من نعيم الجنة. اخواني هل يشتري احدكم سلعة لا علم له بها وبمواصفاتها؟ او يدفع احد مالا او جهدا في مجهول؟ ان من ما من عقل معرفة ما تشتري ليسهل عليك دفع ما قدره غاليا لاول وهلة. وهو ليس بغال اذا علمت قدر السلعة مخترع كما قيل فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت اني انما كنت العب. هدف هذا الباب ووظيفته الكبرى التي اتمنى ان تتحقق لكل ذي عينين تقرأان هو التشويق. واخر التشويق اخبرنا عنه ابن الجوزي فقال احتراق على قدر الاشتياق. وصدق رحمه الله. احتراق في المعاش على قدر الاشتياق الى المال. احتراف في العلم على قدر الاشتياق الى المعرفة. احتراق اهل الباطل في سبيله على قدر اشتياقهم الى ظهور الباطل وعلوهم. والاولى من كل ذلك الاحتراق بذلا وعملا لشراء الجنة على قدر الاشتياق اليها. اليس كذلك كلما احترقت عملا وسعيا وحركة استدللنا بذلك على امتلاء قلبك بالاشواق. وسعيك لموعد مع الحور العين في الجنة للعناق وكلما امتلأت برودة وخمولا نضب ماعين الشوق في قلبك. وتسلل كسلوا الى يومك. ففيما احتراقك اليوم؟ والى اي شيء اجتياحك؟ لكن قبل ان نستشرف نعيما الجنة لابد ان نقرر هذه الحقيقة. حين يصور الله لنا نعيما انما يصوره التصوير الذي تستطيع اللغة ان توصله وليس معنى هذا ان هذه هي الصورة الكاملة الدقيقة. لماذا؟ لان الفاظ اللغة تأتي على قدر ادراك مدرك وبحسب الصور التي يشاهدها امامه. وخيال المرء وحدود عقله مرتبطة بسمعه وبصره. فلا يمكن عقلي ان يتخيل الا ما شاهد مثله او سمعه من قبل. لكن مكبرا او مركبا في صورة مغايرة ولما كان الغيب مما يسمو على السمع والبصر؟ ما لا عين رأت ولا اذن سمعت كان تصور الجنة المترتب عليهما مستحيل ولا خطر على قلب بشر. قول ربي اعددت من الذي اعان؟ من الذي اعان؟ لو ان ملكا من ملوك الارض دعاك الى ضيافته. لو ان اغنى اغنياء العالم استضافك يوما في قصر من قصوره اشرف على مراسم استقبالك ورفاهية اقامتك بنفسه فكيف تكون لذتك؟ كيف والله جل في هو الذي اعد وهو الذي هيأ فليرقص القلب طربا ولتبكي العين فرحا بما ينتظرها قال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير فان مدركات العقول منتهية الى ما تدركه الابصار من المرئيات من الجمال والزينة وما تدركه الاسماع من محاسن الاقوال ومحامدها ومحاسن النغمات. والى ما تبلغ اليه المتخيلات من هيئات يركبها والخيار من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات. مثل الانهار من عسل او خمر او لبن. ومثل قصور والقباب من اللؤلؤ ومثل الاشجار من زمرجة والازهار من ياقوت وتراب من مسك وعنبر. فكل ذلك قليل في جانب ما اعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات. ولا تبلغه صفات الواصفين. لان منتهى الصفة محصور فيما تنتهي اليه دلالات اللغة مما يخطر على قلوب البشر. فالله حين يعرض لنا عذابا في الاخرة او نعيما لا يعرض حقيقة هذا العذاب او النعيم. انما يعرض لنا ما تطيقه افهامنا بحسب الامكانات التي تسمح بها اللغة. واللغة الفاظ تبرز جمعان والمعنى لا بد ان يوجد اولا. ثم يوجد اللفظ الذي يعبر عنه. ولا يمكن ابدا ان ياتي لفظ اولا ثم ثم نخترع له معنى يناسبه. فاذا كانت المعاني لا وجود لها في الاذهان كما اخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة لا خطر على قلب بشر فكيف يمكن ان نوجد لهذه المعاني الفاظا تعبر عنها لكن لما كان القرآن نازلا لكي يكون كتابا مفهوما وقريبا من متناول العقول والافهام كان السبيل الامثل الى وصف ما غاب عنا من نعيم الجنة هو ضرب الامثال وصيغ التشبيه لتقريب الصورة التي لا يستطيع الخيال لها تصويره. ولا يستطيع اللسان عنها تعبيره تأمل قول الله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون فيها مما ان غير اس وانهار من لبن لم يتغير طعمه وانهى من خمر لذة الشائبين. وانهار من عسل مصفى وكذلك قوله في الرعد مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها يا الانهار. وكلوا هداك. وظلها. تلك عقبى الذين اتقوا وعقب الكافرين والشاهد مثل الجنة. فما تقوم به الاية هنا هو التشبيه وضرب المثل. ومن رحمته سبحانه بنا انعم عرفنا الجنة التي وعدنا بها عن طريق تشبيهها بما شاهدته عيوننا من امور الدنيا وعايناها. ولكن ومرة ثانية هل هذه الصورة هي الحقيقة؟ اسمعوا الظروف والبيئة التي نزل فيها القرآن لتفهموه. نزل القرآن وهو لما نزل في امة بدوية يعيشون ظروفا معيشية قاسية يكابدون حر الشمس وشح الماء وقلة الزاد. ولذا كان تقريب صورة الجنة لهم عن طريق فيما يراه العربي ارقى انواع التمتع. فالماء الذي هو سر الحياة كان البدوي يرحل بحثا عنه حتى اذا ما وجد بئرا في الصحراء نصب عندها خيمته. واستقر في وطنه الجديد وقلبه مستتار فرحا. فكيف اذا لم تكن بئرا وكانت عينا جارية واللبن في الضرع هو ارقى انواع اللذة عند العرب. لكن افته انه يفسد مع حر الصحراء وظروفها فذكر اللبن مبرأ من العيب كما يفهمه المتلقي هو قمة المتعة عنده. لكن هل طعمه مثل كلبني الدنيا كلا وحاشا. والخمر وصفها بانها لذة. لان خمر الدنيا فيها لسعة في الطعم فذكر انهم سيلتذون في الجنة دون ان يجدوا فيها الاثر الدنيوي الذي يعيبها. ولذا لما سمع عالم قول شاعر ما لها تحرم في الدنيا وفي الجنة منها؟ قال لصداع الرأس ونسف العقل. مشيرا الى قوله تعالى لا يصلون عنها ولا ينسفون. فالله وصف اللذة الكاملة للخمر التي لا يشوبها ما ينغصها من الصداع وذهاب العقل. والعسل كثيرا ما تشوبه الشوائب وتنغص مذاقه لا تنغيص في الجنة لذا وصف الله عسل الجنة بانه مصفى. وهكذا في سائر متع الجنة. كل ما يذكر منها يناسب عقل عن طريق الشبيه له في الدنيا. اما على ارض الواقع فهو ما لا تطيقه العقول ولا تقدره الافهام وهذا الباب ان يحدثكم عن الجنة. وقد اخترت لكم احلى نعيمها اعرضه عليكم. وانتقيت من مشاهدها ما في غرامها وساظل اكرر ذلك عليكم حتى تهينوا بها شوقا. وتتغنوا بها عشقا شعاري وشعاركم اجبتكم من قبل رؤياكم لطيب ذكر عنكم مقدرا كذلك الجنة محبوبة بوصفها من قبل ان تبصر اول مشاهد الجنة. لكن متى تشاهد اول هذا النعيم؟ اول من الجنة واول مرة تلوح لك وتظهر وتتزين لك وانت بعد في الدنيا. وعلى مشارف الموت وفي انتظار قبض روحك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء ان العبد المؤمن اذا كان في انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل اليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من اكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة وقد رآهم عمر بن عبدالعزيز رحمه الله عند موته. فقد قال لجلسائه اجلسوني فاجلسوه. فقال انا الذي امرتني فقصرت ونهيتني فعصيت. ولكن لا اله الا الله ثم رفع رأسه فاحد النظر فقالوا انك تنظر نظرا شديدا يا امير المؤمنين. فقال اتاني حضرة ما هم بانس ولا جن ثم قبض رحمه الله. فاول ما يرى العبد من الجنة ثلاثة الملائكة والاكفان حنوط لتبدأ نار الشوق تشتعل في قلبه. وتظل متقدة تبرد بحلاوة اللقاء. ولعل الله لبعض الصالحين بالاخبار عن بعض ما رأى. فلما حضرت الوفاة عمر بن حسين سمعه من حضره يقول لمثل هذا فليعمل فقيلا لمالك. اتراه قال هذا لشيء عاينه؟ قال نعم. وكذلك ابو بكر كان وهو يجود بنفسه في ثالث شوال سنة احدى وخمسين وثلاثمائة يحرك شفتيه. ثم نادى على صوته لمثل هذا فليعمل العاملون. يرددها ثلاثا ثم خرجت نفسه رحمه الله. حتى اذا نزل هذا العبد قبره وجد روضة من رياض الجنة فيظل يهتف بعدها. ربي اقم الساعة. ربي اقم الساعة. ربي اقم الساعة لكن قبل البدء في وصف الجنة يبادرنا سؤال هام ما الجنة؟ هل مجموعة اشجار وفواكه وطعام وشراب وقصور وحور عين فحسب. ان اكثر من يطلب الجنة اليوم يغمطها حقها حين يحصرها في هذه الاشياء. بالبحث والنظر في القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يحصل عليه يؤمنون ويتمتع به الصالحون نجد ان نعيم الجنة ينقسم الى ثلاثة انواع رئيسة