بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول رب اعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي اللهم اجعلني لك شاكرا لك ذاكرا لك راهبا لك مطواعا لك مخبتا وفي رواية اليك مخبتا اليك اواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي واجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري رواه الترمذي وابو داود الاخبات صفة عظيمة من صفات القلوب كما قال الله تبارك وتعالى فتخبت له قلوبهم لها عوائد جليلة وبركات متنوعة على المؤمن اثنى الله عز وجل على المتصفين بها ثناء عظيما وذكر لهم موعودا كريما وبشارة عظمى بكل خير في الدنيا والاخرة فجدير بكل عبد مؤمن ان يعرفها وان يجاهد نفسه على ان يكون من اهلها تحليا واتصافا قال ابن القيم رحمه الله الخبت في اصل اللغة المكان المنخفض من الارض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقال هم المتواضعون وقال مجاهد المخبت المطمئن الى الله عز وجل قال والخبت المكان المطمئن من الارظ وقال الاخفش الخاشعون وقال ابراهيم النخعي المصلون المخلصون وقال الكلبي هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن اوس هم الذين لا يظلمون واذا ظلموا لم ينتصروا وهذه الاقوال تدور على معنيين التواضع والسكون الى الله عز وجل ولذلك عدي بالى تظمينا لمعنى الطمأنينة والانابة والسكون الى الله تعالى وقال رحمه الله والمخبت المطمئن فان الخبت من الارض مطمئن فاستنقع فيه الماء فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمئن كالبقعة المطمئنة من الارض التي يجري اليها الماء فيستقر فيها ومن اراد ان يعرف قدر هذه الصفة وعلي مكانتها فليتأمل قول الله سبحانه وبشر المخبتين والقاعدة عند العلماء ان المتعلق اذا حذف عما وشمل كل خير وفضيلة في الدنيا والاخرة فالبشارة هنا لم تقيد وانما ذكرت هكذا مطلقة لتتناول كل فضيلة وخير وبركة في الدنيا والاخرة وليتأمل في عظيم ثوابهم عند الله قول الله عز وجل ان الذين امنوا وعملوا الصالحات واخبتوا الى ربهم اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون اي خضعوا لله واستكانوا لعظمتي وذلوا لسلطانه وانابوا اليه بمحبته وخوفه ورجائه والتضرع اليه وذكر الاخبات عقب الايمان والعمل مع انه داخل فيه مرتبا عليه من الثواب ما ذكر فيه بيان لعظم شأن الاخبات وعظم مكانة المخبتين عند الله وعظم ثوابهم والاخبات ثمرة من ثمار حسن الايمان بالقرآن وحي الله عز وجل وذكره الحكيم الذي به تحيا القلوب قبلت قال الله عز وجل وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين امنوا الى صراط مستقيم ولنتأمل في هذين المعطوفين فيؤمن به اي الوحي فتخبت له قلوبهم اي اثرا من اثار حسن ايمانهم بوحي الله عز وجل وبهذا يعلم ان الاخبات صفة للقلب فالقلب يخبت الى الله ويخبت لله جل في علاه كما في الايتين فتخبت له قلوبهم واخبتوا الى ربهم وهو اخبات لله واخبات الى الله وهو كما تقدم سكون وطمأنينة وخشوع وخضوع وذل لله تبارك وتعالى فاذا اخبت القلب الى الله عز وجل تحلى بجميل الصفات وحسن النعوت وطيب الاخلاق والاداب وقد وردت هذه الاية في سورة الحج في سياق ذكر لاقسام القلوب قال الله تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله اياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وان الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين امنوا الى صراط مستقيم قال ابن تيمية رحمه الله جعل الله القلوب ثلاثة اقسام قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة وذلك لانها اما ان تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا واذعانا او لا تكون يابسة جامدة فالاول هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الايمان ولا يرتسم فيه العلم. لان ذلك يستدعي محلا لينا قابلا والثاني لا يخلو اما ان يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه او يكون لينه مع ضعف وانحلال فالثاني هو الذي فيه مرض والاول هو القوي اللين وذلك ان القلب بمنزلة اعضاء الجسد كاليد مثلا فاما ان تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش او تبطش بعنف فذلك مثل القلب القاسي او تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض او تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم فبالرحمة خرج عن القسوة وبالعلم خرج عن المرض فان المرظ من الشكوك والشبهات ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والايمان والاخبات وقال رحمه الله سورة الحج فيها مكي ومدني وليلي ونهاري وسفري وحضري وشتائي وصيفي وتضمنت منازل المسير الى الله بحيث لا يكون منزلة ولا قاطع يقطع عنها وفيها ذكر القلوب الاربعة الاعمى والمريض والقاسي والمخبت الحي المطمئن الى الله وفيها ايضا ذكر لصفات المخبتين الجامعة التي ان وجدت في العبد مجتمعة دلت على صدق اخبات به الى الله جل في علاه وذلك في قوله سبحانه وبشر المخبتين الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما اصابهم والمقيم الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وهي صفات اربع ذكرها الله عز وجل صفات للمخبتين اولها وجل القلب عند ذكر الله عز وجل والوجل كما قال العلماء خوف مع محبة وهيبة فهذه صفة القلب المخبت الى الله عز وجل. انه اذا ذكر الله عنده وجل قلبه وهذا الوجل لقلبه ناشئ عن حسن معرفته بربه كما قال الله تعالى انما يخشى الله من عباده العلماء اي بالله والصفة الثانية الصبر على اقدار الله المؤلمة وما من عبد الا وهو مبتلى بانواع من البلايا في هذه الحياة الدنيا ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين والصفة الثالثة اقامة الصلاة اي حفاظا عليها واتيانا بها قائمة باركانها وشروطها وواجباتها خضوعا وخشوعا وحسن تقرب الى الله سبحانه نعم والصفة الرابعة بذل المال وانفاقه في سبيل الله عز وجل في وجوه الخير وابوابه المتنوعة من من واجب ومستحب طيبة بذلك النفس راجية موعود الله جل في علاه وعظيم ثوابه قال ابن القيم رحمه الله فذكر للمخبتين اربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على اقداره واتيانهم بالصلاة قائمة الاركان ظاهرا وباطنا واحسانهم الى عباده بالانفاق مما اتاهم وهذا انما يتأتى للقلب المخبت. قال ابن عباس رضي الله عنهما المخبتين المتواضعين وقال مجاهد المطمئنين الى الله وقال الاخفش الخاشعين وقال ابن جرير الخاضعين قال الزجاج اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الارض. وكل مخبت متواضع فالاخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله فان قيل ان كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدي بالى في قوله واخبت الى ربهم قيل ظمن معنى انابوا واطمئنوا وتابوا وهذه عبارات السلف في هذا الموضع والمقصود ان القلب المخبت ضد القاسي والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتة اليه وبعضها قاسية وجعل للقسوة اثارا وللاخبات اثارا فمن اثار القسوة تحريف الكلم عن موضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ما امر به علما وعملا ومن اثار الاخبات وجل القلوب لذكره سبحانه والصبر على اقداره والاخلاص في عبوديته والاحسان الى خلقه والاخبات مرتقى يتطلب من العبد ان يجاهد نفسه الى ان تسكن وتطمئن بنزولها منازل المخبتين ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في ثنايا حديثه عن منزلة الاخبات النفس جبل عظيم شاق في طريق السير الى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له الا على ذلك الجبل فلا بد ان ينتهي اليك ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه. وانه ليسير على من يسره الله عليه وفي ذلك الجبل اودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعليق وشبرق ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ولا سيما اهل الليل المدلجين فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الاخبات والا تعلقت بهم تلك الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير فان اكثر السائرين فيه رجعوا على اعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته والشيطان على قلة ذلك الجبل اي اعلاه. يحذر الناس من صعوده وارتفاعه. ويخوفهم منه فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه فاذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن امانا وحينئذ يسهل السير وتزيل عنه عوارض الطريق ومشقة عقباته ويرى طريقا واسعا امنا يفضي به الى المنازل والمناهل وعليه الاعلام وفيه الاقامات قد اعدت لركب الرحمن فبين العبد وبين السعادة والفلاح. قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وعودا على بدء جدير بالمؤمن ان يدعو الله عز وجل كثيرا ان يجعله من عباده المخبتين كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه رب اعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي. اللهم اجعلني لك شاكرا لك ذاكرا لك راهبا لك مطواعا لك مخبتا وفي رواية اليك مخبتا اليك اواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي واجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل قيمة صدري وبهذا الدعاء الجامعي بدأنا وبه نختم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته