الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب وجعل عملنا له واليه متاب واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه اجمعين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين اما بعد ايها المؤمنون ان النفوس تفتقر الى داع يوقظها ومنبه ينبهها وان ابلغ ما ينتفع به العبد تنبيها وتذكيرا هو القرآن الكريم. فان الله سبحانه وتعالى جعله لنا فقال تعالى في اخر سورة الحاقة فانه لتذكرة للمتقين وقال سبحانه وتعالى في صدر سورة طه طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى الا تذكرة لمن يخشى. فمن اعظم منافع القرآن انه يذكر ابدأ بربه سبحانه وتعالى فينبهه من غفلته ويوقظه من سباته ويعيده الى رشده وان الله عز وجل لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم اية اجمع ولا اعظم ولا اعلى من القرآن الكريم فان الانبياء اوتوا ايات كثيرة ترشد الى صدقهم وتدل على نبوتهم. واوتي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم. ابلغ اية واعظم حجة تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث الليث ابن سعد عن سعيد ابن ابي سعيد المقبوري عن ابيه عن ابي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من الانبياء نبي الا اوتي من الايات ما امن على مثله البشر. وانما كان الذي اوتيته وحيا اوحاه الله اليه يعني القرآن واني لارجو ان اكون اكثرهم تابعا يوم القيامة وان الله سبحانه وتعالى جمع للنبي صلى الله عليه وسلم في قليل الالفاظ القرآنية جليل المعاني الربانية فتجد سورة قصيرة فيها من كنوز المعاني وجليلها ما لا يوجد في كلام مطول حتى ادرك ذلك الوليد ابن المغيرة فقال عن القرآن الكريم ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان اعلاه لمثمر وان اسفله لمغدق وانه ليعلو ولا يعلى عليه وان من جوامع القرآن سورة عظيمة هي الفرقان بين اهل الربح واهل الخسران كان الرجلان من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اذا اجتمعا لم يفترقا حتى يقرأ احدهما على الاخر تلك السورة فعند الطبراني في المعجم الاوسط من حديث حماد بن سلمة عن ثابت بن اسلم عن ابي مدينة الدارمي رضي الله عنه انه قال كان الرجلان من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ احدهما على الاخر سورة والعصر. فكانت هذه السورة بمنزلة عظيمة عندهم. لان الله عز وجل جعلها فرقانا بين اهل الربح واهل الخسران. فاذا اردت ان تعلم منزلتك من الخسارة والربح فانظر حظك مما ذكر الله عز وجل في سورة العصر وهي سورة قصيرة قال الله عز وجل فيها بسم الله الرحمن الرحيم والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. فهذه السورة انتظمت فيها امور اربعة اولها قسم وثانيها مقسم وثالثها مقسم به ورابعها مقسم عليه. فاما الامر الاول وهو القسم فان الله عز وجل قال في صدرها والعصر والواو عند علماء العربية تدل على القسم فانها حرف من حروفه فان حروف القسم ثلاثة احدها الواو وتانيها الباء وثالثها التاء واولها وهو الواو امها وهو اكثر ما جاء في القرآن الكريم. اسمع قول الله سبحانه وتعالى والذاريات اذا روى وقوله سبحانه وتعالى والضحى والليل اذا سجى. وقوله سبحانه وتعالى والشمس وضحاها والقمر اذا فكيف ما قلبت القرآن الكريم؟ وجدت القسم فيه غالبا في هذا الحرف وهو الواو فهو ام الباب فيما اقسم به من الحروف ففي قوله سبحانه وتعالى والعصر قسم والذي اقسم هو الله سبحانه وتعالى وذلكم انه في الامر الثاني وهو المقسم ان الله عز وجل هو القائل سبحانه والعصي. والقسم في كلام العرب مما يعظم فاذا كان من عظيم فهو اعظم واعظم فانك اذا تحدثت مع احد فاقسم لك عظم الكلام الذي يقوله عندك انه اقترن بالقسم فاذا كان القسم ممن يغلب عليه الظن انه صادق قوي القسم في نفسك. فكيف اذا اذا كان القسم من الله سبحانه وتعالى الذي قال الله عز وجل عن نفسه ومن اصدق من الله قيلا وقال ومن اصدق من الله حديثا وهو سبحانه وتعالى مع كمال صدقه عظيم. فالعظيم سبحانه وتعالى يقسم بقوله والعصر. ثم انه عز وجل اقسم بالعصر والعصر في اصح الاقوال هو الوقت الكائن في اخر النهار فان اهل العلم اختلفوا في معنى العصر في هذه الاية على اقوال فقيل هو الدهر وقيل هو صلاة العصر وقيل هو وقت العصر كائن اخر النهار وهذا القول الثالث هو اصح الاقوال لان اسم العصر اذا اطلق في خطاب الشرع فالمراد به الوقت الذي كونوا مقابلا للضحى وهو اخر اليوم. واقسم الله عز وجل بالعصر لامرين احدهما ان منتهى عمل الخلق الى العصر. فان الساعة تقوم عصر يوم الجمعة كما ثبت في الصحيح. فلما اقسم الله سبحانه وتعالى بقوله والعصر كان تنبيها الى ان اعمالكم التي تعملون ستنتهي الى هذا الوقت الذي اقسم الله سبحانه وتعالى به. والاخر ان الله عز وجل جعل هذه الامة في مقابل ما سبقها من الامم بمنزلة اقامته في العصر ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال مثلكم ومثل اهل الكتاب من قبلكم رجل استأجر اجراء فعملوا له من اول النهار حتى قال ثم استأجر اجراء بعد العصر يعني هذه الامة فهذه الامة فيما سبقها من الامم تكون بمنزلة العصر من بقية النهار الذي تقدمها. فان الامم التي طوت هذه الارض هي سبعون امة. هذه الامة هي اخرها. فعند الترمذي من حديث فهد بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن ابيه عن جده معاوية رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال انكم تتمون سبعين امة انتم خيرها واكرمها على الله عز وجل. فاقامة هذه الامة فيما سبق كاقامة العصر فيما سلف من النهار فلاجل هذين الامرين اقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر ثم رابع تلك الامور ما اقسم الله عليه وهو في قوله تعالى ان الانسان لفي خسر الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصوم فقد ذكر الله سبحانه وتعالى ان الناس مقسومون الى قسمين احدهما رابح ظافر والاخر زائر خاسر. فقال سبحانه وتعالى في تقرير القسم الاكثر وهم الخاسرون. قال ان الانسان لفي قصر وهذه الكلية اكدها الله عز وجل بأنواع من المؤكدات اولها استفتاحه بقوله تعالى ان الدالة على التأكيد وثانيها العموم في قوله تعالى الانسان اي جميع جنس الانسان. وثالثها اللام الموطئة للقسم في قوله لفي خسر فتقدير الكلام ان الانسان لفي خسر. وهذه قاعدة كلية ان الناس جميعا كلهم في خسر. والوصف الذي استحقوا به الخسر هو الانسانية. فلا تنفع الاموال ولا تنفع الاحساب ولا تنفع الرئاسات ولا تنفع المقامات ولا غيرها من الامور التي يتفاخر بها الناس بعضهم على بعض فان الجامع في وصفهم للخسر هو وكونهم من جنس الانسان فجميع جنس الانسان هم خاسرون. ثم استثنى الله عز وجل من ذلك الجنس نوعا وصفهم بقوله تعالى الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. فالخاسرون جميع الناس الرابحون هم نوع من الناس متصفون باربع صفات وهذه الصفات لا ترجع الى الوانهم ولا الى ولا الى غير ذلك من صفاتهم. بل ترجع الى حقائق تقوم فيه. فاول تلك الصفات انهم مؤمنون. وثاني تلك الصفات انهم يعملون بالصالحات وتارك تلك الصفات انهم يتواصون بالحق ورابع تلك الصفات انهم يتواصون بالصبر والصفة الأولى في قوله تعالى الا الذين امنوا فهم خرجوا من الخسران بكونهم مؤمنين. وحقيقة الايمان شرعا التصديق الجازم باطنا وظاهرا تعبدا لله بالشرع المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على مقام المشاهدة او المراقبة. فاذا وجد هذا المعنى في النفوس وجد الايمان بان يصدق العبد تصديقا جازبا لا يتزعزع ولا تردد ولا يقع في قلبه ادنى شيء من الريبة او الشك باطنا وظاهرا فالايمان يعم حال العبد في باطنه وظاهره ويكون بذلك متعبدا بما انزل على النبي صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بقول القلب او عمل القلب او قول اللسان او عمل اللسان او عمل الجوارح والاركان. على مقام المشاهدة اي عابدا الله عز وجل مستحضرا كأن الله كأنه يشاهد الله سبحانه وتعالى. فان عجز عن هذا المقام فلا اقل من ان يعبد الله سبحانه وتعالى كأن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه قائم سبحانه وتعالى عليه بالمراقبة فاذا استوفى العبد هذه الحقيقة صار له حظ من قوله تعالى الا الذين امنوا. واما الصفة الثانية ففي قوله تعالى وعملوا صالحات فالله عز وجل اراد منا عملا عينه بقوله تعالى الصالحات فلم يرد منا مطلق العمل ما اراد الله عز وجل منك ان تكون عاملا عملا كثيرا لكن الله عز وجل اراد منك ان تكون عاملا عملا صالحا. والعمل الصالح لا يتحقق الا بان يكون خالصا لله عز وجل ممتثلا فيه العبد هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فاذا جمع هذان الامران الاخلاص لله والاتباع لرسول الله صلى الله الله عليه وسلم صار العمل صالحا وصار صاحبه حقيقة بوصف الاحسان بالعمل فلا يكون العبد محسنا عمله حتى يكون مخلصا فيه لله متبعا فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهو لا يعني بكثير عمله. ولكنه يعني بحسن عمله قال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن باحسنه مع الايمان فالعارفون مرادهم احسانه والجاهل نعموا عن الاحسان والصفة الثالثة في قوله تعالى وتواصوا بالحق. يعني امر بعضهم بعضا بالحق. والحق اسم لما ثبت ولزم واعلاه ما ثبت بطريق الشرع. فاذا صار بعضهم يوصي بعضا بما ثبت في الشرع خبرا وطلبا امرا ونهيا صار لهم حظ من وصفهم من وصفهم سبحانه وتعالى لهم بقوله للحق اي امر بعضهم بعضا بالمعروف ونهى بعضهم بعضا عن المنكر ثم قالها في الصفة الرابعة وتواصوا بالصبر. اي امر بعضهم بعضا بالصبر. لانه لا سبيل الى قطع الطريق الى ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه الا بالصبر لا تدرك الغايات ولا ينال المنى الا بالصبر. ولذلك قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم فاصبر وما صبرك الا بالله فقال تعالى فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل. وقال تعالى يا ايها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا. وفي الصحيحين من حديث عطاء عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما اعطي احد عطاء خيرا ولا اوسع من الصبر فلا يمكن العبد ان يدرك المقامات العالية والرتب السامية الا بالصبر. فهذه الصفات الاربع وهي الايمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر اذا جمعها العبد صار رابحا واذا فقدت من العبد صار من اهل الخسران. فقوله تعالى ان الانسان لفي خسر اكمل بيان ان جميع الناس في خسران وانه لا ينجو من هؤلاء الا هذا النوع الذي يجمع هذه الصفات الاربع الايمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فحقيق بكل من اراد نجاة نفسه ان يجتهد في التحقق بهذه الخصال الاربع وان يطلب حظه من الايمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وليعلم ان مبلغه من النجاة على قدر بمبلغه من هذه الصفات فالبالغون ذرا هذه الصفات هم البالغون ذرا النجاة. الذي اخذ بحظ وافر من الايمان والعمل الصالح والتواصي اقوى التواصي بالصبر فهو اعلى الناس في مراتب النجاة وعلى قدر ما يحصل للعبد من التقصير في هذه الخصال يحصل له النقص في حظه من النجاة الله الله ايها المؤمنون في التماس ما تنجون تنجون به عند ربكم سبحانه وتعالى من الايمان والعمل الصالح والتواصي بالحق واصي بالصبر نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا واياكم من الرابحين وان يجنبنا سبيل الخاسرين وان يتولانا في الصالحين وان يكلأنا برعايته اجمعين. اللهم احينا حياة سعيدة وتوفنا وفاة حميدة. اللهم احينا وانت عنا وتوفنا وانت عنا راض واحشرنا جميعا وانت عنا راض. اللهم انا نسألك البركة في اعمارنا. ونسألك البركة في اعمالنا. ونسألك البركة في اقواتنا ونسألك البركة في قواتنا ونسألك البركة في نياتنا ونسألك البركة في ذرياتنا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد واله وصحبه اجمعين