بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو الا عزا وما تواضع احد لله الا رفعه الله. رواه مسلم وعن سهل ابن معاذ ابن انس الجهني عن ابيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كظم غيظا وهو يستطيع ان ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في اي الحور شاء رواه الترمذي وغيره ان كظم الغيظ والعفو والصفح خلق كريم وادب عظيم جاءت الشريعة بالحث عليه والترغيب وهو باب عظيم من ابواب الاحسان. قال الله تعالى فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين وهو باب عظيم من ابواب نيل الرحمة والغفران. قال الله تعالى وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا ان الله غفور رحيم وهو باب لنيل عظيم الاجور وجزيل الثواب قال الله تعالى فمن عفا واصلح فاجره على الله وهو باب رفيع للفوز بالجنان ونيل رضا الرحمن. قال الله تعالى وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين واهل العفو هم الاقرب لتحقيق تقوى الله قال الله تعالى وان تعفوا اقرب للتقوى والعفو اسم من اسماء الله الحسنى والعفو صفة من صفاته وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو سبحانه لم يزل ولا يزال بالعفو تجاوز معروفا وبالصفح والغفران موصوفا قال الله تعالى وكان الله غفورا رحيما وهو سبحانه يحب العفو وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها ان تقول اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني فهو يحب ان يعفو عن عباده ويحب من عباده ان يعفو عن اخوانهم قال الله تعالى وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم وقال تعالى ان تبدوا خيرا او تخفوه او تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا فحري بالمؤمن ان يقف وقفة صادقة متأملا في هذه الايات ومتدبرا لهذه الهدايات ثم ينظر الى واقعه وحقيقة حاله في هذا الباب. كظم الغيظ والعفو عن المسيء والصفح عنه والتجاوز عن اساءته واعظم بها من خصلة لا تنهض لفعلها الا القلوب الصادقة والنفوس الكبيرة المؤيدة بالمعونة والتوفيق من الله ان العفو والصفح مقام عظيم ومنزلة رفيعة وهو صفة نبينا صلى الله عليه وسلم صفة اتباعه باحسان عن ابي عبدالله الجدلي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الاسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وعن عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما ان هذه الاية التي في القرآن يا ايها النبي انا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا قال في التوراة يا ايها النبي انا ارسلناك شاهدا ومبشرا وحرزا للاميين انت عبدي رسولي سميتك المتوكل ليس بفضل ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة. ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا الله فيفتح بها اعينا عميا واذانا صما وقلوبا غلفا. رواه البخاري وهو صلى الله عليه وسلم في هذا عامل بقول الله تعالى ادفع بالتي هي احسن السيئة نحن اعلم بما يصفون وقل ربي بك من همزات الشياطين واعوذ بك ربي ان يحضرون وقوله سبحانه ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم فهذا ادب عظيم وهو من مكارم الاخلاق التي امر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم اي اذا اساء اليك اعداؤك بالقول والفعل فلا تقابلهم بالاساءة مع انه يجوز معاقبة المسيء بمثل اساءته. ولكن ادفع اساءته اليك بالاحسان منك اليهم فان ذلك فضل منك على المسيء ومن مصالح ذلك انه تخف الاساءة عنك في الحال وفي المستقبل. وانه ادعى لجلب المسيء الى الحق واقرب الى ندمه واسفه ورجوعه بالتوبة عما فعل وليتصف العافي بصفة الاحسان ويقهر بذلك عدوه الشيطان وليستوجب الثواب من الله قال الله تعالى فمن عفا واصلح فاجره على الله ومقام العفو والصفح لا يزيد صاحبه الا عزا ورفعة وسمو قدر في الدنيا والاخرة. كما تقدم في الحديث ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا خلاف ما يظنه كثير من الناس انه ذل ومهانة. فتقول النفس الامارة بالسوء كيف تعفو وتصفح هو قد فعل بك ما فعل وتدفعه الى الانتقام وتوهمه ان الانتقام هو العز قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فبين الصادق المصدوق ان الله لا يزيد العبد بالعفو الا عزا وانه لا تنقص صدقة من مال وانه ما تواضع احد لله الا رفعه الله وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الانفس من ان العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه وقال رحمه الله فالعز الحاصل له بالعفو احب اليه وانفع له من العز الحاصل له بالانتقام قام فان هذا عز في الظاهر. وهو يورث في الباطن ذلا. والعفو ذل في الباطن. وهو يورث العزة باطنا وظاهرا وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط الا ان تنتهك محارم الله فينتقم لله وهذا من كمال خلقه وكريم صفحه وعفوه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم انها قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين امرين الا اخذ ايسرهما ما لم يكن اثما فان كان اثما كان ابعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه الا ان تنتهك حرمة الله عز وجل متفق عليه وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال كنت امشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فادركه اعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت الى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اثرت بها حاشية الرداء من شدة نبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم امر له بعطاء متفق عليه وبالمجاهدة للنفس يرتقي المرء الى هذا الخلق فعن ابي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما العلم بالتعلم وانما علموا بالتحلم ومن يتحرى الخير يعطى ومن يتوقى الشر يوقى. رواه الطبراني قال الفضيل ابن عياض رحمه الله اذا جاءك شخص يشكو اخر فقل له اعف عنه فان العفو اقرب لتقوى الله فان قال لك ان قلبي لا يتحمل العفو عنه. ولكن اريد ان انتصر منه كما امر الله فقل له ان كنت تحسن ان تنتصر اي كما امرك الله والا عليك بالعفو فانه باب واسع وهذا تنبيه جليل لان كثيرا من الناس في مقام الانتقام ممن اساء اليه لا يقتصر على سيئة مثل السيئة التي نيل منه بها بل يتجاوز ويتعدى ويظلم وقول القائل ان هذا امر لا يتحمله قلبي ولا اتمكن من فعله غير صحيح لان المقام مقام مجاهدة واستعانة بالله. والله تعالى يقول والذين جاهدوا فينا لنهدينهم انهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ولنتأمل في هذا المقام انواعا من العفو في جوانب كثيرة جاء التنويه بها في القرآن الكريم كثير من الناس يظنها امرا لا مجال فيه لعفو قال الله تعالى ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بامره ان الله على كل شيء قدير فهذا عفو في مقابلة الاذى في الدين وقال الله جل وعلا ولا يأتل اولو الفضل منكم والسعة ان يؤتوا اولي القربى والمساكين اجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا الا تحبون ان يغفر الله لكم والله غفور رحيم وهذا عفو في مقابلة الاذى في العرض. وهو من اشد الاذى وانكاه وقال الله تبارك وتعالى يا ايها الذين امنوا كتب عليكم القصاص في القتلى. الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء اليه باحسان وهذا عفو في مقابلة الاذى بالدم والقتل ومن اشد الاذى اذى القرابة من زوجة او ابن او اخ او نحو ذلك وكثير من الناس لا يحتمل قلبه ذلك لما يرى له عليهم من حقوق قوبلت بظلم وعدوان واساءة فيرى كثير من الناس ان هذا المقام مقام لا يحتمل فيه العفو والصفح والله جل وعلا يقول يا ايها الذين امنوا ان من ازواجكم واولادكم عدوا لكم فاحذروهم وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم ونفس الانسان ميالة للانتقام والاخذ بالثأر. واذا حدثت حثا وترغيبا بالعفو والصفح تمنعت عن ذلك ونفرت منه ولم تقبل عليه لما في النفوس من رعونة وشدة ولما فيها من غلظة وفظاظة. لكنها اذا روضت بالحق وزمت بزمام الشرع فانها تنقاد سلسة باذن الله اذا كان العبد مستعينا بالله طالبا مده وعونه وتوفيقه والله تعالى يقول والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين واذا تذكر المؤمن في هذا المقام ثواب الله واجره وغفرانه ورحمته وما سيناله على صفحه وعفوه من اجور عظيمة وثواب جزيل هان عليه ما سوى ذلك كما تقدم في الحديث من كظم غيظا وهو قادر على ان ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء اي اجترع غضبا كاملا فيه. وكان قادرا على ان يفتك بمن اغابه وترك ذلك لوجه الله فله هذا الثواب العظيم انه يدعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة يتخير من اي الحور العين شاء والناس في هذا المقام مقام العفو او عدمه اقسام ثلاثة. قسم ينتقم ممن اساء اليه باخذ حقه دون تجاوز وقسم ينتقم ممن اساء اليه بظلم وتجاوز وتعد وقسم ثالث يعفو ويصفح الناس اقسام ثلاثة في هذا المقام اما الاول فهو المقتصد واما الثاني فهو الظالم لنفسه ولغيره واما الثالث فهو السابق بالخيرات وقد جمع الله هذه الاقسام الثلاثة في قوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين فقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها هذا في حق المقتصد وهو من يأخذ حقه دون تجاوز واما قوله فمن عفا واصلح فاجره على الله فهذا في حق السابقين بالخيرات اهل العفو والصفح والاحسان واما قوله انه لا يحب الظالمين فهو في حق من يعتدي ويبغي ويظلم ومن يتأمل هذه الايات العظيمة وما فيها من هدايات مباركة وما فيها من اثر على القلوب وتأثير في النفوس ذكاء وصلاحا ورفعة ينبغي ان يجعل لنفسه منها حظا ونصيبا لا ان يجعل نصيبه منها مجرد السماع بل عليه ان يجاهد نفسه ويطلب العون من الله ليعينه على تحقيق ما استمع اليه من الحق والهدى والخير ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تثبيتا واذا لاتيناهم من لدنا اجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وفقنا الله اجمعين لكل خير وبر وصلاح وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته