بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى اله وصحبه اجمعين اما بعد فقد تقدم في الحلقات الماضية حديث عن فضيلة الذكر وعظيم اجره وبيان ما اعده الله لاهله من جميل الثواب وكريم المآبي وحسن العاقبة وهناءة العيش ومر ايضا ذكر شيء من فوائده العطرة وثماره الكريمة اليانعة وعواقبه الحميدة في الدنيا والاخرة ولما كان الذكر بهذه المنزلة الرفيعة والدرجة العالية فان دلالات النصوص المبينة لفضله جاءت متنوعة وكان مجيئه في القرآن الكريم على وجوه كثيرة وهي بمجموعها وافرادها تدل على عظيم شأن الذكر وجليل قدره وقد ذكر الامام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين ان الذكر ورد في القرآن الكريم على عشرة اوجه ذكرها اولا مجملة ثم اورد بعد ذلك تفصيلها قال رحمه الله الاول الامر به مطلقا ومقيدا الثاني النهي عن ضده من الغفلة والنسيان الثالث تعليق الفلاح باستدامته وكثرته الرابع الثناء على اهله والاخبار بما اعد الله لهم من الجنة والمغفرة الخامس الاخبار عن خسران من لهى عنه بغيره السادس انه سبحانه جعل لهم جزاء لذكرهم له السابع الاخبار بانه اكبر من كل شيء الثامن انه جعله خاتمة الاعمال الصالحة كما كان مفتاحها التاسع الاخبار عن اهله بانهم هم اهل الانتفاع باياته وانهم اولوا الالباب دون غيرهم العاشر انه جعله قرين جميع الاعمال الصالحة وروحها فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح ثم شرع رحمه الله تعالى في بيان تفصيل هذه الاوجه العشرة اما الاول وهو الامر به مطلقا ومقيدا فكقوله تعالى يا ايها الذين امنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة واصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور وكان بالمؤمنين رحيما وقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة واما النهي عن ضده فكقوله ولا تكن من الغافلين وقوله ولا تكونوا كالذين نسوا الله فانساهم انفسهم اولئك هم الفاسقون واما تعليق الفلاح بالاكثار منه فكقوله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون واما الثناء على اهله وحسن جزائهم فكقوله ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الى قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات اعد الله لهم مغفرة واجرا عظيما واما خسران من لها عنه فكقوله يا ايها الذين امنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون واما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له فكقوله فاذكروني اذكركم. واشكروا لي ولا تكفرون وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له ذكر قبله به صار العبد ذاكرا له وذكر بعده صار العبد مذكورا فذكر الرب لعبده نوعان نوع قبل ذكر العبد لربه ونوع بعده واما الاخبار عنه بانه اكبر من كل شيء فكقوله تعالى اتل ما اوحي اليك من الكتاب واقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر واما ختم الاعمال الصالحة به فكما ختم به عمل الصيام بقوله ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون وختم به الحج في قوله فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم اباءكم او اشد ذكرا وختم به الصلاة بقوله فاذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وختم به الجمعة بقوله فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا واذا كان اخر كلام العبد ادخله الله الجنة واما اختصاص الذاكرين بالانتفاع باياته وهم اولوا الالباب والعقول فكقوله سبحانه ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم واما مصاحبته لجميع الاعمال ايرانه بها وانه روحها فانه سبحانه قرنه بالصلاة لقوله تعالى واقم الصلاة لذكري وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه بل هو روح الحج ولبه ومقصوده. كما قال عليه الصلاة والسلام انما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لاقامة ذكر الله وقرنه بالجهاد وامر بذكره عند ملاقاة الاقران ومكافحة الاعداء فقال تعالى يا ايها الذين امنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون فهذه وجوه عشرة ورد فيها الذكر في القرآن الكريم وذكر لكل وجه منها بعض الامثلة من الايات القرآنية والقرآن الكريم مليء بالايات المندرجة تحت هذه الانواع وهي سيرة الحصول قريبة المتناول لمن قرأ القرآن وتدبر اياته وما احسن واروع ما قاله الامام الشوكاني رحمه الله في سياق اخر وينطبق على سياقنا هذا تمام الانطباع حيث قال رحمه الله واعلم ان ايراد الايات القرآنية على اثبات كل مقصد من هذه المقاصد لا يحتاج اليه من يقرأ القرآن العظيم فانه اذا اخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في اي موضع شاء ومن اي مكان احب وفي اي محل اراد ووجده مشحونا به من فاتحته الى خاتمته انتهى كلامه رحمه الله بل ان القرآن الكريم كله كتاب ذكر لله فذكر الله عز وجل هو لب القرآن وروحه وحقيقته وغاية مقصودة يقول الله تعالى كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا اياته وليتذكر اولوا الالباب وقال تعالى ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد وقال تعالى ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا وقال تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد والايات في هذا المعنى كثيرة قد سمى الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز ذكرا في قوله وهذا ذكر مبارك انزلناه افانتم له منكرون وقال تعالى وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم وقال تعالى او عجبتم ان جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم وقال تعالى انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون وقال تعالى صاد والقرآن ذي الذكر وقال تعالى ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وفي هذا المعنى ايات كثيرة في القرآن الكريم ثم ان الله تبارك وتعالى لما امر بذكره في القرآن وحث عليه ورغب فيه في اية كثيرة منه حذر ايضا من الوقوع في ضده وهو الغفلة اذ لا يتم الذكر لله حقيقة الا بالتخلص من الغفلة والبعد عنها وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين هذين الامرين في اية واحدة من القرآن اعني الامر بالذكر والنهي عن الغفلة وذلك في قوله تعالى من اواخر سورة الاعراف واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين والمراد بقوله في خاتمة الاية ولا تكن من الغافلين اي من الذين نسوا الله فانساهم انفسهم فانهم حرموا خيري الدنيا والاخرة واعرظوا عن من كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته واقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به وفي الاية امر بالذكر والمواظبة عليه وتحذير من الغفلة عنه وتحذير من سبيل الغافلين والغفلة داء خطير اذا اعترى الانسان وتمكن منه لم يستغل بطاعة الله وذكره وعبادته بل يشتغل بالامور الملهية المبعدة عن ذكر الله وان عمل اعمالا من الطاعة والعبادة فانها تأتي منه على حال سيئة ووضع غير حسن فتكون اعماله عارية من الخشوع والخضوع والانابة والطمأنينة والخشية والصدق والاخلاص ولهذا جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة من التحذير منها وذمها وبيان سوء عاقبتها وانها من خصال الكافرين وصفات المنافقين المعرضين يقول الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون ويقول الله عز وجل ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن اياتنا غافلون اولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ويقول تعالى يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون والايات في هذا المعنى كثيرة قال ابن القيم رحمه الله وهو اي الذكر جلاء القلوب وصقالها ودواؤها اذا غشيها اعتلالها وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا ازداد المذكور محبة الى لقائه واشتياقا واذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا من كل شيء به يزول الوقر عن الاسماع والبكم عن الالسن وتنقشع الظلمة عن الابصار زين الله به السنة الذاكرين كما زين بالنور ابصار الناظرين فاللسان الغافل كالعين العمياء والاذن الصماء واليد الشلاء وهو اي الذكر باب الله الاعظم المفتوح بينه وبين عباده ما لم يغلقه العبد بغفلته قال الحسن البصري رحمه الله تفقدوا الحلاوة في ثلاثة اشياء في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن فان وجدتم والا فاعلموا ان الباب مغلق وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان اهل الغفلة والنسيان قال بعض السلف اذا تمكن الذكر من القلب فان دنى منه الشيطان صرعه كما يصرع الانسان اذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقول قد مسه الانسي وهو اي الذكر روح الاعمال الصالحة فاذا خلى العمل عن ذكر الله كان كالجسد الذي لا روح فيه انتهى كلام ابن القيم رحمه الله هذا واسأل الله عز وجل ان يوفقنا اجمعين لكل خير وان يصلح لنا شأننا كله والا يكلنا الى انفسنا طرفة عين انه تبارك وتعالى سميع قريب مجيب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد واله وصحبه اجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته