لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم ان نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي هو اجل الكتب واعظمها المشتمل على الحق في بسم الله الرحمن الرحيم. نزل صدرها الى بضع وثمانين اية في مخاصمة النصارى وابطال مذهبهم. ودعوتهم الى الدخول في الدين حق دين الاسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم الله لا اله الا هو الحي القيوم. افتتحها تبارك وتعالى بالاخلاص اخباري بالوهيته وانه الاله الذي لا اله الا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد الا لوجهه. فكل معبود سواه فباطل الله هو الاله الحق المتصف بصفات الالوهية. التي مرجعها الى الحياة والقيومية. فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة جميع الصفات التي لا تتم ولا تكمن الحياة الا بها. كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام. والعز الذي لا يرام القيوم الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته وقام بغيره. فافتقرت اليه جميع مخلوقاته في الايجاد والاعداد والامداد فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم. تدبير للاجسام وللقلوب والارواح ان الذين كفروا بايات الله لهم عذاب شديد في اخباره واوامره ونواهيه. فما اخبر به صدق وما حكم به فهو العدل. وانزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلمون كتابة مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة. فهو المزكي لها فما شهد لها فهو المقبول. وما رده فهو المردود. وهو نطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون وهي شاهدة له بالصدق. فاهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم ان لم يؤمنوا به فان كفرهم به ينقض ايمانهم بكتبهم. ثم قال الله تعالى وانزل التوراة اي على موسى والانجيل على عيسى من قبل انزال القرآن هدى للناس. الظاهر ان هذا راجع لكل ما تقدم. اي انزل الله القرآن والتوراة والانجيل هدى للناس من الضلال فمن قبل هدى الله فهو المهتدي. ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله. وانزل الفرقان اي الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب وكذلك فصل وفسر ما يحتاج اليه الخلق حتى بقية الاحكام جلية ظاهرة فلم يبق لاحد عذر ولا حجة من لم يؤمن به وبآياته فلهذا قال ان الذين كفروا بايات الله اي بعد ما بينها ووضحها وازاح العلل لهم عذاب شديد لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه. والله عزيز اي قوي لا يعجزه شيء ذو انتقام ممن عصاه لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء وهذا فيه تقرير احاطة علمه بالمعلومات كلها جليها وخفيها ظاهرها وباطنها. ومن جملة ذلك الاجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين. ولا ينال علمهم وهو تعالى يدبرها بالطف تدبير ويقدرها بكل تقدير. فلهذا قال لا اله الا هو العزيز هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء. من كامل الخلق وناقصه وحسن وقبيح وذكر وانثى لا اله الا هو العزيز الحكيم. تضمنت هذه الايات تقرير الهية الله وتعينها وابطال الهية ما سواه. وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون الهية عيسى ابن مريم عليه السلام. وتضمنت اثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم واثبات الشرائع الكبار وانها رحمة وهداية للناس وتقسيم الناس الى مهتد وغيره وعقوبة من لم يهتدي بها وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات. فاما الذين في قلوبهم زي اتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتراء تأويله. وما يعلم والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما الا اولوا الالباب. القرآن العظيم كله محكم كما قال قال الله تعالى كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. فهو مشتمل على غاية الاتقان والاحكام والعدل والاحسان من احسن من الله حكما لقوم يوقنون وكله متشابه في الحسن والبلاغة والتصديق بعضه لبعض. ومطابقته لفظا ومعنى. واما الاحكام تشابه المذكور في هذه الاية فان القرآن كما ذكره الله منه ايات محكمات اي واضحات الدلالة ليس فيها شبهة ولا اشكال هن ام الكتاب اي اصله الذي يرجع اليه كل متشابه. وهي معظمه واكثره. ومنه ايات اخر متشابهات. اي يلتبس معناها على كثير من الاذهان لكون دلالتها مجملة او يتبادر الى بعض الافهام غير المراد منها. فالحاصل ان منها ايات بينة واضحة لكل احد وهي الاكثر التي يرجع اليها. ومنه ايات تشكل على بعض الناس. فالواجب في هذا ان يرد المتشابه الى المحكم. والخفي الى الجلي فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا. ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة. ولكن الناس انقسموا الى فرقتين. فاما الذين في قلوبهم طيب اي ميل عن الاستقامة بان فسدت مقاصدهم وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد فيتبعون ما تشاء ابهى منه ان يتركون المحكم الواضح ويذهبون الى المتشابه ويعكسون الامر فيحملون المحكم على المتشابه ابتغاء الفتنة لمن يدعونهم قولهم فان المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه. والا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة. لوضوح الحق فيه قصده اتباعه وقوله وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله. للمفسرين في الوقوف على الله من قوله وما تأويله الا الله قولان جمهورهم يقفون عندها وبعضهم يعطف عليها والراسخون في العلم. وذلك كله محتمل ان التأويل ان اريد به علم حقيقة الشيء وكنه كان الصواب الوقوف على الا الله. لان المتشابه الذي استأثر الله بعلم كونه وحقيقته نحو حقائق صفات الله وكيفيتها وحقائق اوصاف ما يكون في اليوم الاخر ونحو ذلك. فهذا لا يعلمها الا الله. ولا يجوز التعرض للوقوف عليها لانه تعرض لما لا يمكن معرفته. كما سئل الامام مالك رحمه الله عن قوله الرحمن على العرش استوى. فقال السائل كيف استوى؟ فقال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة. فهكذا يقال في سائر الصفات سأل عن كيفيتها ان يقال كما قال الامام مالك تلك الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والايمان بها واجب والسؤال عنها بدعة وقد اخبرنا الله بهذا ولم يخبرنا بكيفيتها. فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا. فاهل زيغ يتبعون هذه الامور المشتبهات تعرضا لما لا يعني وتكلفا لما لا سبيل لهم الى علمه. لانه لا يعلمها الا الله. واما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكيلون الى الله فيسلمون ويسلمون. وان اريد بالتأويل التفسير والكشف والايضاح. كان الصواب عطف الراسخون على الله. فيكون الله قد اخبر ان تفسير المتشابه ورده الى المحكم وازالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها الا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون ايضا فيؤمنون بها ويردونها للمحكم. ويقولون كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا. وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض. وفيه تنبيه على الاصل الكبير وهو انهم اذا علموا ان جميعه من عند الله واشكل عليه مجمل متشابه. علموا يقينا انه مردود الى المحكم. وان لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والايمان باحكامه عن اتباع المتشابه قال وما يذكر اي يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه الا اولوا الالباب اي اهل اولي الرزينة لب العالم وخلاصة بني ادم. يصل التذكير الى عقولهم. فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه. وما يضرهم فيتركونه واما من عاداهم فهم القشور الذي لا حاصر له ولا نتيجة تحته. لا ينفعهم الزجر والتذكير بخلوهم من العقول النافعة. ثم اخبر تعالى عن الراسخين في العلم انهم يدعون ويقولون ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا ليلة منها عن الحق جهلا وعنادا منا. بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين. فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين وهب لنا من لدنك رحمة. اي عظيمة توفقنا بها للخيرات. وتعصمنا بها من المنكرات. انك انت الوهاب. اي واسع عطايا والهبات كثير الاحسان الذي عم جودك جميع البريات ان الله لا يخلف الميعاد ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. انك لا تخلف الميعاد. فمجازيهم باعمالهم حسنها وسيئها. وقد اثنى الله تعالى على في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد. احداها العلم الذي هو الطريق الموصل الى الله. المبين لاحكامه وشرائعه الثانية الرسوخ في العلم. وهذا قدر زائد على مجرد العلم. فان الراسخ في العلم يقتضي ان يكون عالما محققا وعارفا مدققا قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه. فرسخ قدمه في اسرار الشريعة علما وحالا وعملا. الثالثة انه وصفهم بالايمان بجميع كتابه هو رد لمتشابهه الى محكمه بقوله يقولون امنا به كل من عند ربنا. الرابعة انهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون. الخامسة اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية. وذلك قوله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا. السادسة انه مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر. وتوسلوا اليه الوهاب السابعة انه اخبر عن ايمانهم وايقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه. وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل ثم قال تعالى آآ واولئك هم وقود النار. يخبر الا ان الكفار به وبرسله الجاحدين بدينه وكتابه قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وانه لا يغني عنهم ما لهم ولا اولادهم شيئا. وان كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم. ويقولون نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين. فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وبدا لهم سيئات ما كسبوا. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وليس للاولاد والاموال قدر عند الله. انما ينفع العبد ايمانه بالله واعماله الصالحة. كما قال الله تعالى وما اموالكم ولا اولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى. الا من امن وعمل صالحا. فاولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا. وهم في وفاة امنون واخبر هنا ان الكفار هم وقود النار اي حطبها الملازمون لها دائما ابدا. وهذه الحال التي ذكر الله تعالى انها لا تغني الاموال والاولاد عن الكفار شيئا. سنته الجارية في الامم السابقة ان كذبوا باياتنا فاخذهم الله بذنوبهم. فاخذهم الله بذنوبهم ما الله شديد كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة ارباب الاموال والجنود ما كذبوا بايات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا. اخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما. والله شديد العقاب على من اتى باسباب في العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف انواعها وتعدد مراتبها. ثم قال تعالى قل يا محمد للذين كفروا تغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد. وفي هذا اشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة. وتحذير للكفار. وقد وقع كما اخبر تعالى فنصر الله المؤمنين على اعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى. وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين الى يوم القيامة. ففي هذا عبرة واية من ايات القرآن المشاهدة بالحس والعيان. واخبر تعالى ان الكفار مع انهم مغلوبون في الدار. انهم محشورون يوم القيامة لدار البوار. وهذا هو الذي مهدوه لانفسهم. فبئس المهاد مهادهم. وبئس الجزاء جزاؤهم هم اية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله واخرى كافرة يرونهم واخرى وكافرة يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار. قد كان لكم اية اي عبرة عظيمة في التقت وهذا يوم بدر فئة تقاتل في سبيل الله وهم الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه واخرى كافرة اي قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس. ويصدون عن سبيل الله. فجمع الله بين الطائفتين في بدر. وكان المشركون ما اضعاف المؤمنين. فلهذا قال يرونهم مثليهم رأي العين. ان يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة. تبلغ المضاعفات وتزيد عليها واكد هذا بقوله رأي العين فنصر الله المؤمنين وايدهم بنصره فهزموهم وقتلوا صناديدهم اسروا كثيرا منهم وما ذاك الا لان الله ناصر من نصره. وخاذل من كفر به. ففي هذا عبرة لاولي الابصار. اي اصحاب البصائر والعقول الكاملة على ان الطائفة المنصورة معها الحق والاخرى مبطلة. والا فلو نظر الناظر الى مجرد الاسباب الظاهرة والعدد والعدد لا تزال بان غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من انواع المحالات. ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالابصار سبب اعظم ومن لا يدركه الا اهل البصائر والايمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته وهو نصره واعزازه لعباده المؤمنين على اعداء الكافرين