بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فقد روى ابن ماجة وغيره عن ابي الدرداء رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال الفقر تخافون والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب احدكم ازاغة الا هي وايم الله لقد تركتكم على مثل البيظاء ليلها ونهارها سواء يبقى الفقر هاجسا مؤرقا وامرا مقلقا لا سيما عندما يبتلى العباد بابتلاءات يكون فيها نقص في الاموال والارزاق والثمار ففي ظل مثل هذه الابتلاءات يذكر الناس الفقر ويتباحثون كثيرا في اسباب علاجه وتخطي ازماته وتجاوز مشكلاته ولكن الامر كما ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم تركتكم على مثل البيظاء ليلها ونهارها سواء اي ان ديننا المبارك دين عظيم فيه حل لجميع المشكلات وتجاوز لجميع الازمات وتخط لكل المحن هو دين عظيم مبارك فمن وفقه الله للاخذ باداب الدين وهداياته وتوجيهاته وارشاداته هدي الى صراط مستقيم في اي محنة كانت او اي بلية نزلت فلا بد من فزع الى دين الله عز وجل في المشكلات كلها والمصائب جميعها واذا كان التخوف لدى الناس من الفقر الذي هو قلة ذات اليد يشتد ويزداد في بعض الظروف والاحوال الا ان نوعا من الفقر اخر ينبغي ان تشتد العناية به بشكل اعظم واكبر روى ابن حبان في صحيحه عن ابي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابا ذر اترى كثرة المال هو الغنى قلت نعم يا رسول الله قال فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت نعم يا رسول الله وهذا هو المفهوم السائد للفقر لدى جميع الناس فقال النبي عليه الصلاة والسلام انما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب نعم من كان غني القلب فانه لا يظره شيء وان قلت الذات يده بل لا يزال راضيا قنوعا بما قسم الله تبارك وتعالى له ومن كان فقير القلب وان اوتي من المال النصيب الاوفر فانه لا يزال يرى حظه قليلا ونصيبه مبخوسا ويطلب المزيد كما في حديث انس ابن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو ان لابن ادم واديا من ذهب احب ان يكون له واديان ولن يملأ فاه الا التراب ويتوب الله على من تاب. رواه البخاري ورواه احمد وزاد لابتغى اليهما ثالثا اي وهلم جرا الى ما لا نهاية له هذا طبع في الانسان الا من رحم الله وقوله ولن يملأ فاه الا التراب اي لا يزال حريصا على جمع الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره وقد حث صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث على التوبة لان الغالب ان الذي عنده طمع شديد في المال قد لا يتحرز من بيوع محرمة وان دواء ذلك التوبة الى الله تبارك وتعالى فعاد الامر في هذه المشكلة وفي كل مشكلة الى القلب اصلاحا له واقامة له على طاعة الله عز وجل ايمانا وتوكلا ورضا وقناعة وتوبة نصوحا من كل تفريط بدر او تقصير حصل وغير ذلك من معاني الايمان العظيمة وهداياته الجليلة ومن يتأمل هدايات هذا الدين في علاج هذا المؤرق اعني الفقر ومشكلته التي تتأزم بها كثير من القلوب يرى فيه هدايات عظيمة وتوجيهات سديدة فيها صلاح للعبد ليس في امر دنياه فقط بل في صلاح الدين والدنيا والاخرة كما جمعت هذه الثلاثة في الدعاء العظيم المبارك اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة امري واصلح لي دنياي التي فيها معاشي واصلح لي اخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر. رواه مسلم وهنا تتأكد حاجة العبد الى اليقين بالله. وان الامور كلها بيد الله وان الرزاق جل في علاه في السماء وفي السماء رزقكم وما توعدون يا ايها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم اولم يروا ان الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون اولم يعلموا ان الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له والايات في هذا المعنى كثيرة فربنا جل في علاه هو القابض الباسط الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل الذي بيده الامر لا شريك له فاساس الامور وقاعدة صلاحها ايمان صادق بالله تبارك وتعالى وحسن توكل عليه سبحانه وما من دابة في الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين لابد من تحقيق هذا الايمان واقامة هذا الاصل العظيم في القلوب حتى يكون ذل العبد وفزعه والتجاؤه ورقه لربه سبحانه وحينئذ لا يلتفت الى مخلوق ولا يذل له لنيل شيء من حطام الدنيا وانما يكون ذله وخضوعه وانكساره لمولاه وسيده سبحانه ان من يتوكل على الله حقا يفتح الله له من ابواب الرزق والتيسير والتوفيق من حيث يحتسب العبد ومن حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه يقول نبينا صلى الله عليه وسلم لو انكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا وفي هذا الباب العظيم حث الاسلام على العمل ورغب فيه وحض عليه قال الله تعالى تمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور وقال جل وعلا فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله فينبغي ان يكون المرء في هذا الباب هماما نشيطا بعيدا عن التواني والعجز والكسل حتى وان لم يكن عنده شيء يتحرك به من المال فان القليل مع الهمة وحسن التوكل يكون كثيرا وبين عليه الصلاة والسلام ان المسألة لا تحل للرجل القوي فقد جاءه رجلان من الانصار يسألانه من الصدقة فرفع بصره اليهما فاذا هما جلدين اي قويين قال ان شئتما اعطيتكما ولا تحل لغني ولا لقوي مكتسب اي انه يستطيع ان يكتسب ببدنه وحث الاسلام على العمل والبعد عن التقاعس والكسل مع الثقة بالله وحسن الالتجاء اليه سبحانه وارشد اهل الفقر وقلة ذات اليد الى الاقتصاد في المعيشة والقناعة بما اتى الله عبده وعدم التطلع الى ما في ايدي من كانوا اكثر منهم مالا ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وجاء ايضا بالتعوذ بالله من الفقر فانه لا يعيذ منه الا الله فقد صح في الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم انه قال اللهم اني اعوذ بك من الفقر والقلة والذلة وكان يقول اذا اصبح ثلاثا واذا امسى ثلاثا اللهم اني اعوذ بك من الكفر ومن الفقر اللهم اني اعوذ بك من عذاب القبر لا اله الا انت ثم ان كثيرا من الناس يظن ان من وسع عليه في المال وكثر الرزق في يده ان هذا اكرام من الله له ويظنون في الوقت نفسه ان من ضيق عليه في المال وقدر عليه فيه ان هذا من اهانة الله له وهذا ظن خاطئ سائد عند عدد ليس بالقليل من الناس يقول الله جل وعلا فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه فيقول ربي اكرمن واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي اهانن هكذا يظنون قال الله تعالى كلا اي ليس الامر كما يظن هؤلاء بل ان من وسع الله عليه في المال او ضيق عليه في المال كل منهما مبتلى هذا مبتلى بغناه وهذا مبتلى بفقره والحياة الدنيا ميدان ابتلاء وامتحان الغنى فتنة والفقر فتنة ولهذا جاء في السنة الصحيحة التعود منهما قال عليه الصلاة والسلام اللهم اني اعوذ بك من فتنة الغنى واعوذ بك من فتنة الفقر فهذا فتنة وهذا فتنة والمؤمن الموفق فائز في كلا الامتحانين كما قال عليه الصلاة والسلام عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذاك لاحد الا للمؤمن ان اصابته سراء شكر فكان خيرا له وان اصابته ضراء صبرا فكان خيرا له فالمؤمن في سراءه فائز بثواب الشاكرين وفي ضراءه فائز بثواب الصابرين هذا وان من اعظم خصال المؤمن تحقيق عبودية الافتقار الى الله والاضطرار اليه فهي رح العبادة ولبها بان يعلم علم يقين انه مفتقر الى الله عز وجل محتاج اليه لا يستغني عنه طرفة عين وذلك ان الانسان بل وجميع المخلوقات عباد لله الفقراء اليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم والههم لا اله لهم سواه المخلوق ليس له من نفسه شيء اصلا بل نفسه وصفاته وافعاله وما ينتفع به او يستحقه او غير ذلك انما هو من خلق الله والله عز وجل رب ذلك كله. ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره ومدبر شؤونه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده فالمخلوق فقير الى الله محتاج اليه من كل وجه يقول الله تعالى يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله. والله هو الغني الحميد فليس المخلوق مستغنيا بنفسه ولا بغير ربه سبحانه وقد جاء في الحديث القدسي ان الله تبارك وتعالى يقول يا عبادي كلكم ضال الا من هديته فاستهدوني اهدكم يا عبادي كلكم جائع الا من اطعمته فاستطعموني اطعمكم يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم يا عبادي انكم تخطئون بالليل والنهار وانا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله هذا يقتضي ان جميع الخلق مفتقرون الى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في امور دينهم ودنياهم وان العباد لا يملكون لانفسهم شيئا من ذلك كله وان من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق فانه يحرمهما في الدنيا ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه اوقته خطاياه في الاخرة فالامور كلها بيد الله. الهداية والعافية والرزق والصحة وغير ذلك. وما شاء سبحانه من ذلك وما لم يشأ لم يكن. انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون فعطاؤه سبحانه كلام وعذابه كلام فاذا اراد شيئا من عطاء او عذاب او غير ذلك قال له كن فيكون فكيف يلجأ الى سواه او يخضع لمن دونه او يطلب ويدعى غيره ولهذا قال الله تعالى فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج الى ذلك فاذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا له واذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا له ان فاقرأ المخلوق واحتياجه لربه امر ذاتي له لا وجود له بدونه لكن المخلوقين يتفاوتون في ادراك ذلك الافتقار او العزوب عنه والعبد فقير الى الله من جهتين. من جهة العبادة ومن جهة الاستعانة. كما قال الله سبحانه اياك نعبد واياك نستعين فالعبد يفتقر الى الله من جهة انه معبوده الذي يحبه حب اجلال وتعظيم وقلبه لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن الا بعبادة ربه والانابة اليه ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن. اذ فيه فقر ذاتي الى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه وبهذا يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة والعبد يفتقر الى الله من جهة استعانته به للاستسلام لامره والانقياد لحكمه والخضوع لشرعه اذ لا يقدر على تحصيل شيء من ذلك والقيام به الا اذا اعانه الله نسأل الله ان يوفقنا اجمعين لتحقيق ذلك وحسن القيام به والا يكلنا الى انفسنا طرفة عين وان يهدينا اليه صراطا مستقيما. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته