بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم حنين اثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة فاعطى الاقرع بن حابس مائة من الابل واعطى عيينة مثل ذلك واعطى اناسا من اشراف العرب واثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله ان هذه لقسمة ما عدل فيها وما اريد فيها وجه الله قال فقلت والله لاخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاتيته فاخبرته بما قال قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل ان لم يعدل الله ورسوله قال ثم قال يرحم الله موسى قد اوذي باكثر من هذا فصبر. متفق عليه وفي حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها اهل الافك ما قالوا فبرأها الله وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم ان كنت بريئة فسيبرئك الله. وان كنت الممتي بذنب فاستغفري الله وتوبي اليه قلت اني والله لا اجد مثلا الا ابا يوسف وصبر جميل والله المستعان على ما تصفون وانزل الله ان الذين جاءوا بالافك العشرة الايات متفق عليه هذا نوع من انواع الصبر ومجال من مجالاته الا وهو الصبر على اذى الخلق قال الله تعالى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وقال تعالى ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واودوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله. ولقد جاءك من نبأ المرسلين وقال تعالى وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون والايات كثيرة في هذا المعنى ومن المعلوم ان الانسان في هذه الحياة لا يسلم من اذى الخلق لان الناس اجناس ومتفاوتون في اخلاقهم ومعادنهم وطبائعهم وتعاملاتهم فينبغي للمسلم ان يكون متحليا بالصبر ليعظم بذلك اجره عند الله فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم اعظم اجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم. رواه ابن ماجة وقد ذكر اهل العلم امورا تعين المرأة على الصبر على اذى الخلق ولشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيلات نافعة تعين العبد على ذلك قال رحمه الله ويعين العبد على هذا الصبر عدة اشياء احدها ان يشهد ان الله سبحانه خالق افعال العباد حركاتهم وسكناتهم واراداتهم فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة الا باذنه ومشيئته فالعباد اله فانظر الى الذي سلطهم عليك ولا تنظر الى فعلهم بك تسترح من الهم والغم الثاني مما يعين العبد على هذا الصبر ان يشهد ذنوبه وان الله انما سلطهم عليه بذنبه كما قال تعالى وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير فاذا شهد العبد ان جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم واذا رأيت العبد يقع في الناس اذا اذوه ولا يرجع الى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم ان مصيبته مصيبة حقيقية واذا تاب واستغفر وقال هذا بذنوبي صارت في حقه نعمة قال علي ابن ابي طالب رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلم لا يرجون عبد الا ربه ولا يخافن عبد الا ذنبه وروي عنه وعن غيره ما نزل بلاء الا بذنب ولا رفع الا بتوبة الثالث ان يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر كما قال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين ولما كان الناس عند مقابلة الاذى ثلاثة اقسام ظالم يأخذ فوق حقه ومقتصد يأخذ بقدر حقه ومحسن يعفو ويترك حقه ذكر الاقسام الثلاثة في هذه الاية فاولها للمقتصدين ووسطها للسابقين واخرها للظالمين ويشهد نداء المنادي يوم القيامة الا ليقم من وجب اجره على الله فلا يقم الا من عفا واصلح واذا شهد مع ذلك فوات الاجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو الرابع ان يشهد انه اذا عفا واحسن اورثه ذلك من سلامة القلب لاخوانه ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وارادة الشر وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا واجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام اظعافا مظاعفة ويدخل في قوله تعالى والله يحب المحسنين فيصير محبوبا لله ويصير حاله حال من اخذ منه درهم فعوض عليه الوف من الدنانير فحينئذ يفرح بما من الله عليه اعظم فرحا يكون الخامس ان يعلم انه ما انتقم احد قط لنفسه الا اورثه ذلك ذلا يجده في نفسه فاذا عفا اعزه الله تعالى وهذا مما اخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث يقول ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا فالعز الحاصل له بالعفو احب اليه وانفع له من العز الحاصل له بالانتقام فان هذا عز في الظاهر وهو يورث في الباطن ذلا والعفو ذل في الباطن وهو يورث العز باطنا وظاهرا السادس وهي من اعظم الفوائد ان يشهد ان الجزاء من جنس العمل وانه نفسه ظالم مذنب وان من عفا عن الناس عفا الله عنه ومن غفر لهم غفر الله له فاذا شهد ان عفوه عنهم وصفحه واحسانه مع اساءتهم اليه سبب لان يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن اليه على ذنوبه ويسهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة السابع ان يعلم انه اذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه وتفرق عليه قلبه وفاته من مصالحه ما لا يمكن استدراكه ولعل هذا اعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم فاذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي اهم عنده من الانتقام الثامن ان انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه وانتقامه لها فان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط فاذا كان هذا خير خلق الله واكرمهم على الله لم ينتقم لنفسه مع ان اذاه اذى الله ويتعلق به حقوق الدين ونفسه اشرف الانفس وازكاها وابرها وابعدها من كل خلق مذموم واحقها بكل خلق جميل ومع هذا فلم يكن ينتقم لها فكيف ينتقم احدنا لنفسه التي هو اعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده ان ينتقم لها ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها التاسع ان اوذي على ما فعله لله او على ما امر به من طاعته ونهي عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام فانه قد اوذي في الله فاجره على الله العاشر ان يشهد معية الله معه اذا صبروا ومحبة الله له اذا صبر ورضاه ومن كان الله معه دفع عنه انواع الاذى والمظرات ما لا يدفعه عنه احد من خلقه قال تعالى واصبروا ان الله مع الصابرين وقال تعالى والله يحب الصابرين الحادي عشر ان يشهد ان الصبر نصف الايمان فلا يبذل من ايمانه جزءا في نصرة نفسه فاذا صبر فقد احرز ايمانه وصانه من النقص والله يدافع عن الذين امنوا الثاني عشر ان يشهد ان صبره حكم منه على نفسه وقهر لها وغلبة لها فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة لم تطمع في استرقاقه واسره والقائه في المهالك ومتى كان مطيعا لها سامعا منها مقهورا معها لم تزل به حتى تهلكه او تتداركه رحمة من ربه فلو لم يكن في الصبر الا قهره لنفسه ولشيطانه فحين اذ يظهر سلطان القلب وتثبت جنوده ويفرح ويقوى ويطرد العدو عنه الثالث عشر ان يعلم انه اذا صبر فالله ناصره ولابد الله وكيل من صبر واحال ظالمه على الله ومن انتصر لنفسه وكله الله الى نفسه فكان هو الناصر لها فاين من ناصره الله خير الناصرين الى من ناصره نفسه اعجز الناصرين واضعفه الرابعة عشر ان صبره على اذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره ولو الناس له فيعود بعد ايذائه له مستحيا منه نادما على ما فعله بل يصير مواليا له وهذا معنى قوله تعالى ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم الخامس عشر ربما كان انتقامه ومقابلته سببا لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في انواع التي يوصلها اليه كما هو المشاهد فاذا صبر وعفا امن من هذا الضرر والعاقل لا يختار اعظم الضررين بدفع ادناهما وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه وكم قد ذهبت نفوس ورئاسات واموال لو عفا المظلوم لبقيت عليه السادس عشر ان من اعتاد الانتقام ولم يصبر لابد ان يقع في الظلم فان النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها لا علما ولا ارادة وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق فان الغضب يخرج بصاحبه الى حد لا يعقل ما يقول ويفعل فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز اذ انقلب ظالما ينتظر المقت والعقوبة السابع عشر ان هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب اما لتكفير سيئة او رفع درجة فاذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته الثامن عشر ان عفوه وصبره من اكبر الجند له على خصمه فان من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه وخوفه وخشيته منه ومن الناس فان الناس لا يسكتون عن خصمه وان سكت هو فاذا انتقم زال ذلك كله ولهذا تجد كثيرا من الناس اذا شتم غيره او اذاه يحب ان يستوفي منه فاذا قابله استراح والقى عنه ثقلا كان يجده التاسع عشر انه اذا عفا عن خصمه استشعرت نفس خصمه انه فوقه وانه قد ربح عليه فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعفو العشرون انه اذا عفا وصفح كانت هذه حسنة فتولد له حسنة اخرى وتلك الاخرى تولد له اخرى وهلم جرا فلا تزال حسناته في مزيد فان من ثواب الحسنة الحسنة كما ان من عقاب السيئة السيئة بعدها وربما كان هذا سببا لنجاته وسعادته الابدية فاذا انتقم وانتصر زال ذلك الحاصل ان هذه امور عظيمة تعين العبد على الصبر على اذى الخلق اذا وفق العبد لتأملها باناة وحسن تفهم لها حتى تتمكن من نفسه وتتعمق في قلبه ووفق لاستحضارها في المقامات التي يحصل له فيها اذى من الخلق ونسأل الله ان ينفعنا اجمعين وان يصلح لنا شأننا كله والا يكلنا الى انفسنا طرفة عين. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته