ثم قال تعالى ابعضهم درجات واتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس ولو شاء ان اختلفوا فمنهم من امن ومنهم من كفر ولو شاء الله يخبر تعالى انه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين الناس بايحاءه وارسالهم الى الناس ودعائهم الخلق الى الله ثم فضل بعضهم على بعض بما اودع فيه من الاوصاف الحميدة والافعال السديدة والنفع العام فمنهم من كلمه الله كموسى ابن عمران خصه بالكلام ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره. وجمع الله له من المناقب ما فاق به الاولين والاخرين. واتينا عيسى ابن مريم البينات الدال على نبوته وانه عبد الله ورسوله. وكلمته القاها الى مريم وروح منه. وايدناه بروح القدس. اي بالايمان واليقين الذي ايده به الله وقواه على ما امر به. وقيل ايدهم بجبريل عليه السلام يلازمه في احواله. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات الموجبة للاجتماع على الايمان ولكن اختلفوا فمنهم من امن ومنهم من كفر فكان موجب هذا الاختلاف التفرق المعاداة والمقاتلة. ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا. فدل ذلك على ان مشيئة الله نافذة غالبة للاسباب. وانما تنفع اسباب مع عدم معارضة المشيئة فاذا وجدت اذ محل كل سبب وزال كل موجب. فلهذا قال ولكن الله يفعل ما يريد. فاراد غالبة ومشيئته نافذة. وفي هذا ونحوه دلالة على ان الله تعالى لم يزل يفعل مقتضته مشيئته وحكمته. ومن جملة ما يفعله وما اخبر به عن نفسه واخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والاقوال والافعال التي يعبرون عنها بالافعال فائدة كما يجب على المكلف معرفته بربه. فيجب عليه معرفته برسله. ما يجب لهم ويمتنع عليهم. ويجوز في حقهم ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في ايات متعددة. منها انهم رجال لا نساء من اهل القرى لا من اهل البوادي انهم مصطفون مختارون جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار. وانهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وعيوب مزرية. وانهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف. وان الله تعالى خصهم بوحيه. فلهذا وجب الايمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر. ومن قدح في واحد منهم او سبه فهو كافر يتحتم قتله. ودلائل هذه الجمل كثيرة. من تدبر القرآن تبين له الحق. ثم قال تعالى ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون. وهذا من لطف الله بعباده ان امرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله من صدقة واجبة ومستحبة. ليكون لهم ذخرا واجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون الى مثقال ذرة من الخير. فلا بيع ولو افتدى الانسان نفسه بملء الارض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه. ولم ينفعه خليل ولا صديق لا ولا بالشفاعة وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون. ويحصل الخزي على الظالمين. وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه. فتركوا الواجب من حق الله وحقه بعباده وتعدوا الحلال الى الحرام واعظم انواع الظلم. الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين ان تكون لله. في صرفها الكافرون والى مخلوق مثله. فلهذا قال تعالى والكافرون هم الظالمون. وهذا من باب الحصر. اي الذين ثبت لهم الظلم التام. كما قال تعالى ان الشرك لظلم عظيم. ثم قال تعالى الله لا اله الا هو الحي القيوم سنة ولا نوم. له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون وسع كرسيه السماوات هذه الاية الكريمة اعظم ايات القرآن وافضلها واجلها. وذلك لما اشتملت عليه من الامور العظيمة والصفات الكريمة. فلهذا كثرت الاحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للانسان في اوقاته صباحا ومساء وعند نومه وادبار الصلوات المكتوبات. فاخبر تعالى عن نفسه الكريمة بانه لا لا اله الا هو اي لا معبود بحق سواه. فهو الاله الحق الذي تتعين ان تكون جميع انواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى. بكماله كمال صفاته وعظيم نعمه. ولكون العبد مستحقا ان يكون عبدا لربه. ممتثلا اوامره. مجتنبا نواهيه. وكل ما سوى الله تعالى باطل فعبادة ما سواه باطلة. لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه. فلم يستحق شيئا من انواع العبادة. وقوله الحي القيوم هذان الاسمان الكريم ان يدلان على سائر الاسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما. فالحي من له الحياة الكاملة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك. والقيوم هو الذي قام بنفسه وقام بغيره. وذلك مستلزم لجميع التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والاماطة والاحياء وسائر انواع تدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري. ولهذا قال بعض المحققين انهما الاسم الاعظم الذي اذا دعي الله به اجاب. واذا سئل به اعطى ومن تمام حياته وقيوميته انه لا تأخذه سنة ولا نوم. والسنة النعاس له ما في السماوات وما في الارض اي هو المالك وما سواه مملوء وهو الخالق الرازق المدبر. وغيره مخلوق مرزوق مدبر. لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض. فلهذا قال من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه. اي لا احد يشفع عنده بدون اذنه. فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى اذا اراد ان يرحم من يشاء من عباده. اذن لمن اراد ان يكرمه من عباده ان يشفع فيه. لا يبتدأ الشافع قبل الاذن ثم قال يعلم ما بين ايديهم اي ما مضى من جميع الامور وما خلفهم اي ما يستقبل منها. فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الامور متقدميها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الامر شيء ولا من العلم مثقال ذرة الا ما علمهم تعالى ولهذا قال ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء. وسع كرسيه السماوات والارض. وهذا يدل على كمال عظمته سلطانه اذا كان هذه حالة الكرسي انه يسع السماوات والارض على عظمتهما وعظمة من فيهما والكرسي ليس اكبر مخلوقات الله تعالى. بل هنا ما هو اعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه الا هو. وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الافكار وتكل الابصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال. فكيف بعظمة خالقها ومبدعها؟ والذي اودع فيها من الحكم والاسرار ما اودع الذي قد امسك السماوات والارض ان تزول من غير تعب ولا نصب. فلهذا قال ولا يؤوده اي يثقل حفظهما وهو العليم بذاته فوق عرشه. العلي بقهره لجميع المخلوقات. العلي بقدره. لكمال صفاته. العظيم الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله انوف الملوك القاهرة. فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة. والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الاية على توحيد الالهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات. وعلى احاطة ملكه واحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته. فهذه الاية بمفردها عقيدة في اسماء الله وصفاته متضمنة لجميع الاسماء الحسنى والصفات العلى ثم قال تعالى لا انفصام لها والله سميع عليم. يخبر تعالى انه لا اكراه في الدين لعدم الحاجة الى الاكراه عليه لان الاكراه لا يكون الا على امر خفيط اعلامه. غامضة اثاره او امر في غاية الكراهة للنفوس. واما هذا الدين القويم هو الصراط المستقيم فقد تبينت اعلامه للعقول وظهرت طرقه. وتبين امره وعرف الرشد من الغي. فالموفق اذا نظر اليه ادنى نظر اثره واختاره. واما من كان سيء القصد فاسد الارادة. خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل ويبصر الحسن. فيميل سئل القبيح فهذا ليس لله حاجة في اكراهه على الدين. لعدم النتيجة والفائدة فيه والمكره ليس ايمانه صحيحا ولا تدل الاية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين. وانما فيها ان حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله. لكل منصف قصده اتباع الحق واما القتال وعدمه فلم تتعرض له. وانما يؤخذ فرض القتال من نصوص اخر. ولكن يستدل في الاية الكريمة على قبول الجزية من غير اهل الكتاب كما هو قول كثير من العلماء فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان ويؤمن بالله ايمانا تاما اوجب له ربه وطاعته. فقد استمسك بالعروة الوثقى اي بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت اركانه. وكان المتمسك به على ثقة من امره لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. واما من عكس القضية فكفر بالله وامن بالطاغوت. فقد اطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة. واستمسك بكل باطل مآله الى الجحيم. والله سميع عليم. فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منه من الخير والشر وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها. ثم ذكر السبب الذي اوصلهم الى ذلك فقال ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور. والذين كفروا اولياء الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات الله ولي الذين امنوا وهذا يشمل ولايتهم لربهم بان تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به احدا. قد اتخذوه حبيبا ووليا ووالو اولياءه وعادوا اعداءه. فتولاهم بلطفه ومن عليهم باحسانه. فاخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل الى نور الايمان والطاعة والعلم. وكان جزاؤهم على هذا ان سلمهم من ظلمات القبر. والحشر والقيامة الى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت. فتولوا الشيطان وحزبه واتخذوه من دون الله وليا. ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم فسلطهم عليه عقوبة لهم. فكانوا يؤزونهم الى المعاصي ازا. ويزعجونهم الى الشر ازعاجا. فيخرجونهم من نور الايمان والعلم والطاعة الى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي. فكان جزاؤهم على ذلك ان حرموا الخيرات. وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات. وكانوا من حزب الشيطان في دار الحسرة. فلهذا قال تعالى اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون