واذ غدوت من اهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون هذه الايات نزلت في وقعة احد. وقصتها مشهورة في السير والتواريخ. ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع. وادخل في اثناءها ما وقعت بدر لما ان الله تعالى قد وعد المؤمنين انهم اذا صبروا واتقوا نصرهم ورد كيد الاعداء عنهم وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الاتيان بشرطه. فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين. وان الله نصر المؤمنين في بدر لما صبروا واتقوا. وادال عليهم العدو ولما صدر من بعضهم من الاخلال بالتقوى ما صدر. ومن حكمة الجمع بين القصتين ان الله يحب من عباده اذا اصابهم ما يكرهون ان يتذكروا ما يحبون فيخف عنهم البلاء ويشكر الله على نعمه العظيمة. التي اذا قوبلت بما يناله من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم. كان المكروه بالنسبة المحبوب نزرا يسيرا وقد اشار تعالى الى هذه الحكمة في قوله اولما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها وحاصل قضية احد واجمالها ان المشركين لما رجع كلهم من بدر الى مكة وذلك في سنة اثنتين من الهجرة استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالاموال والعدد حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم. ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة الاف مقاتل تنازلوا قرب المدينة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم اليهم هو واصحابه. بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج. وخرج في بالف فلما ساروا قليلا رجع عبدالله ابن ابي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته. وهم الطائفتان من المؤمنين ان يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله. فلما وصلوا الى احد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم. واسندوا ظهورهم الى لا احد ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من اصحابه في خلة في جبل احد. وامرهم ان يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه. ليأمنوا ان احد من ظهورهم فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم واتبعهم مسلمون يقتلون ويأسرون. فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل. قال بعضهم لبعض الغنيمة الغنيمة ايقعدنا ها هنا والمشركون قد انهزموا ووعظهم اميرهم عبد الله ابن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا اليه. فلما اخلوا موضعهم فلم يبق فيه الا نفر يسير منهم اميرهم عبد الله ابن جبير جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم. فجال المسلمون ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم. واذاقهم فيها عقوبة المخالفة. فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم. ثم انهم انحازوا الى رأس جبل احد وكف الله عنهم ايدي المشركين وانكفأوا الى بلادهم. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه المدينة. قال الله تعالى وان غدوت من اهلك والغدو ها هنا مطلق الخروج. ليس المراد به الخروج في اول النهار. لان النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه لم يخرجوا الا بعد ما صلوا الجمعة تبوء المؤمنين مقاعد للقتال. اي تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به. وفيها اعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم واقامتهم في مقاعد القتال. وما ذاك الا لكمال علمه ورأيه. وسداد نظره وعلوه حيث يباشر هذه الامور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه. والله سميع لجميع المسموعات. ومنه انه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه. عليم بنيات العبيد فيجازيهم عليها اتم الجزاء. وايضا فالله سميع عليم بكم يكلأكم ويتولى تدبير اموركم ويؤيدكم بنصره. كما قال تعالى لموسى وهارون انني معكما اسمع وارى ومن لطفه بهم واحسانه اليهم انه لما هم الطائفتان من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهم الله تعالى تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين. فلهذا قال والله وليهما اي بولايته الخاصة. التي هي لطفه باوليائه وتوفيق لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم. فمن توليه لهما انهما لما هما بهذه المعصية العظيمة. وهي الفشل والفرار عن رسول الله لما معهما من الايمان. كما قال الله تعالى الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور. ثم قال وعلى الله فليتوكل المؤمنون. ففيها الامر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار. مع الثقة بالله وانه بحسب ايمان العبد توكله وان المؤمنين اولى بالتوكل على الله من غيرهم. وخصوصا في مواطن الشدة والقتال. فانهم مضطرون الى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصاف والتبري من حولهم وقوتهم والاعتماد على حول الله وقوته. فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن. ثم قال تعالى ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين. وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر. وهم اذلة في قلة عددهم وعددهم كثرة عدد عدوهم وعددهم. وكانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة. خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة. بثلاث مئة وبضعة عشرة من اصحابه ولم يكن معهم الا سبعون بعيرا وفرسان. لطلب عير لقريش قدمت من الشام. فسمع به المشركون فتجهزوا من مكة فكعيرهم وخرجوا في زهاء الف مقاتل مع العدة الكاملة والسلاح العام والخيل الكثيرة. فالتقوهم والمسلمون في ماء يقال له بدر بين مكة والمدينة فاقتتلوا ونصر الله المسلمين نصرا عظيما. فقتلوا من المشركين سبعين قتيلا من صناديد المشركين وشجعانهم. واسروا واحتووا على معسكرهم ستأتي ان شاء الله القصة في سورة الانفال. فان ذلك موضعها. ولكن الله تعالى هنا اتى بها ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه. فلهذا قال فاتقوا الله لعلكم تشكرون. لان من اتقى ربه فقد شكره. ومن ترك التقوى الم يشكره من الملائكة منزلين. اذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا لهم بالنصر. الن يكفيكم ان ربكم بثلاثة الاف من الملائكة منزلين الا يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسومين. بلى انت تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا. اي من مقصدهم هذا وهو وقعة بدر يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسومين اي معلمين بعلامة الشجعان. فشرط الله لامدادهم ثلاثة شروط. الصبر والتقوى واتيان المشركين من فورهم هذا. فهذا هذا الوعد بانزال الملائكة المذكورين وامدادهم بهم. واما وعد النصر وقمع كيد الاعداء. فشرط الله له الشرطين الاولين كما تقدم في قوله وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا. وما جعله الله الا بشرى لكم لتطمئن قلوبكم لله العزيز الحكيم. وما جعله الله اي امداده لكم بالملائكة الا بشرى تستبشرون بها وتفرحون ولتطمئن قلوبكم به. وما النصر الا من عند الله. فلا تعتمدوا على ما معكم من الاسباب. بل الاسباب فيها طمأنينة لقلوبكم. واما حصر حقيقي الذي لا معارض له فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده. فانه ان شاء نصر من معه الاسباب كما هي سنته في خلقه ان شاء نصر المستضعفين الاذلين. ليبين لعباده ان الامر كله بيديه. ومرجع الامور اليه. ولهذا قال عند الله العزيز فلا يمتنع عليه مخلوق. بل الخلق كلهم اذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره. الحكيم الذي يضع الاشياء مواضعها. وله الحكمة في ادانة الكفار في معطي الاوقات على المسلمين. ادانة غير مستقرة. قال الله تعالى ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم لكن ليبلو بعضكم ببعض يخبر تعالى ان نصره عباده المؤمنين لاحد امرين اما ان يقطع طرفا من الذين كفروا اي منهم وركنا من اركانهم اما بقتل او اسر او استيلاء على بلد او غنيمة مال. فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون. وذلك ان مقاومتهم ومحاربتهم للاسلام تتألف من اشخاصهم وسلاحهم واموالهم وارضهم. فبهذه الامور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم. الامر الثاني ان يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم طمعا في المسلمين. ويمنوا انفسهم ذلك قيصوا عليه غاية الحرص. ويبذلوا قواهم واموالهم في ذلك. فينصر الله المؤمنين عليهم. ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم. بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة. واذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الامرين. غير خارج عنهما اما نصر او خذل لهم لما جرى يوم احد ما جرى وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب رفع الله بها درجته فشج رأسه وكسرت رباعيته قال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل ابي سفيان ابن حرب وصفوان ابن امية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام انزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله. ليس لك من الامر شيء انما عليك البلاغ وارشاد الخلق والحرص على مصالحهم. وانما الامر لله تعالى هو الذي يدمر الامور. ويهدي من يشاء ويضل من يشاء لا تدعو عليهم بل امرهم راجع الى ربهم. ان اقتضت حكمته ورحمته ان يتوب عليهم ويمن عليهم بالاسلام فعل. وان اقتضت حكمته ابقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم فانهم هم الذين ظلموا انفسهم وضروها وتسببوا بذلك. فعل وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم فهداهم للاسلام رضي الله عنهم. وفي هذه الاية مما يدل على ان اختيار الله غالب على اختيار العباد. وان العبد وان ارتفعت درجته وعلى قدر قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره. وان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الامر شيء. فغيره من باب اولى. ففيها اعظم رد على من تعلق بالانبياء او غيرهم من الصالحين وغيرهم. وان هذا شرك في العبادة نقص في العقل. يتركون من الامر كله له من لا يملك من الامر مثقال ذرة. ان هذا لهو الضلال البعيد. وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم اسند الفعل اليه. ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ليدل ذلك على ان النعمة محض فضله على عباده من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة. ولما ذكر العذاب ذكر معه وظلمهم ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية. فقال او يعذبهم فانهم ظالمون. ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته حيث وضع العقوبة موضعها ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه. ولما نفى عن رسوله انه ليس له من الامر شيء. قرر من الامر له فقال آآ والله غفور رحيم. ولله ما في السماوات وما في الارض من الملائكة والانس والجن والحيوانات والافلاك والجمادات كلها. وجميع ما في السماوات والارض. الكل ملك لله مخلوقون مدبرون. متصرف فيهم تصرف المماليك. فليس ليس لهم مثقال ذرة من الملك. واذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه. فيغفر لمن يشاء بان يهديه للاسلام. فيغفر شركه ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه ويعذب من يشاء بان يكله الى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك. ثم ختم الاية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته. وسعة احسانه وعميم احسانه فقال والله غفور رحيم. ففيها اعظم بشارة بان رحمته غلبت غضبه. ومغفرته غلبت مؤاخذته. فالاية فيها الاخبار عن حالة الخلق وان منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه. فلم يختمها باسمين احدهما دال على الرحمة. والثاني دال على النقمة. بل ختمها باسمين فيه ما يدل على الرحمة فله تعالى رحمة واحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر. ولا يدرك لها وصف فنسأله تعالى ان يتغمدنا او يدخلنا برحمته في عباده الصالحين