بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني مثلان عظيمان للفهم والبيان جعل الله درب الامثال في القرآن طريقا لتعليم الناس ما خفي عليهم من معاني. قال الزمخشري في الكشاف ولضرب العرب الامثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في ابراز خبيات المعاني. ورفع الاستار عن الحقائق حتى اتريك المتخيل في صورة المحقق. والمتوهم في صورة المتيقن. والغائب كالمشاهد. قال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون. فالكل مشتركون في سماع الامثال. ولكن لا يصغي اليها ولا يعقلها من كان قاسي القلب فاسد الحال معتادا على الكسل مقيما في اوطان الفشل. فلا يعقلها الا العالمون المتدبرون وهو امر يستحق ان ندعو به كما دعا به كثيرا فعن سليم ابن رستم قال كنت اقرأوا على عمرو ابن مرة فكنت اسمعه كثيرا ما يقول اللهم اجعلني ممن يعقل عنك. وقال رحمه الله اكره ان امر بمثل في القرآن فلا اعرفه. لان الله تعالى يقول وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون المثل الاول الناري مستوقد النار في الظلام. قال تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون اي حاول ان يوقد نارا استوقده. والذي يحاول ان يوقد نارا له هدف. والهدف قد يكون الدفء او طهي الطعام عام او الضوء والتعبير بالفعل استوقد بدلا من او قد دلالة على شدة حاجته للنار وتلهفه عليها بحيث انه بذل اقصى جهد لايقادها. كما يدل فعل استوقد على مدى خوفه وقلقه من احاطة الظلام وتطلعه لادنى شعلة من نار تبدد ما احاط به من ظلمات وتذهب خوفه. وقد وردت نارا استوقد نارا نكرة للدلالة على التقليل فهو متلهف الى اي نار قليلة تضيء له ادنى اضاءة. ومن هنا اورد الامام الرازي ان استيقاظ النار عبارة عن اظهار المنافق كلمة الايمان وانما سماه نورا لانه يتزين به فيهم ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم. ثم ان الله تعالى اذهب ذلك النور بهتك ستر منافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة امره. في هذا المثل سبع اشارات. اولا عقوبة اختيار العمى على الهدى. قال تعالى فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم. هذه عقوبة الله للمنافق. الذي اثر رواية على الهداية وهجر نور الايمان بعد ان استضاء به. وعرف ثم انكر. واسند اذهابه الى الله تعالى ذهب الله بنورهم لانه حصل بلا سبب من ريح او مطر او اطفاء مطفئ والعرب والناس يسندون الامر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى. قال الامام ابن القيم ولم يقل بنارهم. لم يقل ذهب الله بنارهم هل قال بنورهم فان النار فيها الاحراق والاشراق فذهب بما فيها من الاضاءة والاشراق وابقى عليهم ما فيها من الاذى والاحراق وكذلك حال المنافقين. ذهب نور ايمانهم بالنفاق وبقي في قلوبهم حرارة الشك والكفر والشبهات اغلي في قلوبهم وقلوبهم قد صليت بحرها واذاها وشمومها ووهجها في الدنيا فاصلاها الله تعالى اياها يوم القيامة اذا اردني مؤصدة تطلع على الافئدة. ثانيا المنافقون اصحاب ايمان مصلحي. المنافقون قديما وحديثا في حيرة املأوا قلوبهم. قديما سمعوا من اليهود ان زمن نبي جديد قد اتى. فقرروا ان يؤمنوا به. ليس عن رغبة صادقة بل محاولة للحصول على الامان الدنيوي لان اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون اتى زمن نبي منا سنؤمن به ونقتلكم به قتل عال وارم فاراد المنافقون اتقاء هذا القتل الذي توعدهم به اليهود باعلان الايمان. فهم دائما اصحاب ايمان ثالثا تعدد ظلمات المنافق. وتركهم في ظلمات. ليست ظلمة واحدة بل ظلمات متراكمة مركبة ظلمة الحقد على المؤمنين والكراهية لهم. ظلمة تمني هزيمة المؤمنين. ظلمة تمني ان سوء وشر ظلمة التمزق والالم من الجهد الذي يبذله المنافق ليتظاهر بالايمان. وبعد جمع ظلمات اتى بقوله لا يبصرون وذلك للتهويل ومفعول لا يبصرون محذوف ليفيد عموم نفي المبصرات عنهم كانه قيل لا وجود لحاسة البصر لديهم مطلقا ظلمات عظيمة هائلة متراكمة بعضها فوق بعض واطبقت عليهم دلالة على شدة الظلمة فلم يعودوا من اهل الابصار والابصار ولا يستطيعون تمييز الحق من الباطل. رابعا الحيرة والغباء هما وجه الشبه. حيرة المنافق تشبه حيرة من ذهب نوره في الظلام. واشتراكهما في الوقوع في الحيرة والحرمان والخيبة والحسرة بعد ظهور تباشير الرجاء. قال الامام الرازي والتشبيه ها هنا في نهاية الصحة لانهم بايمانهم اولا اكتسبوا زورا. ثم بنفاقهم ثانيا ابطلوا ذلك النور. ووقعوا في حيرة عظيمة فانه لا احيرة اعظم من حيرة الدين لان المتحير في طريقه لاجل الظلمة لا يخسر الا القليل من الدنيا. واما حيرو في الدين فانه يخسر نفسه في الاخرة ابد الابدين. النور هنا هو نور القرآن والوحي. والمثل يدل على غباء المنافق الذي انصرف عن الهداية بعد ان اتضحت له معالمها مع شدة حاجته للهداية كما احتاج النار الى الضوء ولا شك ان من وجد النور ثم فقده اسوأ حالا واشد حسرة مما لم يجده ابتداء. فالمنافقون بعد ان ارشدهم الله تعالى لنور الحق انصرفوا عنه. وقد صور الله المنافق هنا في صورة بشعة مستهجنة لتقبيح صورة المنافقين في عيون الناس فيأخذوا حذرهم منها ويحذر الاتصاف بصفات المنافقين. خامسا لما اختار النار لضرب المثل لسببين اولا ان النار لن توقد الا بحطب. والايمان كذلك لا تشتعل جذوته ولا يشرق نوره الا بالعمل الصالح والمنافق ليس عنده من العمل الصالح ما يحيي به ايمانه بل ليس له الا لسان يتكلم به بغير ما يضمر في قلبه تنطفئ فيه جذوة الايمان. ثانيا النار اما ان تضيء واما ان تحرق. فمن اراد الله به الخير منحه النور من النار ومن اعرض عن الله احرقه الله بالنار. سادسا تعطل حواس المنافق. ثم قال سبحانه سم بكم عمي فوصف المنافقين بان حواسهم معطلة. فالصمم انعدام حاسة السمع عمن كان البكم انعدام النطق عن من كان ناطقا والعمى انعدام البصر عمن كان مبصرا. لانه وان كانت لهم اذان تسمع والسن تنطق واعين تبصر الا انهم لا يسمعون خيرا ولا يتكلمون بالخير ولا يبصرون طرق الخير ومن كان كذلك كان هو ومن فقد حواسه سواء. وردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف. فلم يقل سبحانه صم وبكم عمي لان تجريد هذه الصفات من حروف العطف يفيد تأكيدها حيث ان المقصود هو تقرير كل صفة منها على حدة في نفس اثق. سابعا ثبات المنافق على باطله. وقوله فهم لا يرجعون فيه وجهان احدها انهم لا يرجعون عن التمسك بالنفاق. فهم اصحاب مبدأ لكنه مبدأ باطل. فكيف لا يتمسك اهل الحق بالمبدأ الذي يؤمنون به. ثانيا ان انحرافهم دائما. فلا امل ان يعودوا الى الهدى بعد ان هجروه عن الضلالة بعد ان اشتروها. والفاء هنا للتسبيب فهم فعدم رجوعهم عما هم فيه من النفاق انما هو بسبب تعطل حواسهم عن العمل وهذه اشد عقوبة يعاقب الله بها عبدا من عباده