ثم قال تعالى ان الله اصطفى ادم ونوحا وال ابراهيم وال عمران على العالمين حين يخبر تعالى باختياره من اختاره من اوليائه واصفيائه واحبابه. فاخبر انه اصطفى ادم اي اختاره على سائر المخلوقات خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وامر الملائكة بالسجود له. واسكنه جنته واعطاه من العلم والحلم والفضل. ما فاق به سائر مخلوقات ولهذا فضل بنيه. فقال تعالى ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر. ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. واصطفى نوحا فجعله اول رسول الى اهل الارض حين عبدت الاوثان. ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر دعوة الى الله في جميع الاوقات ما اوجب اصطفاءه واجتباءه واغرق الله اهل الارض بدعوته. ونجاه من معه في الفلك المشحون. وجعل ذريته هم الباقين. وترك عليه ثناء يذكر في جميع الاحيان والازمان. واصطفى ابراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ودعا الى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا وجعله الله اسوة يقتدي به من بعده. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. ويدخل في ال ابراهيم جميع الانبياء الذين بعثوا من بعده. لانهم منذ حريته وقد خصهم بانواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين. ومنهم سيد ولد ادم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فان الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره. وفاق صلى الله عليه وسلم الاولين والاخرين. فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد ابراهيم واصطفى الله ال عمران وهو والد مريم بنت عمران او والد موسى ابن عمران عليه السلام. فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوتهم من العالمين وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم. فلهذا قال تعالى الله سميع عليم. ذرية بعضها من بعض. اي حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والاخلاق الجميلة. كما قال تعالى ما ذكر جملة من الانبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار. ومن ابائهم واخوانهم وذرياتهم. واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم. والله سميع عليم. يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه. ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرضيه. ودل هذا على ان هؤلاء اختارهم لما علم من احوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما. ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا اخبار هؤلاء الاصفياء. ان نحبهم نقتدي بهم ونسأل الله ان يوفقنا لما وفقهم. وان لا نزال نزري انفسنا بتأخرنا عنهم. وعدم اتصافنا باوصافهم ومزاياهم الجميلة وهذا ايضا من لطفه بهم. واظهاره الثناء عليهم في الاولين والاخرين. والتنويه بشرفهم لو لم يكن لهم من الشرف الا ان اذكارهم ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا. ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى. وكيف لطف الله في تربيتها ونشأتها. فقال اذ قالت امرأة عمران اي والدة مريم لما حملت ربي اني نذرت لك ما في بطني محررا. اي جعلت ما في بطني خالصا لوجهك. محررا لخدمتك وخدمة بيتك تقبل مني هذا العمل المبارك. انك انت السميع العليم. تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي. هذا وهي في البطن قبل وضعها مريم واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان فلما وضعتها قالت ربياني وضعتها انثى كانها تشوقت ان يكون ذكرا ليكون اقدر على الخدمة اعظم موقعا ففي كلامها نوع عذر من ربها. فقال الله والله اعلم بما وضعت. اي لا يحتاج الى اعلامها بل علمه بها قبل ان تعلم امها ما هي. وليس الذكر كالانثى واني سميتها مريم. فيه دلالة على تفضيل الذكر على الانثى. وعلى وقت الولادة. وعلى ان للام تسمية الولد اذا لم يكره الاب. واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. دعت لها ولذريتها ان يعيذهم الله من الشيطان الرجيم كلما دخل عليها آآ ان الله يرزق من يشاء بغير حساب. فتقبلها ربها بقبول حسن اي جعلها نذيرة مقبولة واجارها وذريتها من الشيطان. وانبتها نباتا حسنا. اي نبتت نباتا حسنة في بدنها وخلقها واخلاقها لان الله تعالى قيد لها زكريا عليه السلام وكفلها اياه. وهذا من رفقه بها ليربيها على اكمل الاحوال نشأت في عبادة ربها وفاقت النساء وانقطعت لعبادة ربها ولزمت محرابها اي مصلاها فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا اي من غير كسب ولا تعب. بل رزق ساقه الله اليها وكرامة اكرمها الله بها. فيقول لها زكريا انى لك هذا قالت هو من عند الله فضلا واحسانا. ان الله يرزق من يشاء بغير حساب. اي من غير حسبان من العبد كسب قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وفي هذه الاية دليل على اثبات كرامات الاولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الاخبار بذلك خلافا لمن نفى ذلك. فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم وما اكرمها به رزقه الهنيء الذي اتاها بغير سعي منها ولا كسب. طمعت نفسه بالولد فلهذا قال تعالى هنالك دعا زكريا رب اي دعا زكريا عليه السلام ربه ان يرزقه ذرية طيبة. اي طاهرة الاخلاق طيبة الاداب. لتكمن النعمة الدينية والدنيا بهم فاستجاب له دعاءه المحراب ان الله يبشرك بيحيى ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه هو يتضرع نادته الملائكة ان الله يبشرك باحيا مصدقا بكلمة من الله اي بعيسى عليه السلام لانه كان بكلمة الله وسيدا ان يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع اليه في الامور. وحصورا اي ممنوعا من اتيان النساء. فليس في قلب به لهن شهوة اشتغالا بخدمة ربه وطاعته. ونبيا من الصالحين. فاي بشارة اعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده كمال صفاته وبكونه نبيا من الصالحين. فقال زكريا من شدة فرحه فغني الكبر وامرأتي عاقل. قال كذلك الله يفعل ما يشاء. ربي انا يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. وكل واحد من الامرين مانع من وجود الولد. فكيف وقد اجتمعا فاخبره الله تعالى ان هذا خالق عادة فقال كذلك الله يفعل ما يشاء. فكما انه تعالى قدر وجود الاولاد بالاسباب التي منها التناسل. فاذا اراد ان يوجدهم من غير ما سبب فعل. لانه لا يستعصي عليه شيء. فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الامر. وليحصل له كمال الطمأنينة قال فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكاء رب اجعل لي اية اي على على وجود الولد قال ايتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا. اي ينحبس لسانك عن الكلام من غير افة ولا سوء لا تقدر الا على الاشارة والرمز. وهذا اية عظيمة الا تقدر على الكلام. وفيه مناسبة عجيبة. وهي انه كما يمنع نفوذ الاسباب مع وجودهم فانه يوجدها بدون اسبابها. ليدل ذلك ان الاسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره. فامتنع من الكلام ثلاثة ايام. وامره الله او ان يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والابكار. حتى اذا خرج على قومه من المحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا. اي ولا النهار واخرة واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على يا نساء العالمين. ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها. وان الملائكة خاطبتها بذلك فقالت يا مريم ان الله اصطفاك اي اختارك وطهرك من الافات المنقصة واصطفاك على نساء العالمين. الاصطفاء الاول يرجع الى الصفات الحميدة والافعال السديدة. والاصطفاء الثاني يرجع الى تفضيلها على سائر نساء العالمين. اما على عالم زمانها او مطلقا وان شاركها افراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة لم ينافي الاصطفاء المذكور. فلما اخبرتها الملائكة باصطفاء الله اياها كان في هذا من نعمة العظيمة والمنحة الجسيمة. من يوجب لها القيام بشكرها. فلهذا قالت لها الملائكة لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. يا مريم اقنتي لربك القنوت. دوام الطاعة في خضوع وخشوع واسجدي واركعي مع الراكعين. خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله. ففعلت مريم ما امرت به شكرا لله تعالى وطاعة. ولما اخبر الله نبيه بما اخبر به عن مريم. وكيف تنقلت بها الاحوال التي قيدها الله لها؟ وكان هذا من الامور الغيبية التي لا تعلم الا بالوحي. قال مريم اعتصمون. ذلك من انباء الغيب نحيه اليك. وما كنت لديهم اي عندهم اذ يلقون اقلامهم. ايهم يكفل مريم لما ذهبت بها امها الى من لهم الامر على بيت المقدس. فتشاحوا وتخاصموا ايهم يكفل مريم. واقترعوا عليها بان القوا اقلامهم في النهر فايهم لم يجري قلمه مع الماء فله كفالتها. فوقع ذلك لزكريا نبيهم وافضلهم. فلما اخبرتهم يا محمد بهذه الاخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على انك صادق وانك رسول الله حقا. فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال اوامرك. كما قال تعالى اكنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الامر