بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فعن علي رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وامر عليهم رجلا من الانصار وامرهم ان يطيعوه فغضب عليهم وقال اليس قد امر النبي صلى الله عليه وسلم ان تطيعوني قالوا بلى قال عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وانقذتم نارا ثم دخلتم فيها فجمعوا حطبا فاوقدوا فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم الى بعض قال بعضهم انما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارا من النار افندخلها فبينما هم كذلك اذ خمدت النار وسكن غضبه فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها ابدا انما الطاعة في المعروف متفق عليه الحديث هنا عن عبودية عظيم شأنها جليل امرها كبير خطبها جدير بكل مسلم ان تعظم عنايته بها ففيها بر الاماني وسبيل النجاة ونيل السعادة في الدنيا والاخرة انها عبودية الفرار الى الله جل في علاه للنجاة من سخطه ومن النار كما قال الله تعالى في سورة الذاريات ففروا الى الله اني لكم منه نذير مبين فما اعظم شأن هذه العبودية وما اعظم عوائدها وفوائدها على الفارين الى الله والناس في هذا الباب على قسمين سعداء واشقياء فاما السعداء فهم الفارون الى الله طالبون بفرارهم اليه سعادتهم وفوزهم وفلاحهم في الدنيا والاخرة واما الاشقياء فهم الفارون من الله لا الى الله وهذا سبيل شقاء وهلاك في الدنيا والاخرة قال ابن القيم رحمه الله وحقيقة الفرار الهرب من شيء الى شيء وهو نوعان فرار السعداء وفرار الاشقياء ففرار السعداء الفرار الى الله عز وجل وفرار الاشقياء الفرار منه لا اليه واما الفرار منه اليه ففرار اوليائه قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ففروا الى الله فروا منه اليه واعملوا بطاعته وقال سهل ابن عبد الله فروا مما سوى الله الى الله وقال اخرون اهربوا من عذاب الله الى ثوابه بالايمان والطاعة وقال ابن جرير الطبري يقول تعالى ذكره فاهربوا ايها الناس من عقاب الله الى رحمته بالايمان به واتباع امره والعمل بطاعته اني لكم منه نذير مبين. يقول اني لكم من الله نذير انذركم عقابا واخوفكم عذابه الذي احله بهؤلاء الامم الذين قص عليكم قصصهم والذي هو مضيقهم في الاخرة الفرار الى الله يحتاج الى مهروب منه والى مهروب اليه وفي الاية ذكر للمهروب اليه جل في علاه. ففروا الى الله ولم يذكر فيها المهروب منه وذلك ليتناول كل قاطع وعائق وحائل بين العبد وبين الوصول الى الله ونيل رضاه سبحانه وهي انواع المخالفات ظاهرها وباطنها فانها تعوق القلب عن سيره الى الله وتقطع عليه طريقه وهي في الجملة ثلاثة عوائق. الشرك بالله وهو اشدها ثم البدعة في دين الله ثم المعاصي بانواعها ويسلم من عائق الشرك بتجريد التوحيد لله ومن عائق البدعة بتحقيق السنة ومن عائق المعاصي بتصحيح التوبة فالفرار الى الله عز وجل يتطلب من الفار الى الله امورا ثلاثة يحققها علما وعملا الامر الاول معرفة من يفر اليه. وهو الله العظيم جل في علاه معرفة باسمائه وصفاته وعظمته وجلاله وكماله وعظيم اقتداره وشدة بطشه وانتقامه سبحانه وكلما عظمت معرفة العبد بالله ازداد فرارا اليه جل في علاه قال الله تعالى انما يخشى الله من عباده العلماء فمن كان بالله اعرف كان منه اخوف ولعبادته اطلب وعن معصيته ابعد والامر الثاني معرفة الطريق التي يسلكها الفار الى الله وهي لزوم طاعته سبحانه ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى ففروا الى الله قال فروا منه اليه واعملوا بطاعته فالطريق التي يسلكها الفار الى الله ان يلزم صراط الله المستقيم والا يحيد عنه ولا ينحرف بل يمضي مستقيما على الصراط الموصل الى الله عز وجل بفعل الاوامر واجتناب المناهي طلبا لرضا الله عز وجل وحرصا على الظفر بعظيم موعوده جل في علاه والامر الثالث معرفة مآل هذه الطريق وما توصل اليه وهو الفوز بجنة الله ورضوانه سبحانه فالفرار الى الله فيه نجاة من السخط وفوز بالرضوان والفارون الى الله عز وجل هم الذين يزحزحون يوم القيامة عن النار ويدخلون الجنة دار الابرار فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور وقد جمعت هذه الامور الثلاثة في قوله جل وعلا ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا قال الشوكاني رحمه الله فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكورا امورا ثلاثة الاول ارادة الاخرة والثاني ان يسعى لها السعي الذي يحق لها والثالث ان يكون مؤمنا وجاء الامر في هذه الاية بطاعة الله عز وجل ولزوم عبادته بهذه الصيغة ففروا الى الله تنبيها للعباد الى ان الامر اذا لم يكن فيه فرار الى الله فان المرء على خطر عظيم وهلاك متحتم وهو مقام يتطلب من العبد عدم التواني والتقاعس والتكاسل والتباطؤ بل هو يتطلب مسارعة ففروا اي مسرعين الى الله عز وجل قد قال الله تعالى وسارعوا الى مغفرة من ربكم وقال سابقوا الى مغفرة من ربكم فالمقام لا يحتمل التواني والتباطؤ والتسويف وانما يتطلب مبادرة ومسارعة ومن اعظم ما يعين على هذا الفرار الى الله عز وجل تأمل الايات التي تسبق هذه الاية في سورة الذاريات حيث ذكر جل وعلا قبلها ما احله بالفارين من الله من انواع المثلات وصنوف العقوبات قال تعالى قال فما خطبكم ايها المرسلون؟ قالوا انا ارسلنا الى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة كم من طين مسومة عند ربك للمسرفين؟ فاخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها اية للذين يخافون العذاب الاليم وفي موسى اذ ارسلناه الى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فاخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد اذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما اعتذروا من شيء اتت عليه الا جعلته كالرميم. وفي ثمود اذ قيل له هم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فاخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل انهم كانوا قوما فاسقين ثم اتبع ذلك سبحانه بذكر اياته العظيمة ومخلوقاته الجسيمة الدالة على عظمته وكمال اقتداره فقال والسماء بنيناها بايد وانا لموسعون والارض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا الى الله. اني لكم منه نذير مبين منبها سبحانه على خلق العالم العلوي والسفلي والسماء بنيناها اي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا بايد اي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد وانا لموسعون اي قد وسعنا ارجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي والارض فرشناها اي جعلناها فراشا للمخلوقات فنعم الماهدون. اي وجعلناها مهدا لاهلها ومن كل شيء خلقنا زوجين. اي جميع المخلوقات ازواج سماء وارض وليل ونهار وشمس وقمر وبر وبحر وظياء وظلام وجن وانس وذكور واناث وايمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار حتى الحيوانات والنباتات هذا ومن لم يحسن الفرار الى الله في هذه الدار احتاج اذا كان يوم القيامة ان يقول اين المفر؟ ولا مفر قال تعالى فاذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الانسان يومئذ اين المفر؟ كلا لا وزر وقال تعالى ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير اي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته فلا ملجأ منه الا اليه ان الفرار الى الله عز وجل امر يتجدد مع المؤمن بتجدد الليالي والايام فان الفتن تلاحقه والصوارف والصواد تطارده والشيطان من جهته قاعد له بالمرصاد وهناك نفس امارة بالسوء وهناك ابواب على كل باب منها شيطان يدعو اليه فالمقام يحتاج من العبد المؤمن صادق الايمان ان يحسن الفرار الى الله الرحمن. طالبا بفراره الى الله ان يخرج من هذه الحياة الدنيا وقد نجى من سخط الله عز وجل وفاز برظوانه سبحانه وهذا التجدد في الفرار الى الله عز وجل هو تجدد في الايمان وحسن الصلة بالله يصحب المسلم دوما مع كر الليالي ومر الايام كما في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا اتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شككك الايمن وقل اللهم اسلمت نفسي اليك ووجهت وجهي اليك وفوضت امري اليك والجأت ظهري اليك رغبة ورهبة اليك لا ملجأ ولا منجى منك الا اليك امنت بكتابك الذي انزلت وبنبيك الذي ارسلت واجعلهن من اخر كلامك فان مت من ليلتك مت وانت على الفطرة فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء العظيم لا ملجأ ولا منجى منك الا اليك فيه تجديد للايمان والتوحيد كل ليلة عندما يأوي المرء الى فراشه بانه لا مفر من الله الا اليه وكل شيء يخافه المرء يفر منه الا الله عز شأنه وجل امره سبحانه. فان من عظم خوفه من الله فر الى الله لانه لا ملجأ من الله الا اليه والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله اليه وتحت من والى في هذا سر عظيم من اسرار التوحيد فان الفرار اليه سبحانه يتضمن افراده بالطلب والعبودية. ولزومها فهو متضمن لتوحيد الالهية التي اتفقت عليه هي دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين واما الفرار منه اليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية واثبات القدر وان كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فانما اوجبته مشيئة الله وحده فان ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده لعدم مشيئته فاذا فر العبد الى الله فانما يفر من شيء الى شيء وجد بمشيئة الله وقدرته فهو في الحقيقة فار من الله اليه ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم واعوذ بك منك وقوله لا ملجأ ولا منجى منك الا اليك فانه ليس في الوجود شيء يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه الا هو من الله خلقا وابداعا فالفار والمستعيذ فار مما اوجده قدر الله ومشيئته وخلقه الى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه واحسانه ففي الحقيقة هو هارب من الله اليه ومستعيذ بالله منه وكل شيء يخافه العبد يفر منه الا الله من خافه حقا فر اليه. قال تعالى في ذكر توبته على الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك حتى اذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم انفسهم وظنوا ان لا ملجأ من الله الا اليه ثم تاب عليهم ليتوبوا ان الله هو التواب الرحيم فهو سبحانه المعد وهو الممد. ومنه السبب والمسبب. وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه. ولا ملجأ ولا منجى منه الا اليه رزقنا الله اجمعين توبة نصوحا وحسن فرار اليه سبحانه فهو وحده المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة الا به. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته