الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وعلى اله وصحبه. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة العبادة والتوحيد. واشهد ان محمدا عبده ورسوله شهادة الاتباع والتجريد. اما بعد فهذا هو المجلس الثاني من الدرس الاول من برنامج منتخب الابواب والحصول الثاني. والكتاب والمقروء فيه اصول في ادب العلم وفضله منتخبة من كتاب الذريعة الى مكارم الشريعة للعلامة ابي القاسم لاصفهاني وانتهى بنا المقام الى الباب الثامن والعشرين. نعم احسن الله اليكم قال الراهب الاصفهاني رحمه الله تعالى الباب الثامن والعشرون. ذكر من يصلح لوعظ العامة لا يصلح الحكيم العامة لا لنقص في الحكيم بل لنقص في العامي. فلن ترى الشمس ابصار الخفافيش. وايضا فبين الحكيم عامية من تنافي طبعيهما وتنافر شكليهما من النفر. قريب مما بين الماء والنار والليل والنهار وقد قيل لسلمة بن كهيل ما لعلي رضي الله عنه ما لعلي رضي الله عنه رفضته العامة وله في بكل خير ضرس قاطع. فقال لان ضوء عيونهم قصر عن نوره والناس الى اشكالهم اميل. وبهذا لما قال جاهل لحكيم اني احبك فقال له نعيت الي نفسي فقيل له ولم ذلك؟ فقال لانه ان صدق فليس ميله الي الا لنقيصة بدت من نفسي لنفسه فانست بها. وعلى هذا قول الشاعر لقد وزادني حبا لنفسي انني تغيب الى كل امرئ غير عاقل. فحق الواعظ ان تكون له مناسبة الى الحكماء ليقدر على الاقتباس عنهم والاستفادة منهم. ومناسبة الى الدهماء حتى يقدروا بها على الاخذ منه كالوزن للسلطان الذي يجب ان يكون فيه اخلاق الملوك وتواضع السوق. ليصلح ان يكون واسطة بينه وبينهم وكالنبي الذي جعله الله من البشر واعطاه قوة الملك لينكنه ان يأخذ عن الملك ويمكن البشر ان يأخذوا عنه ولهذا اشار تعالى بقوله ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. تنبيها انه ليس في وسعهم التلقي عن الملك ما لم يتجسم فيصير في صورة رجل. فاذا حق الواعظ ان تكون له نسبة الى الحكيم. ونسبة الى العامة خذوا منه ويعطيهم كنسبة الغضاريف الى اللحم والعظم جميعا. ولولاها لما امكن العظم ان يكتسب الغذاء من وهذا مما اذا تؤمل منه على حكمة عجيبة وصنعة غريبة ذكر المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب من يصلح لوعظ العامة والخلق عند المصنف منقسم الى ثلاثة اقسام القسم الاول الحكماء والقسم الثاني العامة والقسم الثالث الوعاظ وقد جعل رحمه الله تعالى الحكيم مباينا للعامي وهذه المباينة تقتضي الافتقار الى واسطة تكون بينهما هي الواعظ يرحمك الله وانما يراد بالحكيم عنده من غلبت عليه العلوم العقلية بحيث اشتد نفره من مدارك العوام وافهامهم والا فمحال الا يكون وراث النبوة من العلماء فيهم من يصلح لوعظ العامة وهل كانت بعثته صلى الله عليه وسلم وهو اعلم العلماء الا للعامة والخاصة جميعا؟ بلى ولكن من كثف قلبه بمسائل العلم دون تدليعه بانواع المرققات اورثه ذلك قساوة تحول بينه وبين نفع العامة. اما العالم المزين نفسه بالترغيب والترهيب والاقبال على الاخرة والاشتغال بما يرقق قلبه ينتفع به العامة انتفاعا عظيما فيسلم للمصنف رحمه الله تعالى هذه الدعوة في حق من استولت على قلبه مسائل علم فاورثته قسوة ونفارا من العامة اما من تزينت نفسه بالرقائق ومدارك النفوس واحوال القلوب من العلماء فهو اهل لان يعظ العامة بل هو اشد الناس اهلية لذلك واولاهم بنفع الخلق وفي طي كلامه رحمه الله تعالى التنبيه الى افتقار الواعظ الى الاقتباس عن العلماء فان الواعظ الذي يأخذ الناس بالترغيب والترهيب وينفعهم بذلك لا يصلح وعظه وارشاده ما لم يكن مأخوذا عن العلماء مقتبس مقتبسا عن علومهم والا فاذا العامة بمجرد ما يلقى فروعه ويجده على لسانه فهذا ربما اضر بهم ومن المقطوع به ان من يسعى في اصلاح الناس لا يلزم ان يكونوا جميعا على حال واحدة في العلم بل هم مراتب ومن ذلك مرتبة الوعاظ الذين نزلوا عن مرتبة العلماء لكن ان استشط هؤلاء الوعاظ فانزلوا انفسهم منزلة العلماء او خرجوا في وعظهم ان مقتضى العلم او حال بين الناس وبين العلماء صاروا وبالا على عامة وانما يحمد من الوعظ ما كان مرده الى ادلة الشرع وقديما قال ابو زرعة الرازي من لم يعظه الكتاب والسنة فلا وعظه الله. والمقصود الارشاد الى حاجة العالم الى رعاية قلبه واحوال نفسه وفشو الترغيب والترهيب لها حتى يتمكن من نفع العامة وفيه ايضا الارشاد الى حاجة الواعظ الى بناء وعظه على الاقتباس من العلماء والاهتداء بهديهم نعم الباب التاسع والعشرون الحال التي يجب ان يكون الواعظ عليها. حق الواعظ ان يتعظ ثم يعظه ويبصر ثم يبصر ويهتدي ثم يهدي ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد. وكمسن يشحذ ولا يقطع يكونوا كالشمس التي تفيد القمر الضوء ولها افضل مما تفيده. وكالنار التي تحمي الحديد ولها من الحمى اكثر مما تفيد ويجب الا يجرح مقاله بفعاله ولا يكذب لسانه بحاله لا يكذب لسانه بحاله فيكون ممن وصفهم الله تعالى بقوله. ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الى قوله والله لا يحب الفساد. ونحو ما قال علي كرم الله وجهه قصب ظهري رجلان جاهل متمسك وعالم متهتك. فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم ينفرهم بتهتكه. والواعظ وما لم يكن مع مقاله فعاله لا ينتفع به لا ينتفع به. وذلك ان عمله يدرك بالبصر وعلمه بالبصيرة واكثر الناس اصحاب الابصار دون البصائر. فيجب ان تكون عنايته باظهار عمله الذي يدركه جماعتهم اكثر من عنايته بالعلم الذي لا يدركه الا البصير منهم. ومنزلة الواعظ من الموعوظ كمنزلة المداوي من المداوى. فكما ان الطبيب اذا قال للناس لا تأكلوا هذا فانه سم قاتل. ثم رأوه اكلا له عدة سخرية عد سخرية وهزءا كذلك الواعظ اذا امر بما لم يعمله وبهذا النظر قيل يا طبيب طب نفسك بل قد قال تعالى لم يقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون. الى غير ذلك من الايات وايضا الواعظ من الموعوظ وايضا فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطابع من المطبوع. فكما انه محال ان يا طبع الطين بما ليس منتقشا في الطابع كذلك محال ان يحصل في نفس الموعوظ ما ليس بموجود في نفس فاذا لم يكن الواعظ الا ذا قول مجرد من الفعل لم يتلق عنه الموعوظ الا القول الا القول دون فاي ضوء فان الواعظ يجري من الناس مجرى الظل من ذي الظل. فكما انه محال ان يعوج ذو الظل والظل مستقيم كذلك من المحال ان يعوج الواعظ والموعوظ مستقيم. وايضا فكل شيء له حالة يختص بها فانه يجري غيره بارادة منه او غير ارادة. كالماء الذي يحيل ما يتلقاه من العناصر الى نفسه بقدر بوسعه الى نفسه وكذلك النار والارض والهوى. فالواعظ اذا كان غاويا جر بغيه غيره الى نفسه. ولهذا ولهذا حكى الله تعالى عن الكفار قولهم ربنا هؤلاء ربنا هؤلاء الذين اغوينا اغويناهم كما غوينا. وقال ايضا فاغويناكم انا كنا غاوين. فمن ترشح للوعظ ثم فعل فعلا قبيحا اقتدى به غيره فقد جمع بين وزره كما قال تعالى ليحملوا اوزأرهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير وقال تعالى وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم الاية وقد قال عليه السلام من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة. بل قد قال الله تعالى وهم يحملون اوزارهم على ظهورهم. الا ساء ما يزرون. ذكر المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب الحالة التي يجب ان يكون الواعظ عليها فنبه ان حق الواعظ ان يتعظ ثم يعظ ثم يبصر ويهتدي ثم يهدي ولا يكون بخلاف ذلك مفيدا غير مستفيد بل يكون كالشمس التي تفيد القمر الضوء ولها افضل مما تفيده والوعاظ فيما يمتثلونه من وعظهم او يدرون نوعان اثنان اولهما واعظ يعظ ويتعظ ويبصر ويبصر ويهدي ويهتدي والثاني واعظ يعظ وهو غير متعظ ويبصر وهو غير مبصر ويهتدي ويهدي وهو غير مهتدي وادلة الشرع متكاثرة في ذم القسم الثاني فان المقصود من وعظ الواعظ وتبصيره وهدايته ان يكون اولى الناس بذلك نفسه ولذلك كعاب الله سبحانه وتعالى من كان بخلاف ذلك. كما قال تعالى اتقولون ما لا تفعلون وانتم تتلون الكتاب افلا تعقلون. وقال تعالى يا ايها الذين امنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون في ايات واحاديث تنصر هذا المعنى والمراد بالواعظ المتعظ الذي يتعظ ويعظ يبصر ويتبصر ويهتدي ويهتدي هو الذي يحمل على نفسه في طلب امتثال ما يأمر به وان ترك منه شيئا وفي ترك ما ينهى عنه وان وقع منه شيئا. فليس المراد ان يكون الواعظ ممتثلا لكل ما يقول ولا منتهيا عن كل ما يقول لان الخطيئة تلازم البشرية فلا يسلم الانسان من خطأ وزلل واعظا كان او غير واعر. لكن المذموم هو ان يتعمد ترك المأمور الذي يأمر به وفعل المنهي الذي ينهى عنه على على وجه التعمد والتقصد وعدم الامتثال. اما ان يقع منه خلل بترك مأمور او فعل محظور المرة بعد المرة. فهذا طبع البشرية ثم نبه المصنف رحمه الله تعالى الى ان الحامل على رعاية هذا الاصل فوق ما جاءت به الشريعة هو ان الخلق يدكرون بالافعال اكثر من ادكارهم بالاقوال وربما كان الدليل بالفعل ارشد من الدليل بالقول والناس يدركون الاعمال بابصارهم ويفهمون الحقائق ببصائرهم واكثر الناس يجرون مع طلب البصر لا مع طلب البصيرة فهم يرون في حال الواعظ امتثالا بالفعل والنهي فما رأوه بابصارهم تبعوه فيه ثم نبه المصنف رحمه الله تعالى على احوال تشاكل الواعظ مع من يعظه وانها بمنزلة المداوي من مداوى اي الطبيب من مريضه فان المريض اذا رأى طبيبه يخالف ما يأمره به رأى ان ما امره به على وجه السخرية والاستهزاء وكذلك هو بمنزلة الطابع من المطبوع. فمن طبع في شيء لم تخرج فيه صورته لم تتحقق منفعة طبعه وكذلك حال الواعظ مع وعظه وكذلك هو جار مجرى الظل الظل فكما انه محال ان يعوجد الظل والظل مستقيم. كذلك من المحال ان يعج الواعظ والموعظ مستقيم كذلك نبه المصنف رحمه الله تعالى ان لكل شيء حالة يختص بها وربما جرى غيره معه بارادة منه او غير ارادة كما يلقى في الماء من العناصر فتستحيل ماء او في النار فتستحيل نارا او في الارض فتستحيل ترابا ربما اجتر الواعظ معه اذا كان غاويا من تلبس بطريقته فحمل وزره كما ذكر المصنف الاياتي المصدقة بذلك كما قال تعالى فاغويناكم انا كنا غاوين وكان الجزاء ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم. فمرتبة الوعظ شريفة الا ان لها كلفة شديدة. والانسان يجتهد في تحري هداية الخلق مع ملاحظة حال نفسه واكثر الوعاظ يقفون مع صورة الوعظ الى حقيقته. كما نبه على ذلك ابو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى والواعظ الصادق هو من يعتني بحقيقة وعظه اعظم من طلب صورته كما ذكر ان بعض من مضى اذا اراد ان يعظ في شيء متنفل اجتهد ان يعمله في نفسه قبل ان يعظ الناس به فاذا اراد ان يحث الناس على صدقة طلب التصدق قبل ذلك ثم وعظهم في ذلك وهلم جرا وهذه حال الكاملين من الوعاظ. فالانسان يجتهد في تحري هذا الاصل ويسدد ويقارب. ولا يظنن امرئ انه يكون في زمن خلوا من ذنب واثم ثم يترشح بعد ذلك لوعظ الناس. لان هذا لا يكون الا لملك. اما البشر فانهم معرضون للخطيئات والسيئات. والمأمور به هو ان يتحرى الانسان في تجريد نفسه من السيئات وتحليتها بالحسنات ووعظ الناس الى هذا ونهيهم عن ذاك فما وقع منه على وجه خطأي او الطبع الادمي فانه يسارع الى التوبة وطلب المغفرة من الله عز وجل. نعم الباب الثلاثون صعوبة المعيار الذي تدرك به حقائق العلوم. كما ان للدراهم والدنانير ميزانا قد عرف اهل وصحته فلكل علم ميزان نحو الحساب للمعدودات والهندسة للممسوحات والعروض للشعر والنحو للالفاظ العربية والى هذا اشار بقوله تعالى ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معه الكتاب ازا الاية واوصى الذين اعطاهم الموازين فقال وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس قال تعالى واوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين فكل شاك او منازع غيره في مقدار فحقه ان يعتمد ميزانه ان عرفه ويقلد اربابه ان لم يعرف فان من ترك ذلك واخذ يخرص ويظن ويخمن لم يزل شكه ولم يسقط خلافه. فالخرص وفقا لما يصدق والظن قلما يوافق ويحقق. ولذلك عبر بالخرص عن الكذب فقال تعالى انهم ان لا يخرصون وقال تعالى قتل الخراصون. وقال تعالى في ذم الظن ان يتبعون الا الظن ان لا يغني من الحق شيئا. ومعلوم ان ميزان الدين الذي صوابه يوصل الى الثواب العظيم. وخطؤه يهدي الى العذاب الاليم اصعب الموازين واشرفها واولاها بالمعرفة. وكثير في زماننا ممن تحلى علم الكلام وترشح فيه للجدال والخصام فرامى الزعامة فيه قبل اوانها وطلب تحقيق موزونا بغير ميزانها اخذ كل واحد منهم يخرص خرسا ويظن ظن ويسلك بظنه طريقا غير نهج. فاذا وقع بين خلاف جعل كل واحد منهم ميزانه واتبع فيما اعتقده ظنه. فاذا تحاكموا الى متى اخذوه ميزانا صار خلاف في الميزان اكثر من خلافهم في الموزون فهم في ذلك كمن غص بطعام فاستغاث بماء فشرق به لا جرم ان كثيرا من مناظراتهم لا تولد الا شبهة ولا تثمر الا خيره ولا يقوم عنها اثنان بساطة مدت بماء ظلمات بعضها فوق بعض ومن لم يجعل لله له نورا فما له من نور. ذكر المصنف رحمه الله تعالى ها هنا بابا في صعوبة المعيار الذي تدرك به حقائق فان الخلق مفطورون على طلب معايير يقيسون بها امورهم الظاهرة والباطنة فلا ينفك الخلق عن معايير تعارفوا عليها اما تتعلق بطعامهم او باموالهم او تتعلق باقوالهم او تتعلق باراضيهم او غير ذلك مما يطلب الناس قياسه في على معيار يجعلونه محطا لقياس ما يرومون. ومن جملة ذلك جعل ميزان للدراهم والدنانير وكل علم فله ميزان من الموازين كما ذكر المصنف غراء قد جعل لها معيار يفزع اليه. بحيث يعلم صوابه من خطأه. فان شريعة مركبة من عمل وعلم. ولكل منهما معيار. فاما معيار العلم فاما معيار او العمل فهو شيئان اثنان. احدهما معيار العمل الباطن وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم انما الاعمال بالنيات. متفق عليه وثانيهما معيار العمل الظاهر وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد فان هذين الحديثين عليهما مدار معيار العمل باطنا وظاهرا كما ذكره العلامة ابن تيمية وحفيده بالتلمذة ابن رجب ومن بعدهم العلامة ابن سعدي رحمهم الله تعالى جميعا. فالعمل المنسوب الى الشريعة في الباطن او الظاهر يقاس بهذا المعيار ويعرف بهذا المعيار صحة نسبته الى الشريعة او نفيه عنها. واما معيار العلم فانه شيئان اثنان احدهما النقل الصحيح والاخر العقل الصريح وهما المذكوران في قوله تعالى وانزلنا معهم الكتاب والميزان فان الكتاب يشير الى النقل الصحيح والميزان يشير الى العقل الصريح فان المقصود بالميزان هنا هو القياس الصحيح ولاجل هذا رأى ابن القيم رحمه الله تعالى في اعلام الموقعين وابن سعدي في القواعد والاصول الجامعة ان يجعل من ادلة الشرع بعد الكتاب والسنة والاجماع الميزان لانه اسم يختص بالقياس الصحيح. اما مطلق القياس فيدخله الفساد والصحة والشرع لم يعمل دليلا الا القياس الصحيح. وهذا من دقائق فهمهما رحمهما الله تعالى. وبهذا المعيار تقاس كل مقالة تنسب الى علم الشريعة فتعرض على النقل الصحيح ومرده الكتاب والسنة او الى العقل الموافق لمقتضى النظر المصدق بالكتاب والسنة فان شهد بصحته كان صحيحا وان شهد بفساده كان فاسدا. واذا خرج العلم عن هذا المعيار واتخذ له معيار اخر كشهرة القائل او كثرة القائلين او تعظيم من قال به وقع الميزان في الفساد فان القول لا يصحح بشهرة قائله او تعظيمه عند الخلق او كثرة من قال به وانما يعرف صوابه خطأه وصحته وفساده بالعرض على هذا المعيار فمن اعمل هذا المعيار في حقائق العلوم كان ادراكه لها صحيحا كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى كلامه وبه يعلم ان ما خرج عن هذا اما علم خادم للنافع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيقتبس واما واما علم لا ينفع ولا يخدم فيخرج الانسان منه ولا تعرضوا له وقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى احوال بعض من تحلى بعلم الكلام في زمانه وفزع الى قيسة العقلية المبنية على التخرصات والظنون فاختبط ميزانهم واختلط عيارهم واختلفت اقوالهم ايتولد من مناظراتهم الا الشبه ولا تثمر الا الحيرة. ولا تولد في قلوب الناس خيرا نعم الباب الحادي والثلاثون كراهية الجبال للعوام وذنبه على كل حال. اباحة تعاطي جدال عامة الذين لم يتدربوا في تحصيل القوانين ولم يتهذبوا في سبيل البراهين. يجري مجرا لقيد الشياطين ورفع سد يأجوج ومأجوج فانه يثير سلطان قوتهم السبعية منخلعة من يد قائد العقل وقيد الشرع فالجدال مكروه للعلماء الاباء فكيف للجهال الاغبياء؟ الا ترى انه تعالى قال لنبيه عليه السلام وجادلهم بالتي هي احسن فلم يطلق له جدال مخالفيه حتى قيده بالاحسن هنا مع وصفه عليه السلام بقوله تعالى وانك لعلى خلق عظيم. وقال تعالى في ذم الجدال ما ضربوه لك الا جدلا. وقال من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقال واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم وللجدال مع كونه مكروها شرائط وقوانين. فمن تعطاه ولم يكن متدربا فيها كان خصيما جدلا. والخصومة عديمة الفائدة قليلة العائدة. فان الجدال مع ما قد يوقظ الفهم ويثير الانفة لاقتباس العلم. والخصومة لا تثمر الا العداوة وانكار الحق هذا جعلها الله تعالى شرا من الجدال فقال تعالى بل هم قوم خصمون. وقال فاذا هو خصيم مبين اي جيد الخصومة مبين ولم يذكر الخصام في موضع الا عادة. وايضا فالمتجادلان يجريان مجرى فحلين وكبشين تناطحا ورئيسين تحاربا كرئيسين تحاربا وكل واحد منهما يجتهد ان يكون هو الفاعل وصاحبه هو المنفعل وان هو الطابع وصاحبه المنطبع والقائل كالمؤثر والسامع كالمتأثر. ومتى لم يخضع المتأثر قبول اثري مؤثر لم يتولد منهما خير بوجه. فقال حكيم المجادل المدافع يجعل في نفسه عند الخوض في الجدال الا يقنع بشيء. ومن لا يقنعه الا ان لا يقنع فما الى اقناعه سبيل ولو اتفق عليه الحكماء بكل بينة بل لو اجتمع عليه الانبياء بكل معجزة. قال تعالى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا وحشرنا عليهم كل شيء ان قبرا ما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله. ذكر المصنف رحمه الله تعالى هنا بابا ترجم له بقوله كراهية الجدال للعوام وذمه على كل حال والموطأ لفهم هذا الباب ان تعلم النفوس ان النفوس تنقسم الى ثلاثة انواع كما ذكره ابن القيم الله تعالى في روضة المحبين اولها نفس سماوية علوية وثانيها نفس سبعية غضبية وثالثها نفس حيوانية شهوانية وهذه الانواع الثلاثة للنفوس تحركها اربع انواع من القوى كما ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع فتاويه اولها القوة الملكية وثانيها القوة البهيمية وثالثها القوة السبعية ورابعها القوة الشيطانية والقوة الملكية هي المنسوبة الى الملأ. اي الى اخلاق الرحمة والفضل والحكمة والقوة البهيمية هي المنسوبة الى البهيمة اي قلة العقل والسفهي ومحبة الشهوة والقوة السبعية هي القوة المنسوبة الى السبع وهي اخلاق البطش والاعتداء والمخاصمة والقوة الشيطانية هي المنسوبة الى الشيطان وهي اخلاق المكر والحيلة والخبث والشبهة وهذه القوى الاربع تتعارك في النفس وهي لمن غلب عليها وتتحور النفس بعد هذه القوى الى واحدة من النفوس الثلاث التي تقدمت وهي النفس السماوية العلوية او النفس السبعية الغضبية او النفس الحيوانية الشهوانية واذا عقد هذا فان تعاطي العامة للجدال يثير سلطان قوتهم السبعية اي العدوانية التي ينشأ من تسلطهم على غيرهم وبطشهم به فيكره حينئذ تعاطي الجدال مع العامة وان يفتح لهم هذا الباب. واصل الجدال مكروه للعلماء فضلا عن الجهال كما قرره المصنف رحمه الله تعالى فانه لم يأتي غالبا الا مذموما وعندما اذن به انما به مع تقييده بالاحسن كما قيل النبي صلى الله عليه وسلم وجادلهم بالتي هي احسن. هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم موصوفا بالخلق الاعظم كما قال تعالى وانك لعلى خلق عظيم. فاذا تعاطى العامي الجدال اورثه ذلك عدوانا وتعديا ولججا ولددا يمنعه من قبول الحق فتكون فائدته له عديمة وعائدته عليه قليلة. وما ينشأ من الشر عن دخول قوله فيه اضعاف اضعاف ما يرجى من رده الى الحق. فينبغي الا يمعن المرء في مجادلة العوام بل يبين لهم الحق ويسكت فان قبلوه واخذوا به فالحمد لله لا وان ابوا واصروا على ما هم عليه كان قد ادى ما عليه لانه لا يتولد وراء ذلك الا الشر كما قال الله سبحانه وتعالى في حال من لم يقنع بالحق ولو اننا نزلنا اليه الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا. اي مقابلا معاينا ما اكانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله وهذا حال جدال العامة. نعم الباب الثاني وثلاثون ما يجب ان يعامل به الجدير المماحك. اذا ابتليت بمجادل مهاوش ومساجن قصده اللجاج لا الحجاج ومراده مباهاة العلماء ومماراة السفهاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من تعلم العلم ليباهي به العلماء او يماري به السفهاء. وقد قال الشاعر في مثل تراه معدا للخلاف كانه برد على اهل الصواب موكل. فحقك ان تفر منه من الاسود والاساود. فان لم تجد من مزاولته بدا فقابل انكاره الحق بانكارك الباطل. ودفاعه والصدق بدفاعك الكذب معتبرا في ذلك قول الله تعالى ومكروا مكروا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم فقوله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. وقوله حكاية عن المنافقين انا معكم انما نحن مستهزئون. الله يستهزأ بهم. وقولي فلما زاغوا طغى الله قلوبهم. الاية وتتبلغ معه بذلك. واياك وان تعرج معه الى بث الحكمة وان تذكر له شيئا من الحقائق. ما لم تتحقق ان له قلبا طاهرا لا تعافه الحكمة. فقد فصلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب. وان لكل تربة غرسا ولكل بناء وما كل رأس تستحق التيجان؟ ولا كل طبيعة تستحق افادة البيان؟ وان كان لابد فاقتصر معه على اقناع يبلغه فهمه. فقد يبلغه فهمه وان كان لا بد فاقتصر معه على اقناع يبلغه فهمه. فقد قيل كما ان فكما ان لب الثمار معد للانام فالتبن مباح للانعام. كذلك لب الحكمة معد لذوي الالباب. وقشورها مبذولة الانعام وكما انه من المحال ان يشم الاخشم ريحانا فمحال ان يفيد الحمار بيانا ان يفيد حمار بيانا. واعلم ان سبيل انكار الحجة والسعي في افساد الحمار بيانا محال ان يفيد الحمار بيانا السلام عليكم فمحال ان يحيل الحمار بيانا واعلم ان سبيل انكار الحجة والسعي او ان سبيل انكار الحجة والسعي في افسادها اسهل من اسهل من سبيل المعارضة بمثلها والمقابلة لا. ولهذا يتحرى الجدير الخصيم ابدا بالدفاع لا بمثلها وذلك ان الافساد هدم وهو سهل والاتيان بمثله بناء وهو صعب. فان الانسان هناك ما يمكنه قتل كما يمكنه قتل النفس الزكية وذبح الحيوانات واحراق النبات. ولا يقدر على ايجاد شيء منها يمكنه افساد حجة قوية بضرب من الشبه المزخرفة. ولا يمكنه الاتهان بمثلها ولاجل ما قلنا دعا الله سبحانه وتعالى الناس في الحجج الى الاتيان بمثلها. لا الى السعي في افسادها فقال تعالى فاتوا بسورة من مثله. فقال قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات فرضي ان يأتوا بما فيه مشابهة له. وان كان ذلك مفترى. وقال ابراهيم عليه السلام فان الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب والله الموفق ختم المصنف رحمه الله تعالى الفصول المتعلقة بالعلم وفضله مما اورده في كتاب الذريعة بهذا الباب المبين لما يجب ان يعامل به الجدل المماحك والمراد بالجدل المماحك من كان قصده اللجاج لا الحجاج والمباهاة للعلماء والمماراة للسفهاء فهو لا يريد الوصول الى الحق. وانما يريد احداث لجاج وطلب مباهاة وسمعة. ومتى ابتلي الانسان بجدل مماحك على هذا النعت المتقدم فان له معه مقامين اثنين احدهما مقام الفرار بالاعراض عنه واليه اشار المصنف بقوله فحقك فحقك ان تفر منه فرارك من الاسود والاساود المراد بالاساود الحيات العظيمة والثاني مقام القرار. فاذا لم يتمكن الانسان من الفرار عنه. ومباعدة وابتلي به وقر بين يديه فالواجب عليه ما ذكره المصنف بقوله فقابل انكاره الحق بانكارك الباطل ودفاعه الصدق بدفاعك الكذب معتبرا بما قال الله ومكروا ومكرنا مكرا وما في معناها من الايات التي اوردها المصنف. ويتبلغ معه الانسان بهذا ولا يعرج الى بث الحكمة وذكر حقائق العلم له لانه جدل مماحك انما يطلب نصرة قوله فاذا لم تتحقق ان له قلبا طاهرا وقبولا للحق والا فلا تجره الى بيان الحقائق. واقتصر على ما يبلغه فهمه. اما اما تزايد عن ذلك فاعرض عنه فانه لا نفع منه. وهو محال كما قال المصنف وكما انه من المحال ان يشم الاخشم ريحانا والمراد بالاخشم من ذهبت حاسة شمه لعطب انفه وعفونته فكذلك محال ان يفيد الحمار بيانا اي ان يظهر من الحمار بيان ارشاد وتعريف بالحق فيكون المقصود في مقام القرار طلب اظهار الحق ببيان حججه دون تطويل الكلام مناقضة ما يقوله ولهذا ارشد المصنف الى ان سبيل انكار الحجة والسعي في افسادها اسهل اسهل من سبيل المعارضة مثلها والمقابلة لها فانك اذا ذكرت له حجة سعى في نقضها بانواع الشبه ولكن لا تطالبه بنقض ما تقول من الحجج ولكن طالبه بحجة تدل على صحة مقاله. فاذا اورج فاذا اورد حجة فاسعى انت في نقضها. واما ان تولد الحجج حجة حجة وتعرضها عليه وهو جدل مماحك فانه يسعى في افسادها بانواع الشبه لان الافساد هدم وهو سهل والاتيان اخرى بناء وهو صعب. فالانسان يمكنه قتل النفس الزكية وذبح الحيوانات واحراق النبات. لكن لا يمكنه ايجاد شيء من ذلك وهذه هي الجادة المعول عليها فيما ذكر من الحجاج في القرآن كما قال تعالى فاتوا بسورة من مثله فطلبهم الله عز وجل بحجة تدل على صحة دعواهم. ولم يطالبهم سبحانه وتعالى النظر فيما اورد عليهم من الحجاج لان نفوسهم كانت مطبوعة على طلب المناقظة لما جاء به النبي صلى الله عليه سلم وهكذا كل جدل مماحك يعرف انه يريد الجدال ولا يريد الحق فلا تعرضن عليه الحجج تطلب رده الى الحق بل طالبه بالحجج الدالة على صحة قوله ثم اسعى انت في نقض المقالات التي يدعيها وهذا اخر التقرير على هذه الفصول المنتخبة من كتاب الذريعة وهي من للعلم المدفونة في ضمن كتاب الذريعة وعلى طالب العلم ان يعيد قراءتها مرة بعد مرة وان بث الانتفاع بها بين الخلق لما فيها من مزيد الافادة والاستفادة في هذا الباب فان ناس محتاجون الى هدايتهم الى مسالك اخذ العلم وبثه وتلقيه فانهم لما اخطؤوه وقعوا في الزلل والخلل ومن جملة هذه الاصول التي تتعلق بهذا الارشاد دوما الى تصحيح النيات وطلب الثبات في التعلم والتعليم ولو قل الم تعلم فلا يكونن الحامل للانسان ان كان معلما على التحري في تحسين تعليمه ولا الحامل للمتعلم على الحضور هو كثرة الجموع. فان هذا اصل اغتر به الناس فصرفهم عن عبودية الله سبحانه وتعالى. فان الانسان لا يدري من ينفعه الله سبحانه وتعالى به معلما ورب معلم لا يحضر عنده الا واحد ينتفع الناس بمتعلمه اعظم انتفاعه من متعلم خلق يحضر عندهم المئات وربما متعلم لا يحضر الا هو ينتفع الناس به اكثر مما ينتفعون بغيره. واطلب في هذا تبعا للانبياء فقد كان النبي يأتي ولا يؤمن به احد كما في قصة عرظ الانبياء في حديث ابن عباس في الصحيح ورأيت النبي وليس معه احد. وفي حال السلف رحمهم الله تعالى شواهد صدق كما ذكر ان نافع ان نافعا ابن عمر كان يجلس بعد الفجر فيجلس اليه احد الا مالك. فكان مالك كالشمس الدنيا وبقي علم نافع رحمه الله تعالى بمتعلمه الواحد. فينبغي ان يحرص الانسان على تصحيح نيته في هذا وطلب تثبيت نفسه والعلم بان العلم موصل الى الله سبحانه وتعالى فلا يصدن المرء عنه. وانبه اذا امريتين احدهما ان الدرس يبدأ بعد خمس وثلاثين دقيقة من اذان المغرب ثم نتابع على هذه الوتيرة والتنبيه الثاني الاعتذار الى اخلاف الموعد بسبب تأخر بعض الاخوان في رفع طلب الاذن للدروس. والا ان يكون هو الاسبوع الاول من الفصل الدراسي الثاني. وما وقع من هذا التأخير الذي اضر ببعض الاخوان بدروس اخرى فاننا نعتذر اليهم منه ونرجو ان شاء الله تعالى الا يتكرر مثله في البرامج القادمة فاني كما احرص على ان يفي الناس بمواعيدهم لي احرص ان افي بمواعيد الناس فالتمسوا من قم العذر والمسامحة فيما حصل من تأخيره وارجو ان شاء الله تعالى ان لا يتكرر نظيره وموعدنا ان شاء الله تعالى مع الدرس الثاني غدا والحمد لله رب العالمين صلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد واله وصحبه اجمعين