بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد روى البخاري ومسلم عن انس رضي الله عنه قال كان اكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب عذاب النار هذا الدعاء من اعظم الادعية واجلها شأنا وهو من جوامع الدعاء وقد جمع خير الدنيا والاخرة وهو من ادعية القرآن التي ذكرها الله سبحانه في معرظ الثناء على اهل الايمان بسياق ايات الحج قال الله تعالى ومنهم من يقول ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار فمدح الله تعالى في هذه الاية من يدعوه سبحانه بهذا الدعاء المشتمل على طلب الحسنة في الدنيا والاخرة قال الحافظ ابن كثير رحمه الله فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فان الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنيء وثناء جميل الى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فانها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا واما الحسنة في الاخرة فاعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الامن من الفزع الاكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من امور الاخرة الصالحة واما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير اسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والاثام وترك الشهوات والحرام. انتهى كلامه رحمه الله ويعد هذا الدعاء من اجمع الادعية لخيري الدنيا والاخرة ولهذا وردت فيه احاديث كثيرة تدل على فضله وعظيم مكانته وانه من اكثر ادعية النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث انس رضي الله عنه المتفق على صحته قال كان اكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار وزاد مسلم في روايته وكان انس اذا اراد ان يدعو بدعوة دعا بها فاذا اراد ان يدعو بدعاء دعا بها فيه وروى ابو داوود عن عبد الله ابن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بين الركنين ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار وعن حبيبي ابن صهبان الكاهلي قال كنت اطوف بالبيت وعمر بن الخطاب يطوف ما له قول الا ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار قال ما له هجير غيرها. رواه احمد في الزهد قال محمد بن الحسن الاجري رحمه الله في كتابه مسألة الطائفين قال فمن احب ان يكون من هؤلاء خشع لله عز وجل الكريم في طوافه وكان شغله بقلبه وبلسانه بالله العظيم متصل وعن غيره من المخلوقين منفصل يمشي بالسكينة والوقار دائم الذكر طويل الفكر تارة يحذر وتارة يرجو ان قال فيما بين الركنين ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار قالها بحضور فهم وتذلل وافتقار فمن كان في طوافه بهذا الوصف رجوت ان يجيب الله الكريم دعوته ويرحم عبرته ويباهي به ملائكته. وتؤمن الملائكة على دعائه ان شاء الله وعن انس رضي الله عنه قال قال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لم تعطني مالا فاتصدق به فابتليني ببلاء يكون او قال فيه اجر فقال سبحان الله لا تطيقه الا قلت اللهم اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار رواه البخاري في الادب المفرد وروى مسلم في صحيحه عن انس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كنت تدعو بشيء او تسأله اياه؟ قال نعم كنت اقول اللهم ما كنت معاقبي به في الاخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه او لا تستطيعه افلا قلت اللهم اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه قال ابن تيمية رحمه الله فهذا حمله خوفه من عذاب النار ومحبته لسلامة عاقبته على ان يطلب تعجيل ذلك في الدنيا وكان مخطئا في ذلك غالطا والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكرامته كثير جدا وروى البخاري في الادب المفرد ان قوما اتوا انس بن مالك رضي الله عنه ليدعو لهم فقيل له ان اخوانك اتوك لتدعو الله لهم قال اللهم اغفر لنا وارحمنا واتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار فاستزادوه فقال مثلها فقال ان اوتيتم هذا فقد اوتيتم خير الدنيا والاخرة قال الطيبي رحمه الله انما كان يكثر من هذا الدعاء لانه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والاخروية وبيان ذلك انه كرر الحسنة ونكرها تنويعا وقد تقرر في علم المعاني ان النكرة اذا اعيدت كانت الثانية غير الاولى المطلوب في الاولى الحسنات الدنيوية من الاعانة والتوفيق والوسائل التي بها اكتساب والمبرات بحيث تكون مقبولة عند الله وفي الثانية ما يترتب من الثواب والرضوان في العقبى وقوله وقنا عذاب النار تتميم اي ان صدر منا ما يوجبها من التقصير والعصيان فاعف عنا وقنا عذاب النار فحق لذلك ان يكثر من هذا الدعاء قوله ربنا هذا نداء فيه اقرار بالربوبية المستلزمة لتوحيد الالوهية قال ابن القيم رحمه الله وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة اللهم كما في سيد الاستغفار اللهم انت ربي لا اله الا انت خلقتني وانا عبدك وجاء الدعاء المجرد مصدرا بلفظ الرب نحو قول المؤمنين ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقول ادم ربنا ظلمنا انفسنا وقول موسى ربياني ظلمت نفسي فاغفر لي وقول نوح ربي اني اعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين ربي اغفر لي ربي اغفر لي وسر ذلك ان الله تعالى يسأل بربوبيته المتضمنة قدرته واحسانه وتربيته عبده واصلاح امره ويثنى عليه بالهيته المتضمنة اثبات ما يجب له من الصفات العلا والاسماء الحسنى وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك فاما الدعاء فقد ذكرنا منه امثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد يجيء الا مصدرا باسم الرب واما الثناء بحيث وقع فمصدر بالاسماء الحسنى وقوله اتنا في الدنيا حسنة دعاء بخير الدنيا كله فان الحسنة المطلوبة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي فقوله في الدنيا حسنة يشمل الرزق الهنيء والدار الرحمة والزوجة الصالحة والولد الصالح والعلم النافع والعمل الصالح والامن والثناء الجميل كل هذا داخل فيه وهذا لا يعني الحصر وانما يعني التوظيح فمن قال الحسنة في الدنيا هي الزوجة الصالحة هذا حق ومن قال الولد الصالح هذا حق ومن قال الرزق الحلال فهذا حق لان هذه كلها من حسنات الدنيا فالتفسير لللفظ الجامع بشيء من افراده يعد من قبيل التفسير بالمثال وليس للحصر وقوله وفي الاخرة حسنة اي مغفرة ورحمة وشفاعة وفوزا ونجاة وجنة عالية وقد تقدم قول ابن كثير رحمه الله واما الحسنة في الاخرة فاعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه. من الامن من الفزع الاكبر في العرصات وتيسير الحساب غير ذلك من امور الاخرة الصالحة قال ابن القيم رحمه الله قال الحسن في قوله تعالى ربنا اتنا في الدنيا حسنة هي العلم والعبادة وفي الاخرة حسنة هي الجنة. وهذا من احسن التفسير فان اجل حسنات الدنيا العلم النافع والعمل الصالح وقوله وقنا عذاب النار اي اصرف عنا عذابها. وهذا يتضمن النجاة من النار ومن الاسباب التي تفضي بالعبد الى النار وزاد في هذا الدعاء وقنا عذاب النار لان حصول الحسنة في الاخرة قد يكون بعد عذاب فجاء هذا الدعاء فيه التصريح بطلب نعيم الاخرة مع الوقاية من النار وفي قوله اتنا وقنا اتى به بصيغة ظمير الجمع اي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية وكما يقول ابن القيم رحمه الله قد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الافراد فتأمله واذا تأملت ادعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ونحو دعاء اخر البقرة واخر ال عمران واولها وهو اكثر ادعية القرآن الكريم قال الشوكاني رحمه الله وقد اختلف في تفسير الحسنة في الدنيا والحسنة في الاخرة فروي عن علي رضي الله عنه انه قال الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الاخرة الحور وعذاب النار امرأة السوء وقال الحسن البصري الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الاخرة الجنة ومعنى وقنا عذاب النار احفظنا من كل شهوة وذنب وقيل الحسنة في الدنيا الصحة والكفاف والعفاف والتوفيق للخير والحسنة في الاخرة الثواب والرحمة وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والحاصل انه لا عموم لانه لا صيغة عامة ها هنا لان وقوع النكرة في حيز الاثبات لا يفيد العموم الا ان العبد يعطى في الدنيا حسنة واحدة وفي الاخرة حسنة واحدة ومعلوم انه لو كان المطلوب حسنة واحدة لم يكن هذا الدعاء من جوامع الكلم ولا وقعت منه صلى الله عليه وسلم المواظبة عليه. حتى كان اكثر دعائه الظاهر ان المراد انه يكون ما يعطاه في الدنيا حسنة فيكون كل خصلة من خصال الدنيا حسنة وكل خصلة من خصال الاخرة حسنة او تفسر الحسنة في الدنيا بفرد من افرادها يستلزم سائر الافراد وتفسر الحسنة في الاخرة بفرد من افرادها يستلزم جميع الافراد وذلك بان يقال المراد حصن المعادي وحسن المعاش وحسن الحياة وحسن الممات فان ذلك يستلزم ان يكون كل امور دنياه واخرته حسنة قال النووي واظهر الاقوال في تفسير الحسنة في الدنيا انها الصحة والعافية وفي الاخرة التوفيق للخير والمغفرة ولا يخفاك ان الصحة داخلة في العافية والتوفيق للخير يستلزم عدم وجود الشر. فلا ذنب حتى يغفر ولو فسر حسنة الدنيا بمجرد العافية وحسنة الاخرة بها لكان ذلك اولى وانسب لما سيأتي من ان سؤال العافية يستلزم حصول المطالب كلها للعبد. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله وقال القرطبي رحمه الله والذي عليه اكثر اهل العلم ان المراد بالحسنتين نعم الدنيا والاخرة. وهذا هو الصحيح فان اللفظ يقتضي هذا كله فانها حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل وحسنة الاخرة الجنة باجماع واسأل الله عز وجل ان يوفقنا اجمعين لكل خير وان يصلح لنا شأننا كله والا يكلنا الى انفسنا طرفة عين انه سميع قريب مجيب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته