قال المؤلف رحمه الله تعالى قوله تعالى ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من افواههم يقولون الا كذبا طلبه قول من زعم ان لله ولدا من ثلاثة اوجه بل من اربعة احدها انه قول بلا علم ومن المعلوم ان القول بلا علم من اعظم ان ذلك من الجهالات والضلالات خصوصا في اعظم المسائل واهمها وهي مسألة التوحيد وتفرد الباري جل جلاله مالي وتنزهه عن كل ما لا يليق بجلاله من انواع النقائص المنافية لكمال الربوبية وعظمة الالهية فنبى عنهم العلم ونهى عنهم التقليد لاهل العلم فلم يقولوا شيئا يعلمونه ولقد اقتدوا بالعالمين منهم واباؤهم في ضلال مبين والوجه الثاني قوله كبرت كلمة تخرج من افواههم اي عظمت وزادت في الشناعة الى حد يستعجب كيف نطقوا بها وكيف خرجت هذه الكلمة جميعة من اصاحهم التي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال والجبال هدا ان دعوا للرحمن ولدا انما كانت شنيعة جدا لانها متضمنة لشتم رب العالمين وسبه كما قال تعالى في الحديث الصحيح شتمني ابن ادم ولم يكن له ذلك فكذبني ابن ادم ولم يكن له ذلك اما شتمه اياي فقوله ان لي ولدا وانا الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة يا ولد ولم يكن له كفوا احد الى اخره فاي شتم اعظم من هذا الشتم الذي مضمونه؟ حاجة رب العالمين الى اتخاذ الصاحبة والولد ومنافاة وتفرده بالكمال الوجه الثالث قوله ان يقولون الا كذبا فسجل على ان قولهم هذا هو الكذب الصراح والافك المبين. فتأمل كيف ارتقى في ابطاله من وجه يبطله الى وجه اخر يزيد في ابطاله الى وجه ثالث. لا يبقي ريب ولا شك لكل ذي بصيرة في ابطاله. فنفى العلم بوجوهه وشن وعظمه واخبر عن مرتبة وانه قول في اخر المراتب واسفلها وهو الكذب والافتراء والوجه الرابع ما يحصل به من مجموع هذه الاوجه فان الهيئة الاجتماعية يحصل منها اثر ودلالة غير ما حصل بكل وجه على انفراده من تصليح الدلالة ما يتضح به الحق وينجلي. وهكذا كل المسايس عليها عدة ادلة فانه يحصل بكل دليل على انفراده علم. ثم يحصل دليل اخر علم اخر ثم يحصل باجتماعهما علم اخر وهكذا كلما كثرت وتعددت وتعددت وبهذا ونحن نعلم ان بارك مسألة التوحيد وفروعه ومسألة المعاد ومسألة النبوة ان من تتبع ادلته واستقرأ براهينها فانه يحصل له من حق اليقين من العلم الكامل فيها ما لا يحصل في غيرها من المسائل التي يدونها وهذا من اجل قواعد الايمان وافضل العلوم النافعة واعظم ما يقرب يا رب العالمين. هذه الاية من سورة الكهف اعظم الايات التي جاءت بالقرآن الكريم بابطال قول من زعم ان لله ولدا من النصارى او غيره من المشركين. فان الله سبحانه وتعالى ابطل هذه الدعوة من وجوه اربعة. اولها انه قول على الله لا علم والقول على الله بلا علم هو من اعظم الرزايا واشد البلايا. ولذلك ختم الله عز وجل الاية الواردة في المحرمات الكبرى التي اتفقت عليها الملل والديانات بهذا الامر. فقال سبحانه وتعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون. فختم هذه الاية بهذه البلية العظيمة وهي القول على الله عز وجل بلا علم لشدتها وعظمها. والوجه الثاني تشنيع هذه الكلمة وبيان قباحتها وتعظيم ذلك لانها متظمنة لشتم الرب سبحانه وتعالى. كما جاء بيان ذلك في الحديث القدسي الصحيح شتمني ابن ادم ثم بين كيفية الشتم له سبحانه وتعالى بان الناس يقولون ان له ولد وهو سبحانه وتعالى الواحد الاحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد. فلا شتم اعظم من هذا الشتم الذي مضمونه افتخار ربي سبحانه وتعالى وحاجته الى اتخاذ الصاحبة والولد. وسياق الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى لا يوجد بهذا التمام للصحيح فان لفظ الفرض لا يوجد في حديث صحيح ابدا. وكل الاحاديث التي وردت في ذكر ان الفرد من اسماء الله عز وجل لا يثبت منها شيء فليس الفرد من اسماء الله عز وجل وانما قد يخبر عن الله عز وجل بانه فرض مع انه لا حاجة الى هذا الاخبار لان الاخبار انما يسوغ لحاجة كما ذكره ابو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في درء تعارض النقل والعقل او في منهاج السنة نبوية وهذه الحاجة مدفوعة بان لله اثنين كاملين ينبئان عن هذا المعنى وهما الواحد والاحد وفي ذلك سورة قل هو الله احد الى اخرها والوجه الثالث ان الله عز وجل سجل على هؤلاء القائمين ان قولهم كذب صراح وافك مبين. فهذه المقولة التي اخترعوها وجاؤوا بها كذب على الرب عز وجل. واذا كان يعظم عند الناس الكذب على اشراف الناس من العلماء واهل الخير والاحسان فان الكذب على الله عز وجل اعظم واقبح لان الله عز وجل هو رب العالمين. فمن افترى على كذبا فقد وقع في العقاب الوخيم. والوجه الرابع ما يحصل به مجموع هذه الا وجه لان الهيئة المجتمعة لهذه الادلة تورث علما جديدا فان الوجه الاول ينشئ علما الوجه الثاني ينشأ علما اخر. والوجه الثالث ينشئ علما ثالثا. فاذا اجتمعت هذه الوجوه جميعا حدث عند العبد علم رابع وهو العلم بهذه الهيئة الاجتماعية من جهة قوة الاستدلال فيها وظهور الادلة الواردة من والسنة على تحقيقها. وهذه هي طريقة القرآن في المسائل الكبار كمسألة الالوهية والنبوات والمعاد التي هي اصول العلوم الخبرية فان تقرير القرآن الكريم لهذه المسائل الثلاث تتنوع براهينه وادلته والزكاتر ويحصل من كافريها ايظا هيئة اجتماعية يقوى بها الدليل. ومن محاسن الرد في هذه الاية ان الرد فيها جاء مبنيا على التوقي من وجه الى وجه اشد منه واعظم. وهذا من محاسن الرد. فينبغي لمن اراد ان يرد على او ان ينقض مقالة خاطئة او مخطئة فانه يبدأ بما هو هين ثم يرتقي الى ما هو فوقه ثم يلتقي الى ما هو فوقه لان تسامع هذا الترقي يجعل في النفس ابطانا لها ودفعا لهذه الدعوة وابعادا عنها نعم سورة مريم عليها السلام قد اشتملت على تفاصيل عظيمة من ذكر رحمة الله بانبيائه واصفائه واحبابه وما من عليهم به في الدنيا من نعم الدين والدنيا والنعم الظاهرة والباطنة وما يكرمهم به من الذكر الجميل والثناء الحسن ووصفهم باحسن اوصافهم ونأتيهم باشرف نعوتهم وما يكرمهم به في الاخرة من الثواب والفضل العظيم وذكر رحمته ايضا بادائه حيث عاملهم بالحلم والصفح وتصنيف الايات لعلهم يرجعون ما عظم ما اتوا به من السمعة ايضا مع عظم ما اتوا به من الشرور وعظائم الامور ولذلك اكثر الله فيها من ذكر اسم الرحمن الذي هذه اثار ومن ذكر الرحمة ونسأله تعالى ان يدخلنا برحمته في عباده الصالحين من قواعد التفكير المعينة على حل الاشكالات ودفعها في اية القرآن الكريم معرفتك بمقصد السورة التي بها الاية التي تتطلع الى معرفة تفسيرها فان التالي للقرآن اذا عقل مقاصد هذه الصورة فهم ما يشكل عليه منها. ومن هنا اعتنى اهل العلم رحمهم الله تعالى ببيان مقاصد الصور لان معرفة هذه المقاصد تعينك على فهم الايات الواردة فيها. ومن ابرز من اعتنى بذلك والمفسرين من العجم من المتأخرين عبد الحميد الفواهي رحمه الله تعالى فان الشيخ عبد الحميد يضارع الشيخ محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى وكان متعاصرين وهذا شيخ المفسرين من العرب وهذا شيخ المفسرين من العجب وقد صنف وبذلك كتابا نافعا اسمه نظام القرآن واعتنى رحمه الله تعالى ببناء ما كتبه من التفكير على هذه الهيئة فانه جعل لكل سورة نظاما يرقب فيه مقصد واحد او مقاصد عدة مما يعين على فهم اياتها ومن جملة هذا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في سورة مريم وان من مقاصدها بيان رحمة الله عز وجل باظهار ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى من التفاصيل الوالدة بها المتعلقة برحمة الله قوله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوة ذكر كثير من المفكرين ان تقديره فوهبنا له يحيى فقلنا يا يحيى الى اخره فيحتاج الى هذا ولا يحتاج الى هذا فانه صرح اولا بهبته يحيى في قوله يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه هو يحيى فلو ذكر بعد ذلك لكان تكرير لا يحتاج اليه هذا تكريرك تقدم ان التكرار في القرآن الكريم لا بد ان يكون مشتملا على بلاغة وافادة في المعاني وما ذكره كثير من المفسرين ان تقدير قوله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بالقوة تقديره فوهبنا له يحيى ثم قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة الا هذا التقدير ضعيف لان التصريح قد تقدم بذكر يحيى عليه الصلاة والسلام بالبشارة به في قوله تعالى يا زكريا نبشرك بغلام اسمه يحيى فلاجل تقدم التصريح به لم يحتج حينئذ الى تفريغ الكلام لانه لا يظهر فيه معنى جديد ومما ينبغي ان يعلم ان الاستغناء عن التصريح بالمراد في القرآن الكريم اما ان يكون لتقدمه كما في هذه الاية فانه لم يذكر فوهبنا له يحيى يا يحيى خذ الكتاب بقوة وانما قيل يا يحيى خذ الكتاب بقوة استغناء بتقدم ذكر يحيى عليه الصلاة والسلام في بشارة ابيه زكريا به. وقد يكون تارة لظهوره كقوله تعالى حتى توارت بالحجاب. فان المراد بالحجاب هنا الشمس ولم تكن الشمس مذكورة في السياق من قبل. وكقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته. والمراد بذلك الهلال الا انه لم يكن قد تقدم ذكر الهلال لكن العلم به وظهوره اغنى عن اعادته وهذا من بلاغة الكلام قوله تعالى فطلب من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا اي عذابا مضاعفا شديدا تبع الشهوات بما فلذلك قال اتبعوا ولم يقل تناولوا واكلوا ونحوه. بهذا المعنى لان هذا الظن كما يتناول متبعي الشهوات فمهما اشتهت نفوسهم فعلوه. على انه المقصود المتبوع ومن المعلوم ان النفس من طبعها انها امارة بالسوء فاذا كان هذا طبعها علم ان ذمهم على اتباع شهوات يدخل بهم معاصي كلها. ولذلك رتب على هذا العقاب البليغ في قوله فسوف يلقون وهذا بخلاف المؤمن المطيع لله فانه وان تناول الشهوات فانه لا يتبعها ولا تصير اكبر عمه ولا مبلغ علمه بل يتناولها على اود ان تكون هي تابعة لغيرها لا متبوعة. وخواص المؤمنين يتناولون الشهوات بقصد التوسل بها الى القربات فتنقلب طاعات. هذه الجملة ذكر فيها المصنف رحمه الله تعالى من قواعد التفسير تعيين لفظ يختار في التعبير عن المراد دون لفظ اخر. فان الرب سبحانه وتعالى هنا لما ذمهم قال واتبعوا الشهوات ولم يقل سبحانه وتعالى وفعلوا الشهوات او تناولوا الشهوات لان تناول الشهوة جبلة المركوزة في النفس كما قال الله عز وجل زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الاية فان النفس مطبوعة على محبة الشهوة اذن للمؤمن في تناولها كما قال الله عز وجل قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق فاذن الله عز وجل للمؤمنين خاصة بان يتناولوا هذه الشهوات ولذلك فهم يتناولونها ويتمتعون بها عليها واما الكفار فانهم وان تمتعوا بها في الدنيا فانهم يعاقبون عليها في الاخرة ولذلك لا تكونوا خالصة في يوم القيامة الا للذين امنوا كما ذكر الرب سبحانه وتعالى. فليس الذم على اتخاذ الشهوة والميل اليها وتناولها وانما ذموا بانهم قد ملكتهم شهواتهم فصاروا تبعا لها فانها كالحاكم عليهم فحيثما دارت بهم الشهوة داروا معها وحيثما مالت بهم الشهوة مالوا معها فيذم من الشهوة اتباعها لا تناولها فينبغي ان تفرق بين مقامين اثنين يتعلقان بالشهوة احدهما تناول الشهوة كالاكل من مطعم حسن او الشرب من مشرب هنيء او التمتع بالازواج او طلب الذرية فان هذا تناول لشهوات اذن الله بها. والثاني اتباع الشهوات بان تكون هي الغالبة على العبد. الحاكمة له فاذا حكمت عليه بشيء تبع حكمها كما كان يفعل هؤلاء الخلف الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى بكون يسيرون مع الشهوات لا يخالفونها فعندئذ كان لهم العقاب ونظير هذا ان الذي تناوله الظن هو اتباع الهوى وهو كونه متقوعا بان يتخذ العبد الهه هواه لا مجرد ان يكون للعبد فكل واحد له هوى ولكن المؤمنين كما قال تعالى واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى يعني ان العبد لا يذم على وجود الهوى معه. فان كل انسان له هوى والمراد بالهوى ها هنا الميت فان لكل انسان ميلا الا ان الذي يذم هو ان يغلب عليه الهوى حتى يكون الهوى حاكما عليه بمنزلة الاله كما قال الله عز وجل افرأيت من اتخذ الهه وواه فليس العبد مقبوحا مذموما لكونه على هوى وانما يذم اذا غلب عليه هذا الهوى حتى كان حاكما له يدور معه. ويمدح العبد اذا نهى النفس عن هواها واما مجرد الميع فهذا لا يذم عليه العبد وهذا ينبئك عن ان الهوى قد يطلق ويراد به مجرد الميل. وليس الميل الى الضلال. فان للهوى معنيين اثنين. احدهما الميل الى الضلال وهذا اكثر ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية. والثاني مجرد الميل. سواء كان الى هدى او الى غيب كما جاء في صحيح البخاري ان عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما انا ربك الا تسارع في هواك يعني في ميلك الذي تميل اليه وليس المراد في اظلالك. ومثله ما جاء في الحديث الضعيف لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به. فان الهوى هنا يراد به الميل. لا الميل الى الضلال