احسن الله اليكم قال الشيخ ابو هلال ولفضل العلم ما دلت في التماسه الاعزاء وتواضع الكبراء وخضع لاهله ذوي الاحلام الراجحة والنفوس الابية والعقول السليمة واحتملوا فيه الاذى وصبروا على المكروه. ومن طلب النفيس خاطر بالنفيس. وصبر على الخسيس. ومثال ذلك اخبرنا به الشيخ ابو احمد قال حدثنا ابو بكر السراج النحوي يقال قال لنا ابراهيم بن البختري قال عمر ابن شبه كنا نكون عند الاصمع فيجيء واصحابنا الرياشي والزيادي والمازني والجمري والسدري والسجستاني والخلق. فنجلس في دهليزه وفي الدهليز تراب قدر قدر عظم الذراع فتسفي الريح علينا التراب فيدخل في رؤوسنا. فقال لنا يوما وقد رأى ما نحن فيه كان يقال اذا كثرت المؤتفكات زكت الارض ومعناه ان الرياح تجلب ترابا من ارض غريبة الى ارض اخرى. قال الاصمعي الاصمعي فشعوركم الان تزكو بهذا التراب فقال الرياشي انظروا الى ابن الفاعلة ما يصنع بنا وكيف يستخف بنا ويسخر منا؟ قال ابو هلال سميت الرياح المؤتفكات لانها لا تتماسك. واصل هذه الكلمة عدم التماسك. وسمي الكذب افكا اذ كان يدل على نفسه بالفساد والبطلان كانه لا يتماسك واخبرنا الشيخ ابو احمد قال اخبرنا ابو بكر بن درير قال اخبرنا عبدالرحمن قال سمعت عمي يحدث قال سهرت ليلة من من الليالي بالبادية وانا نازل على رجل من اهل القصيم وكان واسع الرحل كريم المحل. فاصبحت وقد عزمت على الرجوع الى العراق فاتيت ابا مثواه فقلت اني هلعت من طول الغربة واشتقت اهلي ولم افد في قدمتي هذه اليكم كبير علم وانما كنت اغتفر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة. فاظهر توجعا ثم ابرز غداء فتغديت معه. ثم امر بناقة له مهرية انها سبيكة لجين فارتحلها ثم ركب واردفني واقبلها مطلع الشمس. فما سرنا كبير مسير حتى لقينا لقينا شيخ على مال فسلم عليه وقال يا ابن عم اتنشد ام تقول؟ فقال كلا قال فاناخ وقال لي خذ بيد عمك فانزله عن حماره فعلت فقال له انشدنا رحمك الله وتصدق على وتصدق على هذا الغريب بابيات يعيهن عنك ويذكرك بهن فقال ايها الله اكبر وانشد. لقد قال يا سوداء منك المواعظ ودون الجدل مأمول منك الفراقد منين تمنينا غدوا وغيمكم غدا ضباب فلا صحب ولا هو جائد. اذا انت اعطيت الغنى ثم لم تجد بفضل الغنى والفيت ما لك الفيت مالك حامد الفيت ما لك حامد احسن الله اليكم نعم. ما لك حامد الفيت ما لك حامد وقل غناء عنك مال جمعته اذا صار ميراثا ووراك لاحد. اذا انت لم تعرك بجنبك بعض ما يريب من الادنى رماك الاباعد. اذا انت لم تترك طعاما تحبه ولا مجلسا تدعى اليه الولائد تدللت عارا لا يزال يشيبه سباب الرجال نثرهم والقصائد وانشدني ايضا تعز فان الصبر بالحر اجمله. وليس على ريب الزمان معول. فان تكن الايام فينا تبدلت ببؤس ونعم والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتي ليس تجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة تحمل ما لا تستطيع فتحمله. وفينا بعزم الصبر منا نفوسنا. فصحت لنا الاعراض والناس هز لوم قال الاصمعي فقمت والله وقد انسيت اهلي وهان علي يطول الغربة وشظف العيش سرورا بما سمعت ثم قال يا بني من لم يكن استفادة الادب احب اليه من الاهل والمال لم ينجب قال الشيخ شظف العيش جدته وخشونته. قلنا ومن عرف العلم وفضله لم يقض نهمته منه ولم يشبع من جمعه طول عمره. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما اخبرنا به الشيخ ابو احمد عن ابن منيع عن ابن ابي خيثمة عن جرير عن عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم منهمان لا يقضي واحد منهما نهمته منهوم في طلب العلم ومنهوم في طلب الدنيا وقيل يا رسول الله من اجود الناس؟ قال طالب العلم. قيل فمن اشبعهم؟ قال الذي لا يبتغيه. وقال سعيد بن جبير لا يزال رجل عالم ما تعلمت اذا ترك كان اجهل ما يكون. قال الشيخ ابو هلال ونحو هذا ما قلته احقر نفسي وهي نفس جليلة تكنفها من جانبيها الفضائل احاول منها ان تزيد فترتقي الى حيث لا يسمو اليه المحول. وان انت لم تبغي الزيادة في العلا فانت على النقصان منهن حاصلون. وقيل لابن المبارك الى كم تكتب الحديث؟ قال لعل فقال لعل الكلمة التي انتفع بها لم اسمعها بعد وقال سفيان من ترأس سريعا اضر بكثير من العلم. ومن لم يترأس طلب وطلب حتى بلغ وقال الشعبي رحل مسروق في اية الى البصرة فسأل عن الذي يفسرها فاخبر انه بالشام فتجهز الى الشام حتى سأل عنها قال وما رأيت احدا اطلب للعلم في الافاق من مسروق. وقال سعيد بن المسيب اني كنت لاسير الايام والليالي في طلب الحديث الواحد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم اطلبوا العلم كل اثنين وخميس فانه ميسر لمن طلبه واذا اراد احدكم حاجة فليبكر اليها فان البركة في البكور وقال اربد التميمي اذا سمعت بارض عالما اتيتها وقال ابراهيم ابن يحيى لقد طلبت العلم بالمدينة حتى ظن الغريب اذا دخلها اني بها غريب. لشدة طلبي وحرصي على العلم. وقال ابن سيرين قدمت الكوفة فوجدت بها اربعة الاف شاب يطلبون الحديث قال وما زال قتادة متعلما حتى مات حدثنا الشيخ ابو احمد عن نفطويه عن احمد ابن يحيى عن ابن الاعرابي قال قال رقبة للاعمش ان اتيانك لذل وان الجلوس عندك كان حسرة وما اشبهك الا بدواء المشي. يحتمل ما فيه من الكراهة لما يرجى فيه من المنفعة. وكان بعض الشيوخ يحب تقديم شاب كان يجلس اليه ويتأخر ويغيب فقال له ما اخبرنا به الشيخ ابو احمد عن ابراهيم ابن حميد ابن كردوس قال يزيد ابن هارون يقول من غاب خاب واكل يصيبه الاصحاب. قال الشيخ ابو هلال ونحو هذا ما قلته. من كان عنك مغيبا اسلاك عن يغيبه واذا تطاول هجره نسي اللقاء وطيبه. او ما سمعت ما قالهم من غاب خاب من غاب غاب نصيبه وقيل لبزر جمهر بما جمعت هذا العلم الكثير؟ قال ببكور كبكور الغراب وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار ونحو هذا قول شعبة وقد قيل له ما بال حديثك نقيا؟ قال لترك العصائد بالغدوات. وسئل شريك عن حديث فقال هذا ما فاتنا فيه العصائد قال ابن عباس رضي الله عنهما ذللت طالبا فعززت مطلوباه. وقال عبد الرحمن بن حرملة لقد شجني سعيد بن المسيب في العلم مرتين. وقال قال الاعمش الحبر في ثياب صاحب الحديث احسن من الخلوق في ثوب العروس. وقال ابن شهاب ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته. قلنا وحسب بهذا عناية وتوفرا. وكان ابن شهاب لا يأكل التفاح. وعند الاطباء ان التفاح يملأ المعدة لزوجات تشغل وتنسي كان يشرب العسل ويقول انه يزكيه وذكر لنا ان ابن الانباري كان يؤتى بالرطب فيوضع بين يديه فلا يمسه ويقول له ما اطيبك واحلاك وللعلم اطيب منك واحلاه ولا ينال منه ونحو ذلك ان ابا علي الجبائي رأى ابنه ابا هاشم يأكل باد جانة في بستان له. فقال له القها يا بني ولك كذا وكذا دينار، فالقاها واخذ الدنانير وقال ابن المراغي ينبغي ان يخادع الانسان نفسه في الدرس. وقالوا ابن جروين الموصلي ينبغي ان يؤخر الموصل. جرو للموصل احسن الله اليكم وقال ابن جرو الموصلي ينبغي ان يؤخر الانسان درسه للاخبار والاشعار لوقت ملله. وكان ابو سهل الصعلوكي اذا دخل الحمام سمعت سمعت له همهمة من الدرس والقراءة. ويقول كان يقال العلم ما دخل معك الحمام يحث على الحفظ وقال بعض الفلاسفة العلم ما اذا غرقت سفينتك يسبح معك يقول العلم هو المحفوظ قلنا والحفظ لا يكون الا مع شدة العناية وكثرة الدرس وطول المذاكرة. والمذاكرة حياة العلم. واذا لم يكن درس لم يكن حفظ. واذا لم تكن مذاكرة قلت منفعة الدرس ومن عول على الكتاب واخل بالدرس والمذاكرة ضاعت ثمرة سعيه واجتهاده في طلب العلم. وقد احسن القائل وليس علما ما حوى القمطر ما العلم الا ما حواه الصدر. وانشدنا الشيخ ابو احمد عن ابن العلافي لابي علي البصير اذا ما غدت طلابة العلم لم تنل من العلم الا ما يخلد في الكتب. فدوت بتشمير وجد عليهم فمحبرة اذني مصحفها قلبي قال الشيخ وقلت في قريب منه لعل غناء عنجه للمغمر دفاتر تلقى في الظروف وترفع تروح وتغدو عنده في مضيعة وكم قد رأينا من نفيس يضيع وانشد النظام قول محمد بن بشير اما لو اعي كل ما اسمع واحفظ من ذاك ما ولم استفد غير ما قد سمعت لقيله هو العالم مصقع. ولكن نفسي الى كل شيء من العلم تسمعه تنزعه. فلا انا احفظ ما لقد جمعت ولا انا من جمعه اشبعه واحضر بالصمت في مجلسي وعلمي في الكتب مستودعون ومن يكفي علمه هكذا يكن دهره القهقرى يرجع اذا لم تكن حافظا واعيا فجمعك للكتب لا ينفعه. فقال النظام الف ابن بشير الكتب كلف ابن بشير الكتب ما لا تكلف. ان الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الاحمق عاقلا ولا البليد ذكي ولكن الطبيعة اذا كان فيها ادنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف. ومن اراد ان يعلم كل شيء فينبغي لاهله ان يداومه فان ذلك انما تصور له لشيء اعتراه وسمع وسمع يونس ابن حبيب رجلا ينشد استودع العلم قرطاسا فضيعه فبئس مستودع العلم القراطيس. فقال قاتله الله ما اشد صبابته بالعلم وصيانته للحفظ ان علمك من روحك ومالك من بدنك فصنهما على قدر هذين منك وكان الخليل ابن احمد رحمه الله تعالى يقول الاحتفاظ بما في صدرك اولى من درس ما في كتابك. وقال اجعل ما في كتابك رأس المال وما في صدرك للنفقة. وقيل لابي نواس قد بعثوا الى عبيدة والاصمعي ليجمع بينهما. فقال اما ابو عبيدة فان امكنوه من سفر قرأ عليهم اساطير الاولين. واما الاصمعي فبلبل يطربهم بنغماته. وحدثنا ابو احمد عن الصولي عن الجمحي قال قال التوزي سمعت ابا عبيدة يقول اختلفت الى يونس اربعين سنة كل يوم املأ الواحي من حفظه وانصرف وقال الزهري ان الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب ثم لا يلبث ان يصير واديا لا يوضع فيه شيء الا التهمه. قلنا يريد ان اول الحفظ شديد يشق على الانسان ثم اذا اعتاد سهل ومصداق ذلك ما اخبرنا به الشيخ ابو احمد عن عن الحارث ابن اسامة قال كان العلماء يقولون كل وعاء افرغت فيه شيئا فانه يضيق الا قلبه فانه كلما افرغ فيه اتسع. وقال ابو السمح الطائي كنت اسمع عمومتي في المجلس ينشدون الشعر فاذا استعدتهم زجروني وسبوني. وقالت قالوا تسمع شيئا ولا تحفظه. قال الشيخ وكان الحفظ يتعذر علي حين ابتدأت ارومه ثم عودته نفسي. الى ان حفظت قصيدة رؤبة وقاتم الاعماق خاوي المخترق في ليلة وهي قريب من مائتي بيت. وقد قال الشعبي ما وضعت سوداء في بيضاء قط. ولا حدثني احد بحديث فاحتجت الى ان يعيده عليه قال وينبغي للدارس ان يرفع صوته في درسه حتى يسمع نفسه فانما سمعته الاذن رسخ في القلب. ولهذا كان الانسان اوعى لما يسمعه منه لما يقرأه واذا كان المدروس مما يفسح طرق الفصاحة ورفع به الدارس صوته وزادت فصاحته وحكي لي عن بعض المشايخ انه قال ما رأيت في بعض قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة اهل جلدته فقال كنت اعمد في كل في يوم الى خمسين ورقة من كتب الجاحظ فارفع صوتي بها في قراءتها. فما مر لي فما مر لي الا زمان قصيرة حتى الى ما تراه وحكي لي عن ابي حامد انه كان يقول لاصحابه اذا درستم فارفعوا اصواتكم فانه اثبت للحفظ واذهب للنوم الا زمان قصير بصيرة غلط هذي فما مر لي الا زمان قصير حتى صرت الى ما تراه. وحكي لي عن ابي حامد انه كان يقول لاصحابه اذا درستم فارفعوا اصواتكم فانه اثبت للحفظ واذهب للنوم. وكان يقول القراءة الخفية للفهم والرفيعة للحفظ والفهم. وكان بعضهم يقرأ الكتاب ثم ذاكروا به حرفا حرفا كأن قارئا يقرأه عليه فيفسره له وكان الشيخ ابو علي يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به النوم وحكى الربيع عن فاطمة بنت الشافعي رحمه الله تعالى انها قالت اسرجت لابي في ليلة سبعين مرة وكان الشافعي رحمه الله تعالى يقول الظلمة اضواء للقلب واعلم ان الذكاء وجودة القريحة وثقوب الذهن جواهر نفيسة. فاذا طلب صاحبها العلم فبلغ مبلغا فقد حفظ جمالها على نفسه احرز منفعتها له ومن ترك الطلب حتى كل ذهنه وعميت فطنته وتبلدت قريحته مع ادبار عمره كان كمن عمد الى ما عنده من الياقوت والدري فرده وابطل الجمال والنفع به. واذا كان ما جمعته من العلم قليلا وكان حفظا كثرت المنفعة به. واذا ان كثيرا غير محفوظ قلت منفعته وحدثني الضراب قال سمعت ابا العباس النفاط يقول كان علم الاصمعي في قمطر الا انه كان حفظه وكان وكان كتب وكان كتب ابي عمرو بن العلاء ملء بيت فاحترق. فكان جميع ما يؤخذ عنه الى اخر عمره من حفظه. والذي تدل عليه اخبار العرب انه كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلتين فيحفظونهما. وما روي انهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئا من كلامهما. وكان من المولدين من وصف بمثل هذه الحال. اخبرنا الشيخ ابو احمد عن رجاله قال امر الرشيد ابا يوسف القاضي بان يجمع له اصحاب الحديث. فيحدثه ولده فجمع اهل الكوفة فحضروا الا عبدالله بن ادريس وعيسى ابن يونس فانهما ابيا ان يحضرا. فركب اليهما الامين والمأمون فحدثهما عبد الله بن ادريس بمئة حديث. فلما فرغ قال له المأمون اتأذن لي ان اقرأها عليك من حفظه؟ فقال ان شئت؟ فوضع الكتاب من يده وقرأها باسانيدها من حفظه وعرض عليه المأمون مالا فلم يقبله. وسأله المأمون ان يبعث اليه بطبيب يداويه من جراحة به فاباه وقال يشفيني الذي يشفيني الذي امرضني وحدثهما عيسى ابن يونس فامر له المأمون بعشرة الاف درهم فقال انا لا اقبل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة ماء فزاده المأمون عشرة الاف اخرى فلم يقبلها وقال لو ملأت هذا المسجد ليذهبا ما اقبله وقال المنصور ابن المهدي للمأموم ايحسن بمثلي ان يتعلم؟ فقال والله لان تموت طالبا للعلم خير من ان تموت قانعا بالجهل. وروي ان ابا عباس بن سرير لم يبت على فراشه حتى مات ابن داوود. وحكي عن ثعلب انه كان لا يفارقه كتاب يدرسه فاذا دعاه رجل الى دعوة شرط عليه ان يوسع له بمقدار مسورة يضع فيه كتابا ويدرس وكان ابو بكر الخياط النحوي يدرس جميع اوقاته حتى في الطريق وكان ربما سقط في جرف او خبطته دابة وحكي عن بعضهم انه كان يشد في وسطه خيطا اذا قام من يدرس خوفا من ان يسقط اذا نعس. وكان ابن الفرات لا يترك كل يوم اذا اصبح ان يحفظ شيئا وان قل. وكان بعضهم يقول متى تبلغ ومن العلم مبلغا يرضى وانت تؤثر النوم على الدرس والاكل على القراءة وسأل رجل ابا حنيفة عما يورث الحفظ. فقال البزر البزر. ونحو ذلك ان رجلا قال لبقراط كيف حفظت هذا العلم الكثير؟ فقال قطت من الزيت اكثر مما شربت انت من الماء. وقال ابو الحسن الكرخي كنت احضر مجلس ابي حازم يوم الجمعة بالغداة من غير ان يكون يوم بالا انقض عادتي في الحضور. واشترى اصحاب الشافعي له جارية. فلما كان الليل اقبل على الدرس والجارية تنظر اجتماعه معها فلم يلتفت اليها فلما اصبحت صارت الى النخاس وقالت حبسوني مع مجنون فبلغ الشافعي رحمه الله تعالى قولها فقال المجنون من عرف قدر العلم ثم ضيعه او توانى فيه حتى فاته. وقال بعض الكتاب كنا اذا دخلنا على ابي الفضل ابن رأينا الى جانبه في مجلس العمل زهاء مائة مجلدة. فننكر ذلك ففطن يوما لانكارنا. فقال اني لاحفظ جميع ما فيه بهذه الكتب فاذا اشتغلت بالعمل عن درسها احضرتها عندي. فكلما نظرت اليها ذكرت المحفوظ منها. فقام ذلك لي مقام الدرس ثم قال منا خذ ايها شئت فاخذ الرجل منها كتاب وقال هو الثاني من كتاب كذا فابتدأ ابو الفضل فقرأ من اوله صدرا ثم من ثم من اخره فتحق عندنا ان من صدق ما قال وعجبنا من حفظه وعنايته وحرصه وكان يأخذ ابنه ابا الفتح كل يوم بدرس الفي بيت قبل الغداء وكان يحفظ اكثر من مائتي الف بيت وكان الاصمعي يحفظ اثنتي عشرة الفي ارجوزة فيها ما كان عدد ابياتها المئة والمائتين. وكان الشيخ ابو علي من الموصوفين بسرعة الحفظ. وسمعت الشيخ ابا احمد يقول دخل علي ابو علي على عسل ابن ذكوان مع جماعة فانشدهم عسل. هل خبر القبر سائليه ام قر عينا بزائريه؟ ام هل تراه احاط طعم بالجسد المستكن فيه. لو يعلم القبر من يواريه تأه على كل من يليه. وهي قصيدة فسألوه ان يمليها عليهم فوعدهم فالحوا عليه فاعرض عنهم فقال لهم ابو علي لا تكلفوا الشيخ ما يكرهه وقام فاملاها عليهم واذا هو قد حفظها من لفظ وكان عسل ضنينا بعلمه. وكان اذا رأى متعلما ذكيا يفهم ويحفظ قال يعين الله والبلغم. والبلغم يريد ان ان الله يبلوه من امور الدنيا ما ينسيه العلم. والبلغم مما ينسيه. وذكر وذكر لي عن ابي حاتم انه قال ضاق بي الحال ايام طلب العلم فعجزت عن شراء البزر. فكنت اخرج بالليل الى الدرب الذي انزله وارتفق بسراج الحارس. وكان ربما انام الحارس فكنت انوب عنه. وهذا وابيك الحرص والاجتهاد. لا جرم انه صار احد اعيان الدنيا المشار المشار اليه في العلم والفضل البراعة والجاه العريض والذكر الباقي على اعقاب الليالي والايام. ومن طلب وجد الا ما قل وشذ وقال بعضهم لابي هاشم ما احسن جمعك لمعاني كتب ابي علي واختصارك لكلامه فقال قد دست كتبه دوسا واكلتها وشربت درس فعرفتها ظهرا وبطنا. قلنا الا ما كان من تفسير القرآن وسائر علومه فانه لم يكن لابي هاشم فيها تقدم. والدليل على ذلك انه قال في كتاب الاجتهاد لظنه اية التحدي في سورة البقرة وسورة البقرة عندهم في ظني مدنية. وهذا عجيب بمثل ابي هاشم وايات التحدي في ستة مواضع من القرآن والامر في سورة البقرة انها مدنية اشهر من ان يشك فيه متعلم فضلا عن عالم. واملا ابو علي جميع كتبه من حفظه وهي مئة وعشرون الف كورقة وما رأى احد معه دفترا قط الا في ايام تعلمه وليس في بيته الا مصحف وتقويم. ومعلوم ان الانسان لا يبلغ هذا المبلغ من العلم الا بعد ذا الجهد الشديد والتعب الكثير ولا نعلم احدا غير ابي علي ام لا تفسير القرآن املأ من حفظه الا ما روي ان ابا مض ان ابا مضر ام لا تفسيره في اربعين صباحا وهو تفسير صغير الحجم لا يقاس بتفسير ابي علي. وكان ابو علي يمليه في وفي يده المصحف فقط ولا يستعين عليه بكتاب لما ذكر المصنف رحمه الله تعالى فيما سلف شرف العلم وفضله وما يورثه من سمو ورفعة المنزلة ذكر في الصفحة الثامنة والخمسين انه لجلالة العلم وعزته تواضع له الكبراء وخضعوا فلا يدرك العلم الا بالخضوع لاهله واحتمال الاذى في طلبه والصبر على المكروه في تحصيله. فالعلم لا يجامعه في الطلب الا الذل لاهله. كما قال بعض السلف لا يطلب العلم الا بالذل اي بالتواضع والانخفاض لاهله فان المتعزز عنهم الشامخ بانفه يصرف عنه العلم ويحبس. فلا يبذل له. وهذا معنى قول الشاعر العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي. فالسيل يحطم الاماكن العالية ويزيلها. وكذلك العلم يحطب متعالي فلا يصل اليه الا ان يتواضع له ويحرص على طلبه بذل وخفض لمن يأخذ عنه. وذكر المصنف في ذلك قصة جماعة من اهل العربية هم الرياشي والزيادي والمزي والجرمي والسدري والسجستاني الذين اذا كانوا يجلسون في باب الاصمعي ينتظرون خروجه عليهم. وكانت تسف عليهم الريح اذا هاجت ترابا مجموعا عند بابه حتى يخالط رؤوسهم. فكانوا يدلون لذلك لاجل طلب العلم واخذه عن الاصبعين ولم ينل الاصبعي هذه الرتبة حتى دل للعلم وتغرب لاجله وفارق الولد والاهل في التماسه. وذكر المصنف رحمه الله تعالى قصته مع الاعرابي الذي لازمه مدة حتى ظن انه لم يظفر بكبير مع مكوثه بينهم فاراد ان يفارقهم فاخذه الى ابن عم له انشده شيئا من عزيز فعله الذي حفظه الاصمعي عنه. ثم ذكر المصنف ان من عرف العلم وفضله لم يقض نهمته منه ولم يسمع من جمعه طول عمره. فاذا حصلت النفس محبة العلم ورغبت فيه تمادت بها النهمة في اخذه وطلبه. وروي في ذلك حديث اسنده المصنف وهو من همان لا يقضي واحد منهما نهمته منهوم في طلب العلم ومنهوم في طلب الدنيا الحديث وهو حديث ضعيف وروي من غير حديث ابن عباس من وجه لا يثبت ايضا واحسن ما في هذا المعنى ما صح عن الحسن البصري موقوفا من كلامه مقطوعا من كلامه عند الدارمي في كتاب السنن واما الاحاديث المرفوعة في هذا المعنى فهي ضعيفة. ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى كلاما واحوالا للسلف في طلب العلم تصدقوا هذه المعاني من ذلك انه قيل لابن المبارك وهو عبد الله الى كم تكتب الحديث؟ فقال لعل الكلمة التي انتفع بها لم اسمعها بعد. فطالب العلم الراغب فيه لا ينفك عنه. لانه لا يدري اكتب ما ينتفع به ويفرح بثوابه واجره عند ربه ام لا؟ ورأى رجل عبد الله احمد بن حنبل رحمه الله يجري مع اصحاب الحديث. فقال له الى متى تجري مع هؤلاء يا ابا عبدالله؟ فقال الى الممات اي حتى تفارق روحه جسده. فنهمة العلم لا تزال تحمله على الحرص عليه ثم ذكر عن سفيان وهو الثوري انه قال من ترأس سريعا اي تصدر بالرئاسة في العلم اضر بكثير من العلم اي فاته ذلك ومن لم يترأس طلب وطلب حتى بلغ. اي لا يزال يلتمس العلم ويحرص عليه حتى يبلغ وغبويته منه ثم ذكر اثارا عن السلف بالارتحال في طلب العلم وتحصيله وقرنها بحديث مرفوع لا يصح وهو حديث اطلبوا العلم كل اثنين وخميس. وروي في الرحلة في طلب العلم احاديث صحيحة سوى هذا الحديث ذكرها الحافظ ابو بكر الخطيب في كتابه المعروف والمسمى بالرحلة في طلب ثم ذكر بعد ذلك اثارا اخرى في هذا المعنى ثم رجع الى ذكر الذل في العلم ذلك فيما اسنده عن رقبة انه قال للاعمش ان اتيانك لذل وان الجلوس عندك لحسرة ما اشبهك الا بدواء المشي اي بدواء الاسهال سمي بذلك لان بطن من اصابه ما فيه ويخرج منه يحتمل ما فيه من الكراهة وهي المرارة التي تكون فيه لما يرجى فيه من المنفعة وهي قطع الاسهال تطهير الجسم منه. ثم ذكر بعد ذلك في هذا المعنى ان بعض الشيوخ كان يحب تقديم شاب كان يجلس اليه فيتأخر ويغيب قال له الاثر الوارد عن يزيد ابن هارون من غاب خاب واكل نصيبه الاصحاب. فاذا غاب الانسان فاته حظه من العلم ثم اورد جملة من الاخبار فيما يحصل به العلم كلها تدل على ان طلب علم يحصل بترك التوسع في الملذات في المآكل كالعصائد او في ملابس كالملابس الحسنة كما قال عن الاعمش الحبر في ثياب صاحب الحديث احسن من الخلق في ثوب العروس فان المشتغل بالعلم لا يكاد يلتفت الى هندامه وثيابه لكمال اقباله على العلم وربما وصل اليه شيء من مداد الحبر الذي يكتب به فهو عند اهل المعرفة به احسن من الخلوق وهو نوع من الطيب في ثوب العروس. ثم اورد رحمه الله تعالى في الصبر على العلم والذل فيه قول عبد الرحمن بن حرملة قد شجني سعيد بن المسيب في العلم مرتين او اي ضربه على ام رأسه حتى حرصا على تعليمه وتفهيمه. وفي هذا المعنى ما علقه البخاري في صحيحه عن عكرمة مولى ابن عباس ان ابن عباس رضي الله عنهما كان يضع القيد والكبل في قدميه يعلمه القرآن والفرائض ثم ذكر بعد ذلك اثرا عن ابن شهاب وهو الزهري انه قال ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته اي ما وضعت فيه شيئا من العلم ثم نسيته ثم قال المصنف قلنا وحسبك بهذا عناية وتوفرا اي دليلا على كمال اقباله على العلم بحيث اذا دخل شيء منه قلبه لصق به فلم يفارقه بالكلية ثم اورد عن ابن شهاب انه كان لا يأكل التفاح لما فيه من الحموضة وعند الاطباء ان التفاح يملأ المعدة لزوجات تشغل وتنسي وهذا من الاوصاف الملازمة للاحماض في الغالب ان المواد التي تشتمل على حموضة تضعف الحفظ وان المواد التي تشتمل على حلاوة تقوي الحفظ وفي هذا المعنى ان الزهري نفسه كان العسل فيقول انه يزكي اي يكسب الانسان قوة في الذكاء. ثم ذكر عن ابن انبال انه كان يؤتى بالرطب فيوضع بين يديه فلا يمسه ويقول له ما اطيبك واهلاك ولا العلم اطيب منك واحلى ولا ينال منه لان للرطب رطوبة تثقل المعدة فيأنس الإنسان منه ويبرد عزمه عن طلب العلم فكره لأجل ذلك بهذا المعنى ما جاء عن ابي علي الجبائي انه رأى ابنه ابا هاشم يأكل بادنجانة في بستان له فقال له القها يا بني ولك كذا وكذا دينارا واخذ الدنانير لان الباذنجان مما ذكر عند الاطباء انه مما يضعف الحفظ ويوهنه ثم ذكر عن ابن المراغي كلمة نافعة في سياسة النفس في طلب العلم انه كان يقول ينبغي ان يخادع الانسان في الدرس اي ان يأخذها بالحيلة. فيحتال عليها بانه يبقى مع الحفظ او درس قليلا ثم بعد ذلك يجدد عزمة اخرى انه يتمادى فيه وقتا فوق ما كان ينويه فلا بد ان يراعي نفسه في اخذها بذلك حيلة في حملها على العلم حتى تأنس به. ثم ذكر عن ابن جرو للموصي انه قال ينبغي ان يؤخر الانسان درسه للاخبار والاشعار لوقت ملله اي لوقت ضجله فان الاخبار والاشعار مما تروح به الارواح والقلوب فيجعلها الانسان في وقت الملل والضجر والعلوم لها مواقع ومنازل فالادب والشعر وما جرى مجراهما مما لا يحتاج الى كبير حضور ذهن ولا في فهمها فتكون موضوعة لوقت الملل والضجر. ثم ذكر عن ابي سهل الصعلوكي انه انا اذا دخل الحمام سمعت له همهمة في الدرس والقراءة ويقول كان يقال العلم ما دخل معك في الحمام؟ قال المصنف يحث على الحفظ ثم ذكر في هذا المعنى اقوالا واشعارا تدل على شرف الحفظ وان العلم الذي ينتفع به هو ما كان محفوظا ومن شهيد ذلك قول الخليل ابن احمد وليس علما ما وعى القمطر وفي رواية ما حوى القمطر ما العلم الا ما وعاه الصدر. والقطر نوع من الاوعية التي كانت تجعل فيها الكتب هو بمنزلة الحقيبة التي يعرفها الناس اليوم. فاراد ان العلم ليس هو ما كان في مثل الحقيبة بل العلم ما كان في الصدر. والمراد بهذه الكلمة اي انتفاع الانسان بالعلم مرهون بقدر ما يحفظ منه. واشرف من هذه الكلمة قول ابي عمر المقدسي الحنبلي رحمه الله الناس يقولون العلم ما كان في الصدر وانا اقول العلم ما دخل معك في القبر. اراد ان العلم النافع هو ما ينتفع به الانسان اذا صار الى قبره ثم ذكر رحمه الله تعالى من ما يتصل بهذا المعنى ما جاء عن يونس ابن حبيب انه رأى رجلا ينشد استودع العلم قرطاسا فضيعه فبئس مستودع العلم القراطيس. فقال قاتله الله ما اشد صبابته بالعلم وصيانته للحفظ. اي انه لم يرظى ان يكون علمه مستودعا في قرطاس وانما يرغب ان يكون في قلبه ثم اورد اثارا اخرى في هذا المعنى ثم ذكر عن الزهري انه قال ان الرجل ليطلب وقلب شعب من الشعاب اي بمنزلة الشعب الصغير. ثم لا يلبث ان يسير واديا ان يتسع. في طلب العلم لا يوضع فيه شيء الا التهمه. وهذا معنى قول بعضهم ما من شيء يوضع فيه الا ضاق الا القلب فانه اذا وضع فيه العلم اتسع فان الانسان في ابتداء اخذه العلم لا يكون قلبه مشتملا الا على قدر يسير منه. فاذا صبر والظ بطلبه وحرص عليه لا يزال قلبه يتسع في حفظ العلم ومعرفته حتى يحوي شيئا كثيرا لم يكن يحويه اول امره. ثم فسر المصنف رحمه الله تعالى ذلك بقوله قلنا يريد ان اول شديد يشق على الانسان ثم اذا اعتاد سهل وهذا امر ظاهر بالتجربة فان الانسان يكابد في المبادئ شيئا من المشقة في العلم او الحفظ او غير ذلك من مطالب النفوس. فاذا لزم ذلك وصار عادة له سهل ذلك ثم اورد المصنف رحمه الله تعالى ما وقع له هو اذ قال وكان الحفظ يتعذر علي حين ابتدأت يعني اطلبه ثم عودته نفسي اي ارتظت لنفسي عليه الى ان حفظت قصيدة رقبة يعني ابن العجاج وقاتم الاعماق خاوي المخترق في ليلة وهي قريب من مئتي بيت. وجاء في بعض الروايات عنه في غير هذا الكتاب حتى حفظتها في سحر يعني في اخر ليلة من الليالي. ثم ذكر رحمه الله تعالى من القواعد النافعة في درك العلم وطلبه التفريق بين القراءة التي تناسب الحفظ القراءة التي تناسب الفهم فبين ان القراءة المناسبة للحفظ هي القراءة الرفيعة وان القراءة لفهمه هي القراءة الخفيضة. ووجه ذلك ان من اراد ان يحفظ فرفع صوته صار يسمع نفسه محفوظه فيعينه ذلك على حفظه. فان الصوت اذا عظم في الاذن عظم في القلب واما وجه كون خفض الصوت انسب للحفظ لان الفهم يحتاج الى جمع قلب ومما يعين على جمع الكون الصوتي محفوظا فان الصوت الرفيع يجامع تشويش القلب. فالانسان اذا سمع جلبة او ضجة تشوش قلبه وعلم ان رفع الصوت يتسلط على القلب بتشويشه فيمنع الفهم بخلاف خفض الصوت به فانه او يجمع القلب على المطلوب عينه فيكون ذلك ادعى الى فهمه. ثم ذكر من احوال شيوخه في طلب العلم ما كان عليه شيخه ابو علي العنزي انه كان يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به لانه اذا مسه البرد لم يهنأ بانه فكان يريد ان يطرد النعاس عن نفسه بتجريد ظهره فيه حتى يمسه صوت البرد فلا ينام. ثم ذكر ما جاء عن بنت الشافعي واسمها فاطمة انها قالت اسرجت اي اوقت السراج لابي في ليلة سبعين مرة فكان يغفو ثم يقوم وينهض فيقيد شيئا من اهل العلم ثم يرجع وهكذا حتى بلغ هذا القدر. وكان الشافعي رحمه الله يقول الظلمة اضوأ للقلب. اي ادعى الى تحصيل الفهم لان الانسان اذا كان في ظلمة حجبت تلك الظلمة عنه الشواغل مواضع فجمع قلبه على مطلوبه. ويصدق هذا قوله تعالى ان ناشئة الليل هي اشد وطئا اقوم قيل فاجمع للقلب وقت الليل لما فيه من الظلمة التي تكون بمنزلة الحجاب المرسل الذي يقطع عن انسان الشواغل والعوائق والقواطع هذا اذا وجدت اما مع الانارات التي جعلت الليل اليوم كالنهار انه لا يجامع هذا القول وهي من اسباب تشوش العلوم وفساد احوال الناس في الدنيا ايضا فان مما غير حياة الناس في مدنيتهم هذا الاختراع المتعلق بالكهرباء الذي سوى بين الليل والنهار. ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى ان الذكاء وجودة القريحة وثقوب الذهن جواهر نفيسة. فاذا طلب صاحبها العلم فبلغ مبلغا فقد حفظ جمالها على نفسه واحرز منفعتها له فلا ينبغي للعبد اذا انس من نفسه شيئا منها ان يضيعه ومن قواعد فرض الكفاية التي ذكرها القرافي ان علم فرض الكفاية ربما يكون على بعض للخلق فرض عين اذا وجد منه جودة فهم وقوة حفظ فاذا وجدت هذه المعاني النفسانية فيه مما يعين على العلم تأكد عليه طلبه وحظر عليه تضييعه. ثم ذكر رحمه الله تعالى ما كانت عليه العرب في اخبارهم انهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلتين فيحفظونهما من اول مرة وكان في من بعدهم من ذلك شيء من هذا الى يومنا هذا فمن الناس من يفتح الله عز وجل عليه بما يفتح فيما يتعلق بالحفظ فربما حفظ من مرة واحدة او مرتين وربما سمع القصيدة او الحكاية مرة واحدة فحفظها وهذا بحسب فراغ قلبه من الشواغل والعلائق التي يحجبه عن تصوير ما يسمع في قلبه وهو في العرب اقوى من غيرهم. لان الله سبحانه وتعالى ارتضى ان تكون الرسالات واخر الكتب في نبي عربي انزل عليه في بلاد العرب لقوة اذهانهم وكمال قدرهم في الحفظ والفهم. فهم اجدر الناس التفوق في الحفظ والفهم لهذه الخصيصة الربانية لكن لما كثرت شواغلهم وزادت عوائقهم وركنوا الى الدنيا فظيعوا ما كانوا عليه من سجية الحفظ. وقد قد ادركنا من عوام هذا البلد ممن كان يحفظ ما يسمعه من القصائد والاشعار والحكايات من مرة واحدة لا يحتاج الى اعادتها وربما رأى بعضكم شيئا مما كان عليه الناس قبل. ثم ذكر رحمه الله تعالى اثارا اخرى في التحريض على لزوم طلب العلم وانه يجمل بالانسان طلبه مهما بلغت رتبته كما قال المنصور ابن المهدي احد الامراء العباسيين للمأمون الخليفة العباسي ايحصل بمثل اي من الامراء ان يتعلم؟ فقال والله لان تموت طالبا العلم خير من ان تموت قانعا بالجهل. ثم ذكر في معنى الحرص على العلم اثارا اخرى وذكر في جملة ذلك ان رجلا سأل ابا حنيفة عن ما يورث الحفظ فقال البزر البزر يعني الزيت وذلك بطول بالسهر بمراجعة الانسان محفوظه ثم ذكر بعد ذلك حكاية للشافعي تدل على كمال اقباله على العلم وهو الذي اورثه حفظه. وذلك انه لم يلتفت الى جارية اشتراها بعض له حتى اصبح الصبح بعد ادخاله عليه. ثم ذكر اخبارا عن بعض من مضى في كثرة محفوظهم وقوته وهو في الاوائل منثور مقسوم بين المحدثين الحفاظ وبين الادباء والشعراء فان الحفظ في هذين النوعين والصنفين من حملة العلم اكثر من غيرهما. فالاخبار المذكورة في حفظ الحفاظ كثيرة. وكذلك الاخبار المذكورة في حفظ الادباء وبلغاء العرب كثيرة ايضا وهي مبثوثة في تراجمهم وقراءة مثل تلك التراجم مما يحرك العزائم ويشحذ النفوس ويبعث الهمم على التحلي بما كانوا عليه فانهم كانوا من جنس البشر الذي هو جنسنا. ولكن الفرق بيننا وبينهم هو كمال اقبالهم فهم يقبلون بالكلية على العلم فيتجلى ذلك العلم في صورة كثرة محفوظهم. فمن تشبه بهم في الحرص على حفظ العلم امكنه ان يأتي على جملة كثيرة منه لكن ذلك محتاج الى طول المدة وكمال الصبر عليه فان العلم له على القلب ثقل يأنف منه ويريد ان يروغ عنه بالتقلب فيما يصادف والقلب من مستحسنات الدنيا فاذا حمل الانسان على قلبه وصابره في حفظ العلم ذل له القلب وافقه في مطلوبه حتى تصير لذته في ذلك المطلوب. بل ربما صار عادة لازمة له لا تنفك عنه في كل احواله. وقد ذكر في اخبار جماعة من الاوائل كابي جعفر ابن جرير وابي عبدالله ابن مالك وغيرهما انهم لم يزالوا يحفظون حتى توفاهم الله عز وجل فابن ما لك حفظ في اليوم الذي مات فيه خمسة شواهد والحفظ لا يزال يحصل في الانسان ما حسنت به الحياة ولا يزال الانسان قادرا عليه حتى يموت ما لم يتشوش عقله بخرف وهرب فاذا عقله بذلك ضعف عن الحفظ. اما ما بقي حيا فانه يستطيع ان يحفظ وليس الكبر مانعا من الحفظ. فهؤلاء اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انما تعلموا العلم كبارا وحفظوا العلم الذي نقلوه عن النبي صلى الله عليه من القرآن والسنة بعد بلوغهم اعمارا كبيرة فاكثرهم انما كان اسلامه وبعد الاربعين ومنهم من اسلم بعد الخمسين وحفظوا ما حفظوا من العلوم المذكورة في دواوين الاسلام من القرآن والسنة فلا يظن امرئ انه اذا تقدم عمره امتنع حفظه وعجز عنه بل يمكنه ذلك ولكنه يحتاج الى رياضة نفسه بان يأخذها شيئا فشيئا حتى يقتاظ قلبه على الحفظ فيبتدأ بحفظ قليل مدة حتى يأنس قلبه الحفظ ثم بعد ذلك يرقيه الى رتبة الاعلى. ثم يرقيه الى رتبة اعلى. حتى اذا صار وذلك ملكة للقلب وقوي فيه لم يحتج الانسان الى رياضة ومعاناة. بل ربما سمع شيئا فحفظه لاول وهلة وهذا معنى قول ابن المبارك المتقدم انما هو اذا اشتهيت الحديث حفظته ان يغلبوا عليه قلبه ويسبقه الى الحفظ دون ما لي ارادة منه. نعم