. لكن المسكين سكت خجلا عندما رآني وذهبت به اليوم التالي الى الزقازيق لاحد الاطباء فقال انه مريض بالبلاجرا. وهو مرض ينشأ من النقص الغزائي. فذكرت الجرة التي جاء بها وصببنا منها المخلل على الارض. وتفاقمت حالته وظهرت عليه امارات البلاهة وتركته وتركته زوجته وتزوجت غيره. ثم حدث حريق في بعد ذلك بسنين. وكان هو من في احد ازقتها فخانه زكاؤه الذي تقهقر من البلاجرا فعجز عن التخلص من النار ومات بالحريق. وفي الريف المصري الجميل الاف من هذه المآسي التي تعود الى الروح التجارية في محاسبة الفلاحين. وزيادة الايجارات سيموت في بطء لقلة الطعام. واغلب المسئولين عن هذه القسوة هم من المالكين الذين يعيشون في المدن ويستغلونها غيابيا ارضاء غيابية فلا يستطيع وكلاؤهم التسامح ولا نقول الرحمة بل مع المأزومين والفقراء بل احيانا يبرهن هؤلاء الوكلاء على اخلاصهما تعديم للمالكين لزيادة الايجارات على هؤلاء المساكين وكنا نقرأ الاخبار كما يحب الانجليز ان نفهمها. ولذلك كانت الرقابة صارمة شاملة. فقد اشتركت في بعض المجلات الامريكية كي اصل عن طريقها الى الاخبار الصحيحة. فكانت اما تمنع من الوصول الي واما ان تقص اوراقها التي تحمل اخبارا غير ملائمة للانجليز. ولكن حتى بين المحررين من كان يستطيع ان يروا الخبر حيث يجوز ظاهره على الرقيب ويدرك قارئه ما بين سطوره. مثل جاء في التليغرافي ان هذه وكان الرقيب ينخدع بهذه البهجة وينسى المعاني الواضحة. ان كان اعجاب الجمهور بالمانيا يفوق الوصف. وبعض هذا كله كان يعود بالطبع الى الشماتة انجليزي المحتلين لوطننا وكنا نهجس احيانا بامل الاستقلال اذا انهزمت بريطانيا او على الاقل لم تنتصر. وكان هذا الامل قويا في بداية الحرب ولم يبق الى ان دخلت امريكا في صف حلفاء. ولم تكن الطائرات عنصرا خطيرا في الحرب الكبرى الاولى. ولم تزرنا فيها غير طائرتين. الاولى القت قنبلة بالقرب من البنك الاهلي الثانية القت قنبلة في حي الفجالة. كانت التلف صغيرا وايضا ارسلت المانيا بالونا وعبر عبر جونا ذهابا وايابا. من اوروبا الى امرت الالمانية في افريقيا الشرقية. ولم يلق اية معارضة من الانجليز. وكان على ارتفاع بعيد حتى لم يسمع احد بازيز موطراته وقد كانت براعة الالمان في القتال عظيمة ولكن اخفاقهم في السياسة كان عظيما ايضا. ان لم يستطيعوا ان يتوقفوا يعني يتوقوا انضمام الامريكيين الى اعدائهم ولذلك صحت كلمة لويد جورج رئيس الوزارة الانجليزية عندما قال الالمان يكسبون المعارك الان ولكنا نحن سنكسب الحرب. وكانت شرشل بطل الحرب الكبرى الثانية بطلا ايضا في الحرب الكبرى الاولى. قد كان يتهم الالمان بانهم يصنعون الصابون من جثث القتلى اي يستخرجون الشحم من هذه الجثث ويصنعون منه الصابون. قال ايضا ان الالمان يبعثون جنودهم الى المدن لتلقيح النسوة بلا زواج كانت هذه التهم بالطبع غير صحيحة. مما قام بتشرشل في تلك الحرب انه زيف ملايين النقود الورقية وبعث بها عن طريق سويسرا الى المانيا. حيث افسد قيمة النقد الالماني وتشرشل ايضا هو المسئول عن الحصار الذي ضربه الانجليز على المانيا اكثر من ستة اشهر بعد اعلان الهدنة. الم يكن يدخل شيئا من الاغذية التي يحتاج اليها السكان. وكانوا قد بلغوا حالا بشعة من القحط وقد عم الكساح اطفالهم لهذا الحصار. وارتفعت الاسعار والاثمان الى اربعة اضعاف بل خمسة اضعاف ما كانت عليه قبل الحرب ولكن الرخاء كان عاما لان الانجليز بعد ان كانوا قد حددوا اثمان القطن في السنتين الاولين من الحرب تركوها حتى وصلت الى اربعين وخمسة واربعين جنيها للقنطار دب القمح يصل الى سبع او ثمان جنيهات. وبقيت ايطاليا مدة طويلة وهي محايدة. فكانت تمولنا بكثير من المصنوعات. ولذلك لم يزد ثمن البزلة على ثمان او تسع جنيهات. واحدثت اثمان القطن المرتفعة هوسا عاما في الريف حتى بلغ ثمن فدان خمسمائة جنيه وايجاره اربعين وخمسين جنيها وبديه انه في مثل بلادنا حيث منع الانجليز تأسيس المصانع يجب ان ترتفع اثمان الارض كلما زاد النقد المتداول. اذ ليس هناك شيء اخر لاستغلال الفائض واعرف اثنين شقيقين في الريف كانا يتاجران بالقطن في الف وتسعمائة وتسعة عشر. قد عمهما الهوس بشأن الزيادة المستمرة في اثمانه خسارة يجمعان منه يكنزان حتى اصبحت ثروتهما كلها قطنا لا يملكان شيئا غيره. وكان يعرض عليهما الثمن العالي فيرفضان انتظارا لارتفاع الثمن الى خمسين او مئة جنيه في هذه الامال والاحلام. واذا بالثمن يهوي الى اقل من اربعة جنيهات. فكن احدهما ومات الاخر. ان كثر الانتحار بين المضاربين على اثمان القطن في بورصة الاسكندرية. وفي اثناء هذه الحمى كانت الثروات الضخمة تتكون في ايام او اسابيع. وقد كان هناك تجار يشترون البيض او او يتجرون في البهايم. فلما رأوا ان القطن صعد الى السماء اقبلوا عليه فلم يكن يدور والعام على احدهما. فيما بين الف وتسعمائة وثمانية عشر والف وتسعمائة وتسعة عشر حتى كان يملك عشرينا او ثلاثين الف جنيه. مع ان كل ما كان يملك في بداية تجارته لم لم يكن يزيد على مائتي جنيه. وكان بعض هؤلاء يتناسى قديمه ويزعم انه اصيل عريق في الثراء وبعض كان يتبجح كان يتبجح بعصاميته وانه جمع ثروته بذكائه. او كما كان يقول بذراعه وكلاهما كان كاذبا. لان كل ما في الامر ان الحظ رفع كما خفض غيرهم. وكانت الحرب تسير في سلحفاة بطيئة خالية من الاقتحامات حتى كاد الناس يعدونها شيئا مألوفا ليس هناك ما يدعو الى ان يتغير فقد حفرت الخنادق من الجانبين في الاقليم الشمالي من فرنسا وجهزت بالاثار سوى المصابيح الكهربائية ونظمت بينها مواصلات وحصنت بالاسمنت. وعم الجهة الغربية ركود حتى صارت عبارة كل شيء هادئ في الميدان بالمقارنة الى سكون الاولى في الخنادق. وحاول الالمان ان يحركوا الجبهة الغربية بالهجوم الكبير على فردان. ولكنهم لم ينجحوا الا في قتل عشرات الالاف من شباب الالمان والفرنسيين. والواقع انه لم يكن في اخبار الحروب الاولى بعد الهجوم البرقي الالماني الاول مما بقي اثره سوى ثلاثة اشياء هي دخول امريكا في الحرب ثم انفصال روسيا بنظامها الجديد. واخيرا شروط ويلسون التي احسسنا بها كاننا نفتتح عصرا جديدا للسلام والعهد. وكان اهم ما في هذه الشروط حق تقرير المصير للشعوب التي يستعبدها الاستعمار. ان كانت عصبة الامم احدى ثمرات لجهاد وولس السلام العام قد ظهر ويلسون بمذهبه الجديد كما لو كان نبيا. فان العالم الذي كان يئن من الامبراطورية البريطانية استراح استروح نسيما منعشا من هذه المبادئ التي تقول بالمساواة والحرية وتقرير المصير. علقت هذه المبادئ باذهاننا وصرنا نلهج بها ونفكر فيما نستطيع ان ننتفع منها وكان الساسة الانجليز يتململون من هذه المبادئ ولكنهم لم يستطيعوا منعها وانكارها. قد عادوا الى مثل هذه الحال في الحرب الكبرى الثانية عندما دعا الرئيس روزفلت الى ميثاق الاطلنطي والحريات الاربع. وقد قبلوا مبادئ غولس ثم مبادئ روزفلت بالقول معنية نقضها بالفعل. وكان فلس يسير في اوروبا وينتقل من عاصمة الى اخرى والجماهير تحت شدلاه. وتتلقاه في خشوع ديني حتى كان بعضهم يكسو على الركب على ارصفة المحطات كان الكاتب الفرنسي رومانو رونال في سويسرا وقد غادر فرنسا احتجاجا على الحرب. قد كتب له خطابا مفتوحا قال فيه انت وحدك ايها الرئيس جميع اولئك الذين يحملون الواجب الرهيب لقيادة الامم. انت وحدك تستمتع بسلطة روحية عالمية. لانك توحي الثقة العامة. اجب نداء هذه الامال الحارة وتناول هذه الايدي التي بسطت اليك فاجعلها تصافح بعضها بعضا. لان الامم اذا وجدت انها خذلت في هذه الوساطة فانها ستتفرق وتهيم في فوضى ثم لابد ان تتحطم في الشطط. وعندئذ تنغمس الشعوب في الدماء وتنكافئ الاحزاب القديمة الى رجعية دموية والوارث لجورج واشنطن وابراهيم لين كولين. هلم الى الراية وهم وهي ليست راية حزب او راية امة. وانما هي راية العالم كله. وادعوا ابى الشعوب الى برلمان البشرية. وارأس انت هذا البرلمان بالسلطة الكاملة التي هي حقت لما لك من وجدان روحي سامي. ولما لامريكا من مستقبل عظيم تكلم تكلم الى الجميع. ان العالم متعطش الى صوت يعلو ويغمر تخوم الامم وطبقاتها. كن الحكم للامم الحرة حتى يعرفك المستقبل انك كنت المصالح بينها وليس من شك في ان مبادئ اليسون الاربعة عشر كانت من اكبر العوامل لثورتنا في الف وتسعمائة وتسعة عشر كان ويلسون يحاول تغيير العالم كان يؤمن برسالته في جد وشرف ولكن الرجل في شرفه وسجاجته لم يقدر عتو للام والخسة في الامبراطوريين كلمنصو ورئيس فرنسا ولوي دوجورج رئيس وزارة بريطانيا. قد سيره هذان الاثنين واوهماه بالموافقة التامة على مبادئه كي يلقى بكل القوة الامريكية في كافة الحلفاء ضد المانيا حتى اذا تم الانتصار بفضل هذه القوة الانجليز والفرنسيين تنكر هذان الاثنين لا وكان من الفكاهات التي يتنادر بها الفرنسيون في حمق مرعونة قول كلمنصو وقت المفاوضات انني في مأزق. فعن يميني نابليون وعن يساري المسيح وهو يعني بنابليون لويد جورج في زعمه انه بطل. وبالمسيح وولس في زعمه انه مصلح للعالم. ونحن الان في الف وتسعمائة وسبعة عندما نذكر هذه المفاوضات في الف وتسعمائة وتسعة عشر ندرك ان اولسون لم يكن فقط الرجل البار بالبشر بل كان ايضا الرجل البصير ما هذان الاثنان فكانا احمقين قد طربا للانتصار ورضي بالنظر القصير. ولو ان مبادئ غلس عمت العالم لما وقعت الحرب الكبرى الثانية على كل حال ربح العالم من ويلسون عصبة الامم وصحيح ان الامبراطوريين من هذا من الانجليز والفرنسيين افسدوها واحالوها الى هيئة ميتة. عندما ايقنوا انها تعارض المذهب الامبراطوري ولكن هذه العصبة نبهت الاذهان وبقيت ماثلة امام العالم نحو عشرين سنة وهي تشهد حتى بضعفها وفشلها. على ضرورة اقامة منظمة عالمية تشرف على مصالح البشر. قد كانت هذه هي الباعث بعد ذلك لايجاد منظمة الامم المتحدة ومجلس الامن. والحق ان هاتين الحربين قد انجبت في انجبت في الميدان الديمقراطي الغربي بطلين عالميين فقط كلاهما امريكي هما غولسون وروسفيل وكلاهما دعا دعوة عالمية فعبروا عن اسم الاماني واندر الامال في السلام والعدل والشرف بين البشر. وفي العالم الان ثقافة عالمية بشرية جديدة تختمر وعن قريب ستتبلور ثم سوف تتجوهر مبادئ او ديانة عامة نؤمن بها جميعا ونقول بها ان هذا الكوكب هو وطننا هو قريتنا التي يجب النجوب شوارعها ونعرف ازقتها في القطب الشمالي. وجبال الهيمالايا في الصيف وفي صحاري افريقيا او اسيا في الشتاء. وطن عالمي جديد كبير يلغي هذا العالم المجزأ او هذه الاوطان القديمة. وكثير من الفضل في هذا الاتجاه جاه يعزى الى غولص وروسفلت ثورة الف وتسعمائة وتسعة عشر في الف وثمانمائة واثنين وثمانين حكم علينا الانجليز بمعاونة المستبدين المصريين بالموت السياسي. وبقينا في هذا الموت الى الف وتسعمائة وتسعة عشر حين بعثنا وشرعنا نعود الى التاريخ. عدنا اليه بالثورة والدم والتدمير. وكانت جميع طبقات الامة في ثورة. فان الفلاحين بعد اربع سنوات من خطف محصول فاتيم ورجالهم كانوا حاقدين على الانجليز. ان كانت الطبقة المتوسطة من الموظفين حاقدة ايضا على الانجليز. الذين منعوا الرئاسة في الوزائف عن المصري قصروها على الانجليز وعادوا بنا الى ايام توفيق حين كانت الرئاسة للاتراك والشركس دون المصريين. وطبقات الامة الفقيرة والطبقة المتوسطة ايضا كانت تململ ولذلك حين تولت الطبقة المتوسطة قيادة الثورة انقاد الفلاحون والعمال اليهم. ولكن يجب ان لا ننسى ان الوجدان الوطني لم يمت قط منذ الف وتسعمائة الف وثمانمئة واثنين وثمانين. ولكنه كان خامدا. وقد بعث في مصطفى كامل الحياة. ولكن هذا الزعيم جاء قبل اوانه ثم مات في شبابه في الف وتسعمائة وسبعة ثم كانت هناك فترة اختلاط فكري هو تراث التاريخ. مصر احد اقطار الدولة العثمانية. او مصر يجب ان تدعو الى الجامعة الاسلامية. وكان هذا الاختلاط الفكري يفتت الوطنية المصرية. فلما كانت الحرب الكبرى الاولى رأينا الانجليز يتصرفون بحظوظنا كما لو كانوا الاتا والسحاب يعلنون على العالم حماية مصر. ثم يخلعون الخديوي ثم يرتقي عرش مصر بدلا منه السلطان حسين. ثم يمنعوننا من الاجتماع او الكتابة جرائدنا حتى لا يكتب حرفا الا باذنهم ولكن بعد ذلك يصيح بنا غولسون هبوا ان لكم ان لكم حق تقرير المصير وكان اكثر الامة وجدانا بان سنة الف وتسعمائة وتسعة عشر يجب ان تكون سنة فاصلة في تاريخنا واولئك الذين عاشوا في السورة العرابية واشتركوا فيها. وكان سعد زغلول في مقدمة هؤلاء ان لوحة التاريخ المصري في من الف وثمانمائة وثمانين الى الف وتسعمائة وتسعة عشر كانت واضحة الخطوط والصور في ذهنه. فما هو ان اعلنت الهدنة حتى قصد هو علي شعراوي باشا وعبدالعزيز فهمي باشا. وكلاهما رأى الثورة العرابية ايضا وعاش في سنين الخزي الوطني التي اعقبتها او في العصر الجليدي للوطنية المصرية. قصدوا الى دار المندوب السامي البريطاني وطلبوا في الحاح الاذن لهم بالسفر الى لندن يطلبوا استقلال مصر ولكن المندوب السامي كان يفكر في طيار اخر هو استعمار مصر. ولذلك لم يسغ هذا الطلب ورفضه وشرع سعد يبعث في الامة وجدانا بالظروف الجديدة التي تجعل طلبا اساسيا لا نقبل دونه شيئا اخر. وسارت في البلاد موجة من السخط على الانجليز. واعتقل الانجليز سعدا ورفاقه ونفوهم الى مالطى في في مارس الف الف وتسعمائة وتسعة عشر وزاد السخط وكثرت الاضرابات من الطلبة والموظفين وقطعت السكك الحديدية واسلاك التليفونات وعندئذ ازن الانجليز بسفر الوفد اي سعد ورفاقه الى باريس كما ارسلوا لجنة انجليزية برياسة الاستعمار القارئ القارح الميلنر لتحطيم الحركة الوطنية باغراء عناصر اخرى. غير اعضاء الوفد حتى يقبلوا الحكم ويضربوا الامة بالحديد والنار كي تقبل الاستعمار البريطاني وتخضع له. ووصلت لجنة ميلنر الى مصر في ديسمبر الف تسعمائة وتسعة عشر وكان سعد ورفاق اي الوفد المصري في باريس فكان ارسال هذه اللجنة بمثابة التلصص على الحركة الوطنية او الدخول اليها من الباب الخلفي للاتفاق مع العناصر التي ليست مع سعد. ولكن الشعب قاطع هذه لجنة بل ان محمد سعيد باشا رئيس الوزراء استقال احتجاجا على ارسال هذه اللجنة مع وجود الوفد المصري في باريس. واستطاعت لجنة ميلنر وهي في مصر ان تقنع عدلي باشا بالمفرد فوضى مع الانجليز وكان سعد الوفد وهما في باريس يطالبون باستقلال مصر مع باعتبار هذا الاستقلال جزءا من مفاوضات الصلح في العام الف وتسعمائة وتسعة عشر وسافر عدلي الى سعد واقنعه بضرورة السفر الى لندن في مايو من الف وتسعمائة وعشرين للمفاوضة. وهنا تغير موقفنا. وقد كان سعد والوفد يطلبان حكم الاستقلال باعتباره من القضايا التي تتجاوز حق الانجليز او حق استئثارهم في بحسه. وان الدول المجتمعة في باريس اي الولايات المتحدة وفرنسا وسائر الدول الصغرى لها حق البحس لهزا الموضوع الى جنب بريطانيا. ولكن عدلي نقل هذه القضية من هذا الموقف الرحب الى موقف حرج هو المفاوضة مع الانجليز فقط. وتقهقر القضية المصرية خطوات الى الوراء بهذا الموقف الجديد. وسافر الوفد المصري الى لندن وطلبنا نحن الاستقلال وطلب الانجليز الاستعمار. وهذا هو ما كان ينتظر وكان الانجليز يرمون الى تضعض الروح الوطني بمرور الاشهر حين يجد المصريون ركودا وهمودا فتموت الحركة الوطنية. وعاد سعد سعد الوفد المصري الى مصر وشارع سعد يبعث الحرارة والنشاط في الامة بالخطب والمنشورات. ان كان عدلي قد فشل في مفاوضاته مع الانجليز. وقد وصف سعد هذه المفاوضات ان جورج الخامس يفاوض جورج الخامس. من كثرت الاضرابات فعمد الانجليز الى العنف والعسف والقوا القبض على سعد ورفاق ونفوم الى في الف وتسعمائة واحد وعشرين الى سيشن واتبع الانجليز سياستهم فيه وهي الاغراء فاعلنوا استقلال مصر في الثامن والعشرين من فبراير عام الف وتسعمائة واثنين وعشرين بشروط اربعة هي حق الانجليز في واحد حماية المواصلات الامبراطورية في مصر. اثنين الدفاع عن مصر ضد اي اعتداء اجنبي. ثلاثة حماية الاجانب والاقليات. اربعا بقاء السودان على ما كان عليه. وفي التاسع عشر من ابريل عام الف وتسعمائة وثلاثة وعشرين اختارت الحكومة ثلاثة من الاشخاص البارزين. فوضعوا الدستور المصري وكان سعد ورفاقه قد اعيد من المنفى وتولى هو اولى الوزارات الدستورية في الف وتسعمائة واربع وعشرين. وفي سنوات الثورة هذه في الوقت الذي كان يعمل فيه سعد ورفاق ويهدم فيه خصومه ما يحاول ان يبنيه في هذا الوقت كان الشعب يختمر ويبني روحا جديدة. قد حفزت مبادئ ويلسون وكان الطلبة والموزفون والتجار يتناقشون فيها ويجدون فيها ايحاء لمكافحة الانجليز وتحقيق الاستقلال. ان كانت المظاهرات من الطلبة والنسوة بل كانت الغزوات من على السكك الحديدية واسلاك التليجراف. كل هذا على ما وقع فيه من شطط كان يبعث النشاط في الامة. وكان خروج النسوة في المظاهرات ليس ثورة على الانجليز وحدهم. بل كان ثورة ايضا على الف سنة من ظلام الحجاب. قد كن يخرجن مقنعات بالبراقع البيض في المظاهرات الاولى. ولكن لم تمض اشهرا حتى كنا قد خلعنا البراقع متى الفت منهن لجان في الوفد ومن القصائد التي نظمها حافز ابراهيم قصيدة في وصف المظاهرات الاولى للسيدات المصريات في الف وتسعمائة وتسعة عشر وكان الانجليز لا يأنفون حتى من ضربهن كما كانوا يفعلون بمظاهرات الطلبة قال حافظ خرج الغواني يحتجن ورحت ارقب جمعهن فاذا بهن تخدن من سود الثياب شعارهن فطلعن مثل كواكب يصطعن في وسط الدجينة واخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهن يمشين في كنف الوقار وقد ابدن شعورهن واذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الاعنة. واذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهن. واذا المدافع والبنادق والصواب الاسنة والخيل والفرسان قد ضربت نطاقا حولهن والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهن. فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الاجنة وتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن منهن ثم انهزمنا مشتتات الشمل نحو قصورهن فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهن فكأنما الالمان قد لبسوا البراقع بينهن واتوا بهند نبرج مختفيا مصر يقودهن فلذاك خافوا بأسهن واشفقوا من كيدهن وكنا في تلك الايام لا نستطيع السفر الا باذن من وظف انجليزي ولو كان الانتقال لا يتجاوز ما بين القاهرة وبنها. واذكر اني حين اردت الحصول على هذا الاذن دخلت على الموظف الانجليزي فاجابهني بقوله استكلال بلهجة التهكم. وكان الاقباط يدا واحدة مع المسلمين ولم تنجح دسائس تفرقة حتى كان الشبان المسلمون يخطبون من منابر الكنائس والشبان الاقباط يخطبون من منابر المساجد. وقد عرفت بعد ذلك انه كان في الثورة العرابية وكان بديهيا ان يقتل بعض الانجليز من الابرياء في مثل هذا الاختلاط. لان الانجليز ايا كانت شخصيته كان رمزا للاستعمار. ولكن الانجليز اذا كانوا وحشوا وحويشا يهاجمون القرى ويصبون البنزين عليها ويحرقونها. وكانوا عقب تحطيم الترماي ونزع قضبانه في القاهرة يقبضون على الافندية او نوم على الارض ثم يجلدونهم. وبعد الجلد يجبرونه على العمل في ترميم القضبان المنزوعة. وحدث انقطع الخط الحديدي للدلتا فيما بين الزقازيقان ميت غمر انقصد الجنود الانجليز الى مكان القطع واحتشد الفلاحون المساكين نساء ورجالا واطفالا في سذاجة في ذلك المكان. والاغلب انهم لم يشتركوا في قطع هذا الخط لكن الانجليز عندما اقتربوا منهم صوبوا عليهم البنادق وقتلوا منهم عددا كبيرا. وكان هذا التقتيل في في المصريين نسي الانجليز وزكروا فقط العدد القليل من قتلاهم. فانشأوا المحاكم العسكرية لمحاكمة المصريين الذين اتهموا بقتلهم. ان كانت هذه المحاكم تحكم بالاعدام وما زلت اذكر نادرة مضحكة وقعت لي في تلك الايام. وقد ركبت حمارا من الزقازيق اقصد الى العزبة. وبينما انا في الطريق خرج الي احد الفلاحين من حقي من قريب او اخبرني ان الانجليز يرممون الخط الحديدي على مسافة ففهمت انها تبلغ تبلغ نحو كيلو متر. واقترح علي ان اختار طريقا اخر انهم اذا اكتستوا بهم سيلقون القبض علي ويجبرونني على العمل معهم في الخط الحديدي. وبينما هو يحدثني خرج علي صبي وعرض علي ان اشتري منه ثروة ذئب فنفحته بقرش واخزت الجرو وسرت في بطء افكر في طريق اخرى اتجنب بها الانجليز ولكن الفلاح الذي اوهمني ان بيني وبينهم نحو كيلو متر كان مخطئا. او هو لم يحسن التعبير عن المسافة لاني وانا لا ازال في التفكير عن طريق اخرى خرج علي انجليزي من خلف جميزة غليظة وهجم علي وجراني في عنف الى الارض وطلب مني العمل مع سائر من قبض عليهم. ان كان الجرو لا يزال بيدي فقلت له هل لك ان تأخذ هذا الذئب وتخلي عني فلم يصدق انه ذئب. ولكنه بعد ان لوح بيده امامه وكشر له الجرو عن انيابه سلم بانه ذئب وقبل بل زاد عليها ان حمل الجرو وانا على الحمار وحرسني من زملائه حتى اجتزت مكان الترميمات وسرت في طريقي وانا اتعجب من هذه الحسنة وفضل هذا الجرو عليه وتبرز في ذهني ثلاثة اشياء من ثورة الف وتسعمائة وتسعة عشر اولها الاكبار العظيم للموقف الوطني الذي اتخذه الاقباط ورفضهم اية مساومة مع الانجليز بشأن حماية الاقليات. فان شباب المسلمين وكهولهم كانوا لا يزالون يذكرون موقف الحزب الوطني وما كان يدعو اليه من الجامعة الاسلامية ونفور الاقباط من هذه الدعوة. ولذلك كانوا يتشككون في موقفهم في الف وتسعمائة وتسعتاش ولكن الاقباط كانوا على الدوام في المقدمة. اي كان منهم كاهن هو القسيس سيرجيوس الذي كان لا يبالي ان يقول ويكرر القول بانه اذا كان استقلال المصريين يحتاج الى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية. وعندما كانت لجنة الدستور تبحس قانون الانتخاب طلب توفيق دوس باشا ان تكفل حقوق الاقباط في الانتخابات بالتعيين اي اذا لم ينتخب منهم العدد الذي يمثلهم فان الحكومة تعين حينئذ عددا من الاقباط حتى لا يكون هناك نقص في التمثيل فهببنا نحن الشبان في ذلك الوقت نزيف هذا الرأي ونقول بالاكتفاء بالانتخاب والشيء الثاني الذي يبرز في ذاكرتي من هذه الثورة هو وثبة المرأة المصرية من الانوثية والبيت الى الانسانية والمجتمع وقد مزق الحجاب وشرعنا جميعا عبد المرأة المصرية انسانا له حقوق الانسان بعد ان كنا نتكلم عنها باعتبارها ربة البيت او الزوجة او غير ذلك من الصفات التي كنا نصف بها المخدرات. وقد زالت هذه الكلمة الان من لغتنا اما الشيء الثالث فهو النهضة الاقتصادية التي اثمرت بجهود طلعت حرب وغيره بنك مصر وسائر توابعه من الشركات الكبرى. وبهذا البنك مسخت من عن جباهنا التي كان يعيرون بها المستشار المالي برونايت بقوله انه ليس من بين المصريين من يعرف اعمال البورصة. هذا في شؤوننا الداخلية. اما في شؤوننا الخارجية فان ثورة الف وتسعمائة وتسعة عشر علمتنا كيف ننظر الى الدولة باعتبارنا امة مستقلة لا نجري في ذيل بري بريطانيا. ولكن استطاع الانجليز بعد كذلك ان يحطموا استقلالنا ويزيفوا دستورنا على يد زيور واسماعيل صدقي وامثالهما. ولكننا نحن رجال الذهن المتصلين بالعقل العام في اوروبا وامريكا كنا نتطلع الى افاق اخرى. ومن الحسن ان يعرف القارئ الشاب بعض اختباراتنا ومشاهداتنا في اعقاب الحرب الكبرى الاولى. ويقارنها بما رأى هو في اعقاب الحرب الكبرى الثانية ففي الف وتسعمائة وتسعة عشر كانت مبادئ غوص مذهبا جديدا يشبه الدين المدني الجديد للبشر على كافة الارض ان كانت حماستنا لهذه المبادئ احر من الحماسة التي تلقى بها العالم مبادئ روزفلت في ميثاق الاطلنطي والحريات الاربع. وظني ان من اكبر الاسباب لخمود الحماسة هنا هو ما لقيه العالم من التزييف والتعويق المبادئ وولسون في الف وتسعمائة وتسعة عشر وقد حدثت ثورتان في الحرب الكبرى الاولى في الف وتسعمائة وسبعة عشر في روسيا حين تسلم الشيوعيون الحكم والغوا الامتلاك الشخصي للعقارات وهاج الامبراطوريون في فرنسا وبريطانيا وبولينيا وايطاليا وانفاز الجيوش الى روسيا لقتل هؤلاء الشيوعيين بل انهم استخدموا الجيش الالماني المقهور لهذه ايضا ومما لا نزال نذكره ان اتلي وبيف وهم من اعضاء الوزارة البريطانية الحاضرة في الف وتسعمائة وسبعة واربعين كانا يحرضان العمال على عصيان الحكومة في شحن الزخائر والاسلحة الى روسيا. ونجح في ايجاد اضراب في الموانئ الانجليزية وفشلت شرشل في تهيئة حملته على روسيا لهذا الاضراب واحدثت الثورة الروسية دهشة عامة. وكان الامبراطوريون ينشرون الدعاية ضدها بالوان مختلفة. مثال ذلك ان الروس قد الغوا الديانة والزواج هذا هو عاقبة الالغاء للامتلاك الشخصي. ولكن اهم من الثورة الروسية في نظر الجمهور المصري تلك الثورة التركية التي قام بها مصطفى كمال. حين الغى عرش كما قطع علاقة تركيا بالشرق. ذلك اننا منذ الف وثمانمائة واثنين وثمانين كنا نتطلع الى تركيا باعتبارها دولة الخلافة. وكنا نأنس الى ان لم يتحقق قط هو انها يجب ان تحمينا وان ندخل في حظيرتها ونكون معها سلطنة عثمانية كبرى فلما جاء مصطفى كمال يهدم الاسس ويوجه الاتراك نحو الغرب بدلا من الشرق. ويلغي الخط العربي ويستبدل به الخط اللاتيني. ويفصل الدين من الدولة وينفض العرب ربيعا تركيا الجديدة لما لما احدث مصطفى كمال هذه الاحداث تنبه التقليديون في مصر الى احتمالات سياسية اخرى. وانحازوا الى الاستقلال المصري باعتبار انه كل شيء في اهدافنا السياسية وفرق عظيم بين هذه العقلية الجديدة وبين العقلية القديمة التي كان يتسم بها الشيخ علي يوسف في المؤيد حين دعا حوالي الف وتسعمائة وسبعة الى ان ترسل مصر مبعوثيها الى نوابها الى مجلس المبعوثان في الاستان. بل كانت هزه عقلية مصطفى كمال ايضا. انه كانا يفسران الاستقلال المصري بانه انضواء الى راية العثمانية. وبالطبع كان الاختلاف كبيرا بين الجمهور المصري بشأن ثورة اللينين وثورة مصطفى كامل. ولكن الشعور العام ازاء هاتين الثورتين ان العالم القديم يحطم الاغلال وينطلق في حرية جديدة. ولا عبرة بانه في انطلاقه هذا يتعثر رويكبو لانه سوف ينهض ويستقر. وقد بعثت فينا هاتان الثورتان تفاؤلا عظيما كما بعثتها تشاؤما عظيما ايضا عند المستعمرين الانجليز ومن هذا التفاؤل اني انا وبعض الاخوان الفنا حزبا اشتراكيا في الف وتسعمائة وعشرين حاربتنا الحكومة بشأنها حتى قتلته. اما حال المانيا كانت شنيعة فان عقب الهدنة مع منع الانجليز وصول الاقوات اليها احد عشر شهرا حتى قيل ان جميع الاطفال هناك اصيبوا بالكساح. ثم هبت ثورة سبارتا من تحقيق الشيوعية في يناير في من الف وتسعمائة وتسعة عشر ولكن فشلها كان عاجلا وخاصة بعد قتل الزعيمين كارل بنيخت وروزال ثم جاء بعد ذلك انهيار المارك الالماني وقد خسر فيه الاف من المغامرين المضاربين في مصر وغيرها حين انزله الالمان الى الصفر. واخرجوا جديدة. فكنا نرى في مصر كيسا من الاوراق يحمل احد هؤلاء المغامرين ويقول انه كلفه الفا او خمسمائة جنيه. وهو الان لا يساوي مليما وقد جاءت هذه الاحداث عقب الحرب الكبرى الاولى في تواتر فكانت مجالا للتأمل والتفكير والحديس. مبادئ غولسون الثورة الروسية الثورة المصرية الثورة الالمانية وثورة مصطفى كامل. ولكن كل هذه الاحداث لم تكن شيئا في جنب القنبلة الذرية في اغسطس من سنة الف وتسعمائة وخمسة واربعين لان هذه القنبلة تلقي من الان ضوءا او ظلا على مستقبل البشر بعد الف بل الاف السنين زوجة واطفال لم اكن طوال عزوبتي افكر في الزواج ولكن كانت امي تلح علي كما هو الشأن في جميع الامهات. ان كنت من وقت لاخر استمع لندائها وازور هذا البيت او حتى اذا اوشكت ان اجد الفرصة وان كل شيء مهيأ لاتمام الزواج كنت افزع وافر بالسفر او اتمحل الاعذار الكاذبة وماتت امي في الف وتسعمائة وستة عشر كنت في الثامنة او التاسعة والعشرين. فلم اعد اجد الحافز الى التفكير في الزواج. وبقيت على ذلك الى الف وتسعمائة وثلاثة عشرين وليس شك انه كان للصدمة التي لقيتها ايام حبي لتلك الفتاة الايرلندية وانا في انجلترا اثر في كامنة لكراهة او تجنبه للزواج. الم يكن اقترح عليه احد الزواج بعد هذه الصدمة الا وان تنهدوا في حسرة واسى. ثم يصدوا في صمود وعزوف ولكن في الالف وتسعمائة وثلاثة وعشرين زرت مع صديق لي بيتا لبعض اصدقائه. فوجدت هناك فتاة قد اينع شبابها كانت لا تزال بالمدرسة. وقد قعدت الى مكتبها وهي مشغولة بالكراسة والكتاب والقلم. وتحدثت اليها قليلا عن مشاغلها المدرسي. ونهضتها واودعت وفي نفس هواجس. وفي اليوم التالي وفي نفس الميعاد حملت صديقي على معاودة الزيارة. وادراك هو مأربي واستجاب لرغبته في سروره وبقيت معها في هذه الزيارة ثاني اكثر من ساعتين. ثم تجرأت بعد ذلك على ان ازورها وحدي وتجرأ والدها على ان يتركنا معا. وبقيت نحو خمسة اشهر لما انقطع عن زيارتها يوما واحدا. وايام الخطبة تعد من اسعد الايام لان الخطيبين يحسان انهما في مؤامرة سرية يرتكبان فيها المخالفات للعرف والقواعد الاجتماعية وفي الخطبة نحوم ولا نرد ونحسو ولا ولا نعيب. فيزيدنا هذا شوقا من يوم الى يوم قد تعلمنا طرقا في التخلص من احد الوالدين او احد الاخوة. وكنا نجد لذة عظمى في ممارسة هذه الطرق وخاصة حين كان احدنا خبرا يؤدي الى جلاء هذا القاعد الذي لا يريد ان يفهم اننا نرجو خلوه وعقب الزواج وجدت صعوبتين. اولهما اني احترف الادب والصحافة. ويتعلق بالقراءة وهوايته هي الثقافة والزوجة تعد الانفاق على الكتب اسرافا ثم هي ايضا لا تطيق رؤية زوجها وهو غارق في كتابة طوالا للوقت او معظمه في البيت. وخاصة اذا كانت هي لم تتعود ادمان القراءة والصعوبة هي هي التفاوت العظيم بينما استوياننا الثقافي فان الانجليز كانوا قد حرموا التعليم الثانوي ولم يكن في القطر المصري كل مدرسة ثانوية للبنات تديرها وزارة المعارف الى سنة الف وتسعمائة وخمسة وعشرين وكانت زوجتي قد تعلمت في مدرسة فرنسية من تلك المدارس التي تديرها الراهبات ويتجه فيها معظم العناية الى التعليم الديني ولذلك وجدت انه للتغلب على هاتين الصعوبتين ان اشرع في تعليمها من وجديد. فصرت اشركها فيما اكتب واناقشها في جميع الموضوعات الثقافية التي اهتمت ان كل زوجة تهتم بحرفة زوجها. لما كانت حرفته الصحافة والادب والعلم فانها اضطرت الى تتبع نشاطه حتى ارتفعت ارتفعت على مستواها السابق كثيرا وبهذا صح الوفاق بيننا بل اكثر من ذلك اذ هي قد اصبحت صديقاتي كما هي زوجاتي. وظني ان خير طريق الى الصداقة الضرورية بين الزوجين في مصر ان يرفع الزوج زوجته الى مستواه الثقافي. اذ هو حين يقصر في ذلك يجد ان التفاهم معدوم او ملتبس. فلا يكون الحديث بينهما الا في الشئون التافهة ويعودان وكل منهما يعيش في العالم منفصل من العالم الذي يعيش فيه الاخر. الصداقة التامة تحتاج الى التكافؤ الثقافي بينهما او ما يقاربها. ومن مع الدكتور كامل لبيب الفت كتابا عن ضبط التناسل انصح فيه بمنع الحمل الا عن وجدان ودراية بما يتفق ومصلحة الوالدين والاطفال ولكني مع ذلك اجد عندي ثمانية من الاولاد. حتى يصح ان اواجه بالبيت القائل في احد شطريه. هلا لنفسك كان ذا التعليم. ولكن هناك ظروفا واعادة المخالفة للكتاب الذي الفتوه قهريا فان الاطفال الاربعة الاولين كانوا اناثا. كان الشوق الى ولد ذكر حتى انجبناه اما من زادوا فكان سبب وجودهم نقصا صيدليا في منع الحمل. وللرأي العام في ايثار الزقور على الاناث قوة تجعل ام البنات تحس كانها موسومة وتشتاق صونا لكرامتها الى ان تلد ذكرا. وهذه غريزة اجتماعية عامة. وقد عاش اولادنا جميعا ولم يمرض احد. وانا اعزو هذا الى اننا تعودنا من سنين ان نشرب اللبنانية ان لا يوضع على النار بتاتا ولم يحدس قط ان احتجنا الى ان نغير هذه العادة. وقد وجدت من نحو عام مقالا لاحد الانجليز يدعو فيه الى تناول اللبن نيان ويقول بان غليه على النار يفقده لميزات تقريب الاولاد في البيت حين حين يرفرفون ويغردون يملأون الجو حياة بل يزيدون الحياة حيوية. وليس شيء اجمل الذ من رؤية الذكاء ينبجس في الطفل وهو في سنينه الاولى حتى يسأل ويستطلع. والاطفال احيانا عذاب جهنمي عقب الغذاء او وقت القراءة قراءة او الكتابة ولكنه عذاب حلو. سرعان ما ننسى الامه. ان الابتسامة التي تشرق على وجه الطفل تضيء الجو وتقشع كل ما تكاثف فيه من غيوم والانسة الصغيرة التي اشترت فستانا جديدا تسير به في خيلاء وطرب كأنها في عيد تملأنا سرورا وبهجة ومنذ ان شببت عن الطفولة كانت تمر بي الاعياد فلا اعرفها الا من الجرائد او الاصدقاء الى ان امتلأ البيت بالاولاد فعادت الاعياد مهرجانات فيكون ومنها صداعا قبل ميعادها بشهر. ونحن في مساومات بشأن البذلة الجديدة والحزاء الجديد والفستان الجديد. حتى اذا كان يوم العيد زهى البيت بالاحمر والاخضر وامتلأ ارضه بقشور النقل وضج هوائه بالصواريخ جاوبت جدرانه بصيحات الحماسة والسرور. لكن الاولاد مع كل هذه المسرات يحملون الاباء باعلى النقوص بدلا من الاقدام وعلى البخل بدلا من السخاء. قد يقال انهم يزيدون مسؤوليات الاباء ويجعلونهم اجتماعيين بعيدين عن الشزوز او الانحراف الاخلاقي والاجتماعي هذا القول صحيح. ولكنه يحمل في طياتيه ايضا معنى الجبن والخوف من الاقتحام لان الاب يفكر كثيرا ويقلق كثيرا بشأن المستقبل. مستقبل اولاده وليس مستقبله. وهذا التفكير او القلق يحيله من حيوان حر جريء ينطلق في مفاوز حياتي ويقتحم غاباتها الى حيوان مدجج كانه دجاجة لا ينشد غير السلام. ولذلك من الشاق وكل المشقة ان ينشد المجد الذي يحتاج الى ان نرقى اليه السماوات رجل متزوج له اولاد وحين نحترف الادب نحتاج الى شجاعة قد تحملنا على الا نبالي الرأي العام وعلى ان نجحد التقاليد ونخرج عن السنن. لان الاديب الحق يجد انه تاج في بعض الاوقات الى ان يغير القيم والاوزان الاجتماعية والاخلاقية. ان يجهر بما يجبن غيره عن الجهر به. ولكنه حين تحدثه نفسه بذلك يجد نداء العائلة اي الزوجة والاولاد صارخا في وجدانه قف لا تتذكر ابنتك هذه التي ستتزوج بعد عام او عامين فينقص في جبن وفلة وصوت الزوجة هنا هو صوت الضمير الاجتماعي الكامن والزوجة في البيت تمثل المجتمع بعاداته وعرفه وشعائره. فاذا صار الزوج حاول ان ينفصل يطير ويحلق غير ابه للمجتمع جرته هي الى الارض. ولهزا السبب اثر كثيرون من المفكرين والادباء والعزوبة على الزواج. بل احيانا ولا احيانا وقفوا فيما يشبه منتصف الطريق بين العزوبة والزواج. كما فعل هافلوك اليس فانه تزوج ولكن بالاتفاق مع زوجته عاش كلا منهما ومستقلا في منزله الخاص. كما انه ما امتنع عن التناسل. قد قرأت سيرتيهما كما كتبها كل منهما وكانت كتبها ثالث اتصل بهما ووجدت انهما نجحا في تحقيق الحرية التي ابتغياها وعاش كل منهما في استقلال فكري وفني وفلسفي. وهذا الانفصال بينهما في العيش زاد رباط الحب والصداقة قوة بينهما. حتى لقد روي عنهما ان شخصا لا يعرفهما رآهما في القطار معا فظن انهما خطيبان. وذلك لما رأى من سلوكهما الغرامي وفرة الكلمات والايماءات التي كانت تدل على شوق حفرة وحب عميق مع انهما كانا قد مضت على زواجهما سنانين. ولكن يجب ان نقول اني احسست عقب سيرتهما ان الزوج استمتع بالاستقلال والعزلة ولكن الزوجة تألمت منها كثيرا حتى انها وقعت او اوشكت ان تقع في الهاوية الشزوز الجنسي مرة وفي هاوية الانتحار مرة اخرى ولكن قد يعترض هنا بان المركز الاجتماعي للمرأة في الحضارة القائمة لا يتيح لها الاستمتاع باستقلالها لانه اي هذا الاستقلال كثيرا ما يكون غرما كثير ما يكون غرما لها بدلا من ان يكون غنما اذ هي محرومة من كثير من الفرص التي تكسب الرجل كرامته الاقتصادية والاجتماعية. وانا اسلم بكثير من هذه الحجة ولكني اكتب في حدود الحضارة القائمة وشخصية الاديب الصميم هي سيكولوجيا شخصية سكيوبائية. اي انه المجرم سواء. ولكن الفرق بينهما ان المجرم ينحرف الى اسفل المجتمع ينحرف الى اعلى كلاهما متقلقل متأفف نازع الى الشزوز لا يرضى باوزان المجتمع وقيمه. كلاهما مكروه من الرجل العادي. كما ان العائلة من الكبرى التي تحول دون الاجرام كذلك هي ايضا من العوامل الكبرى التي تحول دون الادب او تعوق رسالته. او بكلمة اخرى تعمل العائلة للاعتدال تحول دون الشطط الاجرامي والعبقري معا. وكل ارتباط هو في معنى ما تقيد فان الارتباط بالمذهب او بالحزب السياسي يقيد الاديب ويحد من حريته. ومن هنا دعوة الدوس بهوكسولي الاديب الانجليزي واندريه جيد الاديب الفرنسي الى الانفصال. اي يجب ان ينفصل الاديب من الاحد والمذاهب ويستقل في فنه وتفكيره. والحق ان لهذا القول وجها بل وجوها من الصواب وخاصة في عصرنا هذا. حيث نرى احزاب تستخدم الاديب لتأدية اغراضها بل احيانا اغراضها السافلة. ولكن عصرنا هذا ايضا يتسم بصراع روحي بين الحق والباطل. والاديب الذي تنفذ بصيرته الى الى صميم هذا الصراع يقف على البيانات والمعارف انما يكفر بحرفته وفنه. اذ هو نقص عن الدفاع عن الحق واذن ليس هناك مجال في عصرنا لهذا الاستقلال المزعوم. وللاديب المخلص حزب كما ان له عائلة وهو يرضى بشيء من القيود يتقيد بها فنه كي يبقى متصلا بالمجتمع يدرس عن ويجعلها اساس الفن ومحور الحرفة. وقيود العائلة مع ذلك لها ما يقابلها من الميزات بما تهيئ للاديب من نظام في المعيشة لا يحصل على مثله اعزب الذي يتعود عادات التكسب. ثم اذا كانت مسؤولية الاطفال تؤخر او تنقص من الشجاعة والحرية فانها ايضا تزيد الاحساس الاجتماعي وتصل بين بين المجتمع بروابط قوية تجعله على قدرة لخدمته. الانسان يتربى بعائلته ويزداد بها فهما للطبيعة البشرية. فالاولاد الاباء كما يربي الاباء الاولاد. لاننا ونحن نربي اولادنا نصبر بالطبيعة البشرية في سذاجتها واستطلاعها وتمردها. وكل بيت هو لذلك معهد للتجارب البشرية وهذا المعهد يخرج العبيد كما يخرج الاحرار والمجرمين والعبقريين ولكني اذا كنت قد وجدت من العائلة قيودا من الحرير فاني وجدت من الحكومة المصرية بايعاز الانجليز وتسلطهم اغلالا من الحديد فهي التي منعتني خمسة عشر عاما من ان اكتب حرفا الا بعد ان يقرأه رقيب حتى ولو كان في اللغة او التاريخ او السيكولوجي. وهي التي حرمتني الا في فترات من حياتي من احترافات في الصحافة التي اهواها شخصية عرفتها حوالي الف وتسعمائة وخمسة عشر كنت بالاسكندرية مع الصحفي العجوز توفيق حبيب. وبينما نحن نتنزه على الكورنيش اتقابلنا احد الشبان وسلم في الفة على المرحوم توفيق وتعارفنا فاذا به طبيب قد عاد من باريس وشرع يعمل ولكن في غير نشاط ولذلك فهو في قلة من الكسب. وقص عليه توفيق قصته فقط قال انه من اسرة عريقة في الصعيد. وانه ورث سروة كانت تغل له نحو خمسين جنيها في الشهر. ولكنه بددها في باريس لانه اثر ان يعيش باذخا في مدينة النور والجمال عاد من باريس وهو لا يملك غير مهنته التي مضى عليه وهو يمارسها بالاسكندرية نحو ثلاث سنوات. وفي اليوم التالي تقابلنا ووجدنا فسحة من الوقت تحدثنا فيها وجدت فيه اطلاعا واسعا وخاصة في البيولوجية والتطور والنظريات الاجتماعية. كما وجدت فيه حرية فكرية لم اكن في تلك السنين اجد لها مكانا في مصر ذلك استأنس كل منا بالاخر وصرنا نعين المواعيد صباحا ومساء نلتقي ونتنزه ونتحدث واتصلت معرفتي بي بعد ذلك. كنت اكتب اليه من القاهرة وكان اذا زار العاصمة قضى كل وقته معي. وكان يعجبني منه خاصة صراحة تكاد تكون طفيلة الى ولاء للبشرية تجاوز الوطني والى حب وتقدير للحرية والثقافة الحرة وكان يكتب كما اكتب انا ايضا في الجرائد والمجلات باسمه او باسم مستعار عن شئون علمية او انسانية. فلما كانت السنين الاخيرة للحرب الكبرى الاولى انقطعت عني اخباره وظننت ان مرجع ذلك الى وفرة عمله. ولم ابالي كثيرا وقلت في نفسي اذا ذهبت الى الاسكندرية فاني لابد واجد. وذات يوم مشؤوم من سنة الف وتسعمائة وعشرين كنت في الطروماي بالقاهرة. ارأيت شخصا جاريا رص الملابس مشعث الشعر يواجهني في اخر العربة ويسلم علي فلم ارد السلام لاني ظننت انه لابد قد قصد غيري. فتلفت حولي كي اجد احدا اخر يرد عليه السلام فلم اجد. فعدت احدق فيه وعاد هو ويسلم علي وفي لحظة شعرت كان قلبي قد استحال الى كرة ثقيلة وانه يسقط في جوفي. قد فزعت وارتعدت اجل هو صديقي الطبيب. صديقي الحميم الذي احببته احبني صديقي الذي كنت اقعد معه وانظر الى عينيه فاكاد اعرف كل ما في ثناء عقله من افكار واوهام وامال. ان نهضت اليه وتكلمت قال هذا السم وانه لم يعد يطيق تركه وما اعجب ما تغيرنا تغيرنا الملابس. فان هذا الطبيب الحبيب لم يتغير شيء في وجهه اذا استثنيت شحوبا وهزالا. فملامحه الحلوة ونغمته الصوتية بريق عينيه بالايماءة يديه كل هذا كان كما عرفته منذ خمس سنوات. ولكن ما قيمة كل هذا الى جانب اللحية التي لم تحلق منذ عشر ايام. وما الى جانب القميص الابيض الذي فقد بياضه وحمل من العرق والتراب ما يدل على انه بقي على جسمه اكثر من شهرين. وما قيمته الى جانب الصدر الذي بان عنه القميص فبرزت عظامه. والى جنب البنطلون الذي تمزق من خلفه الاعلى. كنت ازاء شخصية شخصية هذا الصديق وانا احس ان الكوكايين قد فصل بيننا فكأننا من من كوكبين مختلفين. فقد مضت عليه مدة طويلة انقطع فيها عن عمله وعن القراءة الصحف وعن اختلاط بعائلته التي قاطعته. ومع اني كنت اعرف ان المدمن لهذا السم يحتاج الى معالجة طويلة. فاني اسف عليه حملني على ان اطلب منه ان فهو يقلع ولكن اجابته لهذا الطلب ردت الي وجداني وجعلتني ادرك انني ازا مريض له منطق اخر. ولم نعد نتحدس عن العلم او والادب ان كل همه معي كان الحصول على ريال يشتري بي جرعا اخر اخرجت له كل ما في جيبي وانا واثق انه سينفقه في هذا الشر. وبهذه المقابلة تجددت صداقتي له. ولكنها كانت صداقة من نوع اخر اذ كان همه الوحيد ان يحصل مني على الريال. وكنت حين القاه اسلمه المبلغ وانا اتوقى الا يراني احد لان رفاسته كانت في ازدياد حتى لقيته اذا تمرة بلا حزاء وفي احدى المرات تلقيت وكان لا يكاد يستر جسمه الا بخرق مهلهلة. فقدته الى ميتي وهناك سلمته بذلة كاملة ومع الملابس الداخلية مع اني اقصر منه فان البزلة كانت على كل حال حسنة لائقة. وقابلته بعد ذلك ولشد ما كانت دهشتي از وجدته لا يزال في الطرق المهلهلة القديمة وعرفت انه باع بذلتي. وساءت الحال حتى صرت اتجنبه ولكني لم افقد العطف والاسف عليه. وذات مرة كنت جالسا في قهوة مع بعض المعارف ورأيت وهو يدخل من الباب فادرت وجهي كي لا يراني. ولكنه لمحني ومر علينا وسلم علي فاتعاميت خجلا ممن كانوا معي خرج هو وظننت ان كل شيء قد انتهى. وانه فهم اني لم الحظه وهو يمر بمائدتنا. ولكن لما انتهت قاعدتنا وخرجت صرت قليلا ولم ابعد. فوجدت خلفي يلعن ويسب. فالتفت ورائي فوجدت صديقي الطبيب الذي اخذ ويعتب علي بكلمة الهاوية التي تردى فيها لاني تعاملت عنه في القهوة وهو يسلم علي فاوضحت له موقفي وسلمته الريال الذي اعاد اليه الصفاء واشتغلت بعد ذلك في تحرير مجلة الهلال وكان يزوروني من وقت لاخر. وفي ذات مرة جاءني وهو في اتزان لم اعهده فيه. ان كان ذلك بعد غيبة استغرق قنوات كدت انساه فيها. فلما سألته عرفت انه قد شفي من الكوكايين. وكان شفاؤهم مصادفة عجيبة بل بمأساة. ذلك انه احس ذات يوم الم في بطنه يرافقه قيء. فلما قصد الى الطبيب اخبره انه في حاجة عاجلة الى عملية لاخراج الزائدة الدودية التي التهبت. ولم تمض عليه ساعة حتى كان قد اجريت له العملية في نجاح وهو غارق في غيبوبة الكلوروفورم وللمعروف اننا لا نحس المين معا بل نحس الالم الشديد الذي ينسينا الالم الخفيف. ولذلك انساه تعب العملية وتخدير الكلوروفورم الام الحرمان من وجايين. النهضة من فراش المرض بعد خمسة عشر يوما وهو بريء من الاثنين. التهاب الامعاء من الزائدة الدودية والتهاب المخ من الحرمان من الكوكايين وفرحت بهذا الانقلاب. وان كان الاتزان الجديد لم يثبت. وقد كان يتفزز من وقت لاخر ولا يكاد يطيق الجلوس على الكرسي اكثر من دقائق. ولكن عادت اليه فعاد الدم يجري في وجنتيه. وهنا انقدح في ذهني خاطر. قلت له يا دكتور الا ترغب في خمسة جنيهات كاملة؟ فاشرق وجهه وسأل في لهفة كذلك قلت اكتب لنا مقالا في الهلال عن الهاوية كيف ترديت فيها وكيف نجوت منها وابدأ الان اذا شئت وهاك جنيها توقف في احترام او حماسة يتسلم الجنيه الذي مضى عليه بضع سنوات لم يلامس مثله كفه. وسلمته الورقة والقلم وشرع يكتب ولكن انا وهو وهو كنا واهمين فان اتزانه الذي لمحته فيه لم يكن يكفي للكتابة. لانه ما كاد يكتب خمس سطور حتى مزق الورقة ثم مزق اخرى واخرى. واخيرا تركني على وعد ان يعود ثم طلبت من قضى نحو ثلاثة اشهر ويكتب ما هذا المقال الذي لم يزد على خمسة او ست صفحات. احنا نشرنا المقال في الهلال وكان مأساة. وقرأته السيدة كريمة مدام فهمي ويصة اشترت نحو خمسمائة نسخة وزعتها على اعضاء البرلمان وكان من اثر هذا المقال ان سن قانونا جديدا لمعاقبة المتجرين والمتعاطين للكوكايين. وانتعشت رويدا صداقتنا القديمة بانتعاش صحته النفسية والجسمية. يسرنا نتواعد ونقعد معا على القهوة او في ناد. وعاد يحترف صناعته ويجد فيها شيئا من الحزب الذي يكفي للوقار في الملبس والمطعم. وهو لا يزال حيا الى الان اقعد اليه فاجد النور القديم في عينيه كما اجد اثر العاصفة التي مرت به. لكن مع انسانية والتفكير المنظم وقد بلغ الخامسة والستين وظن انه سيعيش كثيرا وسيذكر هذا القابوس الذي جثم على عقله واظلمه نحو خمسة او ست سنوات ولكن ما اضيع هذه السنوات والان بعد نحو ربع قرن من هذه الحادثة المؤلم. العودة بذاكرتي الى تلك الايام واتعجب واسأل. كيف كان الكوكايين يباع في كل مكان ويشتريه الجمهور القرش والجنيه ولا يجد اي انسان صعوبة في الحصول عليه. ثم مع ذلك كان بوليس القاهرة يعجز عن ضبط المتجارين بها اذكر اني كنت قاعدا مع بعض الاخوان ذات مساء في قهوة بباب الحديد. وشرع احدهما يتشمم هذا المسحوق الابيض. فدفعني الاستطلاع الى ان اخذ قليلا منه فاحسست انتعاشا او ولم احس اي تخدر ولما اويت الى الفراش لم احس اي ميل الى النوم. صراط اقرأ ولا ادري متى نمت. ولكني استيقظت في الصباح في الساعة العاشرة فعرفت ان الكوكايين قد ارقني اي نبهني الى الساعة الثالثة او الرابعة من الصباح. نتأخر في الاستيقاظ هو وحده الذي اذكرني اني تناولت قليلا من ذلك السم في المساء السبع السابق الثقافي واختباراته الصحفية الثقافة اما ان تكون راكدة واما مكافحة. وهي تركض حين تعالج الموضوعات لا تثير المناقشة. قد يرجع هذا الى ان المجتمع نفسه مستقر يعيش في بيئة زراعية مثلا وان حق الحكم منفصل منه حين يتولى شؤونه مستعمرون مثلا. وقد بقينا نحن على هذه الحال نحو اربعين سنة فيما بين الف وثمانمائة واثنين وثمانين والف وتسعمائة واثنين وعشرين كان مجتمعنا فيها منفصلا من الادارة الحكومية الى ان تقررت لنا حقوق بالدستور. وكان المتولون من الانجليز الذين لا تجد المناقشة الصحفيات معهم عن موضوع تعليمي وصحية واقتصادية. واذكر ان المرحوم عوض واصف حين انشأ مجلة المحيط في الالف وتسعمائة وثلاثة قال في العدد الاول ان مجلته ستعالج الشئون السياسية والحكومية فردت عليه المقتطف بانه ليست هناك جدوى لان المتولين لهذه الشئون الانجليز لا يقرأون العربية. ولكن مجتمعنا اثار المناقشة وجعل الثقافة الدينية عن طريق محمد عبده ثم الثقافة الاجتماعية عن طارق قاسم امين. موضوعا للمناقشة الحية وكانت حالنا في تلك السنين اشبه بحال روسيا ايام القيصر. وقد كان المفكرون الروس ممنوعين من نقد السياسة فاتجهوا الى الادب. وكان علينا في مصر حظر عام بشأن السياسة انتقاد الحكومة فاتجه النقد نحو المجتمع. وفي ايامه الاولى في بداية وجداني الادبي وجدت مجلات المقتطف والهلال والجامعة من المحركات الذهنية اكسبتني هذه المجلات توجيها تجديديا في العلم والادب. وكنت قانعا بهذه السقافة. ولولا حادثة دنشواية لما التفت الى السياسة ادرس اصولها واعنى بتفاصيلها في السنين العشر الاولى من هذا القرن وكانت نظرية التطور التي فهمت مغزاها من المقتطف البذرة الخصبة في السقافة وقد اكسبتني معرفة واسلوبا. وعينت لي اصدقاء وخصومي من المؤلفين مفكرين غرزت في نفسي مزاج الكفاح الى انها تصدت للعقائد والتقاليد. قد تشعها الكفاح من هذه البؤرة الى موضوعات اخرى. ولذلك لم اسعد قط البرج العاجي كما ان مغزاها القطير في التفكير العلمي والاجتماعي جعل نداء مشكك كبير الاستطلاع والمساءلة. وتغيرت الاوزان والقيم عندي. نقزت واوزان جديدة ترى على فجاجتها مقدمة السوبر مان التي الفتها وسني نحو التاسعة عشر في سنة. ففي هذه الرسالة يجدني اقول بالاشتراكية والتطور وتنظيم الدولة والمجتمع الاشتراكي لايجاد السوبر مان اي الانسان الاعلى الذي نكون نحن منه بمكان الغوريلا او الشمبانزي منا قد كان التفكير عندي في هذه الشؤون اقرب الاشياء الى ما يمكن وصفه بانه غيبيات عملية. اخذت مكان الغيبيات الدينية وقت اذ وفي السنة التي الفت فيها هذه الرسالة في الف وتسعمائة وتسعة نشرت مقالا في المختطف بعنوان نتشا وابن الانسان. وفي الهلال مقالا عن الاشتراكية التي اسميتها وقتئذ الاجتماعية وهذا الاسم الساني اقرب الى الكلمة الاوروبية من كلمتنا الشائعة الان الاشتراكية. والفت رسالة في هذه الموضوعات بعثت بها الى مطبعة المقتطف كي تطبع ردتها الي المطبعة مع نحو ثماني صفحات مجموعة وكنت في لندن واعتزرت عن التوقف عن الطبع لان القانون في مصر يعاقب على نشر هذه الاراء نزلت عن اجر الطبع للصفحات الثمان وقد كان هاربرت سبنسر يقول انه يستطيع ان يعرف المستوى الذهني لاي انسان بعد مدة قصيرة من التحدث معه. ويعنيها بهذا ان لكل منا كلمات او عبارات محورية تتكرر او يلتفت اليها الذهن كثيرا. وهي تدل على اهتمامات المتكلمة تدل على ثقافته مادة واتجاه. وحين ارجع الى نفسي عن الكلمات التي تتكرر في مؤلفات ومقالاتي اجد ان اكثرها تكرارا للتطور العالمي حرية التطور العالمي، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، المستقبل، اي انها كلمات تدعو الى تغييرنا واجد ان تفكيري في السياسة والثقافة كان على الدوام يساريا. وفي الاغلب ارتيادية. ومما يلاحظ ان جميع الكتاب في مصر بدأوا حياتهم الادبية مذهبين ارتياديين ثم انتهى كثير منهم الى ملاذ التقاليد يدعون الى الفعل الماضي بدلا من اقتحام المستقبل. كما اني اجد ان الاستعراضا ديمقراطيا في جميع ما اكتب يحملني على مكافحة الظلمات التي لا تزال حية في الشرق العربي. في الاجتماع والاقتصاد والعقيدة. ولكن لم يتغير موقفي من حيث اني كاتب مذهبي يساري يكافئ الرجعيين الذين يجدون الحكمة خلفنا لا امامنا. كما اكافح ايضا اقطاعيين الذين يعارضون الاتجاهات الديموقراطية في الامم العربية. وليس شك ان الوضع الاقتصادي الاجتماعي من حيث اني من الاقلية المسيحية اثرا في اتجاهي الثقافي اليساري. فان اليهود هم اقلية في اوروبا كانوا ولا يزالون يحملون علم الثقافة اليسارية في السياسة والاجتماع والاقتصاد وقد كانت حياتي الصحفية في مصر ثقافة الى ابعد حد وقد اخرجت المستقبل في الف وتسعمائة واربعة عشر وجعلته للكفاح الفكري. ولم التفت فيه الى السياسة واخرجت منه ستاشر عددا. وكان شبلي شميل من حريريه ومؤيديه ثم اشتغلت بالهلال ثم بالبلاغ. وفي هذه الجريدة الاخيرة اشتبكت بالسياسة. ولكن همي الاول واهتمامي الاكبر كان بالصفحة الادبية وهناك ثلاثة كتب هي نظرية التطور واصل الانسان ومصر اصل الحضارة والتجديد في الادب الانجليزي الحديث نشرتها كلها فصولا متتابعة في البلاغ قبل ان ان تجمع في كتب وجدت من عبدالقادر حمزة ليس الصدر الرحب فقط بل التشجيع ايضا على ان امضي في هذه البحوث اما الهلال فقد حررتوه في من الالف وتسعمائة وثلاثة وعشرين الى الف وتسعمائة وتسعة وعشرين. وكان من شروط عملي في ان اؤلف كل عام لقراءته كتابا جديدا اذا يقوم مقام العطلة حين كان ينقطع شهرين. وكان بعض هذه الكتب للتسلية مثل اشهر قصص الحب التاريخية. وكنت اؤديها على سبيل الواجب حرفي الحرفي ولم تكن تكلفني مجهودا ولكن كان بعضها الاخر يحملني على البحس والدراسة فكنت الف وانا اتعلم مسل حرية الفكر وتاريخ ابطالها الباطن والحق ان هذه المؤلفات التي الفتها انا بالهلال ثم بالبلاغ كان كل منها بمثابة المدرسة التي علمتني وامدتني بالغذاء الذهني سنوات حتى المقالات التي كنت انشرها في الهلال والبلاغ وجدت من الناشرين اهتماما. وطبع بعض منها ومن تنوع موضوعاتها باسم مختارات سلامة موسى واليوم والغد والحياة وفي الحياة والادب وقد سعدت بهذه المؤلفات على قلة بل تفاهة ما كسبت منها ماليا وذلك اني كسبت تربيتي كما كسبت هذا التغيير الذي وجدته فيمن قرأوها. وهي تغيير كان احيانا يصل الى التطور بالانقلاب. وفيما بين الف وتسعمائة وثلاثة وعشرين والف وتسعمائة وثلاثين اثير غبار في القاهرة بشأن التجديد في الادب. وكان كل اديب يفهم من معنى هذا التجديد غير ما يفهمه اخرون. كل سبعة كل تبعا لمزاجه واتجاهه وثقافته. واستطيع ان اعين الاتجاهات التجديدية لتلك المناقشات الحامية كما اذكرها الان فيما يلي واحد ان يكون لنا ادب مصري عصري لا يرتكن الى الادب العربي القديم. اثنان ان يكون لنا اسلوب عصري في التعبير لا يمت الى الجاحظ او غيره مع مداعبة مستحية للغة العامية وهي مداعبة لم تثمر ثالثا ان نأخذ بالاوزان والقيم الاوروبية في النقد الادبي دون اوزان الناقدين القدماء وقيمهم كالجرجان وابن الاثير وابن رشيق رابعا ان نجعل الادب يتصل بالمجتمع ويعالج شؤونها ويندغم في مشكلاته. خامسا ان نوجد القصة والدراما المصريتين. سادسا ان نجعل الادب الغاية مع عالمي المشكلات والمؤلف بالمقارنة الى الصحفي يعد ناسكا. فان المؤلف ينزوي في غرفته باحثا منقبا ولكن الصحفي يخرج ويختلط بالمجتمع ومع ان اكثر مجهودي في الصحافة كان ثقافيا في بحس العلوم والاداب فاني قد مسست السياسة ايضا واحيانا اقتحمت غباريه حتى وصفت به في كثير من الاوقات. ولكن اعظم ما يعزيني ان ما عصف بي كان ايضا يعصف بالامة. واني في كفاحي الصحفي كنت اكافح الديموقراطية التي حاول المستبدون ان يحرمون منا واول اختبارية للصحافة كان في في اللواء في الف وتسعمائة وتسعة فقد قضيت فيه نحو اربعة اشهر مع فرح انطون. وكان يرأسنا رجل مهذب مستنير يدعى عثمان صبري كان صهر مصطفى كامل. وكان قد تولى الرياسة بعد المرحوم الشيخ عبدالعزيز جاويش الذي كان قد اغضب الاقباط بكلمات نابية. وكنا في المطالبة بالجلاء ولا مفاوضة الا بعد الجلاء. وهذه العبارة كان يستنكرها بعض الساسة في مصر. اما الان فلا تستنكر وقد عمل بها الهنود اصروا مدة الحرب الكبرى الثانية على شعار اتركوا الهند. وقد بقي فرح طوال عملي وقد بقي فرح طوال عملي باللواء وهو يظن اني مسلم. اشتباه اسمي. ولانه لم يكن في كل ما اكتب ما يدل على وجه الطائفية الخاصة. اما عثمان صبري فكان يعرف ان القبطي وكان كثيرا ما يذكر مقالات الشيخ عبدالعزيز جاويش بالاستنكار امامي ويتفادى من نشر اي مقال يوهم بالشقاق بين المسلمين والاقباط. وقد كسبت من اللواء مرانة صحفية حسنة. وكنت اكتب الخبر والمقال في السياسة الداخلية السياسة الخارجية ولم يكن للمخبر في تلك الايام قيمة كبيرة. ان كانت الجرائد مقالية اكثر مما كانت خبرية خبرية وذلك لان الكفاح من اجل الاستقلال كان يستغرق كل اهتمامها تقريبا فكان جميع كتاب الجريدة تقريبا محررين. وفي العقد الاول من هذا القرن كان طراز اللواء جريدة الحزب الوطني يغلب على الصحافة لانه كان الجريدة الناجحة. وكان اسلوبه خطابيا اذ كان مصطفى كامل يعتقد بحق ان الصحافة يجب ان تكون في خدمة الوطنية وان تثير حماسة الجمهور وتنبه وجدانه الوطني. ولذلك لم تكن العناية بالاخبار الخارجية كبيرة بل لم تكن هناك اقل عناية بها. اذ كانت تحتضر او تقتضب في نصف او ربع عمود من الطرافات. اما سائر الجريدة فكان معظمه يرصد للمقالات التي تندد بالانجليز المحتلين او تثير الجمهور. كان لذلك اول شرط للكاتب الصحفي يكتب في اسلوب فصيح بعبارات صارخة. وبقيت هذه الحال تقليدا في الصحافة الى حوالي الف وتسعمائة وثلاثين. حين شرعت جرائد الخبر بدلا من جرائد المقالة في الظهور وما زلنا الى الان الف وتسعمائة وسبعة واربعين نجد من بقوا من الصحافة القديمة كبير العناية بالغة قليل العناية بالمعارف العامة عن مشكلات العالمية او العلمية او الاجتماعية. بل نجد بين بعض القراء صاغة لهذه الكتابة الاسلوبية وكانت الجرائد في ذلك الوقت شخصية. فكنا نقرأ الجريدة لا لانها حافلة بالاخبار او الصور بل لان فلانا يكتب فيها مقالة. بل كانت المخاصمات ايضا شخصية فكان المؤيد يشن على مصطفى كامل لان الخديوي عباس صفعة. وكان اللواء يشن على الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد لانه لم يكن كفؤا لزواج كريمة سادتي السيدة صفية بل كان المقطم يدخل في هذه المخاصمات ويتكلم ايضا عن زوجة الشيخ علي يوسف. وظهرت اولى المجلات الفكاهية حوالي الف وتسعمائة كانت مادتها الاساسية تهزئة الامام العظيم محمد عبده. وكان يشاع ان الخديوي عباس باشا كان يحرضها على اتخاذ هذا الموقف لانه كان يكره الروح العصري الذي كان يدعو اليه الامام في الازهر وظني اني انا اول من اخرج مجلة اسبوعية جديدة هي المستقبل في الف وتسعمائة واربعة عشر. ولما تركت اللواء وعدت الى اوروبا بقية الصحافة خيالا ساحرا في في ذهني ورجعت الى مصر واستطعت في الف وتسعمائة واربعة عشر ان احقق هذا الخيال بان اصدرت مجلة المستقبل الاسبوعي. ولم اكن ولكن لم اصدر اي الا عدد السادس عشر حتى كانت الحرب الكبرى الاولى قد شبت وارتفع سعر الورق نحو عشرة اضعاف سعره السابق. وكان لا بد ان اعطلها ولكن التعطيل جاءني بطريق اخر. ففي ذات يوم وانا افكر في مشكلة الورق طلبتني ادارة المطبوعات. وقصدت اليها غير عابئ بما يحدث. وكانت الاشاعات كثيرة بشأن تعطيل المجلات والجرائد ان هناك قعدت امام احد الموظفين السوريين الذي الذي يحيان وطلب لي القهوة وجعل يلاطفني بكلمات عذب ويسألني عن المجلة وهل هي رائجة ام اني اخسر فيها؟ ثم بعث في طلب رجل انجليزي وجاء هذا وقعد قبالتي يستمع دون ان يتكلم. ثم شرح لي هذا الموزف حرج الموقف وضرورة وقف اي تعطيل بعض المجلات وقف اي تعطيل بعض المجلات. ومع اني لم اكن ابالي التعطيل كما قلت فاني وجدت فتنة سيكولوجية في متابعة البحث والمناقشة وخاصة امام هذا الانجليزي. فابديت اني قادر على اصدار المستقبل مهما كانت الصعوبات وتلاحظ في الاثنان وانا مفتون بالموقف واصررت على اني ساصدرها الى اخر الحرب. اني سادعو فيها الى الاشتراكية وعدم موظف للسوري يخاطبني في ملاطفة مسرفة ويقول اني استاذ وعاقل. الاخ واصررت انا على العناد واخيرا صرح في غير ملاطفة بان ادارة المطبوعات تستطيع وان المناوئين للحكم في الظروف المحاضرة الشاذة يمكن نفيهم او اعتقالهم. ان كان هذا ما اردت ان اسمعه فنهضت وقلت اني ساعطل المجلة وليس عندي مجموعة من مجلة المستقبل ولكن بعض القراء ما زالوا يقتنونها مجلدة تحتوي الاعداد الستة عشر التي صدرت. ومقالاتها تدل على تفكير ويعبر هذا للتفكير عن اتجاهه الذهني العصري. فان فيها مقالات عن نتشا وبها مقال كله فجور الحادي عنوانه الله. وهذا غير قصائد ومقالات لشبل شميل وكان يدعو فيها الى نظرية التطور والى المذهب المادي. نؤكد بها بحثا عن الضمد عند العرب اي زواج المرأة الجملة رجال والخلاصة كان المستقبل يدعو دعوة عصرية بل مستقبلية فجة خاصة ان كنت ابيع منه نحو ستمائة نسخة في الاسبوع وهذا غير المشتركين المتحمسين وظني انه كان يمكن ان ينجح ويؤدي رسالة الهدم والبناء التي كنا نحتاج اليها. لولا وفي الحرب في الف وتسعمائة واربعة عشر لم تظهر بعد المستقبل مجلات من طرازيل تحريري ولما عمدت الى اخراج المجلة الجديدة في اواخر وتسعمائة وتسعة وعشرين كنت قد تأثرت بالفن الصحفي. كما ان الظروف المصرية كانت قد دجنتني تدجينا سيئا. فخبأ فخبت النار وباقة الحماسة اخذ الاعتدال مكان الغلو وارسلت الي الي مي عقب التعطيل خطابا تطلب مني ان احرر المحروسة. وكانت جريدة يومية قليلة الانتشار يصدرها والدها. وقبلت وبقيت حرر جملة اشهر سئمت بعدها الكتابة من مع المراقبة الصارمة التي كانت تفرضها ادارة المطبوعة على الصحف. الم يكن يخفف من هذا السأم سوى زيارات اي مؤانستها لنا من وقت لاخر. قد كانت حلاوتها تمتزج بظرف ورقة. وبقيت طوال الحرب الكبرى الاولى وانا معطل. وقد قضيت معظم سنيني هذه الحرب في الريف في عزبتنا بالقرب من الزقازيق. وكانت تلك الايام بمثابة الحضانة فقد اكببت على القراءة الجدية في الاداب والعلوم واستوعبت منها ان كنت من وقت لاخر اقصد الى مأمور المركز في الزقازيق اي ارجوه في الافراج عن احد الذين قبض عليهم من الفلاحين. كانت الحكومة تنفذ شروطها الى الاسواق ريفية العامة فتقبض على من تستطيع من هؤلاء المساكين وتربطهم بالحبال الغليظة كما لو كانوا اسرى حرب. ثم يبعثهم الانجليز الى فلسطين وكانوا اتون بالمئات والالوف. ولم اكن انجح في تخليصهم الا بالرشوة وسئمت الركود الريفي. فاشتغلت بالتعليم فترة ثم هبت الثورة في الف وتسعمائة وتسعة عشر. ورأيت ان اقصد للقاهرة حتى اكون مع لا صلة بالحوادث وحتى اجد منفذا جديدا الى الصحافة متحققة لي ذلك. فاني بعد ان اشتغلت بالتعليم في مدرسة التوفيق قليلا اشتركت في تحرير الهلال واشتركت ايضا في تحرير البلاغ وانغمست في السياسة مع المرحوم عبدالقادر حمزة كنت ازور معه استعادا وكان عبدالقادر حمزة من الكتاب الافزاز اذا نشب في موضوع لم يترك الجدل فيه حتى يستقصيه ويخرج منه منتصرا كان نزيها في حكم حتى حين كان يختلف فانه بعد ان ترك الوفد في الف وتسعمائة وواحد وثلاثين بقي على صداقته السابقة مع كثير من الوفديين اصدرت المجلة الجديدة في اواخر الف وتسعمائة وتسعة وعشرين. واصدرت المصري في السنة التالية. وكانت الاولى شهرية والثانية وكانت الدعوة في كليهما تحريرية في الثقافة والسياسة. وعصفت بنا في الف وتسعمائة وثلاثين عاصفة سياسية في وزارة اسماعيل صدقي باشا فالغى الدستور واستبدل به اخر بعيدا عن الديموقراطية ملغيات مجلتي. وكان قد شرط في القانون النشري الجديد ان من يطلب امتيازا لجريدة او مجلة جديدة يجب ان يؤدي تأمينا قدره مائة وخمسون جنيها. واديت التأمين نقدا. ولكنه رفض وبعد ثلاث سنوات اي في الف وتسعمائة واربعة تلاتين جاءت وزارة عبدالفتاح يحيى باشا فاستطعت ان اعيد اصدار المجلة الجديدة بضمان عامل في المطبعة عندي وهذه حالنا في مصر في وزارة يرفض التأمين النقدي في وفي وزارة اخرى يقبل ضمان العامل الذي لا يملك شيئا. وفي بداية الحرب الكبرى الثانية انشأت وزارة الشئون الاجتماعية فاستدعتني كي احرر مجلتها وقبلت لا وقبلت لاني وجدت ان الفرصة تتيح لي الارشاد العصري والتوجيه الاجتماعي بقيت الان وبقيت اكتب في هذه المجلة نحو سنتين. وكانت مقالاتي يوقع علي بامضاء او تنشر بلا امضاء فاذا راقت المشرفين على المجلة وضع لها امضاء غير حتى ولو لم تكن له علاقة بالوزارة. وقد كان هذا العمل مثارا للسخرية احيانا وللاسف احيانا وكنت اتناول عشرون جنيها راتبا شهريا على التحرير دون ان اي اشتراط على القدر الذي اكتب او على المواظبة الحضور. فكان يمضي الشهر دون ان احضر للوزارة. وكنت اي قدر شئت من الصفحات ولكن الوزارة ظنت علي بهذه الحرية مع صغر الراتب. فالغته وعينت اربعين قرشا للصفحة الواحدة. ورأيت اخر والشارع بعد هذا النظام ان كل ما حصلت عليه هو جنيهان فقط. فتركت التحرير وكنت طوال عملي بالوزارة اصدر المجلة الجديدة ايضا. بقيت على ذلك الى الف وتسعمائة واثنين واربعين حين سلمتها لبعض الاخوان الاصدقاء كي يقوموا بنشرها وكي وكي اختص انا في التحرير السياسي ولكنهم نزعوا نزعة ديمقراطية يسارية مسرفة لم ترضي الاستعمار. فالغيت في تلك السنة بامر عسكري. وفي السنة التالية اشتريت امتيازا جريدة وقبلت ادارة المطبوعات نقل الامتياز الذي اثبت فيه انها يومية وذكر فيه الضمان بانه ثلاثمائة جنيه اي ضمان جريدة يومية. وبعد ان قبل كل هذا وبعد ان استعددت لاصدار هذه الجريدة اليومية وزارة الوفد وفي اليوم التالي للاقالة في اكتوبر الف وتسعمائة واربع واربعين ابلغتني ادارة المطبوعات ان الجريدة شهرية وانه لا يجوز لي ان اصدر يوميا وعندما اقارن بين صحافة الجيل الماضي من الف وتسعمائة الى الف وتسعمائة وعشرين وصحافة الجيل الحاضر اجد اننا قد تقدمنا وتأخرنا. اجل تقدمنا في فن الطبع والاخراج تقدما عظيما جدا. فان جرائدنا ومجلاتنا تدل على رقي فنية يضارع اعلى المستويات الصحفية في اوروبا. ولكننا من حيث التحرير تأخرنا ليس عندنا الان من المحررين من يضارعون مصطفى كامل او علي يوسف او لطفي السيد. وقد مات عبدالقادر حمزة وهو اخر هذا الجيل المنقرض. ولكن هناك مع ذلك علامة حسنة في الصحافة الحديثة. هي عنايتها الكبيرة بالاخبار الخارجية. فان هذه العناية التي كان مبعثها الحربيين الحربين الاخيرتين تنير القراء وتربيهم. اي على النظر العالمي وبحث سياستنا من الزاوية السياسية العالمية الكبرى وهذا حسن ولكن انسياق الجرائد وراء الاعلانات قد حد من حريتها واهتماماتها فان جرائدنا مثلا تعاني بالميدان السينمائي الذي يغل لها الاعلانات. اكثر مما تعني في الزراعة المصرية التي يعمل فيها الملايين ولكن لا تنتفع منهم الصحافة بالاعلانات. قد دلتني اختباراتي في السياسة والسقافة على ان بضع ان بضع مقالات في السياسة احيانا تعود بمثل الربح المالي الذي يعود من تأليف كتاب كامل قد احتاج الى دراسة السنين. ولذلك فان التأليف في مصر تضحية كبيرة لا يرضاها الا المهووسون بالثقافة. ولذلك ايضا اصبح كثير من الادباء الذين اقتحموا حياتهم بالتأليف بالتأليف صحفيين وذات مساء وكان ذلك في الثاني عشر من يوليو من عام من هذا العام الف وتسعمائة وستة واربعين كنت نائما على الاسفلت في غرفة مظلمة في سجن الازبكية مع نحو اربعين من المتهمين بالسرقة والضرب والفسق والقتل وحيازة المخدرات وغير ذلك. وكانت تتهمني اني افكر وادعو الى الجمهورية او الشيوعية ان كانت خشونة الاسفلت تمنعني من النوم وتؤلمني فارقت. واخزت واخذت زاكرتي تعرض لي فيلم حياتي الماضية. فذكرت الحرية التي كنت اتمتع بها في الف وتسعمائة واربعة عشر حين كنت اكتب مقالات في المستقبل. لو ان بعضها نشر هذه الايام لقاد الى السجن وذكرت العناء الذي لقيته في الدراسة والتأليف مددت نحو عشرين كتابا الفتها لابناء وطني اخلصت فيها النية وبذلت المجهود كي انير واعلم وكي وبالشباب الى مثليات القرن العشرين واخرجهم من ظلمات القرون الماضية. ثم تأملت حالي على الاسفلت الخشن. كيف اني لم اجمع مالا ولم احصل حتى على الكرامة التي يستحقها من يخدم ويخلص في الخدمة وكان الى جنبي نصف رغيف وعشائي الذي قررته لي الحكومة المصرية جزاء هذا العمر الذي قضيته في خدمة مصر. واخزت افكر واكتر تفكير عقلي يتضور من الالم. الى ان اصبح الصباح ودخل علينا رجل بقفة فيها خبز. فناولني رغيفا للفطور وضعته فوق نصف الرغيف الذي تناولته في المساء السابق وهكذا يفعل بنا الاستعمار والاستبداد المتحالفان كفاحي السياسي كنت طوال اقامتي في اوروبا ادرس السياسة من الجرائد اليومية الانجليزية والفرنسية. ويستمع الى المحاضرات الحزبية التي يلقيها الدعاة البارزون من الاحزاب ولكن التفت الى السياسة كان بمثابة النشاط الموجي على السطح. اما في الاعماق فكانت التيارات التي تحفزنا وتوجهنا الاجتماعية والثقافية وقد كنت مثابرا على الملاحظة المباشرة للمجتمع الاوروبي اقابل بينه وبين المجتمع المصري في مركز المرأة والنظام العائلة بالنظام احوال العمال في المدينة والريف والحرية او بالاحرى الحريات العامة في البيت والمجتمع والصحافة والخطاب. ومن ذلك الوقت الى الان اي من الف وتسعمائة وسبعة الى الف وتسعمائة وسبعة اربعين وانا اكافح في جبهات متعددة سياسية واجتماعية واقتصادية. واحيانا تتداخل هذه الجهات او تمتزج حتى تصير جبهة واحدة كما حدث مثلا في الف وتسعمائة وثلاثين اين كنت اقف في صف الوفد في مكافحة الطغيان الذي حاول اسماعيل صدقي باشا ان يعممه بعد ان الغى ودستور الف وتسعمائة وثلاثة وعشرين. كما سبق ان الغى الانجليز دستور عرابي في الف وثمانمائة واثنين وثمانين. ولكن حتى في هذه المعممة السياسية التي هبت في الامة تقاتل مستبدين والمستعمرين معا كنت ايضا اكافح كفاحا اخر من اجل الاستقلال الاقتصادي الفت جمعية المصري للمصري لايجادو وجدان اي وعي وطني الاقتصادي وكانت الاحزاب السياسية في اوروبا قد شرعت حوالي الف وتسعمائة وعشرة تتجه اتجاها اشتراكي. وكان هذا الاتجاه على اقواه في المانيا وفرنسا وعلى اضعافه في بريطانيا بل الحق انه لم يكن في الف وتسعمائة وتسعة في مجلس العموم الانجليزي غير اشتراكي واحد من نحو ستمائة عضو. يدعى فيكتور جريسيون وكان يجمع بين حماسة الشباب وحماسة المذهب. وقد حاول ذات مرة ان يقصر المجلس على المناقشة في شأن العاطلين. فقرر المجلس اخراجه وكان يلقى الخطى يلقي الخطى في الاجتماعات الشعبية ويفخر بان المجلس طرد. والغريب ان هذا الشاب اختفى فجأة ولم يعرف الى الان كيف كانت نهايته. ولكن كان المجلس العمومي في ذلك الوقت حزب للعمال وحزب اخر يسمى العمال المستقلين. يتزعمه كير هاردي ولكن هؤلاء العمال جميعا لم يكونوا تركيين مذهبيين ولم تكن الدعوة بينهم الى الاشتراكية بل كانت دعوة متواضعة قانعة بزيادة الاجور لعمال وترقية احوالهم المعيشية وقد زرت في غرفة المتواضعة في لندن في الف وتسعمائة وتسعة. وكان اسكتلنديا في في وجهه سماحة وطيبة قد ارخى لحيته. وكان يصر على اتخاذ القبعة العمال المخصوصة من القش وكان السكرتيرة انسة مثقفة جاءت بعد ذلك الى مصر وتولت رئاسة التحرير لجريدة فيجبشن جازيت. وكان السبب لزيارته عرض يعني قرأت له كتيبا عن الهند وشرح فيه ما رآه فيها من المظالم البريطانية للهنود ورأيت في هذا الكتاب ما يثير وما يبعث على التفكير فيما يفعله الانجليز في مصر. ولما قابلته قال لي انه اشتراكي وان الاشتراكية سوف تعم اوروبا ثم تنتقل الى سائر القارات. وان الاستعمار البريطاني يجب ان يزول من مصر والهند. وان واجبنا الوطني الاول في مصر هو اخراج الانجليز ثم ايجاد الاصلاحات الاجتماعية في المجتمع المصري. كانت الخطوط السياسية التي نراها الان في السياسة العالمية في الف وتسعمائة وسبعة واربعين واضحة في اوروبا في الف وتسعمائة وتسعة. ولكن الخطوط اليمينية كانت وقتئذ الابرز من الخطوط اليسارية اي ان اصوات الاستبداد والاحتقار والحرب والاستعمار كانت عالية تنطق بها دولة القياصرة في روسيا ودولة السلاطين في تركيا. ثم دولة الوسط في اوروبا واخيرا الامبراطورية البريطانية وفرنسا اما في الف وتسعمائة وسبعة واربعين فان هذه الدول جميعها باستثناء بريطانيا وفرنسا قد زالت الجمهوريات مكانها. كما ان الاكثرية السياسية للاحزاب قد اصبحت يسارية للاشتراكيين والشيوعيين في جميع اوروبا المتمدنة وقولنا المتمدنة يستثنى بالطبع اسبانيا وبرتغال حيث الفاشية لا تزال حية وهذا اتجاه واضح لا يخطئه الا المغفلون او المتغافلون وقد اصبحت من تلك السنين اتوسم الاحزاب واروض المستقبل في ضوء هذه الاتجاهات الاشتراكية العالمية. ولذلك لم تفاجئني الاحداث الكبرى مسل حرب الف واربعة عشر التي بعثتها المباراة الاقتصادية بين المانيا وبريطانيا. له مثل حرب الف وتسعمائة وتسعة وثلاثين التي بعثها الصراع بين احزاب اليمين من بين احزاب اليسار من الاشتراكيين والشيوعيين. وان كانت هذه الحرب قد فقدت منز بدايتها تقريب الروحان المذهبي واستحالت الى النزاع الاقتصادي بين بريطانيا والمانيا كما دخلت فيها مركبات اقتصادية اخرى فلما عدت من اوروبا وضعت رسالة صغيرة عن الاشتراكية كما وضعت قبل ذلك رسالة اخرى عن السوبر مان اي انسان المستقبل. وكذلك لخصت كتاب جرانيت عن نشوء الفكرة الله وترجمت نحو مائة وعشرين صفحة من قصة الجريمة والعقاب وكل هذا النشاط قمت به فيما بين الف وتسعمائة وتسعة والف وتسعمائة واربعة عشر. هو يدل على ان افكاري العامة الحاضرة كانت تتبلور في ذهني سياسية الاشتراكية والادب الروسي والفلسفة الضروينية مع النفور من الغيبيات. وفي الف وتسعمائة وعشرين عقب الثرو اس هبت ريح الحرية في الجو المصري مجهوم فالفت انا والمرحوم الدكتور العناني والاستاز محمد عبدالله عنان والاستاز حسني العرابي. الحزب الاشتراكي وارخى لنا المستعمرون الحبل كي يعرفوا مدى نشاطنا والاستجابة التي نلقاها من الشعب. والحق انها كانت استجابة حسنة. ويبدو اننا كنا نسير في اعتدال ونتقي المصادمات وترجمت في ذلك الوقت نداء الى الشباب لقربيت تكين وهو الامير الروسي الذي ترك اماراته ايام القيصر نقول وانقلب كاتبا ومؤلفا وداعية للفوضوي. ولكن حدث فجأة ان احدنا ان احدنا الاستاز حسني العرابي وجد فينا بطئا لم يطق له صبرا. قصد الى اسكندرية واعلن الحزب الاباحي وكلمة اباحي كان يقصد منها ما يفهمه الجمهور الان من كلمة شيوعي. وانشق عنا وانضم اليه كثير من الشبان الذين سرقوا دفاتر الحزب وقضوا عليه وماتت حركاتنا وقضت الحكومة على حسن العرابي بحبسه ثم تشريده في اوروبا. وقد سافر الى المانيا وما هو انا بلغها حتى صدر قرار من مجلس الوزراء بحرمانه من الرعوية المصرية كي يمنع من العودة الى مصر. وكثيرا ما اشتقت ما اشتقت انا الى السفر الى اوروبا وكان خوفي من ان يلحق بي مثل هذا القرار. كان يحملني على الدوام على النقوص. وليس على هذا الكوكب امة تحرم ابنائها من رعويتها. اذا كرهت منهم مذاهبهم السياسية غير مصر. وهذا الحرمان من الرعوية يشبه في في صيغة عصرية الحرمان من الكنيسة ايام القرون المظلمة ولكنه الاستعمار البريطاني يحالف الاستبداد المصري على مطاردة كلا من كان يتوهمان في خطرا على مركزهما الممتاز في مصر. والاشتراكي المصري نفسه في في صف واحد مع الوفد. لان الوفديين هي في صميمها الدعوة الى الاستقلال. ولا يمكن اشتراكيا ان يفكر في اي برنامج اشتراكي ما لم يكن الاستقلال محققا ناجزا. ومن هنا الكراهة بريطانية لجميع الحركات الاشتراكية في العالم وليس في مصر وحدها والاشتراكية والاستعمار ضد المصالحة بينهما فالاولى تعاون ومساواة وعدل. والثانية استغلال وامتياز واحتقار وخطف. ولذلك ايضا نجد ان جميع الاشتراكيين في مصر هم قبل كل شيء وطنيون غالون في وطنيتهم لا يطلبون الاستقلال لمصر وحدها بل للهند والجزائر والعراق ومراكش وغيرها الف جنيه يساهم بها في هذا المشروع. نشرت هذا العرض مع صورة الشيك في الصفحة الاولى من احدى المجلات التي كنت انشرها. وكان هذا العرض المتجر القائم الان باسم شركة مصر لبيع المصنوعات المصرية في شارع فؤاد وتحدث احيانا مصادفات مشؤومة فقد كنت في الف وتسعمائة وخمسة وعشرين او حوالي ذلك اكتب للبلاغ. وكان زيور باشا قد قام باولى المحاولات لرد ثم الى عصر توفيق اي الى حكم تقراطي بلا دستور او بدستور شوري. اكتبت مقالا قلت فيه ان زيورو يشبه بل هادي في حكومة عبدالحميد. وكان انا اسمي ابي الهادي يزكم الجو بالدسائس والاستبداد. كتب الاستاز عبدالقادر حمزة باشا دون ان يعرف مقاله مقالا اخر قال فيه ان مصر تحكم كما لو كانت تركيا ايام عبدالحميد انقضت المصادفة بان يخرج المقالان معا كأن هناك مغزى مقصودة. وقصدنا الى بيت الامة حيث قابلنا سعد باشا الذي انذرنا بخطورة المقالين وبان النيابة العامة سوف تقوم بالتحقيق معنا في شأنهما. ان كان سعد باشا في سنينه الاخيرة حتى لقد لاحظت النساق كانت ترتعش ولكنه كان يقظ يقظ الزهن ديكتاتوري اللهجة وقد سبق ان قلت ان كفاحي السياسي كان يمتزج في احيان كثيرة بكفاحها الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك الفت في الف وتسعمائة وثلاثين جمعية المصري كي ابعث الوجدان الاقتصادي للامة. ان كنا نجد في تلك السنة حين اثار اسماعيل صدقي باشع الدستور والغاه ان دعوتنا المصري للمصري متفق تتفق ومقاطعة البضائع الانجليزية ووجدت هذه الحركة حماسة كبيرة بين الشبان. ان كنا نحتم على انفسنا اتخاذ جميع ملابسنا الخارجية والداخلية من الاقمشة المصرية باستثناء الطربوش. ولكن حتى هذا وجد من يصنعه من الصوف المصري الابيض. قد ارسل اليه احد المتحمسين مثلا مثالا منه هدية يطلب مني اتخاذه بدلا من الطربوش الاحمر الذي كان يرد الينا من يرد الينا من اوروبا وقد كان الاستاز احمد حسين رئيس جمعية مصر للفتاة وكيلا للجمعية المصري للمصري في كلية الحقوق حين كان طالبا بها. فلما كافحنا اسماعيل صدقي خشى وقتل من مجلاتنا التي كانت تنشر دعوتنا اكثر من عشر مجلات ووقفنا مضطرين عن الحركة. عمد احمد حسين الى احيائها وبعثها ولكن بصورة قد يستنكرها البعض. من الحق انه كان فيها كثيرا مما يستنكر مسل الهجوم على الحانات او مداعبة الاراء الفاشية. ومدح موسوليني او هتلر ونحو ذلك. ولابد ان اذكر انه كان هناك استقلال هندي مكانة كبيرة في تفكيرها السياسي. وعندي اين وعندي ان مشكلة الهند بل مشكلة اي مستعمرة في العالم هي ايضا مشكلة لمصر لان استقلالنا يقتضي مكافحة الاستعمار اينما وجد. ولذلك الفت كتابي عن غاندي والحركة الهندية واعجبني من غاندي انه كان ولا يزال يكافح في جبهتين هما الانجليز المستعمرون والتقاليد الهندية التي فسدت وتقيحت في جسم الامة الهندية المريضة. كما انه بعث نشاطا اقتصاديا بتعميمه اغزل بين بين الريفيين. ولقد ارسلت اليه في الف وتسعمائة وواحد وثلاثين خطابا اطلب منه المؤلفات الخاصة بحركة الغزل والنسيج التي يقوم بها الفلاحين الهنود وايضا بعد ادوات الغزل التي تستعمل في الهند. فارسلها كلها الي ولكننا بعد بعد الدرس لموضوع الغزل لم نجد لاننا قادرون على ايجاد مثل هذه الحركة في مصر. ذلك ان المغزى اليدوي قليل الانتاج لا يغل المغازي لعيش كافيا في مصر وان كان يغل هذا العيش الكافي للفلاحين الهنود لان مستواهم الاقتصادي دون مستوى فلاحين. ولكن وزارة التجارة والصناعة تحاول الان في الف وتسعمائة مائة وسبعة واربعين ان تجد مغزلا ريفيا يستحق عناية فلاحين ويشغل فراغهم في بعض اشهر الشتاء وهذا النشاط الاقتصادي او الوطنية الاقتصادية التي قمنا بها في الف وتسعمائة وواحد وثلاثين. قد بعثت روحا جديدا من اليقظة والاحساس الوطني. حتى لا اذكر ان كان ضابطا من البوليس حضر للتفتيش مكتبي في احدى الهجمات التي كانت تتوالى علينا لضبط مجلاتنا ومصادرتها. ولما شرع يقرأ الخطابات الواردة الينا من انحاء القطر بشأن الصناعة والتجارة المصرية تغير موقفه فصار يدعو لنا بالنجاح ويمزق بنفس الاوراق الخطرة. وهنا يجب ان اذكر شخصية نبيلة قد فارقتنا للاسف منذ اربع سنوات هي المرحوم محمد عبدالصمد مدير مدارس رقية للمعارف في شبرا انه كان وكيل جمعية المصري المصري حين كنت انا رئيسا لها. وكنت قد كتبت مقالا ادعو فيه الى انشاء متجر في شارع فؤاد لا يبيع غير المصنوعات وكنت قد وكانت البضائع المصرية لا تباع الا في الازقة النائية في السكة الجديدة في اطراف شارع الموسكي. ولما قرأ المرحوم طلعت حرب هذا المقال بعث الي اخذ يناقشني في هذا الموضوع. خرجت من عنده قاصدا الى المرحوم محمد عبدالصمد حيس اتفقنا على ان يعرض ويجب ان لا ننسى هنا ان في كفاحها السياسية التفت الى موضوعين. احدهما هو بعث النخوة الوطنية عن سبيل الاكبار من شأن الفراعنة. وقد وجدت ما في دون تأييدا لهذه الدعوة بما استفاض في اوروبا عامة وبريطانيا خاصة لان مصر هي التي بعثت الموجات الاولى من الحضارة القديمة الى انحاء العالم واخرجت الانسان من العصر الحجري الى عصر الزراعة وكتاب مصر اصل الحضارة يقوم على هذه المعاني ويشرحها. اما الموضوع الثاني فهو الاكبار من من شأن عرابي قد نشأنا على ان هذا الوطني العظيم كان خائنا لمصر وانه هو السبب لاحتلال الانجليز لوطننا. الحقيقة ان من يقرأ التاريخ هذه الشخصية المصرية المقدسة يتعجب للخسة التي بعثت خصومه على سبه والحط من شأنه وليس في تاريخ مصر منذ اكثر من الفي سنة من من خدمها بروح الشرف والوطنية والنزاهة مثل عرابي. وقد كانت ترجمة كتاب بلينت التاريخ سر للاحتلال البريطاني لمصر من الجهود السارة التي قمت بها لجريدة البلاغ لان المؤلف كان صديقا لعرابي وكان واقفا على اهدافه الوطنية السامية. كذلك لا انسى اني في سبيل الكفاح السياسي الفت كتابين احدهما حرية الفكر وتاريخ الابطال في الف وتسعمائة وسبعة وعشرين. سرطت فيه اطوار الكفاح التاريخي من اجل الحرية سواء عند العربية في اوروبا. ثم عدت في الف وتسعمائة وستة واربعين فاخرجت كتيبا بعنوان حرية العقل في مصر. طلبت فيه الغاء قوانين المطبوعات التي الحرية الكتابة والصحافة الغاء ادارة المطبوعات التي تطلب استخراج رخصة. عندما يرغب احدنا في اصدار مجلة او جريدة. والغريب انه في نفس هذه سنة الفين وتسعمائة وستة واربعين عاد حكم اسماعيل صدقي باشا المشئوم فاصدر مشروع قانون لزيادة الحد من حرية الصحافة التي لم يكن يطيقها يا راجل متقدم وزير سابق هو الاستاز فؤاد سراج الدين باشا لطلب امتياز اي رخصة لجريدة يومية فرفض طلبه ومثل هذه الجرأة ليس لها نظير في اية امة متمدنة على هذا الكوكب. اعني جرأة رجل مسل اسماعيل صدقي باشا على ان يفكر في زيادة القيود للصحافة المصرية وعلى ان يمنع وزير سابقا من ان يصدر صحيفة كلما فكرت في كفاحي السياسي احس الما للعقم الذي لازمه الا قليل من الثمر الذي حاول المستبدون والمستعمرون افسادا. فقد اثمر هذا الكفاح دستورا غيره المستبدون مرة سم عطلوه مرة سم الغوه واستبدلوا به اخر مرة. ونجحوا في ان جعلوا ديمقراطيتنا كاريكاتيرية ولكن مما يبعث السرور الى نفسي اني لم اتضعضع ولم اترك المعسكر الوطني لمكافحة المستبدين والمستعمرين. كما فعل كثير من من الادباء ممن طمسوا النور الذي كان في قلوبهم واطفأوا وهج نفوسهم كي يصلوا الى حياة او مال فانخاروا الى الاستعمار الاجنبي او الاستبداد الوطني في خدمة الشباب منذ تأسست جمعية الشبان المسيحية في القاهرة حوالي الف وتسعمائة واثنين وعشرين وانا عضو فيها. ولكن عضويتي كانت شكلي اذ كنت قليل الزيارة لها وبقيت على ذلك نحو ستة او سبع سنوات حين طلب مني سكرتارية الاستاز نجيب قلادة ان اقبل المناظرة مع الاستاز توفيق دياب بشأن الادب المكشوف كنت انا في موقف الدفاع عن الادب المكشوف باعتبار ان الادب يجب ان يكون حرا طليقا لا يتقيد باي قيد سوى ضمير الكاتب. وكان الاستاز توفيق دياب يرى انه يجب ان تكون هناك قيود وحدود اجتماعية لا يجوز للكاتب ان يتجاوزها احدثت هذه المناظرة اهتماما بين الشبان ولغة غير منير في المجلات. وحوالي الف وتسعمائة وتسعة وعشرين زاد اتصالي بالجمعية وعرفت سكرتير سكرتير الامريكيين والمصريين ثم حوالي الف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين رغبا الي الاستاذ نجيب قلادة كي اكون مستشارا للمكتبة منذ تلك السنة الى الان وانا ازور الجمعية نحو ثلاث او اربع ايام كل اسبوع تقريبا ورأيت في اتصالي بالشبان فائدة كبيرة لي ولهم. وقد كانت مهمتي الاولى ان اوجههم الى القراءة واعين لهم الكتب التي يستطيعون الانتفاع بها هنا كانت عربية انجليزية ام فرنسية. ان كنا نعقد اجتماعا كل يوم اثنين نتحدس في حديثا عائليا وكلنا قعود. وبعضنا يشرح الشاي او يدخن على مقاعد مريحة. ان كانت احاديثنا تتناول بالطبع مشكلات الشباب سواء اكانت ثقافية ام جنسية ام عائلية ولذلك كان الاتجاه الجنسي يزداد بروزا في هذه الاحاديث. ومن هنا الفائدة التي وجدتها لنفسي من هذه الاحاديث. ان هؤلاء الشبان كانوا المواد الخام التي استطعت ان ادرس بها الطبيعة البشرية. ذلك ان هؤلاء الشبان كانت تترجح اعمارهم بين الثامنة عشر والخامسة والعشرين. ولذلك كانت المشكلة بارزة عندهم جميعا. وهذه المشكلة الاصلية تحرك مشكلات عائلية واقتصادية واجتماعية اخرى. وكثيرا ما وجدت ان احد الشبان كان ثقلا او مرهفا بالعاطفة الجنسية التي كان يتخلص منها بالعادة السرية. كثيرا ما كنت اجد ان الخيب في الامتحانات المدرسية تعود الى الانغماس في هذه التي يزيد خطرها فداحة الى الان الجنسين لا يختلطان فان اعتزال كل جنس للاخر يحمله عن الاستسلام للخيال. ثم يلتزم هذا الخيال حتى يعود وكأنه في شيزوفرينيا اي هذا الجنون الذي يتسم بالاستسلام التام للخيال والانفصال التام من الواقع ومن المجتمع وكثير ما فكرت في هذا الموضوع المعقد اي كيف يرفه الشاب الاعزب المرهف بالعاطفة الجنسية عن نفسه في مجتمعنا المصري الانفصالي وما زلت اذكر شابا كان حوالي العشرين جاء الي في ذل وصغار يلمح احيانا ويصرح احيانا بانه لا يطيق حالته ان يوشك على عمل خطير ان لم يتخلص من العادة السرية. ان كان قد امعن فيها حتى صار يحلم احلاما جنونية. وكان يبقى طوال النهار التالي وهو مكتئب بسببها لان هذه كانت تبدو له حقيقية. وبكلمة اخرى شرع عقله يختلط. ورأيت ان انصح له بالرقص مع احدى الفتيات ونفر هو من هذا الاقتراع كما كان صدر الان كما كان ينتظر. لان المستسلم لهذه العادة يؤثر الانفراد والخيال ويكره الاختلاط والواقع. ولكني بعد جهد استطعت ان اقنعه باني حاول كل هذه التجربة اذ لعلها تنجح وكان له اصدقاء يرقصون فرافقهم وبعد المحاولات الاولى الفاشلة تم التعارف بينه وبين بضع فتيات وحذق بعض وصار يزور المراقص ورأيت بعد نحو شهرين فخلوت به وسألته عن حاله فاخبرني وانا في دهشة عظيمة. انه منذ تعلم الرقص كف عن العادة السرية. وكان تعليله اذا فقد قال ان في الرقص من الشهامة والذوق والجمال وهي صفات تلازم الرقص. ما يناقض الذلة والصغار والحقارة التي في العادة السرية. تأملت الشاب تصرح بهذه الكلمات فوجدت في وجهي واماءاتي مصداقا ما يقول. فقد ذهب عن وجهه التردد والخوف وازداد بجرأة وشهامة. وكان في هذا الكلام نور لي وبالطبع كانت الحالات تختلف. فهناك من كان ينجح في النصح بالاهتمام بالكتب والثقافة وهناك من كان يجد في النجاح المدرسي ما يشغله عن هذه العادة ولكن الرقص كان من اعظم الوسائل الشفائية وخاصة الحالات الخطيرة. وهذه المشكلات اضطرتني الى ان القي احاديث عديدة للشبان عن السيكولوجي وكتابي الاخير في هذا الموضوع عقلي وعقلك قد ناقشت فصوله قبل كتابتها كتاباتها معهم في قاعة المكتبة. وكثير من مؤلفاتي قد القيت فصولها احاديث عائلية وطرحت وطرحت المناقشة مع الشبان مثل البلاغة العصرية واللغة العربية والشخصية الناجعة والتثقيف الذاتي او كيف نربي انفسنا وفن الحياة وهذه الكتب على ما يبدو من اسمائها تختلف في الموضوعات ولكنها تتفق في ان وجهتها جميعا سيكولوجية وكثير من افراد الجمهور يعتقد ان جمعية الشبان المسيحية خاصة بالمسيحيين. مع ان الحقيقة ان بها نحو ثلاثمائة او اربعمائة عضو مسلم وبها عدد كبير من اليهود وقد حدث ان احد الطلبة من الازهر جاءني في ذات يوم وطلب الي ان ادله على المكان الذي يستطيع ان يشتري منه الكتاب الذي الفته او تبعاته الجامعية عن الاسلام. وكان يعتقد ان هذه الجمعية التبشيرية وانها لا هدف لها سوى التبشير بالمسيحية. ولما اخبرته اني لا اعرف هذا الكتاب للجمعية نحو ربعمية عضو مسلم لا يعرفون ايضا دهش وتركاني وهو لا يكاد يصدق. التبشير هو ابعد الاهداف عن هذه الجمعية. وفي الف وتسعمائة سبعة وسلاسين ثم في الف وتسعمائة وثمانية وثلاثين كان للجمعية مصيف قرب العريش وكان المصطافون من الاعضاء المسلمين والمسيحيين واليهود كانت العادة نبدأ الفطور بصلاة قصيرة يتناوب فيها مسلم بقرآنه او يهودي بتوراته او مسيحيه بانجيله. ومما تمتاز به هذه الجمعية انها دائمة في التطور وهي تتكيف بالبيئة. ففي عالم نحو مليوني شاب وفتاة خفي فروع هذه الجمعية ملاك نظامها في الهند غير نظامها في مصر او في في البرازيل او في الصين واليك بعض مراحل التطور في جمعية القاهرة المسكينة في مرضها ولكن سرعان ما زال عني الاكتئاب والخجل والجمود اذ شملان اسف فان مي قعدت الينا وشرعت تقص علينا مقاسات في المستشفى كيف تسوق الجاكتة التي تمنع العربدة عند المجانين واحد حوالي الف وتسعمائة وستة وعشرين انشأت الجمعية قسما للصبيان الذي تترجح اعمارهم بين عشر وستة عشر سنة. ويرى في هذا القسم الاستاذ يعقوب فام الذي تعلم في جامعة بالولايات المتحدة قيادة الصبيان وارشادهم وتكوين شخصياتهم وتقويم اخلاقهم. ولا يزال هذا القسم يربي وينشئ الصبيان وهو مفخرة للجمعية. اثنان حوالي الف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين انشأت الجمعية نادي كوبري الليمون للصبيان المحرومين الذين يجمعون من الاحياء الفقيرة ويعلمون ويعلمون كي يقضون وقتهم في اعمال والعاب تعاونية اجتماعية تبعدهم عن التسكع في الشوارع. وهذا النادي هو اولى الحركات الارتيادية لتعليم صبيان للفقراء في مصر ثلاثة حوالي الف وتسعمائة وتسعة وثلاثين شرعت الجمعية تجيز الالتحاق الفتيات كي يختلطن بالشبان. وقد سارت على حذر في هذا المشروع فكان الاختلاط اولا مع عائلة الفتاة حتى اذا الفت الفتاة هذا الاختلاط صار لها ان تحضر وحدها. وقد ادى هذا الاختلاط بين الشبان والفتيات تحت اعين المشرفين اليقظة الى مظهر جديد من الشخصية الفتيات والى لباقة ورشاقة في الحديس والايماء بين الشبان. فان من المناظر السارة ان نجد في الحديقة يا جماعة من الشبان والان اكثرهم بل ربما جميعهم من الطلبة والطالبات يقعدون الى المائدة يشربون الشاي ويتحدثون في انسة وصراحة. لم نكن نحلا بمثلهما في شبابنا ترأس هذا القسم الاستاذ حنا فام الذي تعلم ايضا في الولايات المتحدة ودرس هناك شئون الواي اي جمعية الشبان المسيحية وقد عاون قسم المكتبة في الجمعية على هذا الاختلاط بما اسماه يوم العائلة حيث يقعد اجتماع نسائي يوما في شهر من عائلات من اعضاء الذين يتناولون الشاي ويستمعون الى حديث قصير من احدى السيدات او الانسات المشتغلات بالشؤون الاجتماعية او الثقافية. وفي خلال الاجتماع تعزف الموسيقى او تجرى قابل للتسلية والفضل في ذلك للاستاذ غالي امين الذي تعزى اليه افضال كثيرة اخرى في تنظيم المحاضرات والاجتماعات بالمكتبة. وهو الان في امريكا وفي الحرب الكبرى الثانية نشط البوليس السياسي في القاهرة ومنعني من القاء محاضرات في الجامعية الا بعد ان تعرض على وزارة الداخلية التي توافق على القائها او كنت اكتب المحاضرة او كما نسميها في الجمعية الحديث ثم ارسل هذا الى المحافظة فيبقى احيانا عشرين يوما قبل ان يرد الي من عبارات قد ضرب عليها حتى لا اقولها. ثم يحضر عضو من البوليس معه نسخة من الحديث فاقرأ انا الحديث امام الاعضاء ويراجع هو علي حتى لا اخالف ما هو مكتوب وبعد نحو شهرين من هذه الحال رأيت ان الكف عن القاء الاحاديث اسلم. وكففت وكتابي التثقيف الذاتي او كيف نربي انفسنا قد روي معظمه في وزارة الداخلية على هذا الاساس فقد كنت القي حديسا تقرأ وتراقب قبل الالقاء قد تأسست جمعية الشبان المسلمين على غرار جمعية الشبان المسيحية. ولكن العضوية قصرت فيها على المسلمين دون المسيحيين واليهود وهذا عيب كبير لان جمعيات الشبان المسيحية هي منظمات عالمية يراد بها الاخاء البشري الذي يتجاوز الاختلافات المذهبية والدينية والعنصرية واحب ان اذكر شيئا عن سكرتير هذه الجمعية في القاهرة فقد مر ذكر الصديقين يعقوب مدير قسم الصبيان وحنا فان مدير قسم الطلبة. وكلاهما كما قلت كالتالي في الولايات المتحدة على نفقة الجمعية تعليما اختصاصيا للعمل الذي يقوم به وقسم الصبيان ودار الشفاء للصبيان الذين يبتئسون بالبيت او يفسدون بالشارع. او هو دار وقاية اكثر مما هو دار شفاء. وقسم الطلبة من تجديدات رائعة في الجامعية والاتجاه نحو الاختلاط بين الجنسين في هذا القسم قد اثمر خير الثمرات ولم يحدث قط ما يدعو الى الاسف هناك الاستاز مراد عصفور مدير القسم الرياضي. وهو ايضا قد ارسلته الجمعية الى الولايات المتحدة كي يتعلم ويعود للقاهرة لادارة الرياضة في الجمعية. واخيرا كان هناك السكرتير العام وهو الاستاز نجيب قلادة وهو شخصية محبيه قد اندغمت حياته في الجمعية حتى لا اظن انه يحلم بها في نومه هو رجل متبصر يحسب المستقبل كثيرا ولا يتهور اما الشخصيات الامريكية التي عرفتها بالجمعية فكثيرة اقتصر منا على ذكر اثنين فقط. الاولى شخصية السكرتار العام للجمعيات في الشرق الاوسط وكان يدعى وكان اعرج وقد قطع ساقه الى الفخذ منذ الشباب لان الدرن كان قد ضرب في عظامها. وكان على مع عرجه يسوق الاتومبيل ويلعب التنس ويخطف درجات السلم. وكان نشاطه عجيب حتى بعد الثانية والستين يقرأ ويلعب ويختلط بالاعضاء وكثيرا ما كنت اتعجب لوفرة ثقافته مع وفرة اهتماماته شئون الجمعية واني اذكر اني ناقشته اكثر من ساعة عن فولتير وقيمته في حركة التحرير والتنوير في اوروبا ان كان يقتني الكتب وينفق عليها في سخاء ولم تكن المناقشة معه محدودة او مقيدة في اي موضوع وهذا هو روح النشاط في قاعة المكتبة على الدوام. ماذا هو بالطبع ما ادى الى هواجس وزارة الداخلية وتدخلها للرقابة ايام الحرب وهناك شخصية اخرى هي جيمس كواي وهو امريكي بقامته ووجهة ووجهه واخلاقه وميوله. فقد كان معنا حين كنا نصطاف بالعريش كان ينزل البحر عريانا كما ولدته امه في حين كنا نحن نعجز عن التخلص من رواسب الحجاب فكنا لا ننزل البحر الا بعد ان نتخذ الكلسونات ومما يدل القارئ على الاسلوب المعاملة التي الذي يتبعها هذا الامريكي مع خادمه انه حين كان يمنح اجازته وهي سنة كاملة يقضيها في الولايات المتحدة ازا كل اربع سنوات يقضيها في القاهرة كان خادمه يقضي هذه السنة بلا عمل ينتظر جوعه. ومن الشعائر التي كانت واي يتبع ايضا مع خادمها هذا انه كان يدعوه هو وعائلته عائلة الخادم الى مائدته وتقوم المسيس كواي بتهيئة للطعام وتقديمه لهم باعتبارهم ضيوف وفي هذه المجاملة مغزى اخائي لا يستهان به وفي اثناء الحرب الكبرى الاخيرة تبرعت حكومة الولايات المتحدة بنحو الف جنيه للمكتبة لشراء كتب امريكية. وقد انتفعنا كثيرا بهذه الهبة. واخيرا اقول ان انه اذا كانت الجمعية قد انتفعت بي باعتبار مرشدا ثقافيا فاني انا ايضا قد انتفعت بها بالوقوف على اتجاهات الشبان ومشاكلهم. وعندما يذكر بعض هذه مشاكل انه كان لي بعض الفضل في ازالتها يغمرني سرور عظيم وقبل نحو اربعين سنة كنا لا نعرف غير القهوة مكانا نقعد فيه ونفر من البيت اليه. وكانت بيوتنا خالية من وسائل الراحة ولا نقول رفاهية. سيئة الطراز في البناء سيئة الجوار سيئة الاثاث. لقد تحسنت هذه الحال شيئا بين الطبقات المتوسطة. ولكنها ازدادت سوءا بين الطبقات الفقيرة جمعيات الشبان المسيحية وايضا نادي الكوبري الليمون يعد ملاذا ما يلجأ اليه الشاب او الصبي ويتعود فيه المطالعة والمناقشة والحديث والعاب التسلية النظيفة. بل يتعلم فيه الاختلاط المهذب مع الجنس الاخر. وهذا ما لم نكن نحلم به في شبابنا. ولذلك نجد ان للشاب الذي قضى سنتين الثلاثة في عضوية الجمعية سمات لا تخطئ فهو لبق متحدث انيس لا يعرف القعود على القهوة. يدرس السياسة وقتا للكتب ولا يخجل ذلك الخجل المربك من الحديس الى الجنس الاخر. وكل هذه العادات قد تعودها من الجمعية من الافلام الماضية نستطيع ان نجمع الضوء بالعدسة فتتلاقى اشعته المتفرقة في بؤرة هي اضواء ونورا واكثف اشعة. وليست هناك عدسة للزمن حتى تجمع في الساعة ودقائق في ثانية او ثوان. ولكن وجداننا يقوم احيانا في المآزق والضائقات مقام العدسة. بحيث نعيش في لحظة خاطفة سنين طويلة كما يحدث مثلا عندما تنشق على الغرق ويغشانا الماء ونتعلق بين الحياة والموت. وفي هذه الحال ينبسط امامنا فيلم من الذكريات التي مضت عليها السنين كنت مرة على جزيرة وايت حوالي سنة الف تسعمائة وثمانية في جنوب انجلترا وكنت اسير على شاطئ صخري هاو يرتفع اكثر من مائتي وبينما انا في سيري اتأمل البحر اذا بقطيع من الغنم تقدمها كباش قد برزت قرونها في وحشية مروعة تتجه نحوي في هرولة طار لها عقلي هو ثبت كي اتجنبها ولكني في وثباتي رأيتني على حافة الهوية اكاد اسقط. وفي تلك اللحظة الحرجة رأيت فيلما من افلام طفولتي يمر بذاكرة في سرعات برقية فهنا مأزق من مأزق الحياة قل ان خال احد عن من تجربته او ما يشابهه. خطر داهم يجمع ذكرياتنا في بؤرة تسطع منيرة في وجداننا ولذلك نذكرها طيلة حياتنا ولكن هناك تجارب اخرى يتكاثف في الزمن وتتجمع في وجداننا وهي ايضا نتيجة المأزق الحرج الذي لا يبلغ الموت ولكن انه يدانيه في عمق الاحساس وتنبه الوجدان. وليس من الضروري ان يكون هناك خطر متوقع ولكن لابد ان يكون هناك الم يحزك انه الموت كنت ذات مرة في باريس اجلس على قهوة ومعي اخوان نتحدس عن السياسة فتطور الحديث الى نقاش حام. فاحتد احد الشبان الفرنسي علي لاني خالفته وقال لي لا تناقش. ليس لك هذا الحق. الانجليز اسيادكم وتبالهت وتضاحكت ولكني شعرت كأنما شربت سما. وان امعائي تتمزق ونهضت وقصدت الى غرفتي وانبطحت على السرير وانا ابكي بعد ذلك لم اكن اصدم في اي مدينة في اوروبا باي شخص اقل مصادمة الا ويهتف به صوت داخلي. الانجليز اسيادكم. فيذل واتمزق. وفي الحرب الكبرى الاولى كان شبابنا يؤخذون قصرا من القرى فيربطون بالحبال وينقلون الى فلسطين. ان كان الكثيرون منهم يموتون او يعودون وهم مقاومات بشرية فقد فقدوا انفع اعضائهم وذات يوم كنت على محطة الزقازيق فاذا بي ارى شابا لم يبلغ العشرين الى جانبه شيخ هرم كانه نوعان لهذا الشاب وكان الشيخ دائم الكلام في حرارة وعطف تكاد رأسه يمس وجه الشاب فاقتربت منهما ولكني فزعت من هول ما رأيت وما زلت افزع من هذه الذكرى. قد كان الشاب فاقد البصر من غبار فلسطين وسيناء وعاد اعمى لا يرى نور النهار. وكان الشيخ يواسيه بكلمات كاذبة والشاب ينصت في جمود وصمت كانه لا يسمع. واحسست وبيني وبينهما من مترين كاني مجرم وكأني مسئول عن هذه الكارسة التي نزلت بهذا الشاب وجف حلقي ووجدت ان اقول للشيخ شيئا ولكن جمود الشاب جمدني. وبقينا ثلاثة هنا على هذا الحال الى ان جاء القطار الذي حملهما الى قريتهما. وقد مضى على هذه الحادثة نحو ثمان وعشرين سنة ولكني عندما اخلو لنفسي اعود الفيلم فينبسط امامي واستعيد كل كلمة وارى كل حركة من حركات الشيخ المواسي والشاب الاعمى ثم تتمزق امعائي عندما افكر في دخولي قريته واستقبال امه او اخته له واستقباله لهم. وكنت حوالي سنة الف وتسعمائة وسبعة عشر في المنصورة وسئمت من جلسة طالت على احدى القهوات التي تشرف على النيل. فنهضت عند الغروب وصرت اجول على غير هادي في شوارع والازقة. فلما عتم المساء اخذت طريقي الى القهوة. فبينما نسير الهوين اذا بي اسمع صوتا خافتا ظننت انه يصدر من احد المنازل. ولكن الصوت كان مع خفوته قريبا فتلفت حولي فرأيت شيئا ضئيل الجسم حسبته كلبا او قطا فاقتربت منه فسمعت صوتا يقول في خلط واضطراب ملوخية ملوخية باللحمة عيش وملوخية بدي اكل انا جعانة عيش وملوخية ودنوت من هذه الاشلاء المكومة الملفوفة في الخرق. فوجدتها امرأة قد استحالت من الفاقة والبؤس الى حطام لا يعقل. ان قفت الى اجانبها اسمع ان الجوع وبكاء المعدة. ثم قصدت من فوري الى مطعم فاشتريت لها طلباتها وعدت من عصبي المطعم اليها. ان اخذنا نحن الاسنين عرض عليها ما احضرناه من الملوخية واللحم. واكلت اكلت المسكينة في ضعف وارتباك. ولكنها لم تأتي على ربع رغيف. وظني انها كانت في ايامها الاخيرة وكلما جاءت العتمة عقب الغروب وضاقت نفسي لسبب ما عادت هذه الذكرى تضيء في مخيلتي فيتنهد اسفا على ذلك الحطام البشري الذي ظننت اول الامر كلبا او قطة وفي صرخة الموت عذوبة تفتن النفس. وفي الموت نفسه فتنة كأنها صحوة الوجدان. حتى لا نحس ان يقظتنا انما هي حلم النصح منه عندما نقف ازاء من نحب وهو في النزاع الاخير. ان وقفت الى جانبها وهي اختي وكانت في عذاب ذبحة الصدرية تصرخ صرخات الموت. ولم اكن مخدوعة او واهما في المصير المحتوم الوشيك. وعاد الفيلم ينبسط امامي مبتدأ بما حدث منذ اكثر من خمسين سنة. انقذت صورة تتعاقب صوره تتعاقب الواحدة بعد الاخرى في لحظات خاطفة. وفي نصوع ووضوح حتى كأني اسمع كلماتها وهي تشتري لي الحلوى وتغسل لي وجهي وايام الطفولة ثم انتبه من هذه الذكريات الى صرختها العذبة الاليمة وكانت في عذوبتها تجعلني انتفض كاني في لذة اليمت. او كاني في طرب حزين ثم جاءت النهاية وساد السكون وخرجت واذا بي انظر الى السماء فلم اترك سحابة الا وانا اتأملها كانها شأن خطير يجب ان لا انسى شيئا من تفاصيله. او كأني اقرأ حروفها واطلع من ورائها على سر خطير فلما انطبعت هذه السحب في نفسي نظرت الى الارض ولكني عدت في لهفة انظر الى هذه السحب كان شيئا يوشك ان يفلت مني. ثم ترن فجأة تلك الصرخات العذبة الاليمة فيرتاح اليها ويسكن واستكين. وهذه الذكريات او هذه الافلام على ايلامها هي الحياة. هي كنز يجمع المر والحلو واللذة والالم وحياة تخلو منها هي الحياة تخلو من كنوزها وحين اعود الى اللحظات الخاطفة التي تجمع فيها الاحساس والوجدان احس حنان لذيذا جارفا. يبدأ حرقة والتهابا ثم يتميع خيالا ينساب هنا وهناك في افكار وخواطر شتى عن الموت. وعن الدنيا وعن المصير وعن الحاضر والمستقبل. بل وعن العلم والادب والسياسة فتتغير القيم والاوزان. فارفع من بعضها وابخس من بعضها الاخر. وعندئذ احس ان هذه المآزق وهذه الكوارث من المجال الذي اتغير فيه واتطور. وان هذه الكوارث انما هي حوافز التنبه الوجدان وتبدل الذهول وبالاحساس الملتهب والتفكير المركز حتى اني لا احسد اولئك الذين حرموا من هذه الكوارث فتبلدوا وتجمدوا وعاشوا كما لو كانوا سمكا لا يحزنون ولا اجل لم يعرفوا طرب الحزن الذي يسمو في لذته وتأثيره على طرب الفرح ولم يصدمه بتلك الصدمات المنبهة التي توقفهم في الطريق حتى تأملوا ما قطعوا منه في الماضي وما سوف يقطعون في المستقبل. اجل لم يجمعوا الزمن في بؤرة انسانية تتكاثف فيها الاشعة فيزداد فوق الوجدان بعض الادباء الذين عرفتهم عرفت جورج زيدان مؤسس الهلال قبل ان يموت بسنتين او ثلاث بل عرفته منذ الف وتسعمائة وتسعة حين كنت بانجلترا كنت قد الفت رسالة مقدمات السكر وبعثت بها الى مطبعة الهلال كي تطبع. رحلتها المطبعة اليه ليقرأها وبعثه اليه بخطاب منسب يشرح لي فيه وجوه النقد التي يأخذها على الرسالة اقترحوا حذف بعض الفصول والسطور مما عدوا مخالفا للعقيدة العامة. ويذكر من خطابه هذا قوله انه لا بأس بان ننتقد المسيحية. لان المسيحيين قد الف نقد ديانتهم. اما المسلمون فيجب ان نتوقاهم لانهم لم يألفوا النقد وقد خرجت هزه الرسالة مشوهة مبتورة لكثرة ما حزف منها. ولما عدت الى مصر زرته واتصلت معرفتي بي لوفاته. وكنت بين مشيعيه الى قبري انا جورج زيدان عصاميا في ثقافته وثروته. وهو اول من ارصد حياته في عصرنا لدراسة التاريخ الاسلامي. والف في ذلك قصصه الكثيرة كما الفت تاريخ التمدن الاسلامي. وهذه الكتب تعد من الطلائع لهذه الدراسات التي استفاضت في العشرين او الثلاثين سنة الاخيرة ولم يكن لجورج زيدان اتجاه علمي. حتى لقد كتبت ذات مرة اعزوا الحجاب عند العرب الى اسباب بيولوجية هي ان البنات في الاقطار الحارة يبلغن سن النضج الجنسي في الحادية عشر او حوالي ذلك. اي قبل اكتمال سن النضج الزهني. ولذلك لم تكن لهن من عقولهن رقابة على غريزتهن الجنسية او ضبط لها وان هذا هو السبب للحجاب بين العرب. تعجب لهذا التعليل وقال لي ان الاسلوب يعجبني ولكن الحقائق تكذبه. وكانت هذه الحقائق عنده تاريخية وانا الان اعرف اني كنت مخطئا في هذا التعليل البيولوجي. اذ ليس هناك اي فرق في سن النضج الجنسي بين ابناء المناطق الحارة والمناطق الباردة. والتعليل الصحيح حجاب اجتماعي كان جورج زيدان انبساطيا بديلا بشوشا كثير الاصدقاء. ومات عقب انتهائه من احد مؤلفاته. فما هو ان اتم الصفحة الاخيرة حتى وضع القلم وانصطع؟ ان يرى شغليان احدث له النقطة وفي اليوم التالي شيعناه الى الجبانة. كان هناك عدد غير صغير من الادباء الذين استعدوا لتأبينه. ووضع النعش وكشف عن وجه ونهضة احد المؤبدين ولكن ما انشرع في القاء كلماته حتى صاح شقيق للمتوفي يقول انه رأى شقيقه يرمش وانه لا يزال حيا وكانت المسألة لا تزيد على ان العاطفة قد تغلبت على عقله. ولكن كانت النتيجة ان المشيعين عادوا ولم يسمعوا تأبين. وترك حارس الجثة الى الصبع مؤلفات جورج الزيدان لا تزال حية وهي اقرب الى التلخيص منها الى الاسهام. لانه عالج موضوعات لم يعالجها احد من قبل. فكان يستوعب اكثر مما يستطيع اضطروا الى الاقتضاب ولم ولما ان شئت الجامعة المصرية كلف بالقاء محاضرات عن التاريخ الاسلامي. ثم عادت الادارة الجامعة فالغت هذا التكليف بدعوى انه مسيحي. وقد تركت هذه الحادثة في نفسه مرارة. كان لا يفتى ليذكرها في حزن والم. وكان فرح انطون يصدر الجامعة. ان كان من وقت لاخر ينتقد الهلال. وكانت مجلة الهلال شرقية ومجلة الجامعة غربية. فلم يكن هناك نقطة للتعارف او التصادق بين صاحباهما اتصلت صداقتي بفرح حين شاركت في التحرير اللواء لفترة قصيرة حوالي الف وتسعمائة وتسعة. وكنا نقضي السهرة في احدى القهوات المطلة على ميدان الاوبرا او ما يقاربها. ان كان فرح مفكرا حرا بالمعنى الفرنسي لهذه العبارة. وكان يعرف نيتشا اوروسو. وقد اندمج بعد ذلك في الحركة الوطنية المصرية وكان حلبي الاصل. ولذلك شق عليه اتخاذ اللهجة المصرية العامة وكان انبساطيا مفرحا يشرب الخمر بل كان يشرب الابسنت وهو مشروب منع بيعه بعد ذلك لفتكه بالصحة. وقد ترك كل من جرج زيدان وفرح انطون نثروا في النهضة المصرية فان الاول فتح ابواب الدراسة لتاريخ الاسلام والعرب وادابهم وعقائدهم وحضاراتهم كما فتح الثاني ابواب الدراسة للنهضة الاوروبية ومات الاول حوالي الخمسين ومات الثاني حوالي الاربعين. وفي تلك السنوات عرفت يعقوب صاروخ محرر المقتطف. وكان قد فاز الستين واذكر انه لاول مقابلة لشرع يسألني عن اصله هل انا مصري ام بعرق اجنبي؟ ان كان قد قرأ رسالتي مقدمة السوبر مان وبعد حديث في العلوم عادة فجزم بان اجنبي. وان تفكيري يدل على هذا. وكانت نزعته العلمية قد طغت عليه. فلم يكن يحسن التقدير للادب او الفلسفة ودار بيني وبينه نقاش ذات مرة عن هيبرتس بنسر وشيبونهار فبرزت ان القيمة العظمى للفيلسوف الالماني الذي نظر النظرة القيونية الشاملة اما هو فكان يرى ان سبنسر اعظم المفكرين في العالم وان شبنهور لا قيمة له بتاتا الا في ملاطفات ادبية او مجازفات فلسفية وكان المقتطف في قيامه من المجلات القوية التي وجهت القراء العرب الوجهة العلمية وانارت بسفرتهم. ولم يكن جافا في ايراده للبحوس العلمية. كما انه كان من وقت اخر يترجم الى العربية مقالات جدية من المجلات الاوروبية وفي ادارة المقتطف وجدت امين المعلوف وكان لغويا علمي الذهن. وقد وضع معجما بعد ذلك للحيوان لا يزال احسن ما يعتمد عليه في هذا الموضوع بيني وبين امين معلوف صداقة الى وفاته. وكان يكثر من الشراب وقبيل وفاته بعامين او ثلاث اصيب ببحة كانت تجعل الحديث مع شاقة لكنه احتفظ ببشاشته وذكائه وقد عاش من المعلوف ملء حياته فاشتغل في السودان ووصل الى اقاصيه العليا حيث افريقيا السوداء كما اشتغل في مصر والعراق وهو مثل فرح انطوان لم يتزوج. ويجب ان اذكر هنا ان جميع هؤلاء الاربعة كانوا سوريين او كما نقول الان بعد التجزئة التي اعقبت انهيار الدولة العثمانية لبنانيين. وكانوا جميعهم كارهين للحكم العثماني لا يطيقون ذكره. وكان اذا شرع احدهم في الحديس عنه لم يتمالك من الغيظ. ما لم يكن وجدان وطنية لان رؤية الاستقلال للعرب لم تكن قد تجسمت. وكان اليأس اغلب عليهم وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب الكبرى الاولى. بقوا على من حقيقة الاستقلال المزعوم لهذه الدول العربية واظن انهم كانوا على حق في هذا ومن الشخصيات الفذة التي عرفتها قبل الحرب الكبرى الاولى شخصية الاديب الكبيرة مي. وقد بقينا صديقين الى يوم وفاتها عقب عودتها من مستشفى الامراض العقلية في لبنان نعم ولم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوة وكانت تعرف الاداب الانجليزية والفرنسية وتقرأ كثيرا وتقف على الاتجاهات العصرية في اوروبا وامريكا والشام كانت ايضا متمدنة من حيث اكتمال وسائل التمدن في المعيشة. وكان تمدنها وثقافتها يكسو ان وجهها وتعبيرها ظرفا ورقة. قد استطاعت مي ان تجعل احتراف الادب عند الفتاة المصرية والسورية زينة انسوية لاسترجالا كريهة. وكانت في حياة ابويها تعقد بمنزلة اجتماعات صالونية حيس يكون السياسي والاديب والوجيه بعض ضيوفها. ان كانت تشترك في جميع المناقشات بل كانت احيانا تديرها. وقد تنبه ذكاؤها كثيرا لاختلاطها بهؤلاء الضيوف. ولم يكن هناك موضوع تعجز عن الاشتراك في معالجته وتفعل كل ذلك في رقة وجمال وتمدن ومات ابوها فلم يتأثر الصالون ولكن عقب وفاة والدتا تزعزعت مي ولم يكن ذلك في ظني لحزنها على والدتها التي ماتت بعد ان اسنت وبعد ان كان موتاها منتظرة. وان كانت الفرقة بين الام وابنتها قد تركت اثرها وخاصة عندما نعرف ان مي لم تتزوج. وان اذ قتل الامة كانت تعزيها ما ليس من السهل على فتاة ان تجد نفسها يوما ما وهي منفردة مقطوعة في منزلها وخاصة في وسط مهما قلنا انه متمدد لا يزال شرقية على اني اظن ان السبب للتزعزع النفسي الذي اصاب مي كان انتقالا الفسيولوجي من الشباب الى الكهولة. وهذا الانتقال كثيرا ما يخل بالاتزان الفسيولوجي عند بعض النسوة قد ماتت مي منذ اكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى امراض العقلية في لبنان. ولما عادت زرتاما صديقي الاستاز اسعد حسني فتحت هي لنا الباب فرأيت شخصا لا اعرفه رأيت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين. فستدرت عيني بفيغمزني اسعد وهمس الانسة. ماي الانسة مي كلمت وتضاحكت ولكنها هي ادركت كل شيء واستولى علي اكتئاب وخجل وجمود. وارتسمت في ذهني صورة لعذاب النفس الذي لاقيتها وكيف اضربت هي عن الطعام ثم وهنا للاسف والحزن كانت هي وتروي وهي تروي لنا ما وقع لها وكيف ان ادباء مصر نسوها وتركوها ولم عنها كانت تضحك مرة وتبكي اخرى وتكرر تكرر هذا منها كثيرا. وادركت انها لا تزال في حاجة الى المستشفى وزاد اعتقادي هذا عندما اصرت على انه كان لها اقرباء ينوون خطفها من القاهرة. وكانت تذكر اسمائهم وانهم كانوا يتربصون بها في مكان تعينه. وكانت هي مضطرة الى المرور بهذا المكان. خرجنا نحن الاثنين ونحن في اسف وغم لهذه الحال التي كانت عليها ماي ولكن اسفي انا كان مزدوجا فاني بقيت طوال المساء وانا افكر في جمودي وكيف اني لم اتنبه عندما رأيتها بالباب فاحييها تحية اشتياق وتقدير انها لابد وقد عرفت من جمود انها قد تغيرت. ان جمالها وحلاوتها وظرفها ورقتها قد زالت. وملأتني هذه الخواطر مرارة بل كراهة لنفسي فلما كان اليوم التالي قصدت الى منزلها وانا طوال الطريق استعد للقاء. ارجو ان اقشع به غمامة الامل. وهو مع ذلك لقاء لفتاة مريضة مزعزع. فلما فتحت لي الباب عانقتها في حنان صادق وحب مصطنع وتراجعت هي وتأملت وجهي في ابتسام وانشراح واضحين وهي تقول ميرسي ميرسي يا استاز. وشعرت اني كفرت عن جمودي بالامس وقعدت معه وانا اتحدس في نشاط ومرح ولكنها عادت الى البكاء والضحك كانت دموعا تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تتشنج بالضحك. وبعد اسابيع ماتت اذ لم تطق هذه الدنيا التي رافقتها اكثر من ثلاثين سنة وهي تتلألأ فيها بالشباب والجمال. ثم عادت فتركتها فتركتها منفردة في شيخوختها بلا جمال وبلا تلؤلؤ ومخلفات مي الادبية كثيرة ولكنها كانت في حديثها ابرع وازكى مما كانت في جميع ما كتبت. وكنت اقول لها ان السبب لتفوق حديثها على مقالاتها مؤلفاتها ان شرقية تخاف في الكتابة ان تبوح بكل ما تفكر فيه. ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديس. قد صدمتني ذات مرة بملحوظة جعلتني افكر هي قولها ان مبالغتك في التفاؤل هي في صميمها واصلها مبالغة في التشاؤم واحيانا اظن انها كانت صادقة كما انها هي ايضا كانت مثلي متفائلة ذلك التفائل الذي يخفي التشاؤم اضمره. وقد يسأل القارئ هنا لما لم تتزوج مي مع جمالها وثقافتها فالجواب انها كانت تعيش في وسط شرقي. لو كانت مايو قد نشأت في برلين او باريس او لندن لوجدت الكثيرين ممنشدون الشرف والسعادة بالزواج منها والفخر والمجد بالتصادق بالتصاق تاريخهم بتاريخها. ولكن اخواننا اللبنانيين على الرغم من عصريتهم لا يزالون ولم يستطيعوا ان يصيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون ادبي او حرية الصالونات الاوروبية في المناقشة والاختلاط. بكلمة اخرى اقول انما هي عاشت عمرها قبل ميعادها بخمسين سنة وقبل الحرب الكبرى الاولى عرفت عبدالرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان وكانت هذه المجلة الشهرية تحاول ان تحيي الاسلوب تحيي الاسلوب العربي القديم على نحو ما فعلت جريدة مصباح الشرق للمليحي. او كما تفعل الان مجلة الرسالة وكان البرقوقي نقيضي في اهدافه الادبية. قد كان يجد لذة عجيبة في التعبير عن معنى ما بكلمة مماتة ويقول اننا يجب ان نحيي هذه الكلمة ولم يكن يجدي احتجاجي عليه بان الكلمة انما اميتت لاسباب قوية استدعت موتها وان احياء الان خطأ العناية المركزة الاجتماعي قد انعدم وكان صهره مصطفى صادق الرفاعي اكثر امعانا منه في خطة الاحياء للكلمات الممات وعرفت محمد السباعي وكان الكاتب الاول في مجلة البيان اما الكاتب الثاني فكان عباس حافظ. وكلاهما كان يعنى باكبر عن العناية بالاسلوب العربي القديم. ولم بمجلة البيان لا كثير ولا قليل من الفن الصحفي ولذلك لم تعش طويلة وكان عبدالرحمن البرقوقي من اطيب الناس وكان غربي الذهن قضت المصادفات بان يكون شرقي التربية والثقافة. كنا احيانا نمشي في الاسكندرية فيأخذ في مقارنة بين الشوارع التي اقيمت اليها مساكن الاجانب وبين تلك الاخرى التي اقيمت الى مساكن المصريين. ويستنتج من هذه المقارنة ما يحمله على القول عن ان الشخص كله مفلس. وقد عرف الشيخ محمد عبده وادراك المغزى في اتجاهاته واصلاحاته واذا كان حقا ان الخمر تكشف عن خبايا الصدور وتفكك الضوابط التي تحول دون الصراحة فاني اروي الحادث التالي الذي يدل على النفس الزكية التي كان البرقوقي وقد كنا على قهوة في الاسكندرية حوالي الف وتسعمائة واربعة عشر وقد قعدنا الى الموائد الخارجية والنسيمة يهب علينا كأنه البلسم في رقته ورخامته وامامنا اكواب من البيرة او غيرها نشربها في اشتهاء ولذة. ثم طلبنا رطلين من الكباب فجاء بهم الخادم وبخار الكباب يتصاعد رائحة الشواء تسكر وما ان شرعنا نتنقل على هذا الطبق حتى طرأ علينا المتسول وكان غاية في الرثاثة والجوع والعفن. ان طلب احسانا فتأمله البرقوق ثم نظر الي كانه يستفهم ثم دفع الطبق الى طرف المائدة وقال للرجل كل واكل الطبق كله برطليه من الكباب وهو واقف. وكان يسكن وهو هو ومجلته بالقرب من باب الخلق. وكانت الجريدة قريبة منه. وقد دعوت قبائل الحرب الكبرى الاولى الى ان نزور معا لطفي السيد باشا رئيس تحريرها انا لم اكن اعرفه قبل ذلك الا من مقالته مع ايجابي العظيم بها. فلما دخلنا عليه وجدت غرفته كأنها غرفة وزير في ساعتها واثاثها. وتحدثنا النتشة والتصوف ولا ادري الا الان كيف جمع بينهما لطفي السيد. ولكني خرجت من هذه المقابلة الاولى وفي اعتقادي ان لطفي السيد اديب كما هو فيلسوف وحوالي تلك السنين او قبل ذلك بقليل بزغ طه حسين وكان ازهريا معمما. يكره الازهر ويعربد على صفحات الجريدة. والتحق بالجامعة المصرية ونال دكتورية الادب وكان الفرح عاما بين الشباب الجديد لهذا الازهري الناجح. وكنت اصدر مجلة المستقبل الاسبوعية في الدعوة الى القرن العشرين وما بعده فنشرت صورته وهو وهو بالجبة والقفطان وراجع العدد بين القراء الذين رغبوا في اقتناء السورة وكان لنجاح طه حسين قيمة رمزية هي ان مصر العتيقة تستطيع ان تتجدد. وقد وجد طه حسين من لطف السيد المراعاة بل احيانا المحاباة حتى كانت مقالاته تتحيز المكان الاول في الجريدة على الدوام والواقع انتقال طه حسين من الازهر الى الجامعة المصرية ثم الى السوربون مع انه ضرير هو معجزة. ولكن ثم معجزة اخرى هي انه اتخذ مكانا اماميا ثوريا مستقبليا في الادب. مع ان الانسان كان يتوقعا بعد اعتبار ما ان يتخذ مكانا تقليديا حيث يراعى قواعد النحو والصرف في الادب والاجتماع والسياسة وقد يقال ان المعري قد اثر فيه وبعث في نفسه كراهة قواعد النحو والصرف في اسلوب الحياة. ولكن يبقى عندئذ سؤال هو لماذا اختلط حسين لكي يكتب عنه ويسف في الكشف عن عقله وقلبه. ولا عبرة بان يقال ان الاشتراك في العاهة باعث مقنع للقوة الجاذبية التي وجدها طه حسين في لان هناك ادباء وشعراء كثيرون بهم بهم هذه العوى لكنهم لم يكذبوه. وظن ان عاهد العمى لم يكن لها الا اقل الاثر في التفات المصري الى اديب المعارضة وانما الاثر الاكبر انهما يشتركان في الثورة وخاصة الثورة على المشايخ فقد رأى طه حسين في الازهر ما بعث سخطه وحركه الى الكفاح. ثم رأى عند هذا السخط مثل هذا الكفاح ارتبطت بين الاديبين اواصر الحب والفهم وتعارفا وتفاهما. وقد انتقلت عند طه حسين بعد ذلك بؤرة المعركة من ميدان يظهر الى ميدان السياسة المصرية ولكن اتجاهه الاول لم ينحرف. هناك من يزعم ان السياسة قد افسدت ادباؤنا وشغلاتهم من مهمتهم الاصلية وهذه المهمة ان ما هي عند هؤلاء الزعاميين ادب البرج العاجي الذي لا يتصل بالمشكلات العصرية. ولكنهم مخطئون لان الاديب في عصرنا يخون عصره اذ لم يكن سياسيا واعني بالطبع السياسة العليا العالمية والقطرية ولا يعني ان يستأجر احد الاحزاب كاتبا فيرصد هذا قلمه للدفاع عنه ظالما او مظلوما في مؤترات مزرية ونحن نعيش في عصر فجائري يحفل بالانقلابات الاجتماعية والادبية والعلمية وذلك الاديب الزائل الذي يعيش في البرج العاجي انما يبتعد عن اهم الشئون بشرية حيث يبتعد عن السياسة وكل اديب له وجدان بتطور العالم في عصرنا يحس ان واجبه الاول ان يكون هو نفسه عنصرا من عناصر هذا التطور ولذلك يستحيل ادبه الى ادب كفاحي سياسي. ولذلك لا يستحق ادباؤنا اللوم على انهم خضعوا ادبهم للسياسة. بل الحق انهم يستحقون الثناء والحمد. من حين يتأمل الصدود الذي نلاقيه احيانا في بعض الافراد او عند الجميع عن شوقي عن شوقي على الرغم من شعريته الرائعة اعتقد ان مرجعه ان شوقي لم يمارس الادب الكفاحي ولم يطابق بين فنه وبين ايمانه الشعب الا في فترات النادرة وان اعجابي الشعب وان اعجاب الشعب بحافظ ابراهيم على الرغم من شعريته التي لا تسمو الى مستوى شوقي انما يرجع الى انه طابق بين وبين امانينا السياسية وحتى في المستقبل بعد مائة سنة كمثلا سوف يدرس حافظ ويستبدل بشعره على عواطف الامة المصرية واتجاهاتها ومستواها الفني في اكثر مما يدرس شوقي الذي عاش زمنا على غير قصير من حياته في البرج العاجي ولم اعرف شوقي الا في السنوات الاخيرة من حياتي وكان له مكتب بالقرب من دار الكاتب المصري كنت ازوره فيه. وقد فهمت مقدارا كبيرا من سيكولوجيته حيس شرع اذا تمرة يوضح لي في حساب لماذا الف دراما كيلوبترا فقد آآ فقد زعم انه اراد ان يزكي هزه المرأة باعتبارها ملكة مصرية قد اليها في سمعتها وداعش اكبر الدهشة مني عندما نقضت وقلت انها لم تكن مصرية. وكان في ثقافته يصبو الى كل قديم حتى انه لم يدرك شيئا من التيارات الكاسحة التي ابتسم بها الثلث الاول للقرن العشرين قد ولد شوقي في اواخر القرن التاسع عشر في مصر في بيئة البشاوات والبكوات التي كانت تكره عرابي ولم اقطع الحبل السري الذي كان يربطه بالقرن التاسع عشر الى يوم وفاته. اما حافظ ابراهيم فكان من الجواهر التي لا تزال تلمع وتسطع في ذكريات جميع الذين عرفوه كان يمتاز او يتسم بوجه كالح متجهم يصدم بل يخيف الاو النظرة حتى اذا قضى معه الانسان نصف ساعة ود لو ينهض ليقبله. ويعانقه فقد كان انيسا يحدثك بين كات بالمعنى العربي القديم لهذه الكلمة وكان وطنيا يطابق بين امانه وامان الدهماء من من الفلاحين والعمال والمتوسطين واذكر من نكاتي اني سألته اذا تمرعن رأيي في احد الشعراء فكانت اجابته العجيبة ان اشعاره يجب ان تنسى عن ظهر قلب وهو عندي ذكر آآ وهو عندي ذكر تترنم بها نفسي وليس هناك مفر من المقارنة بين شوقي وحافز ومطران فان دراسة هؤلاء الثلاثة تدل على الطيارات المتناسقة والمتناقضة في المجتمع المصري في الخمسين من السنين الاخيرة فاننا نحسو احيانا في قصائد شوقي ومقطوعاته جو الطرف المصري الذي اوشك على الزوال. السجاجيد الايرانية وصينية القهوة الفاخرة يحمل عبد اسود والمقاعد الناعمة والحجاب حجاب المادة والروح. اما اشعار حافظ ان صرخات المتألم واحيانا مهاترات العاجز ونحن نقرأها عناصر فنصرخ من معه او نتهاتر في الم وعجز. لانه منا ونحن منه شاعر مصري بلدي يقرأ اخبار المظاهرات ويفرح بها ويؤلف القصائد عنها وكأنه يريد ان ينتظم ما فيها مع الطلبة. اما مطران فيشبه احيانا تلك الحدائق الانيقة التي يجمع فيها اصحابها الاثرياء اوصص النباتات الاجنبية التي نسأل عن اسمائها ونعجب بروائها ولكن ليس لها في قلوبنا ذلك الحنين الذي نحسه حين نذكر حقولنا المألوفة بفلاحيها وجداولها واشجارها ومن الجميز والتوت. ومن الشخصيات الذهبية التي تبرز في وجداني وافتى واذكرها كلما عن كلما عنها حديثها عن الادب او القلم او الشرق او الحضارة شخصية شبل شميل وكان رجل قصيرا متكتل الجسم كأنه مصارع. عرفته في الف وتسعمائة واثني عشر بقينا على اتصال بل تحاب الى وفاته في اواخر الحرب الكبرى الاولى. كان في تلك السنوات يقارب السبعين ولكنه كان على صحة وشباب نادرين. وكان روح الكفاحي للغيبيات يسم. يسم وقد اه يسمو وقد يقول غيري يصم كل كتاباتهم ذلك انه كان يدعو الى الحرية الفكرية في كلمات جريئة واحيانا في وقاحة جريئة كما كان يدعو الى نظرية النشوء والارتقاء اي التطور. قد نقل الى لغتنا كتاب بخنار في هذا الموضوع وكان يسخر من الغيبيات في كلمات لا يجرؤ غيره عن استعمالها. ولما اصدرت مجلة المستقبل في الف وتسعمائة واربعة عشر ايدني وكان توفي بتوقيعه او بلا توقيع وقد كتب فيها قصيدة فلسفية لم افهم غايته منها والى الان لا افهمها وكان شبلي شميل مفكرا اكثر مما كان عالما. وكان يقنع يقنع القارئ بعقله وليس من معرفه. ولذلك عندما نقرأ مخالفاته الان نجد التفكير الرصين الاسلوب الرصين. ان كان كثير من المعجبين بي يستهويهم اسلوبه وكان هو يرد على ذلك بان رصانة الاسلوب هي ثمرة الرصانة في التفكير ماذا حق؟ ولكني مع ذلك كنت عند زياراتي له في منزلي اجد التوراة امامه واجد اثار التنقيب فيها. وكنت حين اداعبه بان مكافحته الغيبيات لا تتفق وهذا الغرام بالتوراة كان يجيب بانه يحب بلاغة التوراة وان اهتمامه بها لغوي اثري وكان من حيس المزاج والتفكير بل المعيشة اوروبيا متمدنة. وكان يحمل على عادات الشرق وتقاليده في لهجة غاضبة. وكان متدينا شديد التدين بالمتعصب في تدينه بالديانة البشرية وظهر هذا التدين عند اعلان الحرب الكبرى الاولى فانه بقي اسابيع وهو هاجم كما لو كان قد استولى عليه نيو روز وظني انه لو كان في سن الشباب لتطوع لمحاربة المانيا لانه عدى هجومها عجوما على المبادئ البشرية. ان هذه الديانة البشرية التي ذكرت وكان ايضا ديانة جميل صدقي الزهراوي الزهاوي ولكن الزهاوي كان يعمل في بغداد. في السر والظلام. في حين كان شبل شميل يجاهر ويعلن ولا يبالي وحوالي الف وتسعمائة وخمسة وعشرين زار الزهاوي القاهرة مع السيدة زوجته وسارع الى السؤال عني. قضينا اياما ونحن نلتقي ونتحدس في كل شأن وكان رجلا ضئيلا قد بلغ السبعين او تجاوزها كان يسير على ساقين ركيكتين تكادان تعجزان عن حمله. وكان ايضا غربي الذهن على ذكاء خارق ولكن على المعارف الناقصة في العلوم العصرية وقبل ان يغادر القاهرة سلم اليها مخطوطة هي ديواني يجمع عددا من قصائده التي لو طبع بعضها لادى الى السجن. لانها طعن وقح في كثير من العقائد التي اصطلح الناس على تقديسها. ان هذا الديوان بعد ان بقي عند سنوات طلبه مني زكي ابو شادي ولا يزال عنده الى الان. ولا اظن ان الظروف الحاضرة او القادمة في القريب ستؤذن بطبعه. قد تركنا تركنا زكي ابو شادي يعيش في الولايات المتحدة ولانه يعتقد ان الرجعية الفكرية قد خيمت على مصر في في هذه السنوات الاخيرة وان الاحرار لهذا السبب لا يستطيعون ان يتنفسوا في الجو الخانق الذي سعى الانجليز لايجاده في جميع اقطار الشرق العربي. ونحن نخسر كثيرا ثيابه عنا انه اديب عالم وقد اخرج مجلة والف كتبا خدمت مصر وبسطت لنا افاقا للتفكير العصري. وهو يجيد الكتابة بالانجليزية كما تجدوها بالعربية وله عندي مؤلف باللغة الانجليزية في الديانة البشرية جدير بان يوضع في صف من المؤلفات التي من نوعه في اية امة اوروبية متمدنة وحين اراجع المعاكسات التي لقيها زكي ابو شادي والتي ادت او ادى بعضها الى تركه لمصر زيادة على موجة الرجعية التي اكتسحتنا هذه السنوات الاخيرة اجد ان تعود الى انه متمدن وانه في سلوكه فضلا عن لغته لا يبالي ان يكون عصريا. وهذه العصرية صنع عمل بعض الاشخاص المتمدنين والناعون هم على الدوام شرقيون تقليديون كارهون للحضارة العصرية. ولكنهم في كراهتهم لا يتشاؤون الى حضارة مستقبلية راقية او ارقى مما نجد في حاضرنا فليرجعون الى تقاليد وعادات تنافي العصر الديموقراطي وتنكر مبادئ ومن هنا فرار زكي الى الولايات المتحدة وكراهته لجونا الحاضر وهذا هو ما يجب ان نأسف جميعا وان نتأمل في مغزاه كثيرا. ومن الاحرار الذين عرفتهم محمود عزمي وهو الان في معتدل ولكنه كان في شبابه جريئا واسع الافاق بعيد الامداء كان يجري في غلواء الشباب دعوته ذات مرة في اواخر الف وتسعمائة وثلاثين الى ان يكتب للمجلة الجديدة مقالا وشارط عليه ان يكتبه بالحروف التي وكان هذا قبل ان يناضل عبدالعزيز فهمي باشا لاجل الخط اللاتيني بنحو خمسة عشر سنة. ولم ينزل عن رأيه الا بعد مناقشات متكررة وكان يدعو الى القبعة بها في شوارع القاهرة. قل ان نجد كاتبا مثل محمود عزمي في نصاعة تفكيره وصحة منطقه. وهو هنا يشبه كثيرا عبدالقادر حمزة ومن الملذات الذهنية ان يقرأ له الانسان مقالا يناقش فيه الموضوعات السياسية مناقشة موضوعية في تعقل بعيد عن الزخارف اللفظي او الاوهام البلاغية وعندما ارجع بذاكرتي الى كثيرين من الادباء وبعضهم لا احب ان اذكرهم واتأمل المجهودات العظيمة التي بذلوها والنزعات النبيلة التي نزعوا اليها في في اول عهدهم بالكفاح الادبي ثم كيف انتكسوا منهزمين راضين بالماضي بدلا من ان يقتحموا المستقبل عندما يتأملهم اجد ان الغيب لم يكن فيهم وانما هو ايضا في هذا القدر الذي احاطنا بظروف سياسية استعمارية اجنبية او استبدادية داخلية. تعقبنا نحو انه الادباء على التقدم والرقي وتكافئنا على التأخر والانحطاط اجل. هذا القدر القاسي الذي يهيئ لقوات الظلام في مصر وفي اقطار الشرق العربي كي تخيم على دعاة النور اطمس نورهم وقد كثير من النور التدابير الانجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا لم يكتب تاريخ الجناية التي جنتها بريطانيا على مصر الى الان لم يكتب لا تفصيلا ولا اجمالا. وهو حين يكتب سوف يقف الجمهور في مصر كما تقف شعوب العالم خارج مصر على جنايات تتجاوز حدود الخيال وقد هبت الامة في الف وثمانمائة واثنين وثمانين بقيادة عرابي تطلب من الخديوي توفيق طلبا متواضعا بالمقارنة الى سائر الامم هو الحكم البرلماني. وبعد ان سلم الخديوي بهذا الطلب اعادف ما حكى فيه وانتهى الى القول بان مجلس النواب يستطيع ان يفعل ما يشاء الا النظر في الميزانية ومعنى هذا انه لا يستطيع شيئا بتاتا. لان كل مشروع يحتاج الى مال يدخل في الميزانية. واذا يستطاع الغاؤه ويعود البرلمان كما لو كان جمعية اعضاؤها على الخطابة العقيمة الثرثارة. واذا كان جائزا لملك او امير ان يطلب مثل هذا الطلب من امته لكان يجب في ظروفنا في الفين مائة واثنين وثمانين الا يجوز مسل هذا الطلب من الخديوي في مصر لاننا في تلك السنين كنا خارجين من سنوات الافلاس للحكومة المصرية. وهو الافلاس الذي كان يرجع سببه الى تصرف الخديوي السابق اسماعيل. وما زلنا نحن الى الان في الف وتسعمائة وسبعة واربعين نؤدي اقساط هذا الدين الابدي. كان الخديوي توفيق يصر على منع النواب من النظر في الميزانية بتحريض المالين. اي السياسة لان السياسة هي المال من الانجليز والفرنسيين. ان هؤلاء كانوا يوقنون بان الدين المصري ظلم فاحش واحتيال سافل. وكانوا يتوقعون من النواب المصريين عرقلة في دفع الاقساط ان كان لذلك خوفا من الحركة الوطنية المصرية وتأييدهم لاستبداد الخديوي توفيق في اصطدامه بعرابي وشخصية عرابي هي شخصية مقدسة في تاريخنا شخصية الفلاح الناهض الذي لم يطلق رؤية ابناء الاتراك والشركس والارمن يمتازون على ابناء المصريين في الجيش والادارة. فصارت على هذا النظام ثم رأى ان النواب في ثورة اخرى لاجل الحكم البرلماني الصحيح. فاندغمت كورتان ضد الخديوي توفيق وضد طبقة الاتراك والشراكس وراء الانجليزي الخطر على ديونيم التي اوقعوا فيها اسماعيل كما رأوا الفرصة سانحة كي يحتلوا مصر. ثم يحيلوها بعد ذلك الى مزرعة للقطن تغنيهم عن الواردات الامريكية من كما يقفون ايضا على قناة السويس وهي باب البحر المتوسط الى اسيا وكانت الحرب بين الانجليز المستعمرين اي الساسة التجاريين والصناعيين وبين الفلاحين المصريين ان كان يعاون الانجليز في هذه الحرب الغادرة عرب الصحراء والاتراك والشركس ولم يكن عون الفلاحين احد وانتهت الحرب بهزيمتنا اي هزيمة الفلاحين المصريين ودخلت مصر سياسيا في العصر الجليدي ومحي اسمها من التاريخ ووقفت تطورها نحو خمسين واعاد الانجليز الى الخديوي سلطته الاستبدادية والغوا البرلمان. وايضا اعادوا حكم الاتراك والشركس والارمن. كما نرى مثلا ان رئاسة الوزراء لم سلم الى مصري من ابناء الفلاحين منذ الف وثمانمائة واثنين وثمانين الى الف وتسعمائة وثمانية اي مدة ستة وعشرين سنة تولى فيها هذه الرئاسة ابناء او الارمن والشركس والاتراك وحدهم وبقي الانجليز بعد ذلك على هذه القاعدة كلما رأوا نهضة من الفلاحين فانهم كانوا يعمدون فورا الى احد ابناء الاتراك او الشركس فيؤلونه رئاسة الوزراء يحطمها بنهضة الفلاحين اي الحركة الوطنية ثم شرع الانجليز في مهمتين سلبيتين احداهما منعا للتعليم فاوقفوا المدارس وثانيتهما منع الصناعة فلم يأذنوا باقامة مصنع بل لقد اقمنا مصنعا لنسيج القطن في بولاق حوالي الف وتسعمائة اشتغل وانتج الاقمشة فتعقبوه بالمعاكسات حتى اقفلوه وعينوا مديره الايرلندي في وظيفة حكومية ولا تزال اسسه قائمة قد حصلت من كامل صدقي باشا على احد الاسهم التأسيسية لهذا المصنع الذي عمل الانجليز على افلاسه ثم حددوا التعليم وصرحوا بان المقصود منه ايجاد الموظفين فقط للحكومة. ان كانت مدرسة الطب محدودة العدد حتى ان خريجيها في بعض السنين لم يكونوا دون على ستة او سبعة اطباء في العالم كله. ان كان اطباء الجيش المصري يجلبون من لبنان من خريج الكلية الامريكية في بيروت. وكانت وكان مع ذلك افضل من حال الهنود. فان هؤلاء كانوا محرومين من مدرسة للطب الى الف وتسعمائة وعشرين. فلم يكونوا يتعالجون وهم ربعمئة مليون من امراضهم الا على ايدي الدجالين او على ايدي الاطباء القليلين جدا الذين تعلموا في امريكا واوروبا فتعقل هذا ايها القارئ تعقل وتدبر في هذه القسوة وكيف كنا محرومين من الاطباء قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر الا خمسة او ستة تخرجهم من مدرسة كل سنة وكيف حرم الهنود حرمانا باتا من مدرسة للطب لالف وتسعمائة وعشرين. واني اذكر فيما بين الف وتسعمائة والف وتسعمائة وخمسة عشر اني لم ازور طبيبا مصريا لا انا ولا احد في من اعضاء عائلتي. ولم اكن اسمع عن طبيب مصري. اذ كنا اذ كان كل الاطباء الممارسين بالقطر المصري في اجانب من اليونانيين او الايطاليين او الانجليز او الفرنسيين. بل اكثر من هزا ففي الف وتسعمائة وسبعة وعشرين كان علي ماهر باشا وزيرا للمعارف سنحت له فرصة في احالة الجامعة الشعبية الى جامعة حكومية وكانت هذه الفرصة هي غياب المندوب السامي البريطاني جورج لويد وجمع المختصين وصرح لهم باننا يجب ان نبادر وان نؤسس الجامعة المصرية على اساس ثابت في غياب لانه اذا جاء قبل ان ننتهي من هذا العمل فانه سيعارض ويمنعنا من ايجادها. وتلك كانت خطة الانجليز لتبوير العقول المصرية. وتم تأسيس الجامعة في غياب اللوردلويد ولما عاد الى مصر وجدها قائمة كان ينتفض غيظا وجزعا. وكانت همة الانجليز المشؤومة في منع تتجه الى البنات كما تتجه الى الغلمان لانهم منعوا التعليم الثانوي للبنات ولم نستطع ايجاد مدرسة سانوية للبنات الا في الف وتسعمائة وخمسة وعشرين وكانت وزارة المعارف ترسل بعثات الى اوروبا وتشترط على اعضائها الا يلتحقوا بها الجامعة. واذا فعلوا فصلوا من البعثة وحرموا الاعانة المالية. هذا من ناحية للتعليم من حيث المنع من حيث من حيث تحديد الكم. ولكن حملتهم المشؤومة كانت تتجه ايضا نحو الكيف. فكانوا مثلا يصرون على الا تدخل بنت في مدرسة السنية الابتدائية اكرر كلمة ابتدائية الا وهي مبرقعة كما كانوا يصرون على ان يكون معلم اللغة العربية معمما. خيرة على حتى نبقى من دعاة الفعل الماضي نعيش في الامس. اما من ناحية الصناعة فقد عرفوا المصنع في عام الف وتسعمائة واربعة بانه محل مقلق بالراحة او مضر بالصحة او خطر. ولا يزال هذا التعريف قائما الى الان. وهو يكفي لاقفال اي مصنع في العالم. ولذلك لم يجرؤ احد على انشاء مصنع الى الف وتسعمائة وتسعة عشر بل اني انظر في جداول الصادرات والواردات في الف وتسعمائة وثلاثة عشر. نجد ان الواردات الى مصر كلها من السلع الانتاجية اي الالات لا يزيد يثمنوه على الف وثمانمائة جنيه اي اقل مما يحتاج اليه مصنع صغير في سنة واحدة واتجه الانجليز الى احالة القطر المصري كله الى عزبة للقطن وانبعثت هممهم الى زيادة محصوله بايجاد المشروعات للري حتى يتوافر فيشترونه رخيص ولا يخشون المزاحمة الامريكية في الاسواق العالمية. ولم يكن الانجليز قط امة زراعية فكان من العجب ان يفتون وهم يفتون وهم في الزراعة ويتسلطوا على حظوظنا فيها. المتأمل لتاريخ وزارة الاشغال ووزارة الزراعة نجد انهما كانتا تعملان وتشتركان لهدف واحد. هدف واحد ليس له ثان هو زراعة القطن الاولى تقييم القناطر وتخزن المياه من المياه وتشق القنوات والثانية تقوم بالتجارب لايجاد سلالات جديدة من القطن تمتاز بها صناعات لنكش في انجلترا اما كيف نصنع قطن قطعة الجبن او كيف نزرع التفاحة او كيف نربي الدجاج او كيف نزيد ثروة الفلاح. وكل هذا لم يخطر قط بالاذهان المالية سياسية البريطانية قد ادى بنا هذا الى اننا ونحن امة زراعية كما زعموا كنا نشتري تفاح بجنيه ونصف مدة الحرب الاخيرة والانجليز في جنونهم بزراعة القطن لم يبالوا قط بما سوف يؤدي اليه خزن المياه في النيل وتوفيرها في قنوات الريف من الاراضي يبالوا اية مبالاة سواء بصحة التربة او صحة الفلاحين او الماشية او النبات فان اي انسان مهما يكن جاهلا كان يستطيع ان يفهم في الف وتسعمائة مثلا انه اذا استشبعت التربة بالمياه الوفيرة فانها ستملح وتقل خصوبتها كما ان الحشرات والديدان ستعيش فيها وتتكاثر. ولابد ان تفشوا ديدان البلاريسيا والانكلستوما والسكارس. وقد فشت هذه كل هذه الديدان التي لم نكن نعرفها في الف وتسعمائة الا قليلا جدا. اذ لم يكن بين الفلاحين ممن يحملون هذه الديدان في اجسامهم تأكل لحومهم وتشرب دمائهم من الف وثمانمائة وتسعين الى الف شيماء سوى اثنين او ثلاثة في المائة فاصبحوا الان بفضل جنون الساسة التجاريين من الانجليز نحو ثمانين او تسعين في المائة. واصبحنا امة مريضة نحاول الان ان نشفي فلاحين من هذه الديدان ومحاولتنا الى حد بعيد عقيمة لان اساس الري الذي وضعه الانجليز في جنونهم بزراعة القطن وهم امة غير زراعية. هذا الاساس لا يزال قائما مياه الري تعلو مستوى التربة. واني اذكر حين كنت صبيا بين الف وثمانمائة وخمسة وتسعين والف وتسعمائة اني كنت العب مع صبيان الفلاحين في الريف. ان كنا نجد للارض ايام الجفاف مشققة يبلغ عرض الشق فيها نحو ربع متر. وقد يطول الى خمسة امتار او اكثر. ولا يقل عنقه عن نصف متر او متر. وكانت الحشرات تموت في هذا الجفاف. وكان الفلاحون يستمتعون بصحة عجيبة. وكان الفدان يغل عشرة قناطير او اثني عشر قنطارا من القطن. وهذا كلام يكاد الفلاحون انفسهم لا يصدقون. ولكني رأيته بعيني خصوبة الارض متصلة كما يعرف جميع الذين مارسوا الزراعة وفطنوا الى الامراض الريفية بصحة الفلاح بل بصحة النبات والحيوان. ولكن طرق الري افشاء الانجليز في ريفنا افسدتنا جميعا ناسا وحيوانا ونباتا وتربة تبوير العقول المصرية بمنع التعليم وافقار الامة بمنع الصناعة وتعميم الامراض الدودية بالري الوفير لزراعة القطن هذه هي الخطط الاساسية الثلاث التي صار عليها الانجليز فيما بين الف وثمانمائة واثنين وثمانين والف وتسعمائة وتسعة عشر. وكانوا يدبرونها في عناية مع تبصر المستقبل فانهم كانوا يمنعون تعليم البنات مثلا في الف وتسعمائة كي لا تكون لنا عائلات متعلمة في الف وتسعمائة وعشرة او الف وتسعمائة وعشرين. وكانوا يمنعوننا من ايجاد مصنع للقطن مهما صغوا. كي لا نستغني عن اقمشة بعد عشر سنوات وكانوا يعارضون في انشاء جامعة كي لا تتفشى العلوم بيننا فتوقظ عقولنا الاخ وبهذا استطاع الانجليز ان ينزلوا بنا الى الحضيض جهلا وفقرا وعجزا. ومع انهم هم السبب الاصلي للجهل والفقر والعجز فانهم كانوا يحتجون علينا بهذه الثلاث عندما كنا نطلب الاستقلال. فكانوا في الف وتسعمائة وتسعة عشر يذيعون في انحاء العالم ان القارئين في مصر لا يزيدون عن اثنين او ثلاثة في المائة الشعب غارق في غاية بالجهل. وكان احد مستشاريهم في الف وتسعمائة وتسعة عشر ايضا يلوم علينا جهلنا وانه ليس بين المصريين من يدري عملية البورصة ومما زاد فداحة الاحتلال الانجليزي لوطننا فيما بين الف وثمانمائة واثنين وثمانين والف وتسعمائة وتسعة عشر ان تلك الفترة كانت فترة الاستعجال الترويج للانقلاب الصناعي التاريخي ليس في اوروبا وحدها بل في العالم كله ونعني في العالم الذي لم ينكب للاستعمار البريطاني ولذلك كان تخلفنا عظيما جدا في نتائجه. حتى ان ثورة الف وتسعمائة وتسعة عشر ثم ما تلاها من تطور اجتماعي او اقتصادي تكاد تعد من المعجزات. اجل من المعجزات على الرغم من جميع العراقيل التي وضعها الانجليز لمنع تطورنا ولو ان تطورنا سار سيرته الطبيعية من الف وثمانمائة واثنين وثمانين الى الان الف وتسعمائة وسبعة واربعين بلا تدخل او احتلال الانجليز. ولو ان توفيق نزل على رأي مجلس النواب لكانت مصر الان في مقدمة الامم المتمدنة مائة في المائة من ابنائها يقرأون ويكتبون ويتعلمون في نحو عشرين جامعة ونحو خمسين الف مدرسة ابتدائية وثانوي. ولكن اجر العامل فيها لا يقل عن جنيه في اليوم. حيث كان يعمل في نحو خمسين الف مصنع مصري وكنا عندئذ نكون امة قوية في زاوية البحر المتوسط لا تجرؤ بريطانيا على ان تنطق بكلمة في شأن قناة السويس. كنا نكون امة متمدنة ريف متمدن لا تخلو قرية من قرانا من نحو مصنعين او ثلاثة مصانع. تحليل المواد الخام الريفية الى مصنوعات عصرية. كل هذا كان ممكنا لو ان احدا لم يقف ضد مجلس النواب ويصر على انه لا يجوز للنواب بحس الميزانية. ولو ان الانجليز لم يحتلوا مصر في الف وثمانمائة واثنين وثمانين. وحتى بعد ان حصلت الامة على الدستور في الف وتسعمائة واثنين وعشرين بقي الانجليز على خطتهم القديمة وهي مكافحة الحكم النيابي. فكانوا يتحينون الفرصة لتزييف ويختارون الرجال لتحطيمه. ولذلك بقي طراز الصراع الذي كان بينهم وبين الامة في الف وتسعمائة واثنين وعشرين كما كان في الف وثمانمائة واثنين وثمانين بينهم وبين عرابه ان كانوا يبحثون عن من بقي من الاتراك والشركس كي يجعلوهم رؤساء للوزارات التي تناهض الحركة الوطنية الممثلة في الوفد فرأينا وبيجمع البرلمان في الصباح ويطرد اعضاءه في المساء في الف وتسعمائة وخمسة وعشرين كأن نواب الامة غوغاء لا اقل ولا اكثر وارجو القارئ ان يفهم اني لست اشك في وطنية ابناء الاتراك والشركس في مصر الان. فقد اندغموا في الامة ونسوا الصراع القديم ايام عرابي كما نسوا لغتهم الاصلية ولكن الانجليز يحسنون هذا الصراع القديم اكثر مما نحسه نحن ثم يسيئون فهمه ايضا. وان كان مثال زيور يدل على انهم لم يسيئوا الفهم فقد حاول هذا المخلوق ان يحطم الحياة النيابية في مصر ونجح في تحطيمها سنين طويلة. اخشى بعد ان سردت الكوارث التي انزلها الاستعماريون الانجليز بشكل ان يعتقد القارئ اني اكره الانجليزي او ان ان يؤدي ما ذكرته الى ان يكره الشعب الانجليزي. لان هذا الشعب من انبل الشعوب في العالم. وما استمتعت به كان من ثقافة او قيم بشرية سامية يعزى بمعظمه اليه. وانما انا اكره الاستعماريين الانجليز فقط. وهؤلاء الاستعماريون ينابون الشعب البريطاني ويذلونه بالفقر والجاه. كما كانوا ينهبوننا ويذلوننا. وليس الشعب البريطاني ثريا الى الحد الذي يتخيله وينتظره الانسان حين يتأمل هذه الامبراطورية وصحيح انه انتفع بموارد الامبراطورية التي حركت الصناعة ولكن معظم المنفعة يعود الى الاستعماريين والاستغلاليين وهم طبقة واحدة. اي ان الذين يستغلون العمال في مانشستر وجلاسكو وهم انفسهم الذين كانوا يستغلون المصريين والهنود والجاويين. وفي بريطانيا من الفقر ما ليس في امة لا تملك اي مستعمرات مسل سويسرا او النرويج او السويد وقد ذكر هيوليد جونسون ان صبيان الفقراء في يورك شار في انجلترا عندما عرض عليهم الموز رفضوا تناولها ولم يعرفوا كيف يؤكل. لانهم لم يأكلوه قبل ذلك كذلك فعلوا بالبيض وذكر السر جيمس اور ان الذين يحصلون على الغذاء الكافي في انجلترا لا يزيدون على النصف. وان سدس الامة الانجليزية مريضة للنقص الغزائي ومرتب الكناس في المجلس البلدي من احصاء في الف وتسعمائة وثمانية وثلاثين في سويسرا هو مائتين ثلاثة وعشرين جنيها في السنة. وفي السويد مائتين وعشرة وفي الدنمارك مائة وخمسون. وليس لهذه الامم مستعمرات. اما مرتب الكناس في المجلس البلدي في لندن فهو مائة وخمسة واربعون جنيها في السنة فقط. مع اني اقصد من ذكر هذه التفاصيل ان ابين للقارئ لان الشعب الانجليزي بريء من الجرائم الاستعمارية التي يرتكبها دعاة الاستعمار والاستغلال. وان البرهان على ذلك هو فقر هذه الطبقات الدنيا في انجلترا هذه الطبقات التي تعيش فيما يقارب الحرمان والمرض اللذين انقاسيهما نحن المصريين والهنود والجاويين من التسلط الامبراطوري البريطاني مع تفاوت الدرجة الشعب الانجليزي شعب متمدن نبيل ولكن الاستعماريين من الانجليز اشرار بل الابالسة يجب الا نذكرهم الا باللعنات فلسفة وديانة. نعيش في ضوضاء تلهينا عن الفلسفة اي تلهينا عن الدين. لان الفلسفة هي الدين والرجل العصري الذي يدرس الفلسفات والاديان بروح المتعلم يجد بينهما اختلاطا يشبه الاندغام. وذلك لان قضية الدين هي نفسها قضية الفلسفة. وهي كيف نفكر التفكير السليم ونعيش العيشة الطيبة المقاييس الدينية في النهاية مقاييس الفلسفة كما نرى مثلا في كلمة برنارد شو ان الرجل الطيب هو الذي يعطي الدنيا اكثر مما يأخذ منها. اي ان الدنيا تجد بعض انقضاء عمري ان كسبت بي ولم تخسر. وانفقت علي اقل مما ترك لها. وهذا الذي تركه لا قد يكون حكمة او قدرة او علما او اختراعا او زيادة في الثروة في او الخير او السلام وهذا المقياس فلسفي ديني ولذلك حين اتحدث عن فلسفة الحياة التي اعيش بها هذه الايام وانا في الستين او حواليها اجد انها مزيج من الفلسفات وصحيح ان الدين يطالبنا بالتسليم والفلسفة تطالبنا بالمنطق. ولكن ليست هذه الحال دائمة او واضحة الحدود. فان في الدين منطقا كما ان في الفلسفة تسليما في بعض الاحوال. قد يقال ايضا ان في الدين غيبيات وليس في الفلسفة غيبيات. ولكن هل هذا صحيح؟ السنا نقف مع اينشتاين او غيره ازاء علمية حين يتحدثون عن الكون المتمدد الذي يدأب في الاتساع في الخواء اني اذكر اني حين كنت في حمى المراهقة شرعت اسأل واشك في الغيبيات المألوفة. ولم تزدني السنون من ذلك الوقت الا يقينا بالانكار ثم تطورت الفكرة الدينية عندي او انتقلت من التسليم بالغيبيات الى الايمان بالقيمة الاجتماعية للدين او الفلسفة والى تربية الضمير. حتى تتغلب في السيكولوجية ذات العليا على الذاتين الاجتماعية والحيوانية. اي تتغلب القيم البشرية على القيم الاجتماعية والمادية وليس من السهل ان يكشف الانسان عن ضميره الديني كيف تكون ثم انما ثم تبلور في قليل من الاتجاهات الاخلاقية الرئيسية. ثم تجوهر في اتجاه مفرد يكذب اليه كل ما في الشخصية من نشاط روحي. ولكني اذكر اني وانا دون العشرين احسست ان نظرية التطور تأخذ مكانا دينيا في نفسي وانه قد حملتني واجبا روحيا. قد نمى هذا الواجب في نفسي الى واجبات. ذلك ان افاق الحياة لم تتسع فقط بنظرية التطور بل زادت في العدد في واللون كما شاسع بها تاريخ البشرية شسوعا عظيما. ذلك اننا قد فهمنا من هذه النظرية ان كل حي على هذه الارض لا يقل عمره عن سبعمائة مليون سنة ان كل انسان قد كان في وقت ما طينة نبضت بالحياة. فاذا به فيروس ثم اميئبة مفردة ثم ميبات متصل متعاونة ثم حيوان رخو بلا رأس ثم سمكة ثم زاحفة ثم حيوان لبون ثم قرد ثم انسان ثم هذا الانسان سوف يكون سوبرمانا. فهنا قرابة تطورية بيننا وبين الحيوان. وفي هذا معنى ديني جليل لاننا والاسود والكلاب والقياطيس والسمك ابناء عمومة. وكنا قد قطعنا على هذا كوكب نحو سبعمائة مليون سنة قد انقرض بعضنا وبقي بعضنا الاخر. ولكن مع هذا الانقراض وهذا البقاء يتجه التطور في مجموعة نحو ما نفهم من الرقي البشري وجدان موضوعي يأخذ مكان العواطف الذاتية. اي عقل يسمو على الغرائز. واذا نجد ان للرقي البشرية اساسا طبيعية. بل ان هذا الرقي مفروض وواجب حاتم بل واجب ديني بحيس يتطور الفرد وتتطور الامة وتتطور الدنيا ومن يعارض التطور ويدعو الى الجمود يكفر لانه يعارض الدين. وليس التطور كله منطقي نستطيع ان نقيم عليه. البرهان الناصع لان في كثيرا من تسليم. ومن هنا كانت المشابهة بينه وبين العقائد الدينية وليس من الضروري كي يكون لنا دين او ضمير ديني. ان نؤمن بالغيبيات لان المعارف العلمية في ايامنا تكسبنا نزاعات دينية. ان هناك رجال الثورة الفرنسية مثلا. قد اشتطوا والغوا الديانة المسيحية واسسوا ما اسموه ديانة العقل والانسان العادي حين يقرأ تاريخهم ويصفهم الوصف المألوف يقول انهم كفرة. ولكنا عندما نتأمل سلوكهم نجد انهم كانوا مسوقين بروح ديني. بل اكثر من هذا بعقائد دينية. وهنا تعجبني كلمة قالها ما ما تجيني الوطني الايطالي. ليس هناك انتصار للروح البشرية او خطوة ارتقائية للمجتمع البشري الا ومرجع عقيدة دينية راسخة وفي سني اجد ان مصادر دياناتي او بالاحرى ضميري الديني الى جنب البوزية والاسلام والمسيحية واليهودية والهندوكية تعود في كثير من النور الذي اهتدى به اهتدي به الى السيكولوجية والبيولوجية والانثروبولوجية والتاريخ. لان هذه العلوم قد افادت افدت منها مغزى المسائل البشرية مأساة ماضينا وحاضرنا وامالنا في المستقبل. ولذلك كانت دياناتي موضوعية منطقية لا ذاتية عقيدية فقط ومع اني نشأت في المسيحية واحتضنتني الكنيسة ايام طفولتي وصبايا فانها كانت في تلك السنين الاولى من عمره في جمود لا يحمل على الحماسة او يبعث الولاء او يربي الضمير وليس شك ان الكنيسة القبطية قد نهضت هذه الايام وهي الان غير ما كانت عليه قبل خمسين سنة. وقد تغير احساسي نحوها تغيرات مختلفة وقد عزفت عنها ايام الشباب لان وطأة العلوم العصرية كانت شديدة على نفسي. ثم عدت اليها في حنان فوجدت فيها تاريخنا المعذب الممزق وجدت صوت الفراعنة ينطق عاليا من منابرها. فاصبحت الكنيسة القبطية عندي كنيسة قومية مصرية. ولكن لم يكن هناك دين اذ كان كل هذا الاحساس تاريخية اجل قد يقال هذا القول وانا اسلم بصحته الى حد ما. ولكن الاحساس التاريخي ينطوي ايضا على احساس احساس ديني. ولست اشك اني حين انكببت على دراسة الفراعنة انما كنت انبعث بروح ديني قومي. الدراسة الصحيحة للتاريخ يجب ان تكون موضوعية علمية كما يدرس علم ولكن قلما نستطيع ذلك اذا كنا ندرس تاريخنا القومي وقد عرفت حوالي الف وتسعمائة وخمسة وثلاثين المرحوم كامل غبريال باشا وكان قد درس اللغتين القبطية والفرعونية. وحاول ان يحملني على درسهما ولكني ولكن سني المتقدمة حالت دون ذلك. قد نهضت نهضت هذه اللغة في بعض الاوساط القبطية ولكنها لم المكانة التي بلغتها اللغة العبرية بين اليهود. اي ان تصير لغة التخاطب والتفاهم بين التأليف بل التأليف. فان اليهود الصهيونيين قد انقلبوا الى عبرانيين نواحي لغتهم التي كانت قد انقرضت حتى في ايام المسيح. وظني انهم يخسرون بذلك. لان هذه اللغة لن تتسع للثقافة العصرية كما ان الايرلندي الوطنيين قد خسروا ايضا بالاحياء لغتهم القديم. لان اللغة الانجليزية خير لهم. ولو انها لغة الفاتحين الغاصبين من لغتهم التي لن تتسع ثقافة العصرية وما زلت اذكر الاثر السيكولوجي في صديقي كمال غبري الباشا. فانه لتعلقه بلغة الفراعنة صد عن المسيحية باعتباره فارها ديانة اجنبية قد طردت الديانة المصرية القومية. وكان كثيرا ما يعقد المقارنات بين عقائد الكتاب المقدس من التوراة والانجيل وبين عقائد فراعنة كي يقنعني بافضلية الثانية على الاولى من حيث الاخلاق السامية والقيم البشرية العالية وقد كان اثر العقليين كبيرا جدا في نفسي. حتى اني لخصت احد الكتب التي كانوا ينشرونها وهي نشوء فكرة الله لجرانت الين. واصدرت هذا تلخيص في نحو ثلاثين او اربعين صفحة في مصر حوالي الف وتسعمائة واثني عشر. ويرى القراء هذا الكتيب ضمن كتابي اليوم والغد وقد كان هدف المؤلف ان يثبت تسلسل الاديان. وان التوحيد الحاضر يرجع الى الاديان القديمة. ولم يكن جرانة الين مصيبا في جميع افتراضات ولكنه استهواني في تلك السنين للنظر المادي الذي اتبعه في تفسير الغيبيات. وبعد ذلك عرفت الغصن الذهن الذهبي الفريزر وهو موسوعة رائعة للعقائد القديمة وتسلسلها الى ايامنا تحت اصدار مختلفة. ثم زادني نورا تلك البحوث المتشعبة التي قام بها اي لوت سميث وزملاؤه في ايضاح الاثر الذي تركته العقائد المصرية القديمة. وهذه المؤلفات لفريزر واليوت ايه سميث مع تناقضها احيانا هي خصبة وتثقيف سام لكل ما يدرسها. ولا يستطيع انسان ان يصف نفسه بان مثقف الا اذا عرفها. ولكن اهتماماتي بهذه الدراسات وقتئذ لم تكن نية بل كانت تاريخية على ان اهتمامي بالدين بدأ وانا حوالي الاربعين ذلك لان النضج الديني مثل النضج الجنسي لا يأتي الا في ميعاد. وقد شرعت اقرأ الكتب المقدسة جميعها في عناية واشغل نفسي بالمشكلات الدينية الهندوكية وكنت اجد فتنة في انبياء التوراة بل في اسلوب التوراة كما اني وجدت ان القوة الجاذبية في شخصية المسيح كبيرة جدا. قد مضى علي نحو عشرين سنة وانا احلم بتأليف كتاب عن شخصية المسيح بحيث اكتب في حرية الضمير مع ايماني به وحبي له. ولكني كلما كنت افكر في الالتباسات التي سوف تنشأ بيني وبين بعض القرى كنت في اسف ومرارة لاني اكره ان اولم المطمئنين المستقرين الذين قد لا يجدون الطمأنينة واليقين في السيرة التي ارويها مخلصا انشد الحقائق ولا ابالي غيرها وموقفي هنا هو موقف ومن الاخطاء الصغيرة الخطيرة التي ارتكبها المترجمون للانجيل انهم يذكرون الله على لسان بكلمة ابي ولكن الحقيقة ان المسيح كان يسمي الله باسم ابا اي بابا. وهي كلمة التحبب والاجلال. كلمة الاطفال وذلك لاحساس العميق الحميم بابوة الله ابوة حقيقية ومن هذه البؤرة العاطفية تشع سائر عواطفه في التحيز للفقراء والمساكين وفي الاحساس بان البشر جميعهم عائلته لان بابا لا ينسى واحدا منهم وشخصية المسيح بعد كل ذلك شخصية مقلقلة. فان كل امثلة من امثله تبعث على التفكير المقلقل المثمر. اذ هو يثير بها المشكلات العديدة التي تنتزعنا من القيم الاجتماعية الزائفة الى القيم البشرية الصميمة. وحياته الرائعة مثل مأساته المؤلمة. كلتاهما دعوة الى البر الشجاعة والشرف والتضحية. ولا يتمالك المتأمل الانجيل في مع الوجدان بان الضمير المسيحي يقتضي النظام الاشتراكي. لان هذا النظام هو التطبيق العملي اخلاق المسيحية والمسيحية تعد في هذا المعنى ديانة الكفاح وليست كما يتوهم البعض ديانة الركود ولست اشك ان الرجل المسيحي في دنيانا هذه وفي عصرنا هذا هو المثال الاسمى في الاخلاق. وهناك كثيرون يعيشون الحياة الطيبة. اي الحياة المسيحية كما المسيح الذي دعانا من ناحية الى ان نكون كالاطفال في السذاجة والاستطلاع والبعد عن الشر. اي ان تكون القيم التي نعمل بها قيما بشرية. نحب الاشياء التي يحبها والاطفال نحب اللعب ونحب الزهور. ونحب كل شيء حسن يرجع حسنه الى قيمته الاصلية لا الى القيمة التي يفرضها المجتمع. ثم دعانا القائمة حضرت السادة على هذا الكوكب هي حضارة العلوم المادية الاخطار القائمة هي اخطار العلوم المادية ولذلك فان الامة التي تهمل العلوم انما تهمل حياتها. وقد حاولت في مصر طيلة حياتي الماضية ان اعمم التوجيه العلمي من ناحية اخرى الى ان نخشى مديح الناس. بل قال ويل لكم اذا اثنى عليكم الناس. وهنا دعوة الى الاستقلال الفكري او الروحي. استقلال الضمير حتى اجمل ما يوحيه الينا الشرف دون مبالاة لاعتبارات المجتمع. وقد يكون هؤلاء مع ذلك غير مؤمنين الايمان الرسمي بالمسيحية اذ ليس من الضروري كي يكون للانسان ضمير ديني ان يؤمن بدين معين. فان جميع الاديان سواء من حيث انها تنشد الحياة الطيبة واذكر هنا ان نحو ستين عضو من جمعية الشبان المسيحية كانوا يصطافون في صحراء العريش في سنة الف وتسعمائة وسبعة وثلاثين. وكان بيننا المسلم والمسيحي اليهودي والبهائي فكنا في الصباح نقرأ قطعة من القرآن او الانجيل او التوراة مناوبة. ان كان البهائي يجد في كل واحد من هذه الكتب كتابا مقدسا لا وكنا نجد نحن في جميع ما يقرأ لنا من اي كتاب منها دعوة صالحة توحي الخير والشرف والحياة الطيبة والحب. قد وجدت ان الجمع بين هذه الكتب اختيار منها على مبدأ المساواة قد بعث على التفكير الديني البار بين الاعضاء وربط بينهما برباط ديني محايد اي غير متحيز. حتى لقد انتحى في بعض الاعضاء وسألوني لما لا يفعل جميع البشر مثلما نفعل؟ نحن هنا في العريش اي يضعون جميع الكتب المقدسة في جميع المعابد واذكر اني نصحت لهم بان يقرأوا حياة السلطان اكبر الهندي الذي تولى الحكم في القرن السادس عشر فانه عقد مؤتمر الائمة والكهنة من المسلمين والمسيحين واليهود والهندوكيين وطلب منهم ان يتفقوا على ديانة جديدة موحدة من هذه الديانات الاربع وقد اخفق المؤتمر لان الاعضاء كما ينتظر لم يتفقوا ولو انه كان قد اختار اعضاء هذا المؤتمر من المدنيين دون الدينيين لكان هناك مجال للظن بالنجاح بل قد قيل ان السلطان اكبر هذا قد تزوج اربعا نسوة احداهن مسلمة والثانية هندوكية والثالثة مسيحية والرابعة يهودية. وذلك كي ينشأ ابناؤه على اساس من الحب الذي يدعمه التقارب الديني. وقد عاشت اسرته جملة قرون وهي لا تعرف معنى التعصب في الهند وبين المسلمين والهندوكيين. ان كان الصليب يعلق في الغرفة التي يأتي اليها القارئ في الصباح كي يقرأ احدى سور القرآن. ان كان المبشرون من الشيوعيين يقعدون في حضرته الى جنب كهنة اليهود. وقصة اكبر هي احدى القصص القداسة الهندية التي نرى لها صورة اخرى في عصرنا في غاندي جميع الكتب المقدسة سواء عندي ولكني اضيف الي عشرات من المؤلفات الاخرى في الفلسفة والادب. ولذلك اقول ان بعض دياناتي يرجع الي ايضا الى جمهور كورية افلاطون والى الانسان والسوبرمان لبرنارديشو. هؤلاء مؤلفات جنجيك روسو وتولستوي وديفستوفسكي والى اخناتون فقد زودني هؤلاء جميعا بهرمونات دينية. وقبل نحو خمسة عشر سنة شاعت دعوة في امريكا واوروبا الى ما يسمى البشرية وهي ديانة تستبعد الغيبيات. وتؤمن بالرقي البشري القائم على التطور وهي تعتمد على الكتب المقدسة وكتب الادب والتاريخ والفلسفة. وقد وجدت فيها وجدت فيها اغراء كبيرا. ولكن ما احب ان اوضح للقارئ وان الدين عندي كان تربية بطيئة لم اصل بعد الى نهايتها ولكني في سبيلها. والدين كالفلسفة او الادب نأخز منها بمقدار ما ورثنا من الكفايات به من اوساط تعلم وتربي وتوجه. وهنا يغير يغير كلفين هذا التعبير فيقول اننا انما نفهم من الدين بمقدار ما وهبنا من نعم الله وقد كان نفوري ايام شباب من الغيبيات علميا منطقيا ولكني انفر من الغيبيات الان لاسباب اجتماعية لانها اي الغيبيات جبرية ليست فيها حرية ماديات فان التفكير المادي حر متطور. اما التفكير الغيبي فمقيد جامد. ونحن نتحرر بالاول ونتقيد بالثاني. ولكن الفلسفة اي ضرورية لكل انسان والرجل اذ يقول انه ليس له ديانة هو كما يقول برنارد شو انما يقول انه ليس له شرف ونحن حين نستقطر العالم او الادب او فلسفة او الفن كي نجد لها غاية انما ننشد بهذه الغاية ديانة نعيش بها اي دستورا واخلاقيا يعين علاقتنا بالطبيعة والكون والانسان والمستقبل. ونحن نحس الحاجة الى هذا الدستور وهو ليس دستورا جامدا اذ هو يتغير ويتطور كلما تقدم دمنا في السن وازدادت بصيرتنا نورا ولما شرع توادرس السيكولوجية وجدت ناحية من الدين لم اكن قد التفت اليها. هي سلام النفس فانه ليس شك في ان المتدين يحس سلاما ويجد ابتهاجا يحرم منهما غير متدين. ذلك ان المتدين يثق بالقرن وبكأنه يحس انه اي الكون لن يخون حتى حين يصطدم المصاعب او قل انه يعيش في وسط اوسع كما ان افاقه تمتد الى اماد بعيد ونستطيع ان نزن هذا الموقف حين نتخيل غاندي ازاء الجبال من المصاعب التي يلاقيها. فانه في كل حياته اكثر اطمئنانا واعمق ابتهاجا من اي انسان الاخر مع انه يواجه من المصاعب اكثر مما يواجه كل انسان اخر وليس غريبا بعد هذا ان ان تكون للدين للفلسفة قيمة سيكولوجية عظيمة لانه يؤدي الى استقرار النفس ويحول دون التزعزع الذي قد ينتهي بالتحطم وعندما نتأمل مرضى النفس نجد انهم لم يترددوا في الهوة الا لانهم استسلموا الى قيم واوزان مخطاة هي في الاغلب قيم واوزان اجتماعية انساقوا فيها وارهقوا بها حتى حطمتهم. وانهم لم لم لو كانوا على فلسفة حسنة وعاشوا العيشة الطيبة التي يحييها كل دين في العالم لكانوا قد اخذوا بقيم واوزان دينية تتيح لهم سلام النفس الذي فقدوه ولابد ان القارئ سيسأل اليس هناك فرق بين الدين والفلسفة؟ وهل انا محق في التحدث عنهما باعتبارهما وحده؟ وجواب اني لا اعرف انا مخطئ ولكني هنا اذكر احساسي. واذا شئت التمييز بينهما فاني اقول ان الاحساس الديني هو طرب الحب. حب الطبيعة وحب الحيوان وحب انسان بل حب الحياة والكون. اما الاحساس الفلسفي فهو تأمل الفكر. ولكن الحقيقة انهما يندغمان عندي وان كان احدهما قد يتغلب على الاخر في بعض الظروف وان هذا هو احساس غامدي تأمل فكري وطرب عاطفي معا. وكثير من كفاحها الثقافي بل احيانا السياسي قد سردت اسرت فيه لتأمل الفكر وطرب الدين. والتأمل يطلب تكون في حين يستفزون الطرب الى الحركة. فاذا مزجنا الدين بالفلسفة ووجدنا الكفاح. لذلك لم اعرف قط ذلك البرج العاجي حيث استسلم للتفكير اذا عن المعركة اذ اني لا اكاد انتهي الى فكرة بالتأمل حتى يعميني الطرب فانشط الى الكفاح وقد قلت ان من ديانتنا وفلسفتنا تتكون اولا ثم تتبلور ثم تتجوهر وعندي ان هذه النهاية هذا التجاور هو الحب. وقد انتهت جميع الاديان الى هذا الموقف كما انتهت السيكولوجية اي اليه ايضا. والحب هو اتجاه وسلوك هو الاستطلاع الدائم للكون والرغبة النهمة في المعرفة. ثم هو التعاون والتسامح. وهذا الحب هو ايضا ما انتهى اليه الصوفيون المسلمون مثل محي الدين ابن العربي حين يقول لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي اذا لم يئذ لم يكن ديني الى دينه داني. وقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير الرهبان وبيت لا اوثان وكعبة طائف والواح توراة ومصحف قرآن. ادين بدين الحب اني توجهت ركائبه فالحب ديني وايمانه في هذه الابيات الاربعة قد استقر ابن العربي روح الدين. ومن الحسن ان تزاع مثل هذه الابيات الذهبية وتعلق في بيوتنا الى جدران وخاصة في هذا الشرق العربي الذي يجب ان تتعانق فيه الاديان الثلاثة عناق الحب. ومثل هذه الافكار الانسانية تجدها ايضا في المعري. حيث يقول وان يكن موقفه سلبية اذا الانسان كف الشر عني فسقيا في الحياة له ورعيا. ويدرس ان اراد كتاب موسى ويضبر ان لان احب ولا اشعيا ما الدين صوم يذوب الصائمون له ولا صلاة ولا صوف على جسد وانما هو ترك الشر مطرحا ونفضك الصدر من غل ومن ولكن يجب ان اقول ان ديانتي من الناحية الغيبية تشبه بل تطابق ديانة سيبينوزا. اي ان المادة والقوة شيء واحد ليس بينهما انفصال. وكذلك الشأن في العقل والجسم. وليست هناك نهضة عالمية كالثورة على المظالم او التجديد للمبادئ او الدعوة الى الاخاء والمساواة والحرية. الا وهي تسير على الاسلوب الديني حتى لا تتجاوز المنطق الى الايمان وتسرف وتشط في ناحية الغيرة والتضحية والحب ضد الانانية والاستئثار والبغض. فهي ملهمة بالروح الديني ولن تنجح الا به. ولذلك كثيرا ما نجد الدعوة الى الاشتراكية الحزبية تستحيل الى دعوة دينية عالمية تغمرها الحماسة وتغلب فيها وحركتنا نحن في مصر في سنة الف وتسعمائة وتسعة عشر لم تنجح الا بمقدار ما كان فيها من الحماسة والايمان اي بمقدار ما كان فيها من طرب الدين وهي لم تتقهقر الا بمقدار ما فقدت من هذا الطرب الديني بتفشي الانانية والاستئثار والبغض ولن تعود دعوتنا الوطنية في مصر دعوة الحرية والاخاء والمساواة الا اذا احدثت لنا كما كانت تحدث في سنة الف وتسعمائة وتسعة عشر طربا دينيا الفوا من الحماسة والايمان والحب والتضحية. واخيرا يجب ان نقول حين نتكلم عن ديانتنا كما يقول اندريه جيد لست كائنا ابدا انما انا صائر. وبكلمة اخرى يجب الا نجمد ونستقر. بل ننمو ونتطور وندأب في استخلاص الحقيقة من المعرفة هذا العمر ان الستين اشبه الاشياء بالقمة نقف عليها في سياحتنا على هذا الكوكب ونسأل ماذا افدنا من الماضي وماذا ننتظر من المستقبل؟ وفي اعماق العقل الكامن كأنها لغط في النفس سن الستين هي سن الاقالة. يجب ان تقال انت من الحياة. في هذا العام الف وتسعمائة وسبعة واربعين الذي اتم فيه هذه السن يجدوني قد اخرجت كتابا كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين؟ كانه احتجاج على الشيخوخة. ولو ان مي كانت حية لقالت لي على عادتها ها انت ذات تشائم وتحاول ان تتفائل. تحس الضعف فتتخذ القوة. ولكني كنت اجيب باني ما زلت احس حماسة الروح بل غلواء فاني استطلع الدنيا كما لو كنت طفلا وحسبي هذا برهانا على اني بعيد عن الشيخوخة. واعود الى ايام الطفولة والصبا بلشباب ايضا. فيجد اني من حيث التعلم المدرسية والجامعية عشت في صحراء لم انتفع بشيء منها. وانما كان انتفاعي بما كسبت من تربيتها الذاتية. من جامعة الكتب بين اللغتين الانجليزية والفرنسية ومن سياحاتي في اوروبا. واخيرا ولهذا اكبر قسط في تربية من اختباراتي الشخصية. وقد تكون الفترة التي عشتها وانا على وجدان يقظ الحوادث فذة من حيث انها فترة الانتقال من مجتمع الامس الى مجتمع الغد. من تحول الانتاج من النظام الكروي الزراعي الى النظام المدني الصناعي. ومن الغيبيات الى الميديات من الحق اني لا اكاد اعرف عصرا تجمعت فيه عوامل اقتصادية واجتماعية انقلابية مثل عصرنا هذا. لان الفترة التي تقع بين الف وتسعين مائة والف وتسعمائة وخمسين هي تاريخ بشري يزيد في مغزاه ونتائجه للمستقبل على القرون التي تقع بين خمسمائة والف وخمسمائة. اجل. قد بسرعة في هذه الفترة بل هرولنا نحن نحو المستقبل. وهناك من تخلفوا لانهم لم يطيقوا هذه السرعة او الهرولة تلاهث عرقوا ثم قعدوا وبعد ان قعدوا واطمئنوا واخذوا يحفظون عن ظهر قلب قواعد الفعل الماضي. في حين بقينا نحن في الهرولة نحو المستقبل وليس شك في اننا ولكن العثار مع السعي خير من من السلامة مع القعود والركود. والتربية الحقيقية وهي ثمرة العمل لكل انسان. هي في النهاية اختباراته طوال حياته وليست هذه الاختبارات هي ما يقع لنا بل هي الرجوع والاستجابات لما وقع لنا. ونحن نختلف كثيرا في هذا. لان هناك من يستجيبون الصدود والاعتزال وهناك من يستجيبون بالاقدام والمكابدة. وهؤلاء هم الذين ينتفعون بالاختبارات اما المعتزل الذي يؤثر يؤثر السلامة بالصدود والاعتزال والاحجام والانكفاف. فهو ميت حتى ولو طال عمره الى المئة. لان الحياة لا تقام الطولي وحده اذ ان لها عرضا عمقا ايضا. ولا يكون لها العرض والعمق الا بان ننغمس فيها ولا نقف على سواحلها. متفرجين بل نقتحم ولو تعرضنا بذلك للموت المبكر. وفي كل حياة من المصادفات ما يعد حسنا او سيئا. وبعضها يقود الى النمو والخصب وبعضها يؤدي الى الى البوري والدمار. ومصر نفسها مصادفة سيئة لكل مصري من حيث انها مأساة جغرافية. اذ هي تقع في ملتقى القارات الثلاثة الكبرى. كما انها تقع في الملاحة بين اسيا واوروبا ثم هي فوق ذلك تخلو من الجبال التي تيسر الدفاع. ولذلك وقعت في اسر الغزو المتكرر. ان كان اخر غزاة ها هؤلاء الانجليز الذين احالوها الى عزبة للقطن. ومنعوا عنها للصناعة والتعليم. وايدوا الرجعية وضربوا ابناءها المخلصين الثائرين على الاستبداد عمموا فيها الفاقة والجهل والمرض. ونحن المصريين جميعا سواء في هذه الكارثة الكارثة هذه المصادفة التاريخية بغزو الانجليز الوطنيين وبقائهم فيه اكثر من ستين سنة يفرضون علينا القيود ويقيمون السدود ويحالفون الرجعيين لقمع الروح المصري. وكثير مما عانيت في حياتي من السيئة التي عطلت نشاطي وبعثر يرجع الى هذه المخالفة القائمة بين الرجعيين المصريين والمستعمرين الانجليز فيما اتفقوا عليه من قيود للحرية كانت تضطرني الى ان ادرج ادرج بدلا من قناطير. بل كانت تضطرون احيانا كثيرة الى ان اقعد بدلا من ان ادرج. وهناك من الكتاب في مصر من استسلموا اذا هو الوعي للعلوم المادية الذي يساوي بين ابناء الامة بل ابناء البشر. ويدعو الى الوفاق بدلا من الشقاء. وكنت انا في لندن فقد درست الاشتراكية التي رسمت لي قصدا النبي في هذه القيود وارتضوها بل صاروا يخافون الجمهور من الحرية وينعون ما فيها من استباحات تؤدي الى اخطار. ولكني لم ادخل قط في معسكرهم اذ لا اطيق العمل في هذا الجو الخانق للضمير والذهن. امام مصادفاتي الحسنة التي اخصبت حياتي. فكثيرة. اذكرها بالشكر للاقدار التي حيأتها لي اولها واكبرها قيمة اني لم اعرف قطا الحاجة المالية الملحة. كذلك لم اعرف الطرف المخضر. فانا اتمتع بذلك القلق الذي يبعث على الاهتمام استاذ المنبه ولكنه قلق لا يؤدي الى الهم المرهق المجمد ثم صادفتني مصادفة حسنة اخرى هي اني عرفت اللغتين الفرنسية والانجليزية في سن مبكرة وقد وصلتا بيني وبين الثقافة العالمية العصرية ولذلك ارتفعت اهتماماتي من المشكلات القروية الصغيرة التي تحفل بها صحفنا من جرائد ومجلات الى مشكلات عالمية بشرية منبسطة الافاق ثم هناك مصادفة اخرى مؤلمة للعالم منبهة لرجال الذهن فاني عشت عمري فيما بين الف وثمانمائة وسبعة وثمانين والف وتسعمائة وسبعة واربعين في عصر انقلابي انفجاري رائع من حيث الاكتشافات والاختراع والثورات. انه عصر المعارك التاريخية والصراع الخطير بين مجتمع افل وبين مجتمع بازغ. كان حوادث الف سنة قد تجمعت في بؤرة زمنية كما يتجمع ضوء الشمس من العدسة فصرنا نرى الانقلاب للتول والانقلاب ان العالم يعاني الالام من هذه الانقلابات التي تنبي المثقفين الى الدرس والتحرك وتحرك زكائهم وتبسط لهم رؤية داهية للمستقبل لا يراها غيرهم في السعادة القادمة من خلال المخاض الحاضر والامه وعندما اعرض لحياتي الماضية ممتازا امتيازا واضحا جدا بصفة طفلية. هي الاستطلاع وهذا الاستطلاع يحطم القيود التي وضعها العرف او كثيرا منها. فيتسع كان الاختبارات ويزيد بذلك الوجدان وهذا الاتجاه نفسه اي الانتفاع بالاختبارات يغير القيم والاوزان بحيث ان ما يعده غير نكبة قد اعد وانا نعمة ان له قيمة لا يراها هو في التربية والتنويل والنمو. قد وقعت بكوارث واحزان امحضت حياته فترة ثم اكتسبت من الكوارث نورا وحكمة. كما اكتسبت من الاحزان حنانا ورقة. لا احب ان افقدهما اجل. لقد تضورت من الالم حين مات ابن اختي وهو في السنة الاخيرة بكلية الطب وبقيت في نفسي لوعة تمزقني كلما ذكرته. ولكن هذه اللوعة قد استحالت بالزمن الى حنان رخيم لا احب ان افقده هذا الشأن في جميع الاحزان الماضية تطفئ كيمياء الزمن نارها وتحايلها الى ذكريات رفيقة تؤنس ماضينا. ولذلك اكنز هذه الذكريات بعد عشرين او ثلاثين سنة للذة لا للالم. مع ان وطأتها حين وقوعها كانت بمثابة الصدمة التي تذهل وتجمل واظنني امتاز ايضا بعقل حر مفتوح يحسن الضيافة للاراء الجديدة وليس لي فضل في هذا. وانما هو الفضل للغتين الانجليزية والفرنسية اللتين للاتصال الدائم بالثقافة الاوروبية العصرية. ما هي تمتاز بالحرية المستفيضة كما يمتاز المجتمع الاوروبي بحرية واسعة لا يعرفها المجتمع المصري ومن هنا اصبحت ثقافات ارتيادية اتحسس الجديد في الاراء واعرضه على مجتمعنا كي اوقظه الى الحياة العصرية. ومن هنا كان ما يبدو من ان من ان يساري متطرف مع اني لو كنت في مدينة الاوروبية لكنت اعد عاديا ليس بي اي تطرف. وليس شك ان بعض اتجاهي هذا يعود الى اني مسيحي لا احسن اني مقيد بتقاليد الاكثرية في مصر. ولو سألت ما هو بيت القصيد او اماءة حياتي كما تبدو من مؤلفات والسيارات واتجاهي لقلت انها الحرية. فاني احب عرابي وفولتير لدفاعهما عن الحرية كل في ميدانه. قد الفت كتابين عن حرية الفكر. واحب كتاب الجمهورية الافلاطون والانسان والسوبر مان لبرنارديشو لانهما يتجردان من التقاليد في بحث التأصيل البشري. واحب ابس في بيت العروس لانه يبسط افاقا جديدة للحرية في شخصيته. المرأة وانا الان في الستين اعد نفسي صائرا ولست كائنا كما يقول اندريه جيت ولذلك اعني بان اتعلم كلمة جديدة او اشرع في دراسة علم جديد تغير او تطور به. وفي هذه الايام مثلا اجد اني مزحوم بدراسات كثيرة منها من هذه السيمية اي علم اللغة من حيث صحة التعبير وملائمة كما ان اهتماماتي بالسكيولوجية والتطور والاجتماع تجعلني اشكو قلة الفراغ. وفي العالم الان ثقافة جديدة قد تجرثمت في بداية هذا القرن وهي الان تتبلور وتتجوهر هي ثقافة عالمية غير وطنية احس اني من ابنائها ودعاتها قد اثبتت لنا قنبلة الذرية ضرورة الاتجاه العلمي وخطورته معا. لان الحضارة خلفت شعبية مختلفة وكثيرا ما نبتت الخصومات بيني وبين بعض الكتاب على هذا الاساس. لاني كنت انتقص قيمة مؤلفاتهم لانها لم تكن تتجه لاتجاه العلمي او على الاقل كانت تتجاهل الاسس العلمية. وتستسلم لمزاعم غيبية تافهة ولذلك تعد مؤلفات من ادوات التطور الذهني في مصر. وليست كذلك مؤلفات كثير من الكتاب الذين عاصروني. وفي الوقت الذي كنت اؤلف فيه عن العقل الباطن او التطور واصل الانسان او البلاغة العصرية واللغة العربية او حرية الفكر ثم حرية العقل او غاندي والحركة الهندية او نحو ذلك مما يوجه ويغير كان غير يؤلفون عن الخلفاء الراشدين والامويين او العباسيين اجل كنت انشد الافاق وارتاد المجاهل في الوقت الذي كانوا هم فيه يشرحون لقرائهم قواعد هذا الفعل الماضي. لان هذه القواعد معروفة ومشروحة في مئات الكتب القديمة. والان تحتاج الى زيادة في الشرح والايضاح. ان جميع الذين كتبوا مثلا في ترجمة عمر ابن الخطاب لم يكتبوا عنه با اوفى مما كتب ابن ابي الحديد منذ نحو الف سنة. وجميع الذين يخرجون لنا من وقت لاخر تراجم عن ابي نواس او المهدي او لم يزيد كلمة عما كتبه مؤلف الاغاني او غيره من المؤلفين القدماء. ولكن الجمهور الذي يتعطش الى الثقافة العصرية كي يفهم حضارة عصرية لا يجد غير هذه الموضوعات القديمة. ويبقى اي هذا الجمهور قديما في غير عصري وهناك اشياء اسف لها كثيرا. منها اني عطلت عن الكتابة الا تحت اعين المراقبة نحو خمسة عشر عاما في الحربين الكبريين. اذ حتم علينا الانجليز الا حرفا في جريدة او مجلة او كتاب الا بعد ان يقرأه رقيب وقد قرأت لي كتب في الادب والعلم وحزف الرقيب منها ما شاء. وهذا التعطيل قد جمد فكري مدة طويلة. لان قطع التفاعل بين المؤلف وبين الجمهور ويجعل الثقافة محدودة. لان الثقافة الاجتماعية لا نهتم بها الا في مجتمع حي يوافقنا او يعارضنا. ولكنه في كلتا الحالتين حي ينبهنا. وقد قطع الاستعمار البريطاني بيننا وبين الجمهور هذه السنين الطويلة انقطع عنا بذلك التنبيه الذي كان يحركنا الى التفكير والدراسة الخصبة. كما قطع عن الجمهور الذي كان يحتاج اليه. شيء اخر واسف له هو ان الحكومة المصرية بايعاز المستعمرين الانجليز ايضا قد سنت قانونا لنستطيع تستطيع ان تحرم باي مصري خارج القطر من رعويات رعويته المصرية ويكفي لذلك قرار من مجلس الوزراء بلا محاكمة او دفاع قد منعاني هذا القانون من ان اترك مصر منذ عشرين سنة مع ان مثلي يحتاج ان يزور اوروبا مرة كلية كل عام او كل بضعة اعوام حيث يتجدد بالايحاء والتعبير الذهني والترفيه النفسي ولكن المتسلطين الذين يعيشون في مصر بالامتيازات القديمة هذه الامتيازات التي هي فضيحة مصر الان في جميع المحافل المتمدنة. يخشون رجلا مثل يسارع شرح الاراء الجديدة والاصلاحات العصرية. اما هو ان اضع قدمي في باريس حتى اجد قرانا بحرماني من الرعاوية المصرية. عندئذ يجب ان يتسكع سائر عمري الى ان اموت خارج وطني بعيدا عن اولادي. ولهذا اثرت البقاء في القاهرة على التسكع بلا وطن في مدن اوروبا. نظني ان هذا القانون سيبقى الى ان اموت. ولن ارى اوروبا التي تشع انوارها على هذا الكوكب. واخيرا اعود الى السؤال الذي لا يتكرر هل ربيت نفسي؟ وهذا السؤال يعيد الى ذهن وصفه للوزير البريطاني الكبير جيلاندستون بانه لا يعد متعلما او حاصلا على تربية وذلك لانه كان يجهل الانسولوجي اي علم وصف السلالات البشرية وخصائصها. وان رؤيته للتاريخ كانت ناقصة لانه لم يكن يدري الصورة الحقيقية اي علم طبقات القشرة الارضية وتاريخ الاحياء. كما كان يجهل الافكار الابتدائية عن البيولوجية اي علم الحياة. كذلك كان يجهل العلوم الاقتصادية اجتماعية والسياسية العصرية والاداب والفكر والحديث اذا قست نفسي بهذا المقياس الذي عينه كي يبرهن على جهل جلستون فاني اجد اني حاصلا على هذه التربية التي قصدها لاني ادري كل هذه الاشياء التي ذكرها اكثر منها مما يجري على طرازها. والحقيقة ان الذين يستطيعون ان يسموا انفسهم ممتازين بتربية صحيحة في ايامنا قد لا يبلغون في الالف والبرهان على هذا ان الذين يفهمون مثلا النظرية النسبية لاينشتاين او الطاقة الذرية قليلون جدا وهذه القلة ترجع الى ان وسائل التربية معدومة او نادرة في بقاع كثيرة وذلك الذي يصل على الرغم من كل ذلك الى تربية تكاملية حاوية بحيث تتسع عنده المعارف وتتكامل وتتناسق هذا الرجل يحتاج الى ان يفني العمر كي يحقق هذه الغاية. وطلب العيش يحول دون ذلك عند تسعة مائة وتسعة وتسعين في الالف من الناس. الواقع ان الذين يقودون العالم منذ ايام الى الان كانوا ولا يزالون في عداد الجهلة. فقد روى ويلز مثلا عن جلاديستون ايضا ان السر جون بلوبوك رافق رافقه في زيارة طوال وقتي اتحدث عن المشكلة البلغارية كانها كل شيء في وجدانه اي انه لم يكن يدري القيمة البشرية الكبرى لنظرية التطور التي اخرج داروين انجيلها بالعالم. ولكن اليس هذا حال الساسة الى الان؟ الوزراء بريطانيا لو فرنسا او الولايات المتحدة او مصر في الف وتسعمائة وسبعة واربعين افضل من حال جلادستون في الف وثمانمائة وسبعين ان العالم منكوب بتقاليد في التربية والتعليم وفي المدارس والجامعات رواسب ثقافية تبلد الذهن بل تحول دون التفكير كان هناك محظورات لا يجوز التفكير فيها اعتبر مثلا هذا الفقر المصنوع في العالم فان الانتاج الزراعي ثم الانتاج الصناعي يكفيان مع التنظيم كي يعيش كل على هذا الكوكب وهو موفر الطعام والكساء والمسكن امن على نفسي وجسمي من المرض والجريمة. تعلم اقصى تعليم مستمتع بالفراغ الذي يمكنه من زيادة ولكن الساسة الذين يتولون شئون هذا العالم لا يزالون في مستوى جلادستون يهتمون بالمشكلة بلغاريا اكثر مما يهتمون بنظرية التطور عجب انك عندما تبحث في مشكلة بلغاريا تجد انها نبتت من الجهل ايضا وان الذين يحاولون حلها جهلاء يثرثرون وهم يعتقدون انهم يفكرون وقد سبق ان قلت اني لا اسف كثيرا على اني لم اتخصص لان الاختصاصيين كما ارى في اخلاقهم لا يتوسعون او يتعمقون في الدراسات التي لا تمس العلم او الفن الذي الذين اختصوا فيه واعتقد احيانا ان الزهو هو الذي يمنعهم من هذا التوسع او التعمد وانهم يحسون استكفاء ذاتيا لا يحتاجون معه الى زيادة. واقول في نفسي عندئذ اني لست كذلك واني لو كنت قد تخصصت في علم تجريبي لما زهيت. ولكن هذا الفرض ليس سيكولوجيا لانه تجاهل العواطف الاجتماعية. ولكني لا اشك اني بعيدا عن الزهوف غير تعمد او تكلف. وان بعدي عن الزهو هو الذي يجعلني اتابع الثقافة بروح الطالب. وهو الذي يجعل اسلوبي خاليا من التفصع. وكثير من الكتاب يتفصح في حيلاء وزهول انه يسلك في حياته واخلاقه سلوك الخيلاء والزهوء. ولهذا السلوك اثره في نفسه لانه يحمله على الاستكفاء يدرس ولا يتزايد من المعارك. ولذلك استطيع ان اجزم بان التفصح في الكتاب في الكتاب برهان على كراهة التزايد او التطور في الدراسة. وليس هذا لان التفصح يشغل وقته بل لانه يكسبه زهوا فيقنع بالخيلاء والتبختر وفي ذهني الان كاتب من هؤلاء المتبخترين يكتب من وقت لاخر عن عن الاخلاق. وعدت اليه اذا تمرة احدثه عن الاخلاق وانها هي والاجتماع ثمرة الوضع السعودية. نعم فلم القي منه غير الضحك فانتقلت من البيئة الى الوراثة وذكرت له كتابا عن كرافتة انبج السكيوباتية الجنسية فلم يستنبط منه غير الدهشة. اجل ان طفح الصلح المتحذلق في حال قد حال بينه وبين تربية نفسه. اذ هو قانع هادي الخيلاء اللفظية وسيموت بها جاهلا لشؤون هذا الكوكب الذي عاش عليه ولذلك اعتقد ان اعظم الوسائل للتربية والاتجاه اي كيف نتجه في هذه الدنيا؟ وبماذا نهتم؟ نهتم باقتناء الفصاحة ام باقتناء المعارف؟ المشكلة بلغاري بنظرية التطور. نهتم بان نكون وجهاء نسير في خيلاء وزهو ام عقلاء نفكر في سداد وفهم؟ وفي عصرنا هذا يجب ان نقيس التربية الحق بادق اكبر من المقياس الذي وضعه هيئة جيم وولز ولكن عندئذ لا نجد احدا ولاء واحدا. يمكن ان يقال انه حاصل على تربية حقة فان العلوم وخاصة والثقافة عامة مشتتة غير منظمة. وتحصيلها لهذا السبب شاق واعمارنا تفنى في محاولات عقيمة وان تكن مخلصة للتعلم حتى اذا انتهينا الى الطريقة واهتدينا الى المنهاج وجدنا ان الشباب قد ولى وقد يبعثنا هذا الى القول بان العمر يجب ان يزيد حتى يبلغ المئة سنة مثلا. فنجي فنجني في العقود الاخيرة ما جاهدنا لاجله واختبرناه في العقود الاولى. ولكن قبل ذلك يجب تنظيم المعارف ومناهج الدراسة وترقية الصحافة حتى تعود جميعها ادوات ووسائل التنوير. لان الواقع ان بعضها الان ادوات ووسائل لتبليد الاذان ومطاردة الذكاء ونشر الظلام والعالم والعالم حافل بالتباسات واستعراضات للجهل الفاشي. هذا الجهل الذي يجد دعامة بين المعلمين والادباء والفلاسفة الذين يدعمون الى مزاعم وعقائد يوحون منها الى القراء والمتعلمين بانها اراء وحقائق قد سبق ان اعان جوتيه مثل هذه الحال حين قال ليس هناك افظع من الجهل النشيط. واذا اجيب على سؤالي هل ربيت نفسي باني ما زلت صائرا في سياق التربية واني اسير اسر حين احس ان لي شخصية نيوزية قلقة مستطلعة اطمع في اكثر مما استوعب. وان الثقافة تحتل المكان الاولى من اهتمامات احيانا انها الاهتمام الوحيد. حتى اني لا افاجئ نفسي من وقت لاخر بخطاب يرسله يرسله الي صديق فارجعوا فتحه الى الغد كي يتصفح كتابا جديدا هذا اليوم ويسر ايضا حين اجد ان القيم البشرية عندي تأخذ مكان القيم الاجتماعية. وعندي ان هذا الانتقال هو البرهان في عصرنا على الحكمة والفهم. فان القيم الاجتماعية الحاح العادات والتقاليد تغمرنا وتقيم في نفوسنا عواطف تحملنا على السعي والجهد لما يسمونه منافسة واحرى ان يسمى محاسبة اقتناء او عزبة او لقب او نحو ذلك مما يحملنا المجتمع على احترامه. كثير من الناس ان يموتون شهداء هذا الجهد السخيف. وحين ننتقل الى البشرية نجد ان حياة الصحة والصلاح الاجتماعي والفهم والقناعة بالحاجات الضرورية والاستمتاع بما في الدنيا من من اطايبها المجانية خير الف مرة بل مليون مرة من تلك القيم الاجتماعية وليس في الدنيا ما يعد الفنجانا من الشاي او كسرة من الخبز مع الجبن تحت ظل شجرة. كما قال الامبراطور اوريلوس في اوقرات كتاب منير والحديث الى المجرة في منتصف الليل في الريف او تحية الشمس في بزوغها او حين اكتب البحث عن بشائر المستقبل والتشبث بها وشرحها في مقال انه كتاب. واذا سأل القارئ ماذا تستنتج من اختباراتك وما تكهناتك للمستقبل بعد ان قضيت نحو اربعين سنة وانت على اتصال وجدان عقلي العام على هذا الكوكب فانه يجيب بان الحاضر يومئ للمستقبل ايماءة واضحة نراها بالعين واحيانا نسمعها صاخبة بالاذن هي الاشتراكية التي سوف تعم الدنيا كلها وليس هذا لان الناس سيتحولون من اشرار الى ابرار بل ان الانتاج الصناعي سيحتم ذلك كما سيحتم توافر النقل وضرورة تجارة على ابعاد كوكبية ان يحال العالم الى دولة واحدة تتجه نحو ثقافة واحدة ولغة واحدة وهذا النظام الاشتراكي العام سوف يرفع المرأة من الانثوية الى الانسانية. لانه من جهة سيفتح لها ابواب العمل والاختبار والتعلم كالرجل سواء كما انه من جهة اخرى سيغنيها عن عن عن عناء الواجبات المنزلية العديدة. وليس هذا لانها ستترك المنزل بل لان كثيرا من الواجبات المنزلية بالحضارة الى خارج المنزل. ما يتضح هذا من المقارنة في مصر بين المرأة في الريف والمرأة في المدينة. فان الاولى تعجن وتخبز وتحلب البقرة وتصنع الجبن وتخيط ملابسها وتحمل جرة الماء من الجدول وتجمع الوقود الى غير ذلك من الواجبات التي لا تعرفها المرأة في المدينة. ثم المقارنة بين المرأة في القاهرة المرأة في نيويورك تزيدنا فهما بان الحضارة تلغي الواجبات المنزلية التي ترهق ربات البيوت الان وتحول بينهن وبين العمل في الخارج او بين تربية ولذلك نحن سائرون نحو تحقيق الرؤية التي حالم بها ابس في شخصية نورا هذه الانثى التي اصرت على ان ترتفع من الانثوية الى الانسانية واستطيع ان استنتج من حياتي الماضية ان اعظم العقبات التي تؤخرنا في مصر كما تؤخر كثيرا من الامم في اسيا واوروبا بعد الاستعمار هي هذه الرواسب من الثقافات والتقاليد والغيبيات الفرعونية والبابلية وامثالها التي انحدرت الينا. وهي تتخذ من الصيغ والاساليب وتعترض عجلة التاريخ وتعوق التطور. والبيئة الصناعية وحدها هي التي تحطمها. لانها اي هذه البيئة لا تنهض الا على علم وهو نار كاوية تحرق جميع الرواسب وتبدد وهباء والحضارة الجديدة المنتظرة هي الحضارة الصناعية هي الحضارة التي لا يبعد او تلغي الزراعة من العالم وليس هذا بالعمل العظيم المستحيل كما يتوهم بعضنا من الكيمياء الصناعية تصنع الان مركبات كيماوية عديدة كان صنعها قبل هذا القرن مقصورا على الجسم الحي نباتا كانا او حيوانا. فان استطاعت الكيمياء الصناعية هيا ان تصنع مادة البروتين فان الزراعة تعود عناء لا ضرورة له بتاتا وعندئذ حال العالم الى حدائق غابات تعني بها الطبيعة وحدها. واذا كنا اظن ان صنع البروتينات لا يزال بعيدا فيجب ان نذكر الطاقة الذرية. لان اي انسان منا لو انه قبل خمس سنوات رسالة ايهما اقرب الى خيالنا استخدام الطاقة الذرية قنابل للتدمير او صنع البروتين كيميائيا لاظن هذا السن ايسر بكثير من الاول. وظني ايضا ان الزمن ليس بعيدا حين نشرح حتى في مصر في تطبيق نظرية التطور بالانتخاب التناسلي اي اليوجينية وفي العالم نحو اربعين دولة متمدنة تمنع غير الصالحين للتناسي من ان يعقبوا يعقبوا. والامة التي تعارض في مثل هذا الاصلاح ستتخلف في ميدان التطور البيولوجي اي الرقي البشري الصميم. واخيرا اقول ان ارى ايماءة ثقافية جديدة هي التخلص من المذهب الانفصالي. مذهب ديكارت الذي يفصل بين الروح والجسم وبين الحياة والمادة او بين العقل والمادة الى المذهب الاتصالي الذي يقول بان القوة هي المادة المتدفقة والمادة هي القوة المتجمدة وفي هذا القول وجبة ثقافية واسعة للمستقبل سوف تكون كبيرة الاثر في الحضارة القادمة. وقد سبق للفيلسوف العظيم سيفينوزا ان نبه الى ذلك في لغة فلسفية ونحن نقتنع هذه الايام بصحة تفكيره عن طريق العلم التجريبي ونصل الى وحدة وجودية في الطبيعة ثم تدرج الى ما يلائمها في المجتمع. وعندما ارتفع الى هذا التفكير احس ان كثيرا من الاهتمامات بل الهموم الوطنية التي حجبت النور وعكرت الصفاء اللذين كانت كنت في حب وولاء بشريين. هذه الهموم تذوب وتتبدد. اجل اني احب ان اعترف فاني ما كتبت كلمة واحدة ضد المستعمرين الانجليز الا وانا في الم وارتعاش واسف وكاكثر مما احس من غيظ وحنق وكفاح. وكذلك كان الشأن عندما كنت اكافح الرجعيين المستغرضين والجهلاء الناشطين المصريين فاني اخجل حين اقول اني احب جميع هؤلاء الانجليز المستعمرين المصريين المستبدين وفي نفسي رجاء بان يتغيروا او ان يروا رؤياي وان ينسلخوا من الاستعمار والاستبداد. ويفتح عقولهم للثقافة الجديدة للحرية والايخاء والمساواة. وجميعها مستطاع لو انهم كفوا عن الجهل النشيط الذي يمارسه وقد احترفت الثقافة وقضيت عمري اقرأ واكتب وزادتني هذه الحرفة وجدانا بالدنيا كاني احس اكثر وارى بابعد. حتى لقد صغرت عمومي الشخصية الى جنب اهتماماتي العامة الدراسات للادب والفلسفة قد اوهجت خيالي وحدد زكائي. ثم انعكست هذه الدراسة الى حياتي فاصبحت قيمي واوزاني الخاصة قيما واوزانا ادبية فلسفية ولذلك كثيرا ما انصح للشبان بان يقرأوا الادب والفلسفة وان يحاولوا كتابة القصة وقرض الشاة لانهم وهم في هذا النشاط يتخيلون الحالة ويصعدون باذهانهم الى السماء ويختارون اسمى المعاني وانصع الكلمات. كل هذا ينعكس على حياتهم الخاصة فيرتفعون على عن التبذل ويحلون حياتهم الى فن جميل. لو اني مت ثم بعثت وخيرت في الحرفة التي احترف لما اخترت خيرا من ان اقرأ واكتب. لكني مع ذلك سوف اموت وفي نفسي شيء من الطاقة الذرية لانه يجب على كل انسان في عصرنا ان يستوفي ثقافة علمية معينة يدرك منها هذا المنهج البشري الجديد للتسلط على المستقبل ماجد الفرصة لهذه الثقافة كما كنت اشتهي. وان كان حظي منها قد يحسدني عليه غيري. اجل لقد تركت تركت الطاقة الذرية في نفسي مركب النقص اعانيه في الم كل يوم من الف وتسعمائة وتسعة عشر الى الف وتسعمائة وسبعة واربعين رأيت الحكم البريطاني في مصر فيما بين الف وتسعمائة والف وتسعمائة وتسعة عشر. وانا على وجدان بتصرفاته واتجاهاته. رأيت الحكم المصري فيما بين الف وتسعمائة وتسعة عشر الف وتسعمائة وسبعة واربعين. وانا على وجدان ايضا بتصرفاته واتجاهاته. وقد قلت المصري بهذه الصيغة الكتابية لانه ولم يكن في كثير من الاحيان مصريا بحتة. اذ كانت اليد الانجليزية تعلوه وتقود الى الفساد والشرع. لان الانجليز هم الذين جعلوا زيور باشا يحل البرلمان في الف وتسعمائة وخمسة وعشرين في نفس اليوم الذي عقد فيه. وهم الذين سلطوا علينا اسماعيل صدقي فيما بين الف وتسعمائة وثلاثين والف وتسعمائة واربع وثلاثين كي يضرب الامة بالسياط والبنادق وهم الذين حملوا محمد محمود باشا في الف وتسعمائة وتسعة وعشرين على ان يعطل البرلمان ثلاث سنوات تقبل التجديد ولكننا مع ذلك مضطرون الى ان نسمي هذا الحكم فيما بين الف وتسعمائة وتسعة عشر والف وتسعمائة وسبعة واربعين مصرية لان الايدي التي انفذت السياسة كانت مصرية. وكانت تستطيع ان تكف الاذى عن الوطن لو انها شائت فيما بين الف وتسعمائة والف وتسعمائة وتسعة عشر كانت السلطة الانجليزية صريحة. قد تعلمت ان الجغرافيا في السنة الثانية الابتدائية حوالي الف وتسعمائة الانجليزية كان كل التعليم بالمدارس الثانوية فيما عدا اللغة العربية طبعا باللغة الانجليزية في جميع المواد. وكنا لا نستطيع ان نحل مشكلة تتصل الحكومة الا على يد الانجليز. ولكن كل هذا او معظمه تغير بعد الف وتسعمائة وتسعة عشر. واول ما يسأل الانسان عندما يقارن بين الاحتلال والاستقلال هو مقدار الحرية التي يتمتع بها الفرد. حرية القول والخطابة والصحافة والاجتماع. ومع الاسف بل الالم العظيم يجب ان نعترف هنا بان هذه الحرية نقصت ولم تزد بعد الف وتسعمائة وتسعة عشر فاننا في الف وتسعمائة وسبعة واربعين اقل حظا من هذه الحريات مما كنا حوالي الف وتسعمائة وخمسة او الف وتسعمائة وعشر وهذا هو ما مارسته بنفسي ففي الف وتسعمائة واربعة عشر استخرجت رخصة لاصدار مجلة المستقبل ولم اجد الصعوبات الشاقة التي يا جدع ويجدها غيري في مثل هذا الاستخراج. في الف وتسعمائة وسبعة واربعين. بل لقد حاول وزير سابق والاستاذ فؤاد سراج الدين باشا استخراج رخصة لجريدة يومية في الف وتسعمائة وستة واربعين فرفض طلبه. قد كنت قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر القي المحاضرة بلا ترخيص من المحافظة في القاهرة. اما الآن اني احتاج الى ترخيص وانا اكتب هذه الكلمات في اكتوبر من الف وتسعمائة وسبعة واربعين. وقد بلغت التحقيقات بشأن مقالات او اخبار للصحف العشرات وهذا ما لم نكن نعرفه قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر. وفي الف وتسعمائة واثنين وعشرين صدر الدستور المصري. وفهمنا منه انه سيحترم انه وثيقة رهيبة يجب ان تستنبط منا احساسا دينيا لاحترامها. ولكن هذا الدستور استبدل باخر ايام زيور باشا في الف وتسعمائة وتسعة وخمسة وعشرين ثم عدت لايام محمد محمود باشا في الف وتسعمائة وتسعة وعشرين. ثم الغي واستبدل باخر ايام اسماعيل صدقي باشا في الف وتسعمائة وثلاثين. وصحيح ان المستعمرين الانجليز كانوا خلف هذه العربدة في حياتنا الدستورية. ولكن الايدي المنفذة كانت مصرية. كلنا يعرف ان الذين جاهدوا وضحوا هم الوفديون مع ذلك حسبت السنوات التي تولوا فيها الحكم فيما بين الف وتسعمائة وثلاثة وعشرين والف وتسعمائة وسبعة واربعين اي نحو ربع قرن. فوجدت انها منذ سنوات وثمانية اشهر فقط. حسبت السنوات التي تولى فيها اسماعيل صدقي باشا الحكم في هذه المدة ايضا وليس له حزب. وليس له رأي عام مصري سيده فوجدت انها تقارب المدة التي حكم فيها الوفد. فكأن الدستور لم يغير شيئا من اوضاع الحكم التي كانت تشكو منها مصر قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر وفيما بين الف وتسعمائة وثلاثين والف وتسعمائة واربع وثلاثين اوقع بنا اسماعيل صدقي باشا من الوان الاستبداد البشع ما اضطره هو نفسه الى ان يطالبنا بنسيانه في الف وتسعمائة وستة واربعين. ولم نرى حط مثل هذا الاستبداد من الانجليز قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر الا في حادث زنشواي. والمتأمل للكراهة العميقة عند بعض العناصر للوفد يجد انها ليس لها سبب سوى ان الوفد هو الهيئة الديموقراطية الشعبية الوحيدة في مصر وهذه العربدة في حياتنا الدستورية وحينذاك وفي نشاطنا السياسي هي التي انتهت بنا الى ان ينشأ حزب ديني مسل الاخوان المسلمين. يتناول من ناحية الدين ويجعلنا في شك او خوف من المستقبل بل بعد ان كافح لطفي السيد وغيره في فصل الدين عن السياسة. فان الاخوان المسلمين يتوسمون في الاسلامية من الامال والافاق ما كان يتوسمه الحزب الوطني ايام مصطفى كامل من الجامعة العثمانية. وفي هذا تفكيك للوطنية المصرية وتشكيك في قيمتها ومستقبلها وانا مضطر ان اصرح باني كنت متشائما من هذا الاتجاه الذي كان قائما وقتئز ولكن يجب ان نذكر الكذب ايضا. وهو كسب عظيم. وعندي ان اعظم مآثرنا هنا هو انتقال المرأة من ظلام القرون الوسطى الى نور القرن العشرين ويجب الا يلومني قارئ اذا كررت في هذا الانتقال فقد رأيت بعيني نسوة مصريات حوالي عام الف وثمانمائة وثمانية وتسعين يذبحن الخنافس فلما سألته عن السبب قيل لي انهن يطبخنها ويأكلنها كي يصبحن سمينات بعد النحافة. ارأيت تلميزات المدرسة السنية حوالي الف وتسعمئة وثلاثة وهن مبرقعات مع ان اعمارهن لم تكن تزيد على احدى عشرة او اثنتي عشرة سنة. ان كانت ناظرة المدرسة وهي انجليزية تلح وتصر على البرقع على انه من تقاليدنا. والانتقال من هذه الحال الى المرأة الجديدة المحامية والطبيبة والصحفية وسائر نسوتنا السافرات وهي هو اية في الرقي الاجتماعي لا نكاد نصدقها لولا اننا نحسها ونختبرها. الجيل الجديد لا يقدر هذا الارتقاء لانه لم يرى عمق الهاوية التي فيها قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر. وهذا الارتقاء النسوي في مصر هو مرحلة من الرقي الاجتماعي قد قطعناه ولن تستطيع قوة ان تنزعها منا قد انتصرنا بها على القرون الوسطى وعلى الشرق معا وكذلك كسبنا في التعليم ولكن كسبنا هنا اقل من الارتقاء النسوي. فاني اذكر اني حين كنت تلميزا بالمدارس السانوية لم يكن في القطب المصري كله غير ثلاث مدارس ثانوية لا تدخلها فتاة. وهي الان تعد بالعشرات والفتاة تتعلم فيها ايضا بلا عائق. وكذلك الجامعات التي لم نكن تكن في ايامنا ندري معناها والتي كان الانجليز يحضرون علينا تأسيسها. ولكن نهضتنا التعليمية سارت مع ذلك ببطء ولا تزال بطيئة. ويذكر ان احد الامريكيين قبل عشر سنوات سنوات سألني عن عدد المدارس السنوية للبنات فقلت انها تسع. ان لم تكن تبلغ ذلك فقال كنت انتظر ان تقول انها تسعون مدرسة. على ان هذا البطء لم تخريج الوف من الشبان المتعلمين والفتيات المتعلمات الذين يعتمد عليهم في تكوين رأي عام مستنير سوف يصون الدستور من العبث. ويحمل الحاكم على مراعاة العدل وانصاف الامة في المستقبل. ولكن حماستنا للتعليم قد اعثرتنا فيما يسمى التعليم الالزامي. الذي انفقنا عليه منذ ايجاد نظامه الى الان نحو خمسين مليون جنيه دون ان نستطيع تخريج مصري واحد متعلم منه. وعلة ذلك انه تعليم يقوم على نظام شرقي غير عصري قد ارتقينا في الصناعة فصارت لنا صناعة كبيرة ونسينا الاكذوبة التي كان يشيعها المحتلون البريطانيون بيننا ويطلبون منا تصديقها. وهي ان مصر بلاد زراعية وذلك كي يقتصروا نشاطنا على زراعة القطن ويمنعون من الصناعة اي انهم كانوا يرمون الى ان نكون امة لا تنتج للعالم سوى المواد الخام كما يفعل الزنوج الافريقيون. وقد اغتصبنا منهم الصناعة والتعليم اغتصابا. لانهم كافحونا فيهما بكل ما قدروا عليه ثم هزموا على ان هناك ما يحزن في حياتنا استقلالية او الدستورية مع جميع التحفظات الذهنية بشأن التدخل الاستعماري البريطاني فيهما فاننا منذ الف وتسعمائة واثنين وعشرين الى الف وتسعمائة وسبعة واربعين. لم نقم باي اصلاح يرفع من شأن الفلاح الاقتصادي او يخفف من كوارث الفقر ان الفلاح يعيش الان كما كان يعيش قبل الف وتسعمائة وتسعة عشر. قد قرأت هذا الصباح في المصري حداشر اكتوبر الف وتسعمائة وسبعة واربعين. هذه التالية بشأن وباء الكوليرا ولم تقع حتى الان اية اصابة في القاهرة بين افراد الطبقتين العالية والمتوسطة وكل ما وقع من الاصابات حتى الان كان بين افراد الطبقات الفقيرة. وهذا بعد مضى على تفشي هذا الوباء نحو عشرين يوما. وليس ادل على وحدة الفقر الى التي يرتدي فيها تسعة اعشار الشعب المصري. بما فيها من حرمان وقذارة من هذه الكلمات. وليس ادل على تقصيرنا في الاصلاح الاجتماعي منها هذا الاهمال الفاضح لابناء امتنا. بل لقد اصبحنا نهتم بالشيوعية كل من يدعو الى اصلاح اجتماعي. ويبرز فضائح هذا الفقر الكالح الاسود الذي يعيش فيه فلاحون وعمالنا. وبعض الكراهة للوفد تعزى الى انه قد حاول اصلاح هذه الحالة فاتهم بالغلو في الديموقراطية التي لا يطيقها كورونا الانجليز والمستبدون المصريون ولكن حال العامل في المصانع ارقى بكثير من حال الفلاح في الريف. وهو بقليل من السخاء من الاصلاحات الاجتماعية التي يتمتع بها العمال في اوروبا. يمكن ان يسير الى مستوى اعلى. والمشكلة التي تتحدانا في مصر الان هي الفقر كيف نعالجه؟ بل كيف نمحوه. ولا قيمة لاي امة ولا معنى لاي رقي ما لم يكن الهدف مكافحة الفقر وما يجر من حرمان وجهل ومرض اجل مرض الكوليرا الذي يفتك الان بطبقاتنا الفقيرة لانها عاجزة عن الحصول على الغزاء الوافي او النظافة الوافية برنامج السنوات العشر القادمة في شهر مايو من هذا العام الف وتسعمائة وسبعة واربعين القي علي القبض بتهمة القاء قنبلة في احدى الدور السينمائية في القاهرة وايقظني البوليس في السبعون سنة الاولى من عمري في هذا الشهر يناير من الف وتسعمائة وسبعة وخمسين اتممت السبعين سنة الاولى من عمري وما لم يكن مع رأس الانسان مصنوعا من الحجر السلد الساعة الثالثة من الصباح وساقاني الى القسم حيس اعتقلت الى ان نقلت في الساعة الحادية عشر الى دار النيابة للتحقيق. قد وافق هذا القبض على بلوغ سن الست وهي سن التقاعد في نظر الحكومة المصرية اي السن التي تخور فيها القوى ينحط النشاط ويبدأ الركود. ولكن الحكومة ابت الا ان تميزني بنشاط شباب ان تعزو الى رعونته وقد اتاح لي هذا القبض ان افكر كثيرا وان اتأمل حال مصر بعد هذه الايام باهالي الاتراك ايام السلطنة العثمانية وذكرت قصة كان قد قصها علي مصري قبل اربعين سنة فانه كان حوالي الف وتسعمائة وسبعة قادما من اوروبا الى استانا وكان يلبس القبة لانه لم يكن يرغب في لفت الانظار اليه. اذا لبس الطربوش وصار في شوارع باريس وبرلين وابو دابيست. وكان طربوشو في حقيبته وقد احتفظ به الى يوم يعود الى مصر. فلما بلغ عاصمة السلطنة العثمانية وصرح بانه مصري زمجر في وجهه رجال البوليس التركي وسألوه كيف يكون مصريا يلبس لابد انه جاسوس والقي به في السجن. فلما دخل السجن وجد صبيين تركيين لا يزيد عمر اكبرهما على اثنتي عشر سنة. ان كانت تهمتهما السياسية. وقد وجدت سبية وجدت سبيلا للمقارنة بين اتهامي بالقاء قنبلة وانا فيه الستين من عمري وبين اتهام صبي في سن الثانية عشر بقلب نظام الحكم في تركيا قلت في حديث النفس وانا معتقل على الاسفلت في قسم الازبكية. انا وهذان الصبيان ضحايا الجار النشيط في الاستانة والقاهرة على حد تعبير جوتيه وانا في سن الستين الان احس اني قوي القوى كلها كما كان يقول الفارابي او نسينا عن نفسه. ولذلك ارى من حقي او بالاحرى واجبي ان اضع برنامج للسنين العشر القادمة. وعلى ذكر ابن سينا اقول اني اجد لو اختيارا ثقافيا يتفق اختياري. فهو يقول في ترجمته بحياته فلما بلغت ثماني عشر سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها وكنت اذ ذاك العلم احفظه ولكنه اليوم معي انضج. والا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء وابن سينا لا يعني بالطبع ان المعارف لم تزد بعد هذه السن. وانما هو يعني ان المبادئ والنظريات والاراء والاتجاهات التي استقرت عنده حوالي ثمنية عشر لم تتغير بعد ذلك وانما قصارى ما حدث فيها توسع وتعمق اي نضج. وظن ان هذه هي حال الجميع الذين عانوا بالتربية الذاتية. فاني حين اعود الى مقدمة السوبر مان التي الفتها وانا حوالي التاسعة عشر. ويتأمل الموضوعات التي عالجتها فيها لا اكاد اجد موضوعا جديدا قد درسته. بعد ذلك كطوال الاربعين سنة الاخيرة. وانما قصارى ما حدث لي هو توسع وتعمق اي نضج. اي اني استطيع ان اؤلف عن كل فصل من فصول مقدمة السوبر مان كتابا برأسه ولا اعرف انا اوشك ان ابدأ العقد السابع من عمري فكرة جديدة لم اومي اليها في تلك الرسالة التي طبعت في الف وتسعمائة وتسعة وليس كبيرا ان اطمع في عشر سنوات قادمة. فان الطب العصري تقدم بسرعة ومعقد الامال لاولئك الذين ينشدون من الشيخوخة عنفوانا ورعيانا واذا لم نجد منه الشباب الذي يتيح العدوى والوثب والقاء القنابل في الستين والسبعين فلا اقل من ان نجد اليقظة والقدرة على الاستمتاع مع بقاء الحواس سليمة لذلك ارى انه لا يجوز لي ان اترك هذه السنين العشر الباقية تتابع جزافا بل ساضع على برنامجا يزيدني توسعا وتعمقا للحياة على مستواها الوجداني بالشبكة الدماغية العالية. وفي اثناء الحرب الكبرى الثانية كنت اتوق الى رؤية نهايتها واستقرارها على سلم. ولكني الى الان لم ارى الاستقرار ان كنت قد رأيت النهاية وهي نهاية مع ذلك تومي الى انها سوف تكون بداية. ذلك ان العالم يسير رويدا نحو الازمة المركسية في تصادم نظامي يتناقضان. ونحن الان في طور المهايترة والسباب بين هذين النظامين وعن قريب سنرى التصادم بالقنابل وسيرى العالم عن قريب هل القرن العشرين او القرن الامريكي او هو القرن الروسي؟ وانا متتبع لاطوار هذا الصراع تائق الى رؤية. الى رؤية نتيجة نتيجته متشائم في انتظار الحرب الكبرى الثالثة. ولكن لا يزال هناك امل ضعيف بان العالم يستطيع بالتسويات والتطورات او ان يتجنب هذه الحرب. وانا اقرأ هذه الايام اخبار الصين وقوانين العمال الجديدة في الولايات المتحدة وتأميم المناجم والارض الزراعية في بعض اوروبا وايضا اقرأ اخبار التقدم الالي الصناعي الكيماوي وقارن هذه الاخبار واجماعها في ضوء الازمة المركزية التي ينتظر تفاقمها يزيد ويحدس تعطلا يزيد ايضا. ثم رغبة في الحرب لمعالجة هذا التعطل وقد جعلتنا هذه الازمة نعيش فيما يشبه الزبزبة العصبية كلنا في قلق نعاني مضض الانتظار ولا نعرف المصير. ولكن مع هذا القلق او المضض نحن في انتباه واهتمام. نحن احياء لا ننساق على غير وجدان بل ندري بجميع العوامل التي تجرنا الى الهاوية او تصدنا عنها. ولهذا السبب تعدل جريدة اليوم في هذه الايام من اعظم الوسائل للتثقيف الذاتي. لانها تنبهنا الى الاخطار القادمة. وقد كانت لي اطماع في شبابي اود ان اتابعها في شيخوختي. ولم تكن مادية فقط. ولم ارهقت نفسي في تحقيق اغراض مالية. وقد وصفني احد الكتاب حديثا باني مغتر. وهو واهم في هذا الزعم فاني من الف وتسعمائة وثلاثة عشر الى الان لم اشتري سوى فدان واحد وعشرة قراريط. وليس لي رصيد في اي بنك لاني من اليد الى الفم بل بلغ ما بعد اتوا من ميراثي منز الف وتسعمائة وثلاثة عشر الى الان اربع وثلاثين سنة اكثر مما اشتريت. وليس هذا القدر صغيرا بالمقارنة الى جملة ميراث ولم ابالي قبل اقتناء المال لان كل همي واهتمامي هو الاقتناء الذاتي او بالاحرى الاقتناء النفسي ولذلك يذهب الى ذهنه في اول البرنامج ان اقرأ بعض الكتب او اعيد قراءة البعض مما ترك في نفس شكوكا او شبهات ثقافية. فمن ذلك مثلا كتاب الغصن الذهبي وقد قرأت التلخيص الذي يزيد على الف صفحة ولكني انوي قراءة الاصل الذي يزيد على عشرين مجلدا وهذا الكتاب هو كنز للثقافة القديمة حين شرع الانسان البدائي يتحسس الدنيا ويتعرف على حقائقها ويحاول في تخبط ان يستخلص منها منطقا مفهوما وتربيتي ناقصة نقصا عظيما لما لم اقرأ هذه المجلدات كلها. ثم بعد ذلك ينوي قراءة كتاب الموتى او طلوع النهار كما كان يسميها اسلافنا قبل خمسة الاف سنة. وهو الذي كان يدفن مع الموتى كي يتعلموا منه الاجابات السديدة وقت الحساب في العالم الثاني. وهذا الكتاب هو زاوية منفصلة للبحث الذي يبحثه الغصن الذهبي اما بعد ذلك فاني انوي دراسة الذرة. ولو احتاج الامر ولو احتاج الامر الى استئجار مدرس. لان خطورتها اكبر من ان يهملها رجل مثقف. وفي تقبل حين تستغل الذرة لخدمة البشر بدلا من قتلهم سوف يقسم التاريخ البشري قسمين ما قبل الذرة وما بعدها. ولكن هناك دراسة اخرى قد تكون لا علاقة ادارة لا تفتأ تاهج اس بي كما لو كما لو كانت وسواسا هي العلاقة بين القوة والمادة او الله والكون. وظني هنا اني مع سبينوزا ولكني لم لم ارتد الى همزة الوصل بين القوة والمادة. اعني اني لم ابلغ درجة من الفهم في هذه المشكلة استطيع بها ان ارتفع الى التعبير اللغوي انا وقد كان يقال الى وقت قريب بل لا يزال هناك من يقول انه ليس هناك حد تقف عنده المعارف البشرية. ولكن هذا خطأ لان هذه المعارف محدودة في هذا الكون. وظني اننا نعرف في عصرنا الحاضر اكثر مما نصفها او او من نصفها او ثلثيها. ولم يبقى علينا غير الثلث او اقل نستطيع ان نستبدل بكلمة معارف كلمة حقائق فاني لا استطيع ان اعرف ما يقرب من مائة الف نوع من الحشرات حشرة بعد اخرى. لكني بتشريح حشرة واحدة اعرف حقيقة الحشرات جميعها. وعلى هذا الاساس نقول ان حقائق هذا الكون محدودة. ثم بعد جيلين او ثلاثة اجيال لن يجد البشر ما ما يكتشفونه من سواء على الارض ام في النجوم ام في الحيوان ام في النبات ويجب ان تؤدي هذا الحال الى التشجيع والتفاؤل فان هذا الكون ليس من السعة او العمق الى الحدود الغيبية التي تثبت عن المحاولة والفهم. فهو مكشوف قليل الحقائق وقد اوشكنا ان نعرفها جميعها ولم يبق سوى استغلالها. وهناك بالطبع مظامون ويحاولون ان يستنبطوا الغيبيات السرية من الماديات المكشوفة ولم انخدع قط بهم وهم عندي والباحثون عن الروح بالنقر على المائدة سواء. وظني ان مشكلاتهم العاطفية تحتاج الى التحليل النفسي وليست تحتاج الى المناقشة الوجدانية. وفي السنين العشر القادمة سوف يتوسع واتعمق في السيكولوجية البيولوجية ويزداد فيها نضجا وهما من غرام الشباب الذي لازمني الى الشيخوخة. ومن اطماع الثقافية ايضا ان اجعل علاقتي باروستاليس اكثر مما كانت الى الان. فان عصرية هذا الرجل عجيبة ولو انه كانت له قدرة افلاطون الادبية في التعبير لكانت مؤلفاته على لسان العامة قبل خاصة ولو اني بلغت عن المعرفة ما بلغته بجوتيه او برنارديشول اعددت هذا فوزا عظيما في حياتي. ولكن هذه امنية مستحيلة. وسيكون لي كفاح ثقافي في مصر. فلن اكف عن تأليف الكتب المقلقلة مثل نظرية التطور او حرية الفكر. خمائر صغيرة ابعثها في انحاء الوادي وغيره الى الاقطار العربية كي يزعزع التقاليد السوداء واحرق العفن الذي تركته على على العقول المطموسة. ومما سروات حياتي ان اجد ان مؤلفات التسر في الجسم الاجتماعي على مهل وفي غير عنف. فيأخذ التطور مكان الجمود والنزعة الارتقائية مكان الرجعية الجامدة وكذلك ارجو ان يكون لي كفاح صحفي للدفاع عن الديموقراطية في مصر. وظني اني لن ارى انتصارا للديمقراطية في السنين العشر القادمة. لان الرجعية والاستبداد في واستحكام واستحكام والديموقراطية عزلاء من كل سلاح. بل ان الصراع القائم في ايامنا بين امريكا وروسيا سوف يعزز الرجعية والاستبداد في مصر بان جميع الحركات اليسارية قد اصبح الامريكيون يشتبهون فيها ويحضون على مكافحتها. ولكن هذه الحالة يجب ان تدعونا جميعا الى الدعاية الديموقراطية دليل الالحاح في هذه الدعاية والا عمت ظلام مصر باكثر مما كان يعمها قبل سبعين سنة. ولا اظن اني مسرف هنا في التشاؤم فان في مصر الان قوات كبرى تتأهب وتتكاتف لتحطيم الانظمة الديموقراطية مكافحة الاتجاهات الديموقراطية في مصر وهذه الحال يجب ان تزيدنا حماسة وغيرة لمكافحة الاستبداد والرجعي. وارجو ان يكون لي نصيب يمتعني بهذا الكفاح الذي اطمع في في الاشتراك في وثم مطامع اخرى تكاد لبعدها عن الواقع تقارب الاماني. منها اني ارى اوروبا واحس رياح البلطيقي في شمال المانيا واسأل عن الكلمات الفرعونية التي تزال باقية في فنلندا ويرى المرأة الاوروبية الجديدة نورا التي كتب عنها ابس واثار بها خيالي قبل اربعين سنة. واحب ان اقرأ دي جنيف وهو لا يزال ساخنا فور خروجه من المطبعة. واحب ان اقعد في قهوة البولفار في باريس واناقش في السياسة. اناقش وانا مطمئن اذ لن يقول لي احد القاعدين اسكت ليس لك حق في المناقشة. الانجليز اسيادكم. ثم اقصد الى غرفتي وانا ذليل مهين ويتبرز الدم والمخاط كما حدث لي حوالي الف وتسعمائة وثمانية. واحب ان ازور تنبكتو في افريقيا وبكينا في الصين واحب ان اقف امام جبل هيمالايا واحس خشوع العبادة للكون. نحب ان ارى كل هذا لان من واجب من يعيش في الدنيا ان يرى الدنيا. ولكن العالم لم ينظم الى الان كي يحس ابناؤه انهم يملكون هذه الدنيا ووطنيتنا الكبرى مجزئة وقوميتنا البشرية ممزقة. ونحن في اوطان كأنها احجار لا نخرج منها الا باذن وفزع وفي فزع ونحن نلوي السنتنا باصوات مختلفة فنظن اننا مختلفون. واخيرا احب ان يكون من برنامجي من قضاء السنوات الخمس الاخيرة من العمر في صادق الخراف والحمير البقر والشجر. ويتحدث الى النجوم واحيي الشمس واحيي الشمس في الصباح. ويضحك مع الماء يجري بين وياكل الخاصة والفجل على حرف القناة وهنا يستطيع السيكولوجي ان يجد في هذا الشوق الى الريف عروبية كاني قد انهزمت امام الصعاب المدني والثقافة العصرية المتقلقلة وانا لا احلل من هنا ولكني لا احب ان تكون هذه السنوات. الخمس الاخيرة من العقد السابع اخر اخر العمر لاني ما زلت اطمع في تجديد البرنامج عشر سنوات اخرى، بل وعشر اخرى، فان الشباب في الثمانين والتسعين لم يعد امنية بعيدة، اذ هو حقيقة راهنة في مئات من الذين عانوا بثقافة زهن وثقافة الجسم مع ملحوظة من الف وتسعمائة وسبعة واربعين الى الف وتسعمائة وسبعة وخمسين والصفحات السابقة وهي كتاب تربية سلامة موسى في طابعته الاولى وعلى اصلها لم اغير فيها منذ كتبتها في الف وتسعمائة وسبعة واربعين اما صفحات التالية فقد كتبتها في سنة الف وتسعمائة وستة وخمسين والف وتسعمائة وسبعة وخمسين عشر سنوات عشر سنوات مضت منذ كتبت ونشرت الصفحات السابقة قد حدثت في هذه المدة احداثا داخلية وخارجية تستحق التدوينة لما لها من خطورة وطنية وعالمية وذكريات غاية سارة او اليمة. فاما احداثنا الداخلية فاجبروها ثورة الف تسعمية اتنين وخمسين وطرد فاروق واعلان الجمهورية ثم تأمين قناة السويس في الف وتسعمائة وستة وخمسين بعد اجلاء الجيش البريطاني عن الوطن. واما الاحداث الخارجية فكثيرة كان اعظمها بلا شق الانقلاب الاشتراكي في الصين. ثم التقدم حلمي في اختراع القنبلة الايدروجينية ثم الاقمار الصناعية التي يدور منها اثنان حول الكرة الارضية وانا اكتب الان هذه الكلمات في نوفمبر من الف وتسعمائة وسبعة وخمسين بلادنا تغيرت والدنيا تغيرت. فاننا منذ تبوأ صلاح الدين الايوبي عرش مصر في الف ومائة ستة وسبعين الى نهاية حكم فاروق في الف وتسعمائة واثنين وخمسين. لم نعرف ملكا او سلطانا عربيا او مصريا. اذ كانوا كلهم اتراك اكرادا وقد دمروا مصر تدميرا كاد يكون كاملا. ولذلك كان خلع فاروق انتصارا للقومية المصرية العربية وليس محض انتقال من النظام الملوكي الى النظام الجمهوري. لان الانتقال الاكبر كان من الحكم التركي الكردي الذي عاش سبعمائة وستة وسبعين سنة الى الحكم المصري العربي الذي سيعيش الى الابد بارادته كان فساد الحكم قبائل خلع الشقي فاروق قد بلغ اقصاه. وكانت السرايا تستخدم كل من شاءت من الموظفين خاصة الجواسيس لتعقب جميع الذين يشتبه في سلوكهم نحوها. وما زلت اذكر ان صديقي محمد خالد الكاتب الناهض المعروف زارني ذات يوم في مكتبتي وتجاذبنا الحديس عن الفساد العام في الاحزاب والزعماء وجرأة فاروق على العدوان وتبادلنا كلمات تساءلنا فيها اذا كان فاروق ينوي قتلنا في الشارع وان من الاصعب الا نبقى خارج منازلنا الا بعد الغروب. قد كاننا وكان قد شاع عن فاروق انه يقتل خصومها ولم يكن اسهل من قتلنا في الظلام على ايدي الجواسيس او القبض علينا وطرحنا في احد السجون. ثم الادعاء باننا متنا سكتة وكانت تهمتنا وقتئذ اننا كنا نريد قلب نظام الحكم من الملوكية للجمهورية متقدمة جاسوسة معروفة كانت تختلط بالادباء وتصادف قديما كبيرة بهذه التهمة لنا. انا والدكتور مندور الى السرايا. وقامت النيابة العامة بالتحقيق وافرجت عنا بعد اعتقال خمسة عشر يوما واعتقال منظور خمسين يوم ولذلك كان يوم خلع فاروق ويوم التهاني تصل اليه عن طريق التليفون وبالمصافحة في الطريق وبالزيارة لبيتنا حين كنا نقدم الشربات المهنئين مما يذكر مع السرور ان ضغط الدم عندي كان على الدوام حوالي مائة وثمانين ولكن بعد طرد هذا الشقي من مصر انخفض الى مائة وخمسين. بقي اعلى ذلك الى الان وفساد فاروق يعود كما هو الشأن في جميع الفاسدين الى الوسط الفاسد الذي نشأ فيه. لان تربيته الاولى ايام الطفولة والصبى كانت تتجه نحو حرمانه مما كان يشتهي من طعام. لان اباء المغفل فؤاد كان يعتقد ان هذا الحرمان سوف يصنع منه رجلا يضبط شهواته. ولكن الذي حدث ان فاروق تعلم سرقة الطعام كما تعود خدمة بتهريب الطعام اليه. فنشأ على اعوجاج في الاخلاق يقصد الى مآربه بطرق سرية ملتوية غير صريحة ولما مات ابوه انفرج بعد الضيق فاصبح يأكل كما لو كان ثورا. ومن هنا هذا الافراط في السمن الذي انتهى اليه. ولما اصبح ملكا وجد ان النظام الحزبي في مصر له ان يستغل الخلافات والمتناقضات فيضرب حزبا باخر كي تنتهي السلطة اليه وحده. فاذا كان حزب الوفد يطالب بالحد من سلطانه وهو في حكم فان حزب الاحرار الدستوريين يسلم له وهو خارج الحكم بما بخل به عليه حزب الوفد فيطرد الوزارة الوفدية ويأتي بوزارة من الاحرار الدستوريين اما حكم الدستور ففي التراب. ان كان فاروق يجد مع الاسف من يؤيده من السفلة في هذا السلوك الاجرامي نحو الوطن. ولكن اي وطن ان مصر لم تكن وطنه الا من حيث الشكل. وكان مكانه منها الاقطاع يستغل ابناؤها. ثم لم يتعلم قط تاريخها ولم يدرس لغتها ولم يهدف الى اهدافها. وهذا شأن اسرته كلها منذ ايام محمد علي اي منذ مائة وخمسين سنة بل ماذا اقول كان شأنه شأن الحاكمين الاتراك والاكراد منذ صلاح الدين الايوبي الى وتسعمائة واثنين وخمسين. ان كان الشعب من الوفد ما على الدوام الى سنة الف وتسعمائة وخمسين اما بعد ذلك فقد رسخ في اذهان المفكرين ان الوفد لم يعد الهيئة الثورية التي كانت تكافح استعمار الانجليز واستبداد السرايا كما كانت حال ايام سعد بل بعد سعد الى سنة الف وتسعمائة وخمسين. كان الوفد حين يتولى الحكم يبقى مناضلا لا يساوم ولا يخضع ولكنه لهذا السبب نفسه ام يكن يبقى في حكم اكثر من سنة او سنة او شهورا ثم يطرد وتأتي في مكانه وزارة يتولى رئاستها احمد زيور او اسماعيل صدقي او محمد حسين هيكل او ابراهيم عبدالهادي او غيرهم. وزارة تسلم بكل طلبات السرايا وتمجد اسم فاروق واباءه وجدوده ومآثره وفضائله. حتى لقد قال الشيخ علي عبدالرازق وكان وقت ازن وزيرا للاوقاف ان الله يجدد دينه مرة كل مائة سنة. ان فارقه هو الموكل بتجديد الدين هذه المرة. ولم يكن ولم يكن التملك مقصورا على الوزراء فان كبيرا وصفه في مقال بانه فيلسوف كما ان اديبا كبيرا واستاذا محترما اخر وقف في الجامعة ومئات الطلبة امامه يستمعون وفاروق يقول له وان سلوكك الشخصي يا مولاي ليصلح ان يكون قدوة لشعبك وللناس. ولا تنسى كلمة الشخصي. ان كان المؤلفون كورونا وفي مقدمات كتبهم على انه المصلح العظيم. هكذا افسد الوزراء والاساتذة الفاروق ففسد. وفي الف وتسعمائة وخمسين انتهى الوفد الى حال من من اليأس حملته على ان ويمارس منطقا جديدا املاه عليه القطاعين كبير. خلاصته ان الوفديين لا يبقون في الحكم الا سنة نفوسنا وشهورا لانهم يعارضون طلبات السرايا. اما الاحزاب الاخرى فتبقى اربع وخمس سنوات لانها تبلى بطلبات السرايا ولا تعارض. وانه خير انه يلبي هو الاخر طلبات السرايا ويكف عن خطة المعارضة التي ورثها من ايام سعد زغلول. وذلك كي يبقى في الحكم خمس سنوات. واذكر اني قصدت الى منزل مصطفى النحاس قبيل تأليف الوزارة الوفدية الاخيرة. وكان هناك جمع محتشد يزيد على المائة. والقي الزعيم الذي كنا نحترمه خطبة او طلب فيها في الثناء على فاروق وقال ان حكومة الوفد ستكون صارمة في القضاء على كل حركة نقصد منها الى المساس بجلال الملك وعم الحاضرين هجوم ولكن الزعيم لم يكترث لهذا الهجوم فمضى يشرح ويؤكد المعاني للمحالفة الجديدة بين الوفد والسرايا. وانفض الشعب عن الوفد في وياسر جعل فاروق يرقص ويرفس كما يشاء. وانتهى باختيار احد حظاياه فجعله وزيرا. وكان هذا الحظي يقعد في ملهى الاوبر الابرج ويصفعه فاروق على قفاه مداعبة ولهوى. وبكت مصر لا لخيبة فاروق وحده بل لخيبة رجالها وزعمائها ايضا. وما زلت اذكر كان عجيبا وقع في الف وتسعمائة وواحد وخمسين قد كنت مع اصدقاء في مشاهدة قصة سينمائية وخرجنا حوالي الساعة الحادية عشر وسرنا في شارع عماد الدين نستروح نسيم المساء فاشار احدنا الى شارع لليمين وقال هنا ماخور يزوره فاروق في بعض الليالي واثارت هذه العبارة استطلاعنا ودخلنا الشارع فوجدنا رجال البوليس السري في ملابسهم التنكرية واقفين في الاماكن الاستراتيجية. ووجدنا السيارات ورأينا البيت تتلألأ منه الانوار المصابيح. ان كان رجال البوليس السر في غاية الكياسة يمنعون ويشيرون في رفق واستحياء. وكثرت تعليقاتنا وقصد كل منا الى ويفكر عندما يتأمل تلك الاحداث المهينة لتاريخنا اجد ان الوفد لم يكن ليجد الفرصة لضرب السرايا اكثر مما وجدها في الف وتسعمائة وخمسين. يعني نفارق قبل سنتين كان قد دفع الجيش المصري الى مقاتلة اسرائيل دون ان يستشير مجلس الوزراء فضلا عن البرلمان. وهذا عمل يكفي وحده لخلع اي ملك في العالم. واوقعنا بذلك في حرب كان جيشنا فيها لا يزيد على ثلاثة وعشرين الف جندي. بينما كان جيش اسرائيل يبلغ الف خمسة وستين الف جندي وانا انقل هذه الارقام عن عن جلوب باشا الذي لا يمكن ان يتهم بحب مصر على ان للفاروق هنا فضلا قد اسداه الى بلادنا من حيث لا يدري او من حيث لا يقصد. ذلك ان الحرب بيننا وبين اسرائيل قد نبهت الجيش الى مدى الفساد الذي كان كان يعم بلادنا وكانت بداية التفكير والعمل لانقاذ الوطن من الاستعمار البريطاني والاستبداد الفاروقي وبدأت الثورة تختمر. وسارت الثورة التي شرحتها في كتاب الثورات في تدرج التخلص من السرايا ثم التخلص من الاقطاعيين ثم التخلص من الانجليز ثم البناء والاصلاح. ان كان اعظم ما قامت به الثورة بعد ذلك هو الاقدام على تأمين قناة السويس في الف وتسعمائة وستة وخمسين وتاريخ هذه القناة لا يقرأه مصريا الا مع الالم والغيظ. فانه اكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر واذكر اني في الف وتسعمائة وسبعة واربعين دعوت في مقال بمجلة مسامرات الجيب التي كان يصدرها الاستاز عمر عبدالعزيز الى تأميم هذه القناة. وقلت في تدليل وتبرير هذه القناة تقع في ارض مصرية وان تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم التروماي في القاهرة. عدت فكتبت مقالات اخرى في هذا المعنى في مجلات اخرى ولا اعتقد الا ان الوفديين كان يقرأون مقالات هذه في استهزاء وسخرية. ولكن احد الصحفيين سأل النحاس باشا بايعاذ من الشركة على ما اظن عن اشاعة ميم فاجاب بانه ليس عند الحكومة اي نية للتأميم. وانها تنتظر انتهاء الامتياز. حين حين تستولي عليها اي في الف وتسعمائة وتسعة وستين كان الوفد قد فقد روح الكفاح واممت القناة في الف وتسعمائة وستة وخمسين. واحس الشعب انه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط بل كرامته قصة الكفاح الذي كافحنا به الدول الثلاثة التي اغارت علينا بقواتها في البر والبحر والهواء لا تزال ماثلة في اذان الجمهور. ولكن شيئا واحدا يجهله الجمهور وهو ان امريكا التي كانت تبدو كانها تدافع عنها وتلوم المغيرين. هذه الدولة طلبنا منها في الايام الاولى من القتال ان تسعفنا بالقمح لان كان عندنا منه لم يكن لا يكفي اكثر من ثلاثة اسابيع. فرفضت واسرارنا على الطلب. فرضيت بشرط ان ندفع الثمن بالدولارات. ولم تكن عندنا دولارات وكان خطة الولايات المتحدة ان تغزونا من الداخل. لتنتظر حتى يعم بيننا قحط يحمل الجائعين على الثورة وعلى الاستنجاد بالامريكيين. هذا الذكاء العظيم الذي تفتق عنه ذهنه ايزنهاور الذي كان يلوم فرنسا وبريطانيا واسرائيل. لانهم اغاروا علينا فجعلوا العالم يستنكر خطتهم اما خطة سوف لن تستنكر. اليس العالم الحر في ان يبيع القمح او لا يبيع وعمدت حكومتنا الى الدولة السوفيتية الاشتراكية وطلبت منها اسعافنا بالقمح فلبت الطلبة فورا. ومن ذلك اليوم الى الان يشكو احد الزراؤون لغطا في القلب لفرط ففزع عندما اعتقد اعتقد ان الشعب سيجوع وان هو المسئول ان الديموقراطية الغربية كانت تنوي ايجاد مجاعة في بلادنا كي نخضع ولكن الاشتراكية السوفياتية انقزتنا. فلم نجع ولم نخضع ولم ينقلب نظام الحكم ولم يرجع فاروق وبقيت جمهوريتنا سليمة. وقصت علاقتنا مع الدولة السوفيتية من اروع القصص التاريخية فانها تحوي الوانا من النذالة والشهامة الشرف والدناءة والشهامة والشرف في جانب الاتحاد السوفيتي والنزلة والدماء في جانب الدول الغربية التي تصف نفسها بانها حرة وبانها ديمقراطية ولا تذكر نفسها بانها دول استعمارية قتلت الالوف من الهنود والمصريين والجزائريين بعد ان نابت ثرواتهم. ذلك اننا عقب ثورة اكتوبر في الف وتسعمائة وسبعة عشر حين استولى البلجيفيون على الحكم قاطعنا دولة الاتحاد السوفيتي بايعاز بل بالزام من الانجليز. وكان يكون معقولا في السياسة الاستعمارية السائدة وقتئذ لو ان هذه المقاطعة اقتصرت على التبادل الدبلوماسي. ولكن الانجليز جعلوا هذه المقاطعة جارية ايضا. كانت الدولة السوفيتية اذا احتاجت الى القطن المصري رفضنا نحن بيع لها. وعندئذ كان الانجليز يشترون منا ما يحتاج اليه سوفيتيون ويبيعونه لهم. وفرق الثمن يذهب الى جيوبهم وكنا نرضى بهذه الحال وبقينا على نحو ذلك عشرين سنة نرفض بيع قطننا للروس وغير الروس من دولة الاتحاد السوفيتي. وذلك بزعم ان الشيوعية تدخل بلادنا اذا تعاملنا مع السوفيتيين ان اقل ما خسرناه في هذه المقاطعة الجنونية يبلغ نحو مائة مليون جنيه كسبها الانجليز منا بدعوى حمايتنا من الشيوعية. وكان لنا وزراء نعوم صم لا يفهمون او خان جبناء يعرفون ويخفون. وكان لفؤاد الملك السابق الجبان اللعين اكبر الاثر في هذه المقاطعة. وبقينا على تجمد في في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي الى يوم الهجوم على قناة السويس في الف وتسعمائة وستة وخمسين ورأينا الظلام في الظهر وجعلت عيوننا ترود للظلام نبحث عن اصدقاء ووجدناهم وكان في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي والهند والصين والدول العربية او بعضها وهددت دولة الاتحاد السوفيتي الدولي الثلاث الغادرة بالصواريخ اذا لم تكف عن الهجوم وتنسحب وقطعت هذه الدول فهي ذليلة وخرجنا نحن منتصرين وكان من اكبر ومن انتصارنا ان انضم الشعب الى الجيش في بورسعيد فلم يظهر الاعداء بالاكتساح السريع لقناة السويس كما كانوا يدبرون وانتصر العدل بانتصارنا اذ ثبت اولا ان الدول الناهضة الجديدة مثل الهند والصين والاتحاد السوفيتي تقاطع الاستعمار وتطارده. وثبت ثانيا ان هيئة الامم على الرغم من من كل نقائصها تستطيع احيانا ان تقف في صف العدل والحق ضد الطغيان والاستعمار. بل ثبت اخيرا ان العالم كله قد اصبح على وعي اي وجدان بعضوه ببعض وانه لم يعد هناك مكان للتسلل في خفة الاستعمار حين اعرض لاحداث بلادنا فيما بين الف وتسعمائة وسبعة واربعين والف وتسعمائة وسبعة وخمسين على اختلاف بارز بين نصفيها. النصف الاول الى الف وتسعمائة واثنين وخمسين كان انحدارا كان كاد يكون انهيارا في السياسة والاخلاق. وقد ظهرت حركات رجعية اوشكت على احالة بلادنا الى جهنم. كما فسد الجهاز الحكومي العرش واستخفت الاحزاب بالقيم الاخلاقية بل استهترت. واصبح الزعماء الساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم مستلقين يرغبون في الوصول الى القمم وهي في في اغلب قمم الثراء والسلطان دون اي حساب للشعر. بل تجاوزت هذه الحال الى من نسي ان نسميهم ادباء ومؤلفين وصحفيين كبار قد ارتشوا الا الاقليين عن ضمائرهم وصاروا يؤلفون ويكتبون كما لو كانوا يكتبون اعلانات مأجورة في الصحف بل اعلانات خاضعة غاشة لخدمة النذر فاروق اما النصف الثاني اي من بداية الثورة في في الثالث والعشرين من يوليو من الف وتسعمائة واثنين وخمسين الى الف وتسعمائة وسبعة وخمسين. فيمثل نهضة الشعب وهي قضت انشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لم يكن له اخر. وانا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل وخاصة بعد هذا الاتفاق الذي قدناه بيننا وبين الاتحاد السوفيتي في نوفمبر من الف وتسعمائة وسبعة وخمسين على تصنيع بلادنا. هذا التصنيع الذي امضيت اكثر من ثلاثين سنة وانا انادي به انتشرت المصانع بيننا فان كثيرا من ازماتنا ساحل. بل هذه الازمات تحل نفسها عندئذ بلا عمل ارادي من الحكومة. لان التعطل سيزول وخاصة تعطل المتعلمين. وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاه الادبي. وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعر. ان الثقافة العلمية ستكون نتيجة للحضارة الصناعية ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة ويستمر التفاعل بينهما ان هذه الكلمات الموجزة التي كتبتها في وصف احساسي للاحداث الكبرى التي خالفت اثارها في بلادنا في السنوات العشر الماضية. كنت احب ان القى ان الحق بها وصفا اخر للاحداث الكبرى في العالم. ولكن الايجاز الذي توخيته في الكلام عما حدث في بلادنا يطالبني بايجاد مثله في شأن الاحداث العالمية. وربما كان معظم هذه الاحداث من حيث التنبيه العام لشعوب العالم وايجاد وعي اي وجدان كوني جديد للانسان. وهذا الحدث الذي ما زلنا نعاين من التفاصيل كل يوم. اي هذا القمران الصناعيان اللذان ارسلتهما دولة الاتحاد السوفيتي الى السماوات يدوران حول الارض واطلاق الصواريخ لا يحتاج من العلم الا ما تحتاج اليه القنبلة الذرية او القنبلة الهيدروجينية. وهو فن اكثر مما هو علم. ولكن قيمته المسرحية كبيرة له انه بمثابة الانذار للنائمين كي يصحى او للغافلين كي يتنبهوا. قد اضطرت الصحف الى ان تلغط بشأن السفر الى القمر ثم الى الكواكب عقب اطلاق الصاروخ اللذين انطلقا منهما القمران واصبحت العامة قبل الخاصة تتحدث وتعلق وتفكر وهذا كله كسب للذكاء البشري سوف تكون له اثاره عيد العميقة في المستقبل القريب اما الحادث التاريخي العظيم بل الرهيب فهو ظهور الصين الجديدة دولة اشتراكية تقف في صف العدل والخير للبشر ضد الاستعمار والغدر والخيانة في الامم التي تزعم ان حرة وديمقراطية قد اصبح عدد الاشتراكيين في الاتحاد السوفيتي والصين ودول اوروبا الشرقية نحو الف مليون وهم قوة كبيرة سوف تقضي على سبة البشر الكبرى الاستعمار في السنوات القريبة القادمة. من قوة جديدة ولكنهم ايضا قوة عجيبة من طراز اخر غير ما عرفه التاريخ ان دولة الاتحاد السوفيتي لن تعاقب كل من يجرؤ من مواطنيها على الدعوة الى الحرب بعقوبات قد تصل الى السجن خمسة وعشرين سنة. وهذا في الوقت الذي يقف فيه الوقت تشرشر في في والتون بالولايات المتحدة ويطلب من حكومتها ضرب السوفيتيين بالقنابل الذرية ولو كانت شرشل مواطنا سوفيتيا والقى هذه الخطبة ضد امريكا مثلا في موسكو عوقب بالسجن مدة قد تبلغ خمسة وعشرين سنة. ولكنه احد المواطنين في بريطانيا دولة الاستعمار والحرب ونهب البترول من العرب من العرب قتل اليمنيين والعمانيين والكينويين ولا استطيع ان اقول ان الحرب الكبرى الثالثة لن تقع ولكني اقول ان احتمال لو توعاه قد نقص بعد ان فاز الاتحاد السوفيتي باختراع الصواريخ وبعد ان زادت اسلحته الاخرى ان قوة الاتحاد السوفيتي هي الضمان الوحيد للسلم في العالم في عصرنا. واحتاج الى ان اقول شيئا عمن مر بشخص من الحوادث في العشر الماضية ومنذ حوالي الف وتسعمائة وستة واربعين اتضح الوفدين اني لم لم اتسم من اليسارية عبء عليهم وانهم يتهمون برعاية برعايته او على الاقل بالتسامح معي. ولست اشك اني كنت مقلقا لهم فانهم لم يستطيعوا قط زحزحة عن مبادئه الاشتراكية وعن نقدهم في خدمة العمال عن كراهته للسرايا وبغض الحركات الرجعية التي كثيرا ما حالفوها هم وصنعوها وقوطعت من الصحف الوفدية بل استطيع ان اذكر حادثة تدل على النفاق المستتر الذي كان يمارسه زعماء في الصحافة ذلك ان احد الصحفيين الوفدين الكبار وهو ليس في مصر الان دعاني ذات يوم كي نتقابل الحديث في شأن مهم. فلما التقينا وجدته يعرض علي العمل في جريدته الكبرى بحيث يشرف على الاتجاهات السياسية سيكون هناك فيما ينشر ما يخالف الخطط والاهداف الوفدية. وبقينا نحو ساعتين ونحن في نقاش بل في ترتيب وتنظيم لصفحات جريدته. وبعد ان تعبنا افترقنا على ان نجتمع بعد يوم. ولكن مرة يوم ولم نجتمع ولم يطلبني هذا الصحفي الكبير واحسست الاهمال بل الاهانة. وقصدت الى موظف كبير بهذه الجريدة صار وزيرا بعد كذلك وقصصت عليه ما حدس فابتسم ويقول انه اي صاحب الجريدة لا يعاين موظفا في جريدته الا بعد استشارة السرايا. وانه بالطبع قد عرض اسمي فوجد وافضل بات منتظر. فسكت واهمل الموضوع. وهذا كان شأن كثيرين غيري كانوا يتظاهرون بالمعارضة السرايا في استبدادها ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يحرصون على الولاء لها ان لا يخالفون لها رأيا بل يستشيرون وتسكعت جملة سنوات في الصحافة بسبب هذه المقاطعة حتى لقد مرت علي شهور لم اكن اكسب منها سوى خمسة جنيهات في الشهر. كنت اتناولها ثمنا لمقال في ومن ذلك المقال الذي دعوت فيه الى تميم قناة السويس. وفيما بين الف وتسعمائة وسبعة واربعين والف وتسعمائة واثنين وخمسين كان البوليس السياسي او القلم كانت كل هذه الايادي تعربد وتعمل للتخريب في السياسة والصحافة والتفكير. ان كانت جميع هذه الهيئات ايضا على اتصال بالسلطات الانجليزية ماريا بدعوى مكافحة الشيوعية وتبادل المعلومات عن النشاط الشيوعيين. ولم يكن بعيدا عن على بعض هؤلاء الجواسيس بحكم هذا الاتصال وطبيعته من يخدموا الانجليز في خطاطهم الاستعماري بل ان هذا هو ما يرجع ما يرجح ما دام هناك اشتراك وتبادل في المعلومات وطغى هذا البوليس طغيانا عظيما حتى لقد كان يخطف مؤلفاته من مكتبة كاد موس بلا ادنى حرج. فكان يدخل احدهم ويضع يده على عشرة وعشرين مجلدا ويخرج دون ان يدفع الثمن بدعوى انها محرمة. وكانت هذه المكتبة في شارع السادس والعشرين من يونيو فؤاد سابقا. ولا تزال صاحبتها حية. اما المكتبة قد اقفلت والذي يجب ان اعترف به في الم ان ادباؤنا الكبار الى بداية الثورة في الف وتسعمائة واثنين وخمسين لم يعملوا قط للثورة على الاوضاع الخسيسة التي كان يستند اليها نظام الحكم فلم يكن بينهم الا من ايد فاروق اسفل تأييد واحط. ولي الحق بان افخر باني لم اكن كذلك وقد نالوا بهذا التأييد كلما ارادوا من مال وجاه حتى لقد عيروني باني احسدهم على ما نالوه هم وحرمته انا من يدي فاروق ملوثتين وها نذا في الف وتسعمائة وسبعة وخمسين اجد الجمهورية التي اتهمت بالدعوة الي وحبست ومن اجل ذلك في الف وتسعمائة وستة واربعين. وجد نجاح للصناعة وهي دعوة امضيت في اكثر من ثلاثين سنة. نجد دعوتي للعلم كما اجد الايمان بنظرية التطور. واخيرا اجد تهمتي باني احب دولة الاتحاد السوفيتي هذه التهمة قد اصبحت فخرا بعد اذ عرفنا وعلينا موقفها الابي الكريم نحونا في هجوم فرنسا بريطانيا واسرائيل علينا في الف وتسعمائة وستة وخمسين واجد مصيريا صميما على رأس حكومتنا هو جمال عبد الناصر الذي نشأ في عائلة فلاحين وتشمم تربة خيمة ولذلك استطيع ان اقول اني انتصرت من وقت لاخر اتساءل ما هو القصد العام في حياته الفكرية ويجب ان القصد العام عن وعي او غير واعي قد تغير عندي جملة مرات ففي سني يا شباب ففي سنين شبابي حين كنت في اوروبا كان اعظم ما يحفزني الى الكفاح قصدانهما. واحد استقلال بلادنا من هوان السيطرة الانجليزية. اثنان تحرير المرأة من الحجاب ودعوتها الى ان تكون لها مستقلة بالتعلم والعمل والانتاج والكسب. كانت هاتان الفكرتان تغمرانين في اوروبا فلما عدت الى مصر وجدت ان الوعي الديني اكبر واعمق من الوعي القومي او الوطني سواء بين المسلمين او بين الاقباط احسست عندئذ قصدا اخر وهو ضرورة مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور حتى تأخذ بينة العلم مكان عقيدة الايمان. وعندئذ يجد الشباب وعيا جديدا عظيما ليس لمصر فقط بل للعالم كله. وقد كان من المحال ان نفرض نجاح هذه الدعوة التي كان الانجليز المستعمرون البشوات الاقطاعيون يتحدون في مقاومتها ومع ذلك انشأنا حزبا اشتراكيا في الف وتسعمائة وواحد وعشرين قتل له سعد زغلول مع انه لو كان قد تركه لكان وسيلة الى الدراسات الاقتصادية التي تنحاز في اتجاه نحو الطبقات الفقيرة في بلادنا. ولكن سعد زغلول كان باشا وكان هذا التفكير ابعد ما يكون من ذهنه. ثم وجدت وجدت لي قصدا علميا اخر هو تعميم الصناعة وظني اني تعلقت منذ بهذا القصد باعتبار الصناعة بديلا من الاشتراكية اي بديلا يغري الاغنياء ثم تكون هي اي الصناعة بعد ذلك وسيلة لتحقيق الاشتراكية. ومع اني في كتاب هؤلاء علموني قد ذكرت ونحو عشرين من الادباء والعلماء والمفكرين الذين وجهوا نشاطها الذهني وربوا نفسي. فاني لم اذكر معهم كارل مركز داعية الاشتراكية. والان احب ان اعترف انه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركت. وانما كنت اتفادى من ذكر اسمه خشية الاتهام بالشيوعية والان في الف وتسعمائة وسبعة وخمسين احس قصدا اخر ازاء الغيوم الذرية التي تخيم على العالم وتهدد البشر بالفناء. هو تعميم السلام ومكافحة دعت الحرب وهؤلاء الدعاة هم مائة في المائة استعماريون يهدفون لاستعباد للشعوب الافريقية والاسيوية ونهب ثرواتهم ومنع الحضارة عنه المخاطرة بمستقبل البشر. اذ هم ليسوا بشرا هم ذئاب واني اعمل الان في صحف اخبار اليوم واؤلف الكتب بغية تحقيق هذه الاهداف سن السبعين ابدأ هذا الاسبوع الرابع من يناير عام الف وتسعمائة وستة وخمسين السنة السبعين من عمري وهذه السن هي التي ذكرها سليمان الحكيم في التوراة بانها اقصى ما ينشد الانسان على الارض وهو بالطبع لم يكن يعرف وسائلنا الصحية الوقائية والغذائية واننا نطمع الى سن المئة محتفظين بشبابنا وقوتنا واظن ان القارئ يجب ان يعرف احساساتي وانا على عتبة السبعين والحق اني احب ان اعرفها انا نفسي وعندما يتأملها اراني اعود الى الذكريات في الماضي ثم اراني اؤمن للمستقبل واول ما الاحظ ان علامات الشيخوخة قد بدت على سطح الجسم اكثر مما بدت في داخله. فان على وجهه غضونا كما ان شعري الاسود الجعد قد استحال الى زغب ابيض ناعم ولكن بعد ذلك لا اجد من علامات الشيخوخة داخل جسمي سوى القليل الذي لا يؤبه به. بل القليل الذي ارتاح اليه مثل ضعف الشهوات التي كانت وقت اشتعالها تقارب التشنجات. وكذلك يجب ان نسلم بان الذاكرة قد ضعفت بعض الشيء. ولكن يقوم مقامها استيعاب عام طالب الحكمة ولكني حين اعود الى السنين الماضية احس الرضا. ان لم يكن السرور باني عشت حياة حافلة بالافكار العميقة. والاقتحامات الذهنية والشهوات العليا واني قد احترفت العلم والادب والفلسفة والفت الكتب وصرت عضوا مقلقلا للمجتمع المصري. مثل ذبابة سقراط انبه الغافلين ويكثروا الراكدين واقيموا الراكعين والخاضعين ومما يسرني بشأن حياتي الماضية ان ما كتبته في قد حييت وما حييت قد كتبته. واكثر مما يسرني اني ما زلت احتفظ بشباب ذهني لان شباب لا تزال تلازمني فانا اقرأ الكتب واقتني الكتب واستطلع واستزيز واستزيد من الثقافة كما كنت افعل قبل اربعين او خمسين سنة. واحب لذلك ان اعيش نحو عشرين او ثلاثين خمسين سنة اخرى او اكثر. وليست العبرة بالطبع ان نزيد الحياة سنين وانما هي ان نزيد السنين حياة بان نتعلم ونعمل ونعرف ونختبر نختبر المر والحلو ونستنبط منهما حكمة للعيش وزيادة في الفهم. لقد ذكر التاريخ عن كاتو الروماني انه شرع بيتعلم اللغة الاغريقية في ثمانين وليس في هذا ما يستغرب فان عادات الدرس التي نتعودها في الشباب تلازمنا الى سن المائة. وظني انك تتعود للدراسة منذ شبابه لزمته العادة الى سن الشيخوخة. فاذا كنت ايها الشاب تلعب الورقة وتلهو بالالعاب الحظ الاخرى فانك سوف تفعل ذلك عندما تبلغ السبعين او الثمانين اما اذا كنت تحب الدرس وتعشق للثقافة فانك سوف تبقى على هذه الحال ولو بلغت المئة وغرامي بالكتب في سن في سنة الف وتسعمائة وخمسة وخمسين هو غرامي بها في سنة الف وتسعمائة وخمسة عشرة ايام وصامت عن الطعام وكانت قد فقدت كل ما بقي لها من وجدان وتعقل. ان كانت تبول وتتبرز في انحاء المسكن وعلى الفراش وسائل الاثاث باتت جوعا وان لم تحس انها جائعة وطلب بالفكرة النبيلة والكشف العلمي والامل الجديد في الحضارة هذا العام هو طربي بها جميعا قبل خمسين عاما. هو اسلوب للحياة اتبعته فلا زمني. وقد الصحافة والتأليف واضغمتهما ولذلك انا في الصحافة احاول ان ارفع المقال السياسي او الاجتماعي الى مقام الادب. وانا استنبط العبرة من الاخبار حتى ارفع مقام الانباء وان اجعل من الصحيفة كتابا ومن الكتاب صحيفة وكان من مصادفات حياتي اني عرفت نتشا وفي الف وتسعمائة وتسعة فاكتسح ذهني اكتساحا. وكنت حوالي العشرين اتقبل الرأي بلا مناقشة فامنت بكثير من اقوال وعبدت الكثير من عقائده. ومع اني قد شفيت بعد ذلك من هذه الاقوال والعقائد فاني ما زلت احتفظ بالكثير مما تعلمت منه. اول ذلك ان انظر الى الدنيا العقل المبكر والقلب البكر وان يقتحم الافكار بروح البطل او الشهيد. وعرفت الادب وعرفت الفلسفة وعرفت نفسي من نيتشا. والى الان لا يخلو ادبي من كما لا تخلو فلسفة من ادب او علم وكثيرا من الفضوليين العارفين يحسون بهنا اني لاقول كل ما اريد وكانهم يسألونني ما هو ايمانك؟ وجوابي اني اؤمن بالمسيحية والاسلام ولا هو واحب المسيح واعجب بمحمد والسنير بموسى. واتأمل بولس واهفو الى بوزا واحس ان كل هؤلاء اقربائي في الروح احياء معهم على تفاهم استلهموا منهم المروءة والحق والرحمة والشرف واؤمن زيادة على هؤلاء بحب الطبيعة وجلالة الكون. ولا انسى المعنى الديني في نظرية التطور وموكب الاحياء التي يتوجهها الانسان. بل اني لا اجد من هذا المعنى الديني في جمال المرأة وقداسة الامومة وشرف الانسانية واؤمن بتولستوي وغندي وفولتير وبيكون ان الصورة الوحيدة التي تطل على سريري اراها عند اليقظة في الصباح وقبل النوم في المساء هي صورة الانسان الانساني وبكلمة اخرى اقول ان بؤرة ايمانه الانسانية بمن تحوي من فلاسفة وانبياء وادباء وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف ولا يمكن ان يكون ايماني ساذجا كان له طمأنينة وتسليم. فانا بعيد عن هذه الحال ولا اسف على ذلك. لانه اذا كان اليقين اروح فان الشك اشرف كما يقول بريطراند روسل وانا رجل قد اكسبتني الثقافة النظرة الشاملة للحياة والكون. واعتقادي انه لا يمكن ان تتكون لو شخصية دينية سامية ما لم يكن مثقفا قد حقق النظرة الاستيعابية للكون. فنظم عقله وقلبه بحيث ان ينسجمان في حركة الكونية والاعمال الانسانية. ووصل في كل ذلك الى رأيه الخاص او قلة او قلقه الخاص. والدين رأي خاص ولا يمكن ان يكون عامة. ويجب ان يبقى قلقا دائما. وهناك عشرات من الكتب المحورية التي بنيت بها على حياتي وشخصيتي ولكنها كانت بمثابة الاسكلة التي تنصب تنصب من الخشب والحديد لتشييد البناء حتى اذا تم هذا مبتوى لذلك هدمت نيتش كما هدمت عشرة غيره لاني استغنيت عن الاسكلة بعد ان بنيت شخصيتي وحين اتأمل شخصياتي واهدافي احس اني اؤدي في مصر في القرن العشرين ما كان يؤديه رجال النهضة في اوروبا فيما بين سنة الف وربعمائة وسنة الف وثمانمائة. ولذلك اجد قرابة روحية ونشاطا رسائليا بيني وبين ومن اليهم ومن هنا دعوتي الى العقل بدلا من العقيدة. والى استقلال الشخصية بدلا من التقاليد وربما كان اقرب هؤلاء الناهضين الى نفسه هو ليونارد دافنشي فانه مثله في الاعتقاد بان الذهن الناضج لا يرضيه ان يحد نفسه بحدود الادب وحده او الفلسفة وحدها او العلم واحدة اذ هو يجمعهما كلها ليستقطر منها فلسفة للحياة. واذا شئت ايها القارئ زيادة في التفاصيل فاعرف واحد اني اؤمن بالحقائق ومن هنا تعلقي بالعلم لانه حقائق واذا كان لابد من عقيدة فاني اؤمن بها عندما تكون الثمرة الحقائق العلمية فاني اعتقد مثلا بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر واعمل لا لان الاقتصاديات العصرية بذلك ثلاثة اؤمن بانه ليس في الدنيا او الكون او المجتمع استقرار لان التطور هو اساس المادة والاحياء والمجتمعات. اي اساس للوجود وان الجمود الاجتماعي هو اثمة من الاشرار لسنن الحكاون والحياء. وقد وصلت في تثقيف ذهني الى اقصى ما يطمح الي رجل في سني. ومع انه لا تزال في نفس اختمارات سوف ينفجروا في المستقبل فان اهدافه الان عديدة. وهي حالة مصر من قطر شرقي ضعيف يحيى على التقاليد في اساليب للزراعة والعيش الى القطر الاوروبي هي على العلم والصناعة الاستقلال الشخصية مع الاتجاه الاشتراكي في تنظيم اقتصاديتنا. من عند ان الاشتراكية هي التطبيق العملي لمذهب الانسانية. وقد حققنا من الاشتراكية اساسها الاول وهي الجمهورية بدلا من الملوكية. وقمنا بمكافحة الاقطاع وايجاد المصانع. واحس لذلك كأن اشياء كثيرة قد انجزت من وعد حياتك والاشتراكية في التعاني في النهاية ان الشعب فوق كل شيء بل هو كل شيء. ومن هنا كفاحه الصحفي لايجاد اسلوب شعبي في الكتابة العربية. وايضا في جعل الادب والعلم والثقافة جميعها في متناول الشعب لا تقصر على طبقة خاصة منه. وقد عاب علي بعضهم اني اكتب عن الملوخية والبامية والفول والفول المدمس. وانما ما فعلوا ذلك لبعدهم عن الشعب وتعلقهم بمذاهب قاحلة من الادب. وانه يجب ان يترفع عن الحديث عن هذه الاطعمة العامية وان يتحدس عن الطرف الذهني. وانا اختلف من حيث اني اعتقد ان الادب رسالة انسانية لخدمة المجتمع وانهاض الانسانية وفقراء شعبنا الذين افقرهم واجاعهم الاستعمار الاجنبي والاستبداد الوطني لا يحتاجون الى ان نصف لهم طاقات الورد وبتلات الياسمين لا لا ليس الجمال غاية الادب وانما غايته هي الانسانية. الانسانية تطالب الاديب الانساني قبل كل شيء بتوفير الطعام للشعب ثم بعد ذلك الورد والياسمين وحياتي الماضية في الصحافة والادب والعلم يمكن ان تعد فشلا ونجاحا. فهي فشل يكاد يكون تماما من الناحية المالية لشخصي وقد احترفت الصحافة منذ الف وتسعمائة واربعة عشر حين اخرجت مجلة المستقبل وبقيت على هذه الحرفة مع انقطاعات قهرية تدوم سنوات او شهورا الى هذا العام. واشتغلت في جملة صحف ومجلات واخرجت المجلة الجديدة اربعتاشر عاما. والفت نحو اربعين كتابا يا جماعة كل ذلك كنت كي اعيش ابيع ما املك مما ورثت. كما ان وزارة المعارف لم تشتري قط بما قيمته مليما واحدة من مؤلفات ولم تشترك في المجلة الجديدة سنة واحدة وهناك صحفيون زاملوني لا يقل مجموع كسبهم في هذه السنين عن تلاتين او اربعين الف جنيه. بل ان بعضهم كانت وزارة المعارف تشتري مؤلفا واحدا منه بالف جنيه واحدة. كذلك هناك مجلات شعرية او اسبوعية دون ما اصدرت انا من مجلات بلغ اشتراك هذه الوزارة فيها ما لا يقل عن عشرين الفا او ثلاثين الف جنيه. بل ان محطة الازاعة المصرية عملتني بما يشبه المقاطعة. كاني لست مصريا حتى اني لا استطيع ان اقول اني لم الق فيها في السنوات العشر الاخيرة اكثر من خمسة احاديث بينما غيري قد القى فيها نحو اربعمائة وخمسمائة حديث. في هذه ومنح كثير من الادباء جوائز لم احظى انا بجائزة من مائة منها. وهذا نجاحهم وهذا فشلي. اما نجاحي انا فمن طراز اخر هو اني استطعت ان اغير شباب مصر او الشرق العربي الى حد بعيد. واوحيت اليهم استقلالا وشجاعة واعتمادا على العلم والرأي العصريين. اي جعلتهم يتطورون ويحيون جديدة. مكسبتم بصيرة للمستقبل يعرفون بها بما فيه من مميزات واقطاء واستطعت ان استنبط لهم اسلوبا كتابيا عصريا يؤدي الى حد ما يحتاجون اليه من فهم. كما اني لم اتأخر عن التنبيه الى ضرورة الاخذ بالحروف اللاتينية عندما اقتنعت بان حروفنا العربية الحاضرة تعوق ارتقائنا العلمي وتحد من ثقافتنا. ولم اعرف قط البرج العاجي للادب. وكيف يجوز لاحد ان يحيا في ابراج اذا كان التسعة وتسعين في المئة يحيون في بدرومات من طين ونجاحي مع مع الشباب يرتبط بفشله المالي مع الحكومات البائدة. ذلك لاني رفضت الانضمام الى القوات الرجعية بالوانها المختلفة. وهي القوات التي كانت اتباعها في سخاء بالمال والعقار وتقاطع خصومها وتأكيد لهم. وكان حبسي سنة الف وتسعمائة وستة واربعين بتهمة الدعوة الى الجمهورية. بدلا من الملوكية والدعوة الى الاشتراكية بدلا من الاقطاع من اسباب النجاح الذي افهمه وانشده. ومن اسباب الفشل الذي يعيروني به شيوخ الادب الذين القوا الخطب والمقالات والقصائد في مدح البغي فاروق. حتى ان احدهم وصفه بانه قدرة في الاخلاق يجب على شباب مصر ان يقتضي بها وبداية سن السبعين توئ من قريب الى نهاية الحياة ولكني اعتقد اني ما زلت بعيدا عن هذه النهاية بنحو عشرين او ثلاثين سنة. وسوف اتقبل هذه النهاية في قوانين كاملة ولكني احب ان ابقى على شهواتها الذهنية الحاضرة وان انهم الى الحياة والمعرفة والفهم كما كنت في ماضي حياتي. واحب اخيرا ان متى كمامات القاحظ وعلى صدره كتاب ان في هذه السنين ما يبعث على التفكير والعبرة بشأن الحياة. بشأن الحياة وليس بشأن الموت. واني حين افكر في الموت فانما افعل ذلك كيستنبط ويستخلص وعزما جديدا لن احيا وذلك لاني اسلم بنهائية الموت. وليست لدي اية مطامع غيبية بعده. وكثيرا ما يخطر ببالي لذلك ان احراق جثمان خير من دفنه. لان النار التي تلتهم الجسد وتحيله الى غاز ورماد تؤكد هذه النهائية. او على الاقل تؤكدها في احساسنا لذلك ارجو ان انتهي الى هذا المصير ولو في مرمدة هندية التي بالقاهرة. وما بقي من عمري سوف انشد فيه النمو. اي ان اكبر ولا اعمق فقط اكبر وانضج ومن مدة قريبة قرأت هذا البيت التالي ووقفت عنده يتأمل الحالة النفسية التي ينبعث بها الشاعر الى تأليفه ندمي ان الشباب مضى لم ابلغه مدى اشره انه شاعر سخيف اذ لابد انه قال هذه الكلمات وهو في مثل سني الان. في نهاية السبعين ولكن اي اشر هذا الذي يندم على انه لم يحققه انه يأسف على انه لم لم ينزلق كما كان يجب ولكن اكبر ظني انه لو كان قد نزق واشر وانغمس في اللذات الجنسية والكؤولية والصبيانية لكان ندمه اكبر. ما اقصدنا الانغماس لاننا نستطيع حتى بعد السبعين ان نمارس هذه اللذات في اعتدال وهي مع ذلك لذات حيوانية لا ترتفع الى قيمة كياننا الى الرأس. ولي هنا اعترافان الاول اني اهتم بالدنيا ومصير الانسان اكثر مما اهتم بنفسي. الثاني ان اكبر لذات هي اللذة الفلسفية ولست اجد السعادة الراكدة في هذه الاشياء الثلاثة وانما اجد الكفاح النشيط. اني اعرف ناسا هانئين راكيدين سعداء ولكن سعادتهم لذلك اشبه بالموت منها الحياة وما يحسبونه سعادة وغفلة ونعاس او انانية حيوانية ولكن السعادة الانسانية ان نهتم بالانسان وبالمجتمع. فنقلق ثم يبعثنا القلق على الاتفاع ثم تكون سعادة الكفاح. اننا نولد مرة واحدة من امهاتنا وميلادنا هذا يعيا بلون بشرتنا ومقدار قوامتنا ونحو ذلك. ولكن الانسان الذي يكبر ويسير نحو النضج يحتاج الى ان يولد قبل السبعين نحو عشر مرات. وهو عندئذ لا يصل الى سن السبعين او الثمانين وانما ينمو اليها فان النمو هو شعار الحياة الحية لقد كان اول ميلادي بعد سن المراهقة حين عرفت نظرية التطور فاحسست بها ان عقلي قد كبر وان نظرتي قد اصبحت تشمل الكون. واني احاول الشمول والاستيعاب وان لي ديانة تربطني باقصى النجوم والكواكب واحط الديدان والحيوان واني مسئول امام الحياة والانسانية وامتدت امامي دراسات ما زلت اتابعها بسبب هذه النظرية وهي دراسات تتعدد وتتنوع وتتناول العجين وجسيمات الذرة ومنشأ السحر ومستقبل الانسان. قد عرفت برنارد شو وفكرت كثيرا في معنى الشخصية الانسانية في درامات ابس وعرفت الحبيب المجنون وصحوت على الحضارة الاوروبية وهبطت على اسسها وفي الصناعة والعلم. انا اعجبت بجوتيه واجتررت كثيرا مع فرويد اسرار النفس الانسانية. فدرست الغصن الذهبي وبقيت في السحر حتى انهضني منه جركي وكنت كلما اكتشفت واحدا من هؤلاء احسست بميلاد جديد كنت انا في سن الاربعين او الخمسين عندما كانت الحياة الركن بتكاليفها واعبائها اهفوا الى الريف واحلم بالراحة والهناء في سزاجته واتمنى قضاء السنين الاخيرة من العمر في حيس البساطة في كل شيء كما فعل روسو. ولكني الان لم اعد اصيغ هذا الحلم. هذا الفرار من اعباء الانسانية بل اصبح همي ان ازيد هذه الاعباء بان نستوعب مشكلات العالم وادرس ثقافته. واحس كلما زادت هذه المشكلات وتعقدت ان مسئوليتي قد زادت ايضا. والرجل المثقف الذي ينشد الريف وسدادته وراحته هو جندي فاروا من معركة الخير والشر التي يجب ان يعرف مكانه فيها قد كنت ايضا افكر في هواية ما تخفف من جدي الحياة وضغط المسؤوليات. بل لقد نصحت الشبان بان يختاروا احدى الهوايات ويتعلقوا بها. ولكن احس الان ان الهواية فرار اخر من الحياة. واننا يجب ان لا ننشد التسلية وتزجية الوقت بل ننهض بعمل ايجابي كفاحي لخير انسانية واصل الرغبة في راحة الريف واتخاذ الهواية وهو اننا ننشد عن جهل ما نسميه السعادة. ولكن هذه السعادة تخدر النفس اما الهموم والاهتمامات فتنبهها ولن ان حس الحياة على اعمقها الا حين نكافح بل الكفاح هو الذي يجعلنا نحس اننا احياء. ومع ذلك اذا كانت الرواية كفاحا فانعم بها فانعم بها. ولكن هذه الكلمة عندئذ تخالف معناها المألوف. وهناك وسائل كثيرة للتربية الذاتية ولكن اعظم هذه الوسائل واجداها هو الكفاح من اجل الخير في العالم. يعني انت تكافح تغير حالا قائمة ولكنك انت ايضا تتغير بهذا الكفاء. وذلك لانك ستحتاج الى الدرس والتفكير. مش تلاقي الصعوبات والعقبات وقد تنجح او تخيب. وكل هذا التربية لك وزيادة في عقلك وبصيرتك. ان الماضي ميت وانت حين تكافح تختار المعارف الحية التي تغير الدنيا والاخلاق والامال. فانت حين تدرس وتتربى تتجه تفكيرك بالمعارف الحية نحو المستقبل اي نحو التغيير اما اذا اخترت المعارف الميتة فان تفكيرك يتجه نحو الماضي. وليس في الماضي كما كان للتغيير اذ كان الماضي ميت وهنا الفرق بين كاتب وكاتب. بين اديب واديب. بين مفكر وغير مفكر. من المفكرين المكافحين يفكرون في المستقبل ويخططونه بينما غير المفكر يكتبون عن الماضي وكأن ليس لهم شأن بالمستقبل ليس لهم كفاح ان الشيخوخة سن السبعين او الثمانين قد تكون بشيرا لك. ايها الشاب او نذيرا فيها يا بشير اذا كنت قد تعودت نفسك منذ شبابك العادات الحسنة الايجابية والسلبية وهو اول هذه العادات الاهتمام بالدنيا والانسانية والسياسة والثقافة ومستقبل بلادك بالمستقبل الانسان. اذا اهتممت بكل هذه الاشياء السامية فانك انت ستسمو بها كما تتربى وتكبر شخصيتك ويحد زكاؤك. وهذا الاهتمام نفسه سيشغلك عن العادات السيئة التي تفشو كثيرا بين الفارغين فيهن الذين يستهلكون كل يوم عشرة فناجين من القهوة والشاي ويدخنون الى حد افساد الجو حوله. قد يتسلون عن فراغهم وسأمهم بالانغماس في الخمور او نحوها لا تكن شابا اجوف لا تكن شابا تافها اهتم بالدنيا وبالانسانية واهتمامك هذا يربيك ويجعلك شابا وانت في سن السبعين ثمانين. واجعل من الفلسفة اكبر لذاتك التي تحيا معك الى يوم وفاتك. والتي تفوق كل ما يقوله التافهون عن الملذات الاخرى مؤلفاتي التي وجهتني نحن المؤلفون نؤلف الكتب ونوجه بها الافكار ثم تعود هي فتؤلفنا وتوجهنا. والاغلب ان الكتاب الاول الذي الفناه وشغفنا باخراجه وتهيأنا له وبالتفكير البكر او ما ظننا انه بكر هذا الكتاب هو الحلقة الاولى من سلسلة للكتب التي نخرجها بعد ذلك وفق البذور التي بغرناها في هذا الكتاب الاول. ثم نحن في تأليف هذه الكتب نحرص على رباطنا بالكتاب الاول فلا نحيد ولا ننحرف. لا نحيد ولا ننحرف لسببين. الاول اننا نحرص على الا نبدو واذا اخف السببين بل اتفهما. والثاني ان الافكار الاولى التي حفزتنا على التأليف الاول تبقى حية تنمو وتكبر ونتوسع فيها بما لها من خاصة التوسع وليس لحرصنا على التزامها. ان الذين قرأوا جان جاك روس يذكرون كيف ان فكرة الطبيعة فاجأته وهو يمشي على طريق الريفي بين الحقول فما هو ان وجد شجرة حتى ارتمى تحتها واخذ يقتر الفكرة. ان الانسان كان سعيدا في سذاجته وبدائيته ثم عرف العلم والحضارة فتعس. الفكرة بسيطة بالمخطئة ايضا. ولكن لها زاوية تستحق التنقيب والبحث. واخرجها روس في رسالة قصيرة فقرأها ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا هنا ان حياة روس نفسه تأثرت بهذه الرسالة. لانه بعد تأليفها شرع يتوسع في معانيها ويحيي هذه المعاني في سلوكه واخلاقه وافكاره هذه الرسالة التي الفها روس عادت فالفت حياته هو ووجهته وعينت اهدافه. وكل منا نحن المؤلفين له مثل هذا الشأن. اذا كان مؤلفا اميرا يقول ما يعتقد وما يتعقل اما اذا كان مأجورا للدفاع عن مذهب فليس لمؤلفاته تأثير عليه سوى ذلك التأثير الذي يقال عن الكاذب يكرر ويدمن الكذب حتى يصدقه حتى القصة يؤلفها الكاتب في الخيال ويعين لبطلها صفات ومميزات تعود بعد ذلك فتؤثر في هذا المؤلف نفسه. حتى لا يتخذ هذه الصفات والميزات لنفسه السنا نرى في قصص تلسكوي ابطالا يشبهون تلسكوي نفسه قد تقول هنا ان ابطال في قصص يشبهونه في الاخلاق. لان اخلاقه كانت كذلك قبل ان يخلقهم وهذا ممكن ولكنه ليس ضرورية. ولكنه وهو يدون صفاتهم ويفصلها ويعين مآزيتهم. كان يتبنى شخصياتهم ويستلهمها في حياته. ثم ايضا بها الكتاب الذي اؤلفه هو صديقي الذي اؤثر فيه ويؤثر في. كان اول ما الفت كتابا باسم مقدمة السوبر مان وذلك في الف وتسعمائة وتسعة انا في لندن اعاني اختمارات ذهنية كثيرة انفجر بعضها في هذا الكتاب. والان بعد خمسين سنة اجدوني الى ما تغير عما قلت في ذلك الكتاب بل كل ما حدث اني توسعت وتعمقت. ففي هذا الكتاب شعارات او فصولا موجزة عن التطور الاشتراكية وبرنارديشو وابسين والدين والعلم وحرية الفكر الاخ وهذه الاشارات او الفصول قد صارت بعد ذلك مؤلفات ومجلدات اثرت في حياتي واخصبتها وادخلتني السجن واسعدتني بدراسات والهمتني خططا ما زلت في نتائجها ومناهجها وفي الف وتسعمائة واربعة عشر اخرجت اول مجلة اسبوعية في مصر باسم المستقبل. والاسم نفسه يحوي دلالة لحياتي بعد ذلك. فقد كافحت دعاة الفعل الماضي الذي في ناعونة بشأن التقاليد. كما دعوت الى العلم الذي نبني به مستقبلنا واجد في احد الاعداد مقالا بعنوان الله يحوي افكارا يمكن ان توصف عند عند الصديق بالحرية وعند العدو بالالحاد وفي الف وتسعمائة وستة عشر جئت ادعو في جريدة الاخبار الى الغاء الطربوش. وكان يحفزني على ذلك احساس بانها اشارة للاستعمار التركي لمصر. وكنت في اخراج مجلة المستقبل ودعواتي فيها الى الاشتراكية والى المادية. ثم بعد ذلك في اقتراحي بالغاء الطربوش. مسوقا بالكتاب الصغير الذي الفتوه في الف وتسعمائة بعنوان مقدمة السوبر مان وحررت بعد ذلك مجلة الهلال سبع سنوات اخرجت فيها هذه الكتب. وهي جميعها امتداد وتوسع وتعمق لما جاء في مقدمة السوبر مان. حرية الفكر العقل الباطن واحلام الفلاسفة ثم عملت في تحرير البلاغ فنشرت في مقالات جمعت بعد ذلك كتابا باسم نظرية التطور واصل الانسان ومؤلفات في السيكولوجية من العقل الباطن الى ما تلاه من كود من الكتب هي امتداد لنظرية التطور. لان العقل الباطن هو الحيوان الكامن في الانسان واتجاه اشتراكي الحاضر وامتداد للفصل الموجز الذي خصصتوه عن الاشتراكية في هذا الكتاب الاول الذي الفته في الف وتسعمائة وتسعة. وكنت وقتئذ عضوا الفابية الاشتراكية الانجليزية وقد تشاعبت فكرة التطور عندي فاصبحت ايمانا فاصبحت ايمانا بالارتقاء واتجاه نحو المستقبل وبحثا بل ابحاثا متكررة في معاني الحضارة والثقافة العلم نحن المؤلفين نتجاوب مع مؤلفاتنا نؤثر فيها وتؤثر فينا وهي كما توجه القارة توجهنا نحن ايضا وبالطبع اعني المؤلفات التي تتصل بالاخلاق والحياة العامة والمذاهب والسلوك. اذ ليس من المعقول ان مؤلفا يؤلف كتابا في صناعة الصابون او القيم الصحية في بعض الاغزية تتأثر بحياته به. وان كنت اظن ان اهتمامه بمثل هذه الموضوعات سيربطه ثقافيا وعلميا بها بطولة حياته. ولكن العبرة الكبرى بالكتب التي نؤلفها في الاخلاق والمذاهب والسياسة والاجتماع. وبكلمة اخرى استطيع ان اقول للقارئ اذا شئت ان نتعرف الى مؤلف وتقف على منهجه في الحياة واتجاهه الفلسفي فانه يكفيك ان تقرأ عناوين مؤلفاته ذلك لان مؤلفاته هي حياته ومؤلفاته الاولى على الاخص. اذ هي مؤلفاته التي الفها هو عفو عفو ميلوء واتجاهه. وقصد منها الى البوح والاعتراف عما كان اكظم في نفسي من افكار والاغلب انه لم يكسب منها بل لعله خسر فيها. اذ هو الفها دون ان يهدف الى كسب وانما الى اشباع شهوة ذهنية. فيما بين الف وتسع تسعمائة وتسعة والف وتسعمائة واربعة عشر الفت مقدمة السوبر مان ونشوء فكرة الله والاشتراكية وجميعها خسرت فيها بل لم اكد اجمع جنيها كاملا منها كلها ولكني سعدت بها لاني بحثت بالمكتوم في نفسي واسترحت بالبوح وليس عقيما بعد ذلك ان اعظم مؤلفاتها انتشارا هو كتاب نظرية التطور واصل الانسان الذي الفته منذ ثلاثين سنة كان اقلها كسبا لي. فقد بعت حقوق الطبع الكاملة فيه بعشرين جنيها فقط. مع انه الان في الطبعة الرابعة وقد يظن القارئ اني ابتئث بذلك. ولكن العكس هو الصحيح فاني سعيد بانتشاره لانه يعالج نظرية يا حبيبة الى نفسي احب ان تنغرس مبادئها في قلوب القراء العرب حتى يسترشدون بها في السياسة والاجتماع والاخلاق. هو هزيمة مالية فاضحة ولكنه انتصار ذهني رائع. وكتاب اخر جرى هذا المجرى هو التربية السلامة موسى. فما هو ان خرج من شركة الكاتب المصري في الف وتسعمائة وسبعة واربعين حتى ان اعلنتني انها ابطلت مشروعاتها في الطبع والنشر وانها ستبيع الكتاب بالمزاد. اي تبعوه بقدر ما فيه من ورق يوزن بالورائق ولا وصب من غير عشرين او ثلاثين جنيها. ولكني اعد احسن ما الفت فانه اعترافات فيها حسابي مع المجتمع الذي اعيش فيه وسربت حياتي بكل تحوي من صفاء او غبار. وكثيرا من مؤلفاتي بعد ذلك وهي تبلغ اربعين هي اعترافات. لان هؤلاء علموني والادبي للشعب كلاهما يبسط للقارة للقارئ ما يعتقد عن تطوره الثقافي ولكن كثيرا ايضا من مؤلفاتي الاخرى هو تعليمي قصدت منه الى الشرح والبسط كما فعلت في في جميع كتبي مع الاستيكولوجية وهناك كتاب الفتوه في الف وتسعمائة وثلاثة وخمسين كان يجب ان يؤلف قبل ذلك بنحو ثلاثين سنة هو كتاب الثورات. وانما اخرني عن ذلك العرش الاجنبي الملوث على بلادنا ووقف الاستعمار البريطاني السافل خلفه يؤيده لانه كان وسيلته لاستغلالنا وقد كان موضوع يختمر في ذهني منذ ان لا يفتق مقدمة السوبر مان في الف وتسعمائة وتسعة التي تعد ثورية في الاجتماع والثقافة اكثر مما هي كذلك في السياسة قد عرضت في الثورات او لبعضها الخطير التاريخ وابرزت معانيها واهدافها. ومع اني لم اخرج هذا الكتاب الا في الف وتسعمائة وثلاثة وخمسين. فان عام القراء كانوا يجدون في مؤلفاتها السابقة اتجاهات ثورية في مختلف النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وكان الحزب الاشتراكي الذي الفته مع حسني العرابي غير ثورة في نظر النيابة العامة التي حققت معنا في الفين وتسعمائة وثلاثة وعشرين بشأنه ثم سنت بعد ذلك القوانين بايحاء الانجليز وحضارة ايجاد مثله في المستقبل ويقول السكيولوجيون ان الابن الاصغر في العائلة كثيرا ما ينشأ ثائرا. ذلك لان مكانه فيها ومكان الضعف حين يستبد به اخوته الكبار ويحملونه باستبدادهم على التمرد والثورة وهو حين يشب ويختلط بالمجتمع يتجه الى نفيه اتجاه الثورة اذ يجد في اشخاص مستبدين ذكريات غير واعية من الاستبداد اخوتي الكبار ايام طفولته. قد كنت اصغر اخواتي في العائلة ولا اذكر منذ صبايا الا اني كنت على اعجاب عظيم بعرابي. ان كانت ترجمتي بعد ذلك لكتاب التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر من المسرات التي اسعدتني اجل ووجهتني فان كراهتي للعرش ايام فاروق وهي التي جعلت النيابة العامة تحبسني اسبوعين بعضها على الاسفلت في الف وتسعمائة وستة واربعين بدعوى التآمر على ايجاد حكم جمهوري بدلا من الحكم المملوكي هذه الكراهة كانت تجري في سياق كراهته لتوفيق الشقي الذي تآمر مع الانجليز على هزيمة عرابي وتحطيم الحركة الوطنية ان ظروفنا كثيرة سيكولوجية واجتماعية عملت لتوجيهها الثوري. كما عملت انا بعد ذلك لهذا التوجيه للقراء ثم كان بعد ذلك الارتباط بين المؤلف ومؤلفاته وما هو الذي يحفزني على التأليف. اعتقادي انه اهتمامي بالشعب. اي انه مجموعة من عواطف السخط على الحال القائمة والامل في حال نرجو والسخط يثير علي غضب كثير من الجهلة الذين لا يفهمون طبيعة الحضارة الغربية وما يكمن فيها من عدوان واستعمار للشعوب الضعيفة التي تعيش على قديمها الرث من التقاليد. ولست انا من عشاق هذه الحضارة الغربية بدليل اني اشتراكي. فهي حضارة المباراة والاشتراكية حضرت التعاون ولكن لان هذه الحضارة الغربية عدوانية استعمارية يجب علينا ان نقاومها باسلحتها. واعظم هذه الاسلحة والعلم والصناعة مع اتجاهنا نحو الاشتراكية وعندما اقارن بين مؤلفاتي وبين مؤلفات طه حسين وعباس العقاد اعجب اكبر العجب لان موضوعاتهما التي استشغلهما تختلف عن الموضوعات التي تشغلني فان لهما اكثر من ثلاثين او اربعين كتابا في شرح المجتمع العربي في بغداد والمدينة ومكة في القرن الاول للهجرة. ولهما دراسات عن ابطال من العرب ما قبل الف وثلاثمائة او الف ومائتين سنة. وكان المجتمع المصري الحديث وثروات الشعوب والانقلاب الاقتصادي الذي يفصل بين عصر الاقطاع وعصر الصناعة وحرية في الفكر التي تدعو الى العقل بدلا من العقيدة اقيمت العلم ونظرية التطور. كل هذا وغيره مما يلامسه من الافكار والاهتمامات لا قيمة لهما في نظرهما شعبنا وليس لواحد منهما كتاب واحد عن هذه الموضوعات ومما يؤسف له انه قد نشأت لهما مدرسة تؤلف عن كل شيء عراء عربي قديم. وليس عن مشكلة حديثة والتأليف هنا سهل لا يكاد يحتاج الى مجهود. اذ ليس اسهل من الرجوع الى الطبري او الاغاني او ابن الاثير او السيرة الحلبية او غير هذه الكتب لاستخراج صيغة جديدة لترجمة قديمة. كثيرا ما تكون هذه الصيغة الجديدة دون السيرة او الترجمة القديمة. وكما كان يقول توفيق الحكيم او كما كان يمارس الفن وفق سقافة الفن للفن. كذلك احس وانا اسمع بعنوان جديد لطه حسين او عباس العقاد بانهما يؤلفان للتأليف وليس لهدف اجتماعي يخدم الشعب. في كل ما الفته انا هدفت تصريحا او اضمارا الى خدمة الشعب وتوجيهه. فان عناوين مؤلفاته يكفي ذكرها للبرهان على ذلك مثل نظرية التطور وحرية الفكر والثورات. وكيف نربي انفسنا والادب للشعب وبرنارد شو وطريق المجد للشباب الى اخره ولو كنت قد وجدت الحرية ايام الحكومات الملكية السابقة لالفت عن الاشتراكية بما كان يوجه ويرشد. وسخافة الفن للفن جعلت توفيق الحكيم ادعو الى الموت بدلا من الدعوة الى الحياة كما هو واضح في درامته اهل الكهف. والان عندما اراجع حياتي التأليفية احس الاسف اكثر مما احس في الفرح ذلك انه كان يمكنني ان انفع بلادي اكثر لو اني كنت على حرية تامة في التأليف. ولكني كنت حين اؤلف حس التوتر في ضميري واقف فترات يظل فيها عقلي حائرا بين ان اكتب ما يجب او اكتب ما يمكن وينتهي الى ما يمكن ويترك ما يجب. اي اترك الحسن الى ما هو دونه وربما كان الازهر اكبر ما عاق تفكيري الحر. قد الفت كتابي هؤلاء علموني ولم اذكر فيه كارل مركز مع انه الاول في تنوير وتثقيفي. وقد شي تو ان انا ذكرت ان التهم بنشر الشيوعية. وما زلت اذكر مع الغصة ان شيخ الازهر ايام حكم اسماعيل صدقي في الف وتسعمائة وثلاثين. طلبا المعارف الا تشترك في المجلة الجديدة التي كنت اصدرها وقتئذ واناهض بها هذه هذا الطاغية الذي الغى الدستور. ان كانت حجة الازهر ان هذه المجلة تدعو الى الكفر ووجد اسماعيل صدقي في هذه التهمة تبريرا لتعطيلها وتخلصا من نقدي له. وفعل مثل ذلك مع اثنتي عشر مجلة اخرى كنت اصدرها واذا تركنا هذا النقص في حرية الفكر باعتبار احد الاسباب لتعطيل التأليف الحر في مصر فانه يبقى علينا ان نقول ان هناك نقصا اخر يساعد على هذا التعطيل. هو دور النشر في القاهرة وبيروت وغيرهما عن خدمة المؤلفين بترويج مؤلفاتهم بالطريق التجارية المألوفة في بيع اية سلعة اخرى. فان الكتاب في السوق السلعة التي اختلف معا من غيرها وتحتاج الى الاساليب التي تروج بها السلع الاخرى في نظامنا التجاري الحاضر. كما ان اخراج الكتابة بالطبع لا يزال دون ما يستحق من العناية. ولهزا لا يزال المؤلفون يستعينون بالصحافة على التأليف. ولا اكاد اعرف مؤلفا عربيا يجد كفاية عيشه من تأليف واحدة اذ هو في اغلب الحالات يستعين بعمل اخر. واقرب الاعمال الى التأليف والصحافة. ولكن الصحافة للمؤلف تنفع وتضر فهي تنفع لانها تلصق المؤلف بالجمهور وتبرز في وعيه احداث العالم وتطوراته. وتحمله على ان يكون شعبيا في اغلب الحالات. ولكنها تضر من حيث ودي السرعة تبقي للعجلة في التأليف والرضا بالنتيجة الوقتية دون التمهل والاتقان. وظني انه يمكن للمؤلفين ان يرصدوا حياتهم او معظمها للتأليف اذا تواجد الخدمة المتقنة من الناشرين في الارتقاء بالطبع وللاخراج مع الناشط في التوزيع واخيرا احب ان انبه الى ان التأليف ليس صناعة او حرفة وانما هو حياة. ذلك ان موظف الحكومة او المتجر او المصنع او صاحب الدخل من العقاري او الارض او الشركة كل هؤلاء يعملون اذا عملوا انتظارا للاجر او الربح. وليس لعملهم اية علاقة بحياتهم. عملهم ينفصل من حياتهم اذ هو وسيلة للحياة وليس الحياة نفسها ولكن المؤلف يحيى في مؤلفاته كما ان مؤلفاته تحيا فيه. فهو مشتغل الفكر دائم التأمل يمارس الحياة وهو يلحظ منها موضوعاته التأليفية ان هذه الموضوعات تغمره وتتدخل في علاقاته العائلية والاجتماعية والاقتصادية وحياة التأليف هنا تشبه حياة الفلاحة التي تغمر الفلاحة في كل يوم من ايام بل في كل ساعة فهو لا ينتظر منها الاجر فقط اذ هو احياها في نخاع عظامه. اي انه لا يجعل من الفلاحة وسيلة للعيش فقط وانما هو يحيا حياة الفلاحة والزراعة حياة الريف التي يجعل منها هدفا اكثر مما يجعل منها وسيلة ذكريات من حياة ماي قصة مي هي عندي ذكرى سم اسف. عرفتها في الف وتسعمائة واربعة عشر وكانت حوالي العشرين من عمرها حلوة الوجه مدللة اللغة والايماءة. تتثنى كثيرا في خفة وظرف. وكان الدكتور شبل شميلي يحبها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. ان كان يؤلف عنها ابياتا ظريفة من الشعر للمداعبة وما هو اكثر من المداعبة وقد تتبعت في حياتها مؤلفاتها وكتبت لاحدها مقدمة واسفي عليها اني لم ازد اختلاطي بها وخاصة عقب عودتها حين لم يعد لها اب او ام يؤنسها. لاني اعتقد انها كان يمكن ان تنقذ من هذه الالمانيا وكنت اصدر في ذلك الوقت مجلة اسبوعية باسم المستقبل. وكنت انا وشبلي شميل على نية معينة مبيتة في اصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشرقية ونشرت في احد اعدادها حديثا مع مي اضطريتها فيه اطراء عظيما. ان كان القارئ لكلماته يلمح اكثر مما يرى من الاعجاب الادبي. ولكني من مع حرصت على ان يكون اعجابي بها ادبيا فقط. ولذلك لم اتعمق مي في تلك السنين وكانت احاديثي لها اجتماعية اكثر مما كانت سيكولوجية. وبقيت بعد ذلك ازورها فيجري حديثنا على المستوى الادبي الرفيع. وكانت مي على ثقافة واسعة في الادب الفرنسي على اطلاع للادب الانجليزي. ان كانت تتحدث باللغة الفرنسية في طلاقة باللغة الانجليزية في دلالة وكانت الى هذه الثقافة النادرة موسيقية على دراية بكبار الموسيقيين. وكان احساسها الفني دقيقا وكانت لذلك تختار الفكرة والكلمة بما يطابق او الروح الفني ولم تكن لذلك ايضا تبالي العلوم. ولم اكن اجد بين الكتب التي حفلت حفلت مكتبتها بها كتابا واحدا في العلم. ان كان هذا واضحا في ثقافتها. وبذلك كانت حين تؤلف كتابا او مقالا تكتب بقلبها بعاطفتها بدون العقل والمنطق. وانعكس فنها على حياتها فعاشت عاطفتي بالساعة التي انت فيها دون التفكير في المستقبل وخاصة هذا المستقبل البعيد حين يزوي الشباب وتحتاج كل فتاة الى حكمة العقل اذ ما اذ ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. واهملت في الزواج والامومة اذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ امام اضيافها الكثيرين كل مساء وكل هؤلاء الاضياف من البشوات الاثرياء او من الادباء الاثرياء او من الادباء المعدنيين كلهم كان معجبا وان اختلفوا في مواضع الاعجاب. وكانت مخطئة وكان خطأها خطأ الحياة. وكثيرا من الناس يفهم النجاح على انه نجاح الحرفة او الثراء او الجاه ولا يفهموا على انه نجاح الحياة كلها. نجاح الصحة التي نعيش بها الى يوم الوفاء. ونجاح الفلسفة التي توجهنا في هذه الدنيا. ان نجاح الحرفة التي نحصل منها العيش الانساني. بل كذلك نجاحنا في البناء العائلي والبناء الاجتماعي لم تفهم مني ذلك. ولذلك ما هو ان تجاوزت الخامسة والاربعين وبدأت خطوط الحلقة الخامسة ترتسم على وجهها. وما هو ان احست بان جمهور المعجبين قد شرع تناقض حتى ركبها الهم والقلق. بل الخوف والرعب من ذهاب جمالها وذبول حلاوتها والتفتت كثيرا في هذه الفترة من عمرها الى التأليف والصحافة. واجادت ولكنها كانت تعاني صراعا داخليا في محاولتها الجمع بين ان تكون امرأة جميلة واديبة عظيمة. وكانت هذه المحاولة فاشلة منذ البداية وكان يجب عليها ان تتنازل عن عرش الشباب والجمال وترضى قانعة بعرش الادب والفن. ولكن شق عليها بعد ثلاثين سنة قضتها وقلبها يضحك من نظرات معجبين بها كلمات الاطراء التي كانت تنبعث اليها وهي عاطرة لاهثة بعواطف المحبين شق عليها الا ترى هذه النظرات ولا تسمع هذه الكلمات. وبلغت التاسعة والاربعين وهي سن اليأس عند المرأة التي لم تعرف ان لها ميزة اخرى في الدنيا غير جمالها وهي سن الحكمة والنضج عند المرأة التي صاغت شخصيتها واختبرت وعرفت وكان يمكن وكان يمكن مي ان تثابر على الادب والفنون تدرس وتكتب وتؤلف وكان يمكنها ان تقنع بالتبريز في هذا الميدان بعد ان بعد اذ جرأت ان الميدان الاول قد تزلزل من تحت قدميها ولكنها لم تفعل وابتأست كثيرا وصارعت المحال وفي هذا الانتقال الذي تمارسه المرأة قبيل الخمسين تتزعزع الشخصية بعض الشيء فاذا رافقها مثل هذا الصراع الداخلي الذي كان يتمزق به قلب مي على الشباب فان هذا التزعزع التزعزع يتفاقم. وهذا هو ما حدس فان من شرعت تخلط بين الحقائق والاوهام. وكان التطل من نافذة غرفتها فتجد من يتربصون بها بغية خطفها وكانت امها التي كانت تؤنسها قد ماتت. فزادت اوهامها وتجسمت حقائق مرعبة تمزق اعصابها وتطغى على عقلها. وعرف اقرباؤها هذا الحال وخافوا وعلى مصيرها المؤلم اذا بقيت وحدها. فاغروها بالسفر الى لبنان للنزهة والتفرق. فلما وصلت حملوها مقيدة الى مستشفى او مارستان. حيث سنوات عادت بعدها الى مصر. وسمعت بعودتها فاتفقت مع صديق اللواء الاستاز اسعد حسني على زيارتها. ان كانت صورتها في ذهني لا تزال صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تضحك في تدلل وتتحدس في تألق عن النزاعات والمذاهب الادبية او الفلسفية. ودققنا الجرس فخرجت لنا امرأة مهدمة كانها في السبعين قد اكسر اصاب شعر ابيض مشعث. وكان وجهها مغضا قد تقاطعت فيه الخطوط وكان اندامها يبدو مهملا. وظننت الاول لرؤيتها انها خادمة انتظرت كي تتنحى وندخل انا ولكنها لم تتنحى. وغمزان صديقي الذي كان قد زاراه من قبل وهو يهمز بصوت اعتقد الناس وما امعته الانسة الانسة وعندئذ سلمت وانا مثلج من بالخجل. ودخلت اجر قدمي وقعدت ازائها وانا افكر في هذه المأساة. اين شبابها؟ اين حلاوتها؟ ان كان معظم ما يؤلم لاني احسست انها فهمت من ترددي في التسليم عليها عند الباب اني انكرت شيخوختها ولم اعرف ان مي الجميلة الرشيقة خالدة الشباب. قد استحالت ان الى عجوز لم يبق لها من جمالها غير الذكرى. وقعدنا نتحدس فروت لنا كيف خطفوها من القاهرة الى مرستان العصفورية في لبنان؟ وكيف كانوا يتربصون بها على مقهى قريب في الشارع القريب من منزله. ثم شرحت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المورستان. جعلت تلومني لاني لم اسأل عنها. وتدفقت دموعها لو كانت مازيب وجرى بكاؤها في تشنج كانها كانت تلتزه. ثم هدأت واشعلت سيجارة وجعلت تدخن وتنفخ دخانها علي مداعبة لاني اكره الدخان. وهنا استولى علي طرب فشرعت تضحك في اسراف يزيد على اسرافها في البكاء. وكانت تتشنج بالضحك ما كانت تتشنشن سنك بالبكاء وتكرر هذا منها ضحكا فبكاء ثم ضحك فبكاء مع اسراف في الاسنين. وسهل علي الوقوف على علتها هي منية اي ذلك الجنون الذي يقع كثيرا من الانبساطيين ذوي الوجوه المستديرة. وخرجنا انا وصديقي اسعد حسني وافترقنا واحسست ضوضاء في رأسي وغيظا في قلبي لاني جرحت كبريائها وفهمتها بترددي وصمتي على الباب حين ظهرت اني افتقدت جمالها فلم اجد واني شهدت بذلك ان دنيا الشباب التي كانت تستمتع بها وتمرح فيها قد زالت عنها. وارتميت على كرسي في مقهى قريب من بيتها عند ميدان مصطفى كامل افكر واحسست كاني اريد ان اصفع وجهي لهذه الجلافة التي بدت مني عند لقائها. ثم نهضت وانا على نية العودة الي في اليوم التالي كي يكفر عن زلتي وفي صباح اليوم التالي وعلى غير ميعاد قصدت اليها حوالي الساعة التاسعة من الصباح ودققت الجرس بعد قليل فتحت الباب وكانت متبذلة كانها لم تكن تنتظر سوى بائع او بواب يطرق بابها في هذا الوقت فلما رأتني ارتدت خجلت خجلة ولكني سارعت اليها وعانقتها وقبلتها في حرارة مصطنعة كأني عاشق مفتون. ولم يكن هناك عشق وانما كانت تغمر قلبي رحمة وكان كمدي على لقاء الامس قد اثارني الى هذا اللقاء. كي اثبت لها انها لا تزال كما كانت. مي الجميلة الرشيقة الاديبة التي تجذب القلوب وتفتن العقول وما هو ان خليت عنها حتى تراجعت وهي تقول ميرسي ميرسي يا استاز. وكأنها حست ان هذه المعانقة لم تكن الا تفضلا وتصدقا. وقعدنا معا انا احاول ان اتحبب الي بالكلمة والايماءة وارد اليها كرامتها المجروحة. وطلبت وطلبت هي ومرحت وعادت تقص علي القصص وتتشنج بالضحك. ثم تذكر الا ما في المورستاني فتبكي وتتشنج بالبكاء. ان كان بكاؤها اكبر من البكاء. كان دموعا تتدفق ترافقا تشنجات وتنهدات عالية ثم يغمرها هدوء ترتاح اليه وتعود الى الحديث تفعل ذلك في تكرار وانا اخفف عنها واداعبها واضاحكها. وتركتها بعد عناق حاولت ان احس ان احس ان احسن تمثيله وظني اني احسنت ان حين ودعتني كانت تثب تثب ضاحكة مرحة. ودعتني عند الباب بمثل ما ودعتها به وتركتها وقد نذرت اني ازورها مرتين كل اسبوع ودعوتها لالقاء محاضرة في جمعية الشبان المسيحية فلبت الدعوة. المحاضرة القت محاضرتها وهي على احسن ما كانت من الرصانة والتفكير ولكن المرض آآ المانيا لم يكن قد فارقها ففي احد ايام كنت اسير بالقرب من البنك الاهلي فرأيتها متبذلة بل في رثاسة شاذة. وهي تحمل كرمبة كبيرة وتسير بها نحو بيتها ولم تكن فقيرة الى هذا الحد. اذ كان يمكنها ان تستخدم خادما او اثنين ولكن الاختلاط العقلي الذي كانت تعانيه من الالمانيا جعل شاذا وحاولت ان انزع من الكرنبة واسير معها الى البيت ولكنها رفضت. وسرت ومعها على خجل من المارة وانا افكر في الحالة السيئة التي حضرت اليها وفارقتها عند بيتها وقد غمرني حزن وكمد. ودعتني الظروف الى الاغتراب عن القاهرة نحو شهر فلما عدت قرأت نعيها في الصحف سبعة او ثمانية سطور في عمود الوفيات هي كل ما بقي من عام مي بعد موتها. وعرفت بعد ذلك ان مرضاه قد تفاقم وانها التزمت مسكنها لا تخرج نحو التي استولت عليها واستبدت بعقلها حتى سحقته ولو اننا كنا قد استطعنا ان نبعث صالونها الادبي من جديد حتى تعود فتتلألأ وتجمع حولها معجبين بادابها وعبقريتها قلت ان مي لم تطق انفضاض المعجبين بجمالها عنها. وكان هذا احد الاسباب بل لعله السبب الوحيد لانهيار شخصيتها ذلك لانها لم لم تقنع بالتبريز في الادب. ولو كانت قد قنعت به لوجدت فيه العوض مما فقدت من جمال الجسم عقب الخمسين من عمرها. ولعلها كانت عندئذ تحتفظ بسلامة نفسها وعقلها ولكني مع ذلك حين اتأمل ادب مي اجده ادب الحلاوة والطرافة في الجملة الناعمة للمعنى الناعم. ولست اجد فيها ادب المذهب والمبدأ والكفاع. هذا الادب الذي حضن الاديب واتباع ولكنه يحيه ان يحيي نفسه لم تكن مي تحيا بادابها لم تكن مكافحة. ذلك انه حين يكون الاديب مكافحا يبقى مع تعبه وعرقه مؤملا متفائلا. يحيى عن ويرمي الى هدف ويتابع حركة التطور في يقظة واهتمام. وعندئذ يحس انه حيا وكانه لم يمت وهذا الاحساس يزيد نفسه سلامة كما يزيد جسمه صحة بل يطيل عمره كانت ميت تكتب احيانا كما لو كانت هاوية فقط تتصيد المعنى الانيق وتتخير الكلمة الحلوة وتقنع بذلك. ولو انها قد دعت الى الحرية المرأة في مصر او الى المذهب الاشتراكي لوجدت في الكفاح لهذه الدعوة ما يملأ نفسها وعقلها معا باهتمامات متجددة. بل كانت تجد من الحوار بين من كانت تسعد بهم وتفخر باعجابهم اكثر مما كانت تسعد او تفخر باولئك الذين اعجبوا بجمال شبابها. ولكن مي كانت معذورة في احجامها عن الكفاح اذ كانت تعرف انها لو دعت الى تحرير المرض وفي مصر وكافحت لتحقيق ذلك لوجدت نفورا عظيما لانها لم تكن مصرية. ولم تكن مسلمة. ثم كانت تعرف انها لو دعت الى الاشتراكية لانفض عنها اصدقاؤها الاثرياء كما كانت الحكومة تتعقبها بالاضطهاد وتطاردها حتى تخرجها من مصر. ان ادب الكفاح اي كفاح انساني يجعل المؤلف يحس انه يحمل رسالة مقدسة لا يبالي الى جنبها ما يقع من كوارث. ولكن من ياثرت مضطرة ممارسة ادب الصالون على ادب الكفاح. فلما انطفأ بعض المصابيح في الصالون لم تعرف ما تصنع فاستسلمت للموت