المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فتوى في بعض فوائد واسرار وحكم الحج. بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال في كون الحج يخالف سائر العبادات. لان ذات فعل واحد وجنس واحد في زمان واحد او مكان واحد. والحج افعال كثيرة متعددة في امكنة متعددة على كيفيات وهيئات متنوعة. الجواب وبالله التوفيق والاعانة. في ذلك حكم عظيمة واسرار يتضح بعضها ويخفى بعضها فلو لم يكن فيها من الحكم الا حقيقة الحج هو استزارة الرب لاحبابه ووفود بيته. وانه اوفدهم الى كرامته ودعاهم الى واحسانه ليسبغ عليهم من النعم والكرامات واصناف الهبات ما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف. فنوع لهم سائر والمشاعر لينوع لهم الاحسان. ونقلهم من كرامة الى كرامة. ومن مائدة من موائد فضله الى مائدة من موائد كرمه ولهذا كل نوع من العبادات له خاصية وسر وزيادة فضل وايمان وتحقيق احسان ليس للاخر. وكل واحد منها مضطر اليه الوافد لهذا البيت. فتارة يطوف على بيت ربه ويكرر ذلك. يترضى لربه ويتملق له ويطوف بفنائه ويخضع لعظمته وتارة يسعى بين الصفا والمروة يتردد بين هذين المشعرين العظيمين اللذين كم تردد بينهما من رسول ونبيا وكم سعى بينهما من ولي لله وصفي وتارة يقف بالمشعر الحرام وهو عرفة وتارة بالمشعر الحرام وهو مزدلفة يبدي ما في وسعه من خشية وخضوع وخشوع وانابة وانجذاب تام الى ربه وشدة نزوع يتضرع فيها الى مولاه ويسأله مصالح دينه ودنياه يقف فيها موقف السائل المسكين الذليل ويطمع غاية الطمع في كرم المولى الجليل. وتارة يثني على ربه ويسبحه ويهلله وتارة يذكر من منن مولاهما اسبغه وحباه وجلله. وتارة يسأل ربه ان يصلح قلبه بالمحبة والانابة والاخلاص والنصيحة ويعيذه من مساوئ الاخلاق والاعمال القبيحة. فكل مطلوب ومقصود يخطر بباله يعلم انه لا غنى له عن ربه ونواله وتارة يرمي الجمرات تنبيها واشارة الى رمي الخطايا ومراغمة العدو المبين. ويقف عندها طالبا رحمة والغفران من الملك الحق المبين. غتارة يذبح قربانه تقربا الى الله بالذبح. الذي هو افضل واولى ما دخل في قوله تعالى فصل لربك وانحر. فكما انه لا يستغني عن الصلاة فليس له غنى عن شقيقتها وقرينتها. جامعا فيه بين تقربه الى الله بهذا النسك وبين الاحسان الى اخوانه باطعام البائس الفقير. وبين قبول ضيافة الله وكرامته له حيث امره بالاكل منها ثم شرع له الشروع في التحلل من محظورات الاحرام بالحلق بعد الرمي. فكان ذلك جاريا مجرى السلام من الصلاة. التي تحريمها كبير وتحليلها التسليم فتنحل عنه المحظورات التي كان ممنوعا منها وقت الاحرام اظهارا للذل والخضوع والتعظيم وشعارا وهيئة لهذا النسك الكريم. ويتفائل على فضل الله بانحلاله عن الخطايا والذنوب. وانه قد ادرك من ربه غاية المنى والمطلوب فافعال الحج واقواله كلها اسرار وحكم. المقصود منها القيام بالعبودية المتنوعة. والاخلاص للمعبود. فالحج مبناه على الحب والاخلاص والتوحيد والثناء والذكر للحميد المجيد. فانما شرعت المناسك لاقامة ذكر الله. ومن الحكم في ذلك ان هذه عبادات كن في محل واحد ينتابه المسلمون من اقطار الارض بعد المشقات وبذل نفائس النفقات. فكانت عبادة واحدة محتوية على جملة عبادات وطاعة وقربة هي عدة طاعات وقربات. فالذين جاءوا اليها من كل فج عميق. متحملين ما شاء الله يتحملوا من وسائلها وطرقها. وما لا يتم الا به. وربما كان بعضهم قد جمع بين وصوله بنفسه. والسعي في ايصال غيره الى هذا النسك محتسبا اجره راجيا ثوابه. فكان من المناسب غاية المناسبة ان يرجعوا وقد ظفروا بعدة عبادات. وحصل لهم خير من الطاعات وانواع المغانم والمكاسب والتجارات الرابحات. فيا لها من عبادة جمعت من العمل فنونا ومن الخير انواعا. وكان من حكمة الله ايضا في تعدد عباداتها ومواضعها. ان المقيمين في مكة ونواحيها يشاركون في المشقة وبذل النفقات. من كان عنها ولهذا يستعدون بالازواج والمراكب وان كان الموضع قريبا. فكأنه من تحملهم له واستعدادهم له سفر بعيد احصل لهم ما حصل للنائين ومن الحكم في ذلك ان تعدد المشاعر والمناسك وتنقلات الحجاج فيها موضعا بعد موضع فيه راحة واجمام وسبب لتكميل كل نسك منها. كأنه عبادة مستقلة. ولا شك ان التنقلات من اكبر الاسباب لتكميل العبادات ولا ريب ان البرازخ والفصول بين الاعمال سبب كبير لنشاط العمال. واعتبر ذلك لو كانت افعال الحج عملا واحدا في موضع واحد يتصل بعضه ببعض حتى يتم هل يوجد فيها هذا النشاط والرغبة واستقبال كل مشعر برغبة تامة وعزيمة صادقة ومن الحكم العظيمة في ذلك ان في اجتماع المسلمين في هذه المواضع والمشاعر يوجب تعاونهم واتفاقهم وقيام الالفة لان المسلمين اخوة ومصالحهم العامة والخاصة مرتبط بعضها ببعض. فلو كان كل قطر وبلد ليتصلون بالاخرين لضاعت مصالحهم وفاتت كثير من منافعهم وتناثرت قلوبهم وتشتت شملهم ولكن الله ولله الحمد من عليهم بهذا النسك وهذه العبادة العظيمة التي تجمعهم وتضم قاصيهم ودانيهم. ليقع التعارف ويحصل التآلف وينتفع كل منهم بالاخر ويتفاهم وفيما يمكنهم من امور دينهم ودنياهم. فكم كسب الانسان بسبب هذا النسك من ملاقاة اجلاء فضلاء. وكم تشرف بمقابلة العلماء انه بلاء وكم حصل في ذلك علوما نافعة وادابا صالحة؟ وكم ربح فيه من اخلاء واخوان واصحاب كرام واخدان؟ لولا هذه الامكنة لم يحصلوا ولولا هذه المجامع لم يدركوا فهذا من بركات الحج حيث كان مباركا وهدى للعالمين. ومن الحكم في ذلك ان الله قال ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله. فذكر للحج مقصودين عظيمين ذكر اسم الله والثناء عليه وانواع عباداته كما تقدمت الاشارة اليه. وشهود المنافع التي لا تتم الا بتعدد هذه المواضع والعبادات. وتنقلها من موضع الى اخر ومن عبادة الى اخرى كما تقدمت الاشارة اليه. فكم حصل بهذا التعدد من انواع المكاسب الدنيوية والتجارية نافي الارباح. فكل موضع فيها يقوم فيه سوق كبير من اسواق التجارة المتنوعة. التي لا يمكن احصاء مصالحها ومنافعها كل هذه من بركات هذا النسك. ومن الحكم في ذلك انه جرت عادات الامم بقيام التذكار لعظمائهم وكبرائهم. احياء لذكر وتعظيما لهم واشارة بمجدهم ومآثرهم وتنشيطا للاقتداء باعمالهم. واعظم الخلق على الاطلاق انبياء الله فهم الرجال العظماء في الحقيقة واعظمهم مطلقا الخليلان ابراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم. والحج من اوله الى اخره تذكرة لمقاماتهم السامية واحوالهم الزكية واعمالهم العالية. فكل مشعر مذكر باحوالهم وما كانوا عليه اث على الايمان بهم وتصديقهم واجلالهم واكرامهم وشدة محبتهم وقوة الاتصال بهم. الذي هو اصل الايمان واساس وطريق الفلاح والسعادة. وقد اشار الباري الى ذلك في قوله واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى. والمراد بذلك على اصح القولين جميع مقاماته في الحج بجميع مشاعره ومصلى ومعبدا وتذكارا. وقد اوضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم اتم توضيح بقوله عند كل فعل ومشعر من تلك المشاعر خذوا عني مناسككم. فمنها عبودية لله من جهة الامر والترغيب. ومن ايمان بالرسل وتعظيم واحترام وحث على الاقتداء بهم ومحبتهم. وذلك اعلى الخصال واكمل الاحوال. حتى ان فيها تذكيرا من يتصل بهؤلاء الرسل العظام. كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السعي بين الصفا والمروة. حيث ذكر قصة هاجر ام اسماعيل قال فلذلك يسعى الناس بينهما. وكما رمل هو واصحابه في طواف القدوم. فكان سنة الى يوم القيامة بهذا المعنى. فكم بين احتفالات الامم بكبرائهم ورؤسائهم وزعمائهم واقامة التذكار لهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. من هذه الاحتفالات الجميلة العظيمة التي تملأ القلوب امنا وايمانا وطمأنينة وانشراحا وايقانا وتعظيما وتوقيرا لمن تعظيمهم تقيرهم غاية الفوز والفلاح. والاقتداء بهم هو الاصل والطريق في ادراك كل نجاح. فالمسلمون اذا وصلوا وحصلوا في كل مشعل من هذه المشاعر جعلوا افعال نبيهم واحواله وشخصه الكريم نصب اعينهم عالمين انه لا تتم امورهم كلها ولا تكمل الا بتمام الاسوة والقدوة به. فمن انواع الكرامات التي يفيضها الله عليهم من اجلها. زيادة الايمان بينهم وقوة المحبة اليه التي هي من اعظم واجبات الايمان وشروطه. وصلى الله وسلم عليه وعلى اخوانه من الانبياء والمرسلين. وعلى اتباعهم الى الى يوم الدين وسلم تسليما. تحرر في الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة والف من الهجرة