واما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله ايمانا واحتسابا امرا ونهيا فيفعل ما امر الله به ايمانا امري وتصديقا بموعده ويترك ما نهى الله عنه ايمانا بالنهي وخوفا من وعيده. كما قال طلق ابن حبيب اذا وقعت الفتنة فادفعوا بالتقوى قالوا وما التقوى؟ قال ان تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وان تترك معصية الله على نور من الله عقاب الله وهذه من احسن ما قيل في حد التقوى فان كل عمل لابد له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعة حتى يكونوا حتى يكون مصدره عن الايمان. فيكون فيكون الباعث عليه والايمان المحض. لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه لذلك بل لابد ان يكون مبدأه محض الايمان وغايته وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب ولهذا كثيرا ما يقرن بين هذين الاصلين في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان ايمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر ايمانا احتسابا ونظائره فقوله على نور من الله اشارة الى الاصل الاول وهو الايمان الذي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه وقوله ترجوه ثواب الله اشارة الى الاصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لاجلها يوقع العمل ولها يقصد به ولا ريب ان هذا جامع في جميع اصول الايمان وفروعه وان البر داخل في هذا المسمى. واما عند اقتران احدهما بالاخر كقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى والفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فان البر مطلوب لذاته اذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم واما التقوى فهي الطريق الموصلات الى البر والوسيلة اليه. ولفظها يدل على هذا فانها فعلى من وقا يقي وكان اصلها وقواها فقال ابو الواو تاء كما قالوا تراث من من الوراثة وتجاه من الوجه وتخمة من الوخم من الوخم وخم من الوهم ونظائره فلفظها دال على انها من الوقاية. فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية فالوقاية اما بدفع الضار والبر من باب تحصيل النفع. فالتقوى كالحمية والبر كالعافية والصحة. المصنف رحمه الله تعالى في هذه الجملة ما يتعلق بالتقوى بعد فراغه من بيان حقيقة البر. وابتدأ ذلك ببيانه ان التقوى حقيقتها العمل بطاعة الله ايمانا واحتسابا امرا ونهيا. فهي مع الامر والنهي المتلقى من الرب سبحانه وتعالى. وقصر تقوى على متعلق الامر والنهي باعتبار كونه الاكثر وفيه يقع الاهمال والاهمال واما باعتبار الحقيقة الشرعية فان متعلق التقوى هو خطاب الشرع كليا سواء كان متعلقه التصديق ومرده الى باب الخبر او متعلقه الامتثال ومرده الى باب الامر والنهي. فقول المصنف فحقيقتها العمل بطاعة الله ايمانا واحتسابا امرا ونهيا هو اعراب عن حقيقتها باعتبار جلها وابدلها. واما باعتبار تمامها فان التقوى متعلقها قتال خطاب الشرع وسلف ان خطاب الشرع نوعان احدهما خطاب الشرع الخبري والواجب فيه تصديق والاخر خطاب الشرع الطلبي والواجب فيه الامتثال ومتعلقه الامر والنهي. ولهذا نبه فيما سلف ان قول القائلين ان التقوى كيت وكيت بامتثال الامر والنهي او باتباع الامر والنهي فيه قصور. لان وراء ذلك من الخطاب الشرعي ما يتعلق بالخبر والواجب فيه التصديق فمثلا قول الله سبحانه وتعالى الله خالق كل شيء وقوله تعالى انه هو البر الرحيم وقوله تعالى ان الساعة لاتية كلها من الاخبار التي يجب فيها التصديق ولا يتعلق بها الامر والنهي ولا تكون التقوى الا مع وجوب تصديق هذه الاخبار. ثم ذكر رحمه الله تعالى كلمة مأثورة رواها احمد في وابن ابي الدنيا في عدة كتب عنطلق بن حبيب انه قال اذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى فقالوا وما التقوى؟ قال ان تعمل بطاعة الله على نور من الله الى تمام كلامه وهذه الجملة من كلام طلق بن حبيب مما شهر تعظيمه في كلام جماعة من الائمة منهم ابو العباس ابن تيمية الحفيد فله كلام حسن ذكره في كتاب منهاج السنة النبوية عقب ذكر هذه الكلمة ومنه قول المصنف رحمه الله تعالى وهذا من احسن ما قيل في حج التقوى ومنه قول صاحبهما الذهبي في ترجمة طلق ابن حبيب في سير اعلام النبلاء في كلام الله نقله المعلق هذه النسخة اذ قال قال الذهبي في السير تعليقا على هذا القول ابدع واوجز فلا تقوى الا بعمل ولا عمل الا بترو من العلم والاتباع الى اخر ما قال. وهذه الكلمة منطلق بن حبيب رحمه الله قالها في بيان ما تدفع به الفتنة فانه قال اذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى فمن اعظم الات دفع الفتن ورفعها تقوى الله سبحانه وتعالى. وهذه الوصية ليست حيلة العاجزين ولا مقالة الخائفين. ولكنها البرهان البين من رب العالمين. فان الله عز وجل قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ومنه انتزع طلق ابن حبيب هذا المعنى. فان الله ذكر ان تقوى الله عز وجل اذا وجدت تحقق معها للعبد مخرج. واسم المخرج يطلق مع الضيق ذكره ابو العباس ابن تيمية الحفيد. والفتنة من اوقات الضيق والضنك. فالاتيان بها بامتثالها والدوران معها من اعظم الالات التي تدفع بها الفتنة ولن يدفع امرؤ الفتنة امرته فيها ومسارعته اليها. فقل امرئ دخل فتنة الا ندم ندما عظيما على دخوله فيها ومن نظر الى ما اتفق من فتنة ابن الاشعب وكيف ان تلك الفتنة اجتالت من اجتالت من الكبار كعبدالرحمن ابن ابي ليلى ومحمد ابن سيرين واوس ابن عبد الله الربعي جماعة كبار من اعيان التابعين رحمهم الله وقتل فيها من قتل منهم ثم كان بعد من سلم منهم اذا ذكرت له تلك الفتنة كمحمد ابن سيرين ندم على دخوله فيها وكان الحسن البصري ينهاهم عن ذلك فانفوا من نهيه وانصرفوا عن رأيه ونسبوه الى العجز فندموا اخر امرهم حتى قال احدهم وهو معبد الجهني ما رأيت مثل الحسن يا ليتنا اطعناه كأنه نادم على ما وقع من امر الفتنة فمن اعظم ما تدفع به الفتن تقوى الله سبحانه وتعالى فان المرء ينبغي له ان يلحظ حق الله بالرعاية قبل ان يلحظ حق الناس واذا فات من الناس حقهم من مطعم او مشرب فان اعظم من ذلك ان يفوتهم حقهم من دين الله عز وجل فان تغيير بامر يتعلق بالدين كترويع المسلمين وسفك دمائهم وهتك اعراضهم وضياع اموالهم واحداث البلبلة والفزع فيهم اعظم من مطالب الدنيا. ولكن لا يثبت هذا المعنى الا في قلب من رسخ علمه وثبتت قدمه ولا يكون ذلك بحال يكون العبد فيها اذا وقعت تلك الفتنة ما لم يكن من قبل قد هيأ نفسه واعدها بالعلم والبصيرة. فان الفتن اذا وقعت الناس ولا ينفذ فيها بالنظر الا من كان كعلم وبصيرة وله تجربة سابقة في النظر الى مواقع الفتن من الناس. وكم من فتنة اجتالت كبارا سواء من الفتن التي يراها الناس صغيرة او من الفتن التي يراها الناس كبيرة وقل الثابت فيها على الحق ولا ينبغي ان يكون هذا دليلا يعول عليه في المسامحة فيها وتسويغها. فمن المسائل التي تتعلق بهذا ان ذكر محاسن الميت بعد موته بتعدادها واثارتها بين الناس نوع من نعي الجاهلية ولما مات بعض اعاظم العلماء في هذه البلاد قل من عرف هذا الحكم فثبت عليه بل تكلم كثير منهم حتى من كبارهم في ذكر المحاسن والمآثر فوقعوا في نهي الجاهلية. واما العالم الراسخ منهم فانه كان يرى ذلك محرما لا يجوز وانه من نعي الجاهلية. وقد سئل يومئذ العلامة الفقيه العالم بدين الله محمد بن عثيمين رحمه الله يوم الخميس الذي توفي فيه ذلك المعظم عن الخطبة غدا عن مآثره ومحاسنه فقال ان ذلك محرم لا يجوز وانه من نعي الجاهلية لما انفتن الناس الى صلاة الجمعة غدا فما اكثر الذاكرين لذلك من الكبار المنسوبين لعلم. فمن لم يكن ثابتة القدم راسخ البصيرة في العلم من قبل فانه لا يمكن ان يختار له خيارا في الفتنة والذين اذا وقعت الفتنة يفزعون الى المجلدات ويقلبون الصفحات ويلتمسون الدلائل البينات لا يمكن ان يوفقوا الى الحق لانه لم يكن لهم علم سابق وانما يكون معهم هوى اما يوافق هؤلاء واما يوافق هؤلاء ثم يقررون ذلك الهوى بما يكون فيه ذهاب بعض الحق فمن ينتصر لهذا سيجحف بحق هذا ومن ينتصر لهذا سيجحف بحق هذا من ينتصر للحق بالحق فحاله كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى فلواحد كن واحدا في واحد اعني طريق الحق والايمان والمقصود ان ما ذكره طلق ابن حبيب في دفع الفتنة بالتقوى من اعظم العلم. ثم بين رحمه الله تعالى معنى التقوى بما قال فيه المصنف وهذا من احسن ما قيل في حد التقوى فان كل عمل لابد له من مبدأ غاية فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الايمان ان يكون محركه وباعثه الايمان كما قال فيكون الباعث عليه هو الايمان المحض للعادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاهي وغير ذلك بل لا بد ان يكون مبدأه الايمان فمحرك العبد الى العمل وباعثه عليه ومقوي عزمه هو الايمان. ثم لابد ان تكون له غاية ونهاية مطلوبة وهي التي قال فيها المصنف وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب ولهذا كثيرا ما يقرن بين هذين الاصلين في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان ايمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا ونظائره. فمن دقائق التصرفات الشرعية الجمع بين المبتدى والمنتهى في الاعمال بل فان قوله صلى الله عليه وسلم ايمانا واحتسابا في عدة اعمال اشارة الى ما يكون به المبتدأ وهو الايمان الذي يحرك عزم القلب وقوة النفس الى العمل. وفيه تنبيه الى المنتهى وهو احتساب الثواب على الله سبحانه وتعالى واشرت الى هذا المعنى بقول مبتدأ الاعمال ايمان جرى مبتدأ الاعمال ايمان جرى والاحتساب غاية له ترى. والاحتساب اية له طرا وهذا المبحث من ذخائر ابحاث ابن القيم التي لا تجدها عند شراح الحديث. ثم بين ابن القيم رحمه الله تعالى وجود هذا المعنى في المبتدأ والغاية في كلام الطلق فقال فقوله على نور من الله اشارة الى الاصل الاول وقوله ترجو ثواب الله اشارة الى الاصل الثاني. فالجملة الاولى متعلقة بمبتدأ العمل. والجملة الثانية متعلقة بغاية العمل ولا ريب ان هذا جامع لجميع اصول الايمان وفروعه وان البر داخل في هذا المسمى فاذا كانت التقوى على هذا الحال من تعلقها بالمبتدع والمنتهى فحين اذ فالبر الذي تقدم ذكره هو ايضا مندرج في ضمن حقيقة التقوى وهو فرض من افرادها. ولما فرغ المصنف من بيان حقيقة البر والتقوى كلا على وجه الانفراد بين ما يكون بينهما حال الاقتران فقال واما عند اقتران احدهما بالاخر اي مجيئهما معا كقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فاحدهما سبب مقصود لغيره والاخر غاية مقصودة لنفسها والغاية المقصودة لنفسها هي البر والسبب هو التقوى وان ذلك اشار المصنف بقوله فان البر لذاته اذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم. واما التقوى فهي الطريق الموصلة الى البر وسيلة اليه ولفظها يدل على هذا. فالصلة بين التقوى والبر عند اقترانهما هي بين المقصد والوسيلة فالبر مقصد والتقوى وسيلة. ثم بين المصنف رحمه الله تعالى ما يدل على كوني التقوى منزلة منزلة الوسيلة بقوله ولفظها اي لفظ التقوى يدل على هذا فانها فعلى اي على زنة فاعلى من وقا يقي وكان اصلها وقوا فقلبوا الواو تاء كما قالوا تراة من الوراثة وتجاه من الوجه وتخمة من الوخم ونظائره وهذا باب من ابواب الصرف معروف في الابدال ثم قال فلفظها اي لفظ التقوى دال على انها من الوقاية. اي الاحتراس والاحتراز من شيء ما ان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية وتخصيص الوقاية بكونها متعلقة بالنار باعتبار انها دار العذاب الاليم لا باعتبار ان المطلوب هو واتقاء النار فقط فان الله عز وجل قال يا ايها الناس اتقوا ربكم. وقال سبحانه وتعالى واتقوا يوما ترجعون فيه الى النار كما انه قال قوا انفسكم واهليكم نارا فالنار فرض من الافراد التي ينبغي طلب التقوى منها فالجامع لما ينبغي ان يكون في هذا المحل ان يقال فان المتقي قد جعل بينه وبين النار اي يقال فان المتقي قد جعل بينه وبين ما يخشاه وقاية. لكن لما كان ختم ما يخشاه هو العذاب بالنار اقتصر عليه كثير من اهل العلم. فان المأمور به من اتقاء الله او المأمور به من اتقاء يوم القيامة منتهى ذلك هو الخشية الى المصير الاخر وهو دار العذاب الاليم نار جهنم اعاذنا الله واياكم منها فما يجري في كلام المصنفين من قولهم اتخاذ العبد وقاية بينه وبين عذاب الله هو من ذكر بعض افراد الحقيقة باعتبار كونه منتهاها والا فالجامع كما سلف واتخاذ العبد وقاية بينه وبين ما يخشاه وذلك بامتثال خطاب الشرع. ثم قال المصنف فالوقاية من باب دفع الضرر والبر من باب تحصيل النفع فالتقوى كالحمية والبر كالعافية الصحة فالوقاية يدفع بها ما يخشاه العبد والبر يحصل به العبد نفعه ومن هذا الجنس العطف بين المغفرة والرحمة. فان المغفرة متعلقها دفع الضر والرحمة تعلقها جلب الخير. نعم. تنتفع به بفهم الفاظ القرآن ودلالته ومعرفة حدود ما انزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع. وقد ذم سبحانه في كتابه من ليس له علم بحدود ما انزله على رسوله. فان عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين. احداهما ان يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه في حكم له بحكم المراد من اللفظ فيسوى بينما في سوى بينما فرق الله بينهما والثانية ان يخرج من مسماه بعض افراده يخرج. والثانية ان يخرج من مسماه بعض افراده الداخلة تحته فيسلب عنه فيفرق بينما جمع الله بينهما والذكي الفطن يتفطن لافراد هذه القاعدة وامثلة وامثلتها فيرى ان كثيرا من الاختلاف او اكثره انما نشأ عن هذه عن هذا عن هذا الموضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم ومن هذا لفظ الخمر فانه شامل لكل مسكر فلا يجوز اخراج بعظ المسكرات منه. وينفى عنها حكمه وكذلك لفظ الميسر واخراج بعظ انواع القمار منه بعظ انواع القمار منه وكذلك لفظ النكاح وادخال ما ليس بنكاح في مسماه. وكذلك لفظ الربا واخراج بعض انواعه منه وادخال ما ليس بربا فيه وكذلك لفظ الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره واكثر من ونظائره باكثر من ان تحصى والمقصود ان المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهما التعاون على البر والتقوى ويعين كل واحد فيعين وكل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه ان جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعض. معينا بعضه لبعض. ثم قال ما بين المصنف رحمه الله تعالى حقيقة الصلة بين البر والتقوى وما يكون لكل واحد منهما من معنى عند الانفراد والاقتران ذكر ان ادراك تلك القاعدة المتقدمة باب شريف اي جليل عظيم ينتفع به دفاعا بينا ظاهرا في فهم الفاظ القرآن ودلالاته. ومعرفة حدود ما انزل الله على رسوله ومثل ذلك كائن في دلالات الفاظ السنة النبوية وذلك هو العلم النافع وقد الله سبحانه في كتابه من ليس له علم بحدود ما انزله اذ قال الاعراب اشد كفرا ونفاقا اجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله. فمن لم يعرف حدود ما انزل الله فعلمه ناقص. ولا يكون ذلك الا لمن كشفت له الحجب ونفذت بصيرته في معرفة حقائق القرآن والسنة. فان المرء مهما وعى من علوم الالية والاصلية المدونة في غير الكتاب والسنة فانه لا يفهم مدارك الاحكام ومآخذ العلم الا بعد تشبع قلبه وامتلائه بمعاني الكتاب والسنة. فكثرة النظر في الكتاب والسنة واستنباط علومهما يفتح به للمرء فهم عظيم في مدارك الاحكام وحدود انزل الله سبحانه وتعالى ولا يظهر علم احد ظهورا بينا ولا يبين نفعه الا اذا وجد هذا منه. اما غير ذلك فانه يوجد عند كثير من الخلق. فتجد في كل قطر من بز في فهم فقه مذهبه او عقيدة قومه او علما اليا كعلم النحو او الاصول لكن لا تظهر بركة احد ولا يعظم نفعه حتى يظهر قوة نزعه من الكتاب والسنة لكمال فهم لهما واطلاعه عليهما وذلك يحتاج الى توفيق عظيم وليس الى ذكاء شديد ولا حفظ قوي ولا لكنه مرهون بتوفيق الله سبحانه وتعالى للعبد وفتحه باب الفهم له. فان فتح باب الفهم هو الباب الذي يرسل منه اعظم العلم ارسالا. ولا يوجد عند احد من الخلق ولا يكتسب اكتسابا. وانما يتفضل الله عز وجل به على من شاء من خلقه وحقيق بالمرء ان يكون من مآخره في التماس العلم سؤاله الفتح من الله سبحانه وتعالى ومن لطائف ما في هذا المعنى ما روى مالك في الموطأ بسند فيه قطاع عن ابي هريرة انه كان اذا مطر الناس قال مطرنا بنوء الفتح يعني الفتح من الله عز وجل وكما يكون ذلك في مطر الارض فان مطر القلوب وغيثها لا يكون الا بالفتح من الله سبحانه وتعالى. فينبغي ان يلهج العبد بسؤال الله سبحانه وتعالى ان يفتح عليه فتوح العارفين وان يلهمه الفهم في الدين حتى يعلم حدود ما انزل الله عز وجل فان العلم والفهم في الكتاب والسنة من اجل المطالب واعظم المقاصد ذكره ابن القيم في كلام له في كتاب الفوائد. ثم بين المصنف رحمه الله تعالى مغبة الجهل بعلم حدود ما انزل الله عز وجل وانه يستلزم مفسدتين عظيمتين احداهما ان يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيسوى وبينما فرق الله بينهما فان الله سبحانه وتعالى فرق بين اشياء ثم يعمد بعضه الناس الى التسوية بينها جهلا بالفرق الذي جعله الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله تعالى واحل الله البيع وحرم الربا فان البيع والربا يشتركان في وجود المنفعة فيهما لكن الله عز وجل فرق بينهما وجعل لكل حكمه والثانية ان يخرج من مسماه بعض افراده الداخلة تحته. فيسلب عنه حكمه لا يفرق بين ما جمع الله بينهما فيكون الله سبحانه وتعالى قد سوى بين امرين وجمع بينهما احد الى التفريق بينهما بمنع احدهما وتجويز الاخر والحكم على هذا بحكم وعلى الاخر بحكم ثم قال والذكي الفطن يتفطن لافراد هذه القاعدة وامثلتها ان كثيرا من الاختلاف او اكثره انما نشأ عن هذا الموضع وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم لكثرة متعلقاته وتعدد مواقعه في القرآن والسنة. ثم بين جملة من الالفاظ التي تدور على تلك القاعدة الخمر والميسر والنكاح والربا والظلم والعدل والمعروف والمنكر فان من الناس من يخرج بعض معاني افرادها منها ومن الناس من يدخل فيها ما ليس منها. وبسط المصنف رحمه الله تعالى نفسه هذا المبحث في كتاب اعلام ببيان معاني هذه الاسماء وذكر ادلتها في القرآن والسنة وما وقع من الناس من الادخال والاخراج فيها فكلامه في ذلك الموضع حسن ينبغي مراجعته في الكتاب المذكور وهو اعلام الموقعين. ثم ختم المصنف رحمه الله تعالى هذا المطلب بقوله والمقصود ان المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى يعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا فلا قوام لحياة الناس الا بتعاونهم فان العبد لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب ان جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعض معينا بعضه ببعض وهذا قولهم الانسان مدني بالطبع يعني يحتاج الى غيره من ابناء جنسه ممن يعاشره وتكتمل حاله به ودليله في الكتاب قول الله سبحانه وتعالى يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا اي ليقوم بعضكم صالح بعض وفي صحيح مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض احسن الله اليكم. ثم قال تعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان. والاثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى في بجانب الامر والفرق ما بين الاثم والعدوان فرق فرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر فالاثم ما كان حراما لجنسه والعدوان ما حرم الزيادة في قدره وتعدي ما اباح الله منه. فالزنا وشرب الخمر والسرقة ونحوها اثم. ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه عدوان. فالعدوان هو تعدي حدود الله التي قال فيها تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدى حدود الله فاولئك هم الظالمون. وقال في موضع اخر تلك حدود الله فلا تقربوها. فنهى عن تعديها في اية وعن قربانها في اية وهذا لان حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحياء والحرام ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه وتارة لها تكون داخلة فيه فيكون لها حكم مقابله فيكون لها حكم مقابله فبالاعتبار الاول نهى عن تعديها وبالاعتبار الثاني نهى عن بيانها لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى من بك معنى البر والتقوى اتبعه ببيان معنى الاثم والعدوان المذكور في تمام الاية ولا تعاونوا على الاثم والعدوان. فبين ان الاثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى في جانب الامر فكما ان البر والتقوى اذا انفرد احدهما اندرج فيه الاخر فكذلك الاثم والعدوان. اذا انفرد احدهما اندرج فيه واما اذا اجتمعا فالفرق بينهما بينه المصنف بقوله والفرق ما بين الاثم والعدوان فرق ما بين محرم الجنس القدر فالاثم ما كان حراما لجنسه اي بالنظر الى اصله. والعدوان ما حرم الزيادة في قدره وتعدي ما اباح الله منه وهو باعتبار اصله وجنسه مباح لكن لما افضى ذلك الى تعدي ما امر الله عز وجل فيه واذن به خرج العبد فيه من دائرة الاباحة الى دائرة الحرمة لاجل وقوع العدوان فيه. ثم وبين المصنف رحمه الله تعالى العدوان بقوله فالعدوان هو تعدي حدود الله اي تجاوزها التي قال الله هي تلك حدود الله فلا تعتدوها اي لا تتجاوزوها. ومن يتعدى حدود الله فاولئك هم الظالمون. وقال في موضع اخر تلك حدود الله فلا تقربوها. فنهى عن تعديها في اية وعن قربانها في اية. فمن متعلقات الخطاب الشرعي في حدود الله النهي عن تعديها والنهي عن قربانها. وبين وجه ذلك بقوله لان حدوده هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام. ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه باعتبار اندراج منه وتارة لا تكون داخلة فيه فيكون لها حكم مقابله. فبالاعتبار الاول نهى عن تعديها اي باعتبارها داخلة فيه وبالاعتبار الثاني وهو كونها خارجة عنها نهى عن قربانها ونظير هذا الدبر فان دبر الشيء قد يكون متصلا به وقد يكون خارجا عنه. ومن ذلك دبر الصلاة فوقع في الحديث النبوي اطلاق سجود الصلاة على ما يكون اخرها متعلقا بها. وعلى ما يكون بعدها تابعا لها فالقول فيه كالقول في الحدود. وابين من عبارته في بيان معنى حدود الله عز وجل في الشرع ان يقال ان حدود الله اسم يقع على معنيين. احدهما الاحكام المرتبة والاخر العقوبات المقدرة. احدهما الاحكام المرتبة والاخر العقوبات المقدرة. فان احكام الله عز وجل من الامر والنهي يسمى حدودا وكذلك العقوبات المرتبة شرعا كالقتل والرجم وغيرهما تسمى حدودا والنوع الاول وهو الاحكام المرتبة قسمان. احدهما حدود من الاحكام نهي عن تعديها. حدود من الاحكام نهي عن تعديها وهي ما دار في الامر والحل. ما دار في الامر الحل والاخر حدود من الاحكام التي نهي عنها ومتعلقها التحريم. والاول يذكر معه عدم التعدي والثاني يذكر معه عدم القربان فاذا قيل حدود الله فلا تعددوها يعني تلك الحدود التي اذن الله عز وجل بها امرا او اباحة فلا تتجاوزوها واذا قيل تلك حدود الله فلا تقربوها اي تلك حدود ما نهى الله عز وجل عنه. ومنعكم منه فلا تقع فيها نعم