المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله قصة نوح عليه السلام مكث البشر بعد ادم قرونا طويلة. وهم امة واحدة على الهدى. ثم اختلفوا وادخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة. فكان قوم نوح قد مات منهم اناس صالحون. فحزنوا عليهم فجاءهم الشيطان فامرهم ان يصوروا تماثيلهم ليتسلوا بها وليتذكروا بها احوالهم. فكان هذا مبتدأ الشر فلما هلك الذين صوروهم بهذا المعنى جاء من بعدهم وقد اضمحل العلم. فقال لهم الشيطان ان هؤلاء ودوا وسواعا ويغوص ويعوق ونسرا قد كان اولوكم يدعونهم ويستشفعون بهم وبهم يسقون الغيث تزول الامراض فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين. ثم بعث الله فيهم نوحا صلى الله عليه وسلم يعرفونه ويعرفون صدقه وامانته وكمال اخلاقه. فقال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قدهم في خير الدنيا والاخرة. فقال يا قومي اني لكم نذير مبين. ان اعبدوا الله واتقوه واطيعوه. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى اجل مسمى. فلما بادأهم بالامر بالاخلاص لله وتسفيه ارائهم وتخويفهم بعقوبات والاخرة قالوا ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا بادي الرأي. وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. وطلبوا منه ان يطرد من كان معه من المؤمنين. استكبارا منهم واستنكافا على الحق وعلى الخلق. فبين لهم انه ليس به ضلال. واننا به تزول الضلالة عن الخلق. وانه رسول امين على بينة من ربه وبراهين واضحة. وان المؤمنين لا يحل طردهم بل حقهم الاكرام والاحترام. وانه لا يدعي لهم طورا فيه الرب. فقال ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب. ولا اقول اني ملك ولا اقول للذين تزدري اعينكم لن يؤتيهم الله خيرا. فلم يزل يدعوهم ليلا ونهارا. وسرا وجهارا. فلم يزدهم دعاء الا فرارا ونفورا واعراضا. وتواصيا منهم على الاقامة على ما هم عليه من عبادة غير الله والتمسك بها قال نوح ربي انهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده الا خسارا. ومكروا مكرا كبارا. وقالوا لا تذرن الهتكم ولا تذرن ودوا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا. فلما رأى ان التذكير لا ينفع فيهم بوجه من الوجوه وانه كلما جاء قرن كان اخبث مما قبله قال ربي لا تذر على الارض من الكافرين ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك. ولا يلدوا الا فاجرا كفارا. فاجاب الله دعوته وامره ان يصنع الفلك برعاية منه وحسن نظر وتعليم من الله له هذه الصنعة التي امتن الله بها على العباد. وصار نوح له الفضل والابتداء وبهذه الصناعة التي حصل بها من المنافع الدينية والدنيوية في جميع الاوقات ما لا يعد ولا يحصى واخبره الله بتحتم اغراقهم. وانه لا يخاطب ربه فيهم فانهم ظالمون. وجعل يصنع الفلك. وكلما مر لديه ملأ من قومه سخروا منه. فقال لهم ان تسخروا منا اليوم فانا نسخر منكم اذا وقع الهلاك بكم واوحى الله اليه انه اذا جاء ذلك الوقت وثار التنور اي جعلت الارض كلها تنفجر عيونا من كل جانب حتى المواضع البعيدة عن الماء عادة. وامره ان حمل من البهائم من كل زوجين اثنين ذكرا وانثى. ليبقى نسلها لانه يتعذر حملها كلها. والحكمة تقتضي ابقاءه اهذه الحيوانات التي خلقها الله مسخرة لمصالح البشر. ويحمل معه جميع من امن من رجال ونساء والحال انه ما امن معه الا قليل وامره ان يحمل اهله الا من سبق عليه القول بالهلاك. فلما اركب جميع من امر بهم قال لهم سموا الله كل لما جرت وكلما رست لان الاسباب مهما عظمت فهي من لطف الله ولا تمام لها الا بالله فحينئذ فجر الله الارض عيونا وامر السماء ان تصب الماء المنهمر الكثير. فالتقت مياه السماء بمياه الارض وساحت على الاماكن المنخفضة ثم ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة. والسفينة تجري بهم في موج كالجبال. تضرب يمينا وشمالا. وفي تلك الحال المزعجة رأى نوح ابنه الكافر الذي كان على دين قومه وقد اعتزل اباه حتى في هذه الحال فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة فناداه نوح مترفقا فقال يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. فتمادى به الغرور في تلك الحال. التي تنقشع فيها الغياهب. الا اعني القلوب المحجوبة فقال سآوي الى جبل يعصمني من الماء. لم يخطر ببالهم ان المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال. فقال له نوح اعاصم اليوم من امر الله الا من رحم لا يعصم جبل ولا حصن ولا غير ذلك الا من رحم الله. ورحمته في تلك كالحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح وحال بينهما الموج فكان ذلك الابن من المغرقين. فاغرق الله جميع الكافرين. ونجى نوحا ومن معه اجمعين وكان ذلك اية على ان ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حق. وان من خالفه فانه مبطل. ودليل على الجزاء في الدنيا لاهل الايمان بالنجاة والكرامة. ولاهل الكفر بالهلاك والاهانة. فلما حصل هذا المقصود العظيم امر فالله السماء ان تقلع عن الارض. والارض ان تبلع ما فيها وغيض الماء اي نقص شيئا فشيئا. واستوت السفينة الماء على الجودي وهو جبل شامخ معروف في نواحي الموصل. وهذا دليل على ان جميع الجبال قد غمرته المياه وجاوزها الطوفان. وحزن نوح على ابنه فقال مناديا ربه مترفقا متضرعا يا رب ان ابني من اهلي وان وعدك الحق ان احمل معي اهلي وانت ارحم الراحمين. فقال له ربه انه ليس من اهلك اي الموعود بنجاتهم. لان الله قيد ذلك بقوله الا من سبق عليه القول. انه عمل غير صالح اي هذا الدعاء لابنك الذي على دين قومه بالنجاة فلا تسألني ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين وهذا عتاب منه لنوح وتعليم له وموعظة عن مثل هذا الدعاء الذي انما حمله عليه الشفقة الابوية. وانما الواجب في الدعاء ان يكون الحامل له العلم والاخلاص في طلب رضا الله تعالى. فقال نوح ربياني اعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم. والا تغفر لي وترحمني اكن من الخاسرين. قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب كن اليم. فهبط وبارك الله في ذريته. وجعل ذريته هم الباقين كان اولاده ياثف ملأ المشرق من الذرية وحام ملأ المغرب من النسل وسام ملأ ما بين ذلك ومكث في لقومه الف سنة الا خمسين عاما. ومكث بعد هلاكهم ما شاء الله. وكان من اولي العزم من المرسلين. ومن خمسة الذين تدور عليهم الشفاعة يوم القيامة. وهو اول الرسل الى الناس وهو الاب الثاني للبشر صلى الله عليه وسلم تسليما. يستفاد من هذه القصة امور. منها ان جميع الرسل من نوح الى محمد صلى الله عليه وسلم متفقون على الدعوة الى التوحيد الخالص والنهي عن الشرك فنوح وغيره اول ما يقولون لقومهم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره. ويكررون هذا الاصل بطرق كثيرة ومنها اداب الدعوة وتمامها. فان نوحا دعا قومه ليلا ونهارا. وسرا وجهارا بكل وقت. وبكل حالة كل فيها نجاح الدعوة. وانه رغبهم بالثواب العاجل. وبالسلامة من العقاب. وبالتمتيع بالاموال والبنين. وادرار الارزاق اذا امنوا وبالثواب الاجل. وحذرهم من ضد ذلك وصبر على هذا صبرا عظيما كغيره من الرسل. فخاطبهم بالكلام الرقيق والشفقة. وبكل لفظ جاذب للقلوب محصل للمطلوب واقام الايات وبين البراهين. ومنها ان الشبه التي قدح فيها اعداء الرسل برسالتهم من الادلة على لابطال قول المكذبين. فان الاقوال التي قالوها ولم يكن عندهم غيرها ليس لها حظ من العلم والحقيقة عند كل عاقل. فقول قوم نوح ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين تأمل جملها تجدها تمويهات دالة على انهم مبطلون مكابرون للحقيقة. فقولهم ما نراك الا بشرا مثلنا فهل في لكون الحق جاء على يد بشر شيء من الشبهة تدل على انه ليس حق. ومضمون هذا الكلام ان كل قول قاله البشر من اي مصدر يكون باطلا هذا قدح منهم في جميع العلوم البشرية المستفادة من البشر. ومعلوم ان هذا يبطل العلوم كلها. فهل عند البشر علوم الا لا مستفيدها بعضهم من بعض وهي متفاوتة فاعظمها واصدقها ما تلقاه الناس عن الرسل الذين علومهم عن وحي الهي. وكذلك قولهم وما نرى لكم علينا من فضل. اي نحن وانتم بشر. وقد اجابت الرسل كلهم عن هذه المقالة فقالوا ان نحن الا بشر مثلكم. ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فمن الله على الرسل وخصهم بالوحي والرسالة مع ان انكارهم عليهم من هذه الجهة من اكبر الجهل واعظم القدح في نعمة الله لا فان رحمة الله وحكمته اقتضت ان يكون الرسل من البشر. ليتمكن العباد من الاخذ عنهم. وتتيسر عليهم هذه النعم نعمة ويسهل الله لهم طرقها فهؤلاء المكذبون كفروا باصل النعمة وبالطريق المستقيم النافع الذي جاءته هم به كذلك قولهم وما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا. من المعلوم لكل احد عاقل ان الحق يعرف انه حق كن بنفسه لا بمن تبعه. وان هذا القول الذي قالوه قدر عن كبر وتيه والكبر اكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه. وايضا قولهم اراذلنا ان ارادوا الفقر فالفقر ليس من العيوب وان ارادوا اراذلنا في الاخلاق فهذا كذب معلوم بالبديهة. وانما الاراذل الذين قالوا هذه المقالة فهل الايمان بالله ورسله وطاعة الله ورسله؟ والانقياد للحق. والسلامة من كل خصلة ذميمة. هل هذا الوصف ليلة واهله اراذل ام الرذيلة بضده من ترك افرض الفروض توحيد الله وشكره وحده وامتلاء القلب من التكبر على الحق وعلى الخلق. هذا والله ارذل الرذائل. ولكن القوم مباهتون فما نقموا من هؤلاء الاخيار الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد. فقولهم بادي الرأي اي مبادرة منهم الى الايمان ماني بك يا نوح لم يشاوروا ولم يتأنوا ويترووا. لو فرض ان هذا حقيقة فهذا من ادلة الحق. فان الحق عليه من البراهين والنور والجلالة والبهاء والصدق والطمأنينة. ما لا يحتاج الى مشاورة احد باتباعه. وانما التي تحتاج الى مشاورة ان هي الامور الخفية التي لا تعلم حقيقتها ولا منفعتها. اما الايمان الذي هو اجل من الشمس في نورها واحلى من كل شيء فما يتأخر عنه الا كل متكبر جبار. امثال هؤلاء الطغاة البغاة. وقولهم وما نرى لكم علينا من فضل هل في هذا الكلام شيء من الانصاف بوجه؟ لانهم يخبرون عن انفسهم. وكلامهم يحتمل انه الذي في قلوبهم ويحتمل انهم يقولون ما لا يعتقدون. وعلى كلا الامرين فالحق يجب قبوله. سواء اقاله الفاضل ام المفضول الحق اعلى من كل شيء كذلك قولهم بل نظنكم كاذبين. معلوم ان الظن اكذب الحديث ثم لو قالوا بل نعلمكم كاذبين فهذه كل مبطل يقدر ان يقولها. ولكن باي شيء استدللتم انهم كاذبون؟ فهذه ادلتهم وبراهينهم نفسها بنفسها كما ترى. فكيف وقد قابلها الرسل بالادلة والبراهين المتنوعة التي لا تبقي ريبا لاحد في اطلانها. ومنها ان من فضائل الانبياء وادلة رسالتهم اخلاصهم التام لله تعالى في عبوديتهم لله القاصرة وفي عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم وتوابع ذلك. ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على اسماء قومهم كل منهم يقول ويا قومي لا اسألكم عليه مالا ان اجري الا على الله. ولهذا كان من اجل الفضائل لاتباع الرسل ان يكونوا مقتدين بالرسل في هذه الفضيلة والله تعالى يجعل لهم من فضله من رفعة الدنيا والاخرة اعظم مما يتنافس فيه طلاب الدنيا. ومنها ان القدح في نيات المؤمنين وفيما من الله عليهم به من الفضائل والتألي على الله انه لا يؤتيهم من فضله من مواريث اعداء الرسل فلهذا قال نوح لقومه حين تألوا على الله وتوسلوا في ذم المؤمنين به بذلك. فقال ولا اقول للذين تزدري اعينكم لن يؤتيهم الله خيرا. الله اعلم بما في انفسهم ومنها انه ينبغي الاستعانة بالله وان يذكر اسمه عند الركوب والنزول. وفي جميع التقلبات والحركات وحمد الله والاكثار من ذكره عند النعم. لا سيما النجاة من الكربات والمشقات. كما قال تعالى وقال اركبوا فيها بسم اله مجريها ومرساها. وقال فاذا استويت انت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم للظالمين وانه ينبغي ايضا الدعاء بالبركة في نزول المنازل العارضة كالمنازل في اقامات السفر وغيره. والمنازل المستقبلة قرة كالمساكن والدور لقوله وقل رب انزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين. وفي ذلك كله من استصحاب ذكر الله ومن القوة على الحركات والسكنات. ومن قوة الثقة بالله ومن نزول بركة الله التي هي خير ما صحبت العبد في احواله كلها ما لا غنى للعبد عنه طرفة عين. ومنها ان تقوى الله والقيام بواجبات الايمان من جملة الاسباب التي تنال بها الدنيا وكثرة الاولاد والرزق وقوة الابدان. وان كان لذلك ايضا اسباب اخر. وهي السبب الوحيد الذي ليس هناك سبب سواه في نيل خير الدنيا والاخرة. والسلامة من عقابها. ومنها ان النجاة من العقوبات العامة دنيوية هي للمؤمنين. وهم الرسل واتباعهم. واما العقوبات الدنيوية العامة فانها تختص بالمجرمين. ويتبعه توابعهم من ذرية وحيوان. وان لم يكن لها ذنوب. لان الوقائع التي اوقعها الله باصناف المكذبين شملت الاطفال والبهائم. فاما ما يذكر في بعض الاسرائيليات ان قوم نوح او غيرهم لما اراد الله اهلاكهم اعقم الارحام حتى لا يتبعهم في العقوبة اطفالهم فهذا ليس له اصل. وهو مناف للامر المعلوم. وذلك مصداق لقوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة