السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الارض رب العرش العظيم واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم تسليما مزيدا اذا اما بعد فهذا المجلس الاول في شرح الكتاب الثالث من برنامج اليوم الواحد التاسع والكتاب المقروء فيه هو الرسالة التبوكية للعلامة ابي عبدالله ابن القيم رحمه الله. وقبل الشروع في اقرائه لابد من بيان مقدمات ثلاث. المقدمة الاولى التعريف بالمصنف انتظموا في ستة مقاصد المقصد الاول جر نسبه هو الشيخ العلامة القدوة محمد ابن ابي بكر ابن ايوب الزراعي ثم الدمشقي الحنبلي يكنى بابي عبد الله ويلقب شمس الدين وتقدم ان الاسماء المضافة الى الدين من الاسماء المكروهة. المقصد الثاني تاريخ مولده ولد في السابع من شهر صفر سنة احدى وتسعين وستمائة. المقصد الثالث جمهرة شيوخه تلمذ رحمه الله لجماعة من اعيان علماء الشام في الحديث والفقه والعربية من اشهرهم واكثرهم فيه اثرا ابوه ابو بكر ابن ايوب واحمد بن عبدالحليم ابن تيمية واحمد ابن عبد الدائم الدمشقي واسماعيل ابن محمد الحراني ومحمد ابن ابي الفتح البعلي. المقصد الرابع جمهرة تلاميذه اخذ عنه رحمه الله جماعة نبه منهم محمد بن عبد القادر النابلسي. وكان من اخص اصحابه به. فقرأ عليه كثيرا من تصانيفه وعبدالرحمن بن احمد بن رجب. وابنه ابراهيم ومحمد بن محمد الغزي. المقصد الخامس ثبت مصنفاته له رحمه الله تأليف حسان متلقاة بالقبول. ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة من اشهرها زاد المعاد في هدي خير العباد المعروف بالهدي النبوي واعلام الموقعين ومدارج السالكين وشرح تهذيب سنن ابي داود. بالاضافة الى كتابه هذا. المقصود السادس تاريخ وفاته توفي رحمه الله ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب وقت اذان العشاء سنة احدى وخمسين سبعمئة وله من العمر ستون سنة كاملة. رحمه الله رحمة واسعة المقدمة الثانية التعريف بالمصنف وتنتظم في ستة مقاصد ايضا. المقصد الاول تحقيق عنوانه شهر هذا الكتاب باسم الرسالة التبوكية لانه كتب به الى بعض اخوانه في الشام لما بلغ تبوك وهو في رحلته الى الحج. وليست هي تسمية من المصنف. لكنها غلبت على الكتاب للمناسبة المذكورة ونشر هذا الكتاب باسماء اخرى. منها زادوا المهاجر الى ربه. ومنها تحفة الاحباب في لقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى. ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب. المقصد الثاني ذات نسبته اليه هذا الكتاب صحيح النسبة الى ابن القيم. لتظاهر نسخه الخطية على نسبته اليه. مع وجدان نفسه فيه واشارته الى ابحاث له متفرقة في كتب اخرى مشهورة له المقصد الثالث بيان موضوعه موضوع هذا الكتاب تفسير قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى. الاية وبيان معنى الهجرة الى والى رسوله صلى الله عليه وسلم المقصد الرابع ذكر رتبته هذا الكتاب مع وجازته احسن الكتب المصنفة مما في ايدي الناس في بيان معنى هجرة القلوب الى الله والى رسوله صلى الله عليه وسلم فان العلماء عامة والفقهاء خاصة وسعوا القول في لبيان معنى الهجرة الى الله والى رسوله المتعلقة بالابدان. وقل ان تجد احد منهم اعتنى ببيان معنى هجرة القلوب اليهما. فما فيه من ذلك من ذخائر الابحاث ولطائف الافادات في بيان المقصود المذكور انفا المقصد الخامس توضيح منهجه كتب المصنف رحمه الله كتابه هذا مرسلا دون تراجم معقودة ولا مقاصد مبينة سوى تقسيمه الى فصول باعتبار اتصال مقاصده وانفصالها وظهر فيه ما شهر به هو وشيخه ابو العباس ابن تيمية من حسن في معاني التفسير وكمال الفهم لاحوال القلوب والنفوس المقصد السالس العناية به طبع هذا الكتاب غير مرة باسماء متعددة تقدمت الاشارة اليها. وحفل عناية بالتدريس في مجالس العلماء في هذا القطر فان هذا الكتاب الرسالة التبوكية وصنوه الجواب الكافي هما اشهر كتب ابن القيم التي لم تكن قراءتها تنقطع في مجالس العلماء في هذا القطر. ولا سيما مجلس اكبرهم دمهم فلا يخلو ابدا في احد ايام اسبوعه ان يكون من كتب الدرس فيه هذان الكتابان او احدهما. وذلك لجلالة قدرهما عظيم نفعهما ومزيد الحاجة اليهما. حتى فتر الامر باخرة. ورغب الناس عن الكتب النافعة المشهورة الى كتب لا تقوم مقامها ولا تزاحم منزلتها المقدمة الثالثة ذكر السبب الموجب لاقراءه عرفت فيما سلف رتبة هذا الكتاب وجلالة قدره وحاجة الناس الى مثله ظاهرة فان هجرة الابدان قد تنقطع في زمن او بلد اما هجرة القلوب فهي حق لازم. وفرض دائم. لا ينقطع ابدا وهو يقوى ويضعف. ويزيد وينقص. فمن محركاته في القلوب ومقوياته في النفوس. ادمان النظر في مثل هذا الكتاب والتضلع بمعانيه. والتغرغر بحلاوة ما فيه فمن اشرف بنفسه عليه واوقف قلبه بين يديه وجد ما يفقده كثيرون من معاني هجرة القلوب الى الله والى رسوله صلى الله عليه وسلم القلب بانواع المرققات وتقليبه بما يقربه الى رب الارض والسماوات من اعظم قاصد العلم وليس هو من علم العوام كما يتوهمه من لا فهم له. بل من اشرف علوم للخلق ومقدم العلماء فقه القلوب واحوال النفوس. فعسى ان يفي اقراءه ببعض حاجة القلوب. وان يكون بلسما شافيا حذاء كافيا وزادا مبلغا على قطع الطريق الى الله نعم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين اما بعد فقال الشيخ الامام العالم العلامة محمد ابن ابي بكر المعروف المعروف المعروف بابن قيم الجوزي رضي الله عنه وارضاه في كتابه الذي سيره من تابوت. ثامنا المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمئة من الهجرة النبوية بعد ارسال المنظومة التي اولها اذا طلعت شمس النهار فانها فصل وبعد حمد الله بمحامده التي هو لها اهل والصلاة والسلام على خاتم انبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم. فان الله سبحانه يقول في كتابه على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله. ان الله شديد العقاب. وقد اشتملت هذه الاية على جميع مصالح في معاشهم ومعادهم فيما بينهم في بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لا ينفك من هاتين الحالتين وهتين واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق ناسخ هذا الكتاب ان مصنفه به من تبوك في ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة من الهجرة هجرة نبوية لما كان رحمه الله حاجا تلك السنة. وقد حج عدة حجات منها حجته في السنة المذكورة منصرفه منها. فانه لما انفصل من الحج الى المدينة ثم بلغ تبوك مستقبلا الشام عائدا اليها بعث بكتابه هذا وكان قبل قد ارسل منظومته الميمية المشهورة التي اولها اذا طلعت شمس النهار فانها امارة تسليمي عليكم فسلموا. فهي مما نظمه في ذلك السفر وبعث به ثم بعث بعد بهذه الرسالة وابتدأ ابو عبد الله ابن القيم رحمه والله تعالى رسالته بعد حمد الله بمحامده والصلاة والسلام على خاتم انبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم بذكر اية من جوامع القرآن الجامعة لمصالح العباد في المعاش والمعاد فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم بين ربهم والاي اللواتي جمعن المعاني هن نظير الاحاديث اللواتي جمعن المعاني. وتجد في كلام السلف مواضع متفرقة فيها اية بوصفها بقولهم اجمع اية في كذا وكذا قول الله تعالى ولم يقم احد بجمع هؤلاء الايات في صعيد واحد مع ما فيها من الانباه معان جليلة فهي حقيقة بالافراد بالتصنيف. واعجب شيء ان تجد المتكلمين في مقاصد الشريعة يوسعون القول في هذا العلم تنضيرا وتأطيرا ولم ارى احدا منهم اعتنى باعظم اية في مقاصد الشريعة وهي قوله تعالى ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى الاية. فان هذه الاية اجمع اية في مقاصد الشريعة ذكر هذا المعنى المصنف ابن القيم وغيره. ومن كلام ابن ابن قيم في ذلك ذكره ان هذه الاية من جنس تلك الاية في كونها جامعة لمقاصد الشريعة اذ قال وقد اشتملت هذه الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم الا ان تلك الاية ابين في جمعها لمقاصد الشريعة ومصالح العباد. ثم ذكر رحمه الله تعالى ان موجب اشتمالها على جميع مصالح العباد في المعاش والميعاد وكونها تتناول حق العباد وحق الله فان على العبد حقين مفروضين احدهما حق الله عز وجل والاخر حق العباد. والعبد لا ينفك من الاشتغال بهذين الحقين والقيام بهما. وهذه الاية جامعة لهما فمن مآخذ تعظيم شيء من دلائل القرآن او السنة كونه متعلقا بهذين الحقين ومن هذا الجنس في الحديث النبوي حديث ابي ذر الغفاري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال اتق الله حيثما كنت وخالق الناس بخلق حسن. الحديث فانه عظم على بيان هذين الحقين. وفي اي الكتاب واحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جملة حسنة من الدلائل المتعلقة ببيان هذين الحقين تنصيصا وتحقيقا والا فجميع ما في القرآن والسنة يدور في رحى هذين الحقين لكن التنصيص على ذلك في جملة من دلائلهما هو المراد بالذكر. فموجب تعظيم هذه الاية وما يستقبل من الكلام فيها هو كونها متعلقة ببيان هذين الحقين العظيمين. نعم. احسن الله اليكم. فاما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها ان يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضات الله وطاعته. التي هي غاية سعادة التي هي هي غاية سعادة العبد وفلاحه. ولا سعادة له الا بها وهي البر والتقوى اللذان اللذان هما جماع الدين كله. واذا افرد كل واحد من الاسمين دخل فيه المسمى الاخر اما تضمنا واما لزوما ودخولهم فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر. وكون احدهما لا يدخل في الاخر عند الاقتران لا يدل على انه لا يدخل فيه عند الاف عند الانفراد ونظير هذا لفظ الايمان والاسلام والايمان والعمل الصالح والفقير والمسكين والفسوق والعصيان والمنكر والفاحشة ونظائره كثيرة وهذه قاعدة جليلة من احاط بها جعل عنه اشكالات كثيرة اشكلت على طوائف كثيرة من الناس ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصايفها في الكلام ومنه البر ومنه البر بالضم لكثرة منافعه وخيره بالاضافة الى سائر الحبوب ومنه رجل بار بر وكرام بررة والابرار فالبر كلمة لجميع انواع الخير والكمال المطلوب من العبد وفي مقابلته الاثم وفي حديث ابن سمعان رضي الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له جئت تسأل عن البر والاثم فالاثم كلمة جامعة للشر والعيوب التي يظن العبد عليها فيدخل في مسمى البر الايمان واجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى واكثر ما بالبر عن بر القلب وهو وجود طعم الايمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه ابن ايمان فان للايمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب فمن لم يجدها فهو فاقد للايمان او ناقصه وهو من القسم الذين قال الله عز وجل فيهم قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم فهؤلاء على اصح القولين المسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين اذ لم يدخل الايمان في قلوبهم فيباشرها فيباشرها حقيقته. وقد جمع الله تعالى خصال البر في قوله في قوله ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة واتى الزكاة والموقوفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون. فاخبر سبحانه ان البر هو الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. وهذه اصول الايمان الخمس التي لا قواما للايمان الا بها. وانه الشرائع الظاهرة من اقام الصلاة الظاهرة من اقام الصلاة وايتاء الزكاة النفقات الواجبة وانه الاعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هذه الخصال جميع اقسام الدين حقائقه وشرائعه والاعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب. واصول الايمان الخمس. ثم اخبر سبحانه ان هذه فصال التقوى بعينها فقال اولئك كالذي ان صدقوا واولئك هم المتقون. وما بين المصنف رحمه الله تعالى. ان هذه الاية عظمت لتعلقها بحقين هما حق الله وحق العباد شرع يبين ما انطوى فيها من هذين الحقين مبتدأ ببيان حق العباد وما يكون بين العبد وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فبين ان الواجب على العبد ان يكون اجتماعه بالخلق وصحبته لهم تعاونا على الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه. بل لا سعادة للعبد الا بها. وتلكم هي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله. فلا يصل العبد الى تمام الحال في معاشرة الخلائق في اكمل الاحوال الا باستعمال البر والتقوى معهما. وهذان الاصلان العظيمان البر والتقوى هما جماع الدين كله فاليهما يرجع الدين. واذا افرد كل كل واحد منهما دخل فيه مسمى الاخر. وهذه من القواعد الجليلة كما سيأتي في كلام وبين ان اندراج احدهما في الاخر اما على وجه التضمن واما على وجه اللزوم والتضمن هو ان يكون احدهما مندرجا في الاخر. واللزوم هو الا يكون مندرجا فيه لكنه ملازم له فلابد ان يوجد معه اذا وجد ثم ذكر المصنف ان دخوله فيه تضمنا اظهر فاحدهما مندرج في الاخر تضمنا غير منفصل عنه. فالبر من افراد التقوى والتقوى من افراد البر وهذا هو الذي قصده بقوله لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فان له جزء مسمى البر وكونهما على تلك الحال لا يمنع دخول احدهما في اخرين عند انفرادهما فاذا انفردا دخل احدهما في الاخر. واذا اقترنا صار لكل واحد منهما معناه. ثم بين المصنف رحمه الله تعالى ان الواقع بين البر والتقوى تقوى هو نظير الواقع بين جملة من الاسماء التي علقت بها جملة من الحقائق الشرعية كالايمان والاسلام والايماني والعمل الصالح والفقير والمسكين والفسوق والعصيان والمنكر والفحش اشياء ونظائره كثيرة. فمن طرائق الشرع القرن بين اسمين يشتمل على حقيقتين عظيمتين تندرج احداهما في الاخرى عند الانفراد فاذا اجتمعا ما كان لكل اسم حقيقة تتعلق به. وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى ها هنا اصله من كلام شيخه ابي العباس ابن تيمية الحفيد في مواضع عدة من كتبه منها اقامة الدليل على بيان بطلان التحليل ثم ذكر رحمه الله تعالى ان من احاط بهذه القاعدة زال عنه اشكالات كثيرة اشكلت على طوائف كثيرة من الناس لان عدم فهم الحقائق الشرعية على وجه تام الناظر في دلائل الوحكين غلطا في انزال احكام كل اسم منزلتها. ومن اشهر ذلك ما يتعلق بالصلة بين الايمان والعمل الصالح. فان قوما توهموا ان العطف بينهما عند ذكرهما وعطف بين المتغاير في الذوات فجعلوا العمل الصالح غير متعلق بالايمان فيكون الايمان عندهم بلا عمل صالح. وهذا من الغلط في فهم دلائل الشريعة. فان ادلة الشريعة متظاهرة على انه لا ايمان الا بعمل. وعلى هذا انعقد اجماع السلف رحمهم الله تعالى حينئذ فلا بد ان يكون العطف بينهما لمعنى لا يقضي بابطال بقية الدلائل الشرعية الواردة في اندراج العمل في حقيقة الايمان بان يقال بان العطف ليس عطفا دالا على تغاير الذوات وانفصال حقيقة هذا عن حقيقة ذاك وانما هو عطف على تغاير الصفات فالايمان باعتبار اصله ومرجعه متعلقه باطل وهو التصديق العمل الصالح باعتبار غالبه هو ظاهر بين. لان اصل العمل فيه المعاناة تعاطي الشيء على وجه ظاهر فلاجل وجود معنى من التغاير في الصفات في بعض الاحوال وقع العطف الذي لا يدل على انفصال حقيقة هذا عن هذا بالكلية وقل نظير ذلك في الايمان والاسلام والفقير والمسكين والفسوق والعصية والمنكر والفحشاء. ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى انه يذكر مثالا واحدا يتعلق بهذه القاعدة يستدل به على غيره. لان النظير يدل على نظيره. فاذا علمت كيفية القول في الصلة بين البر والتقوى طرد الناظر ذلك في بقية الحقائق الشرعية التي وقع بين عطف لاشتراك في معنى وافتراق في اخر. وبين ان المثال المضروب هو البر والتقوى لتعلقه بالاية التي ذكرت في صدر كلامه. فبين رحمه الله ان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصريفها في الكلام فالبر اصل موضوع في لسان العرب لمعان مفترقة من اشهرها وكثرة الخير فان هذه اللفظة تقلب على احوال وتدل على هذا المعنى من وجود وكثرة الخير. ومنه كما ذكر المصنف البر بالضم لكثرة منافعه وخيره بالاضافة الى سائر الحبوب فان البر من انفع الحبوب واكثرها. منفعة للبرء ومنه ايضا رجل بار وبر وكرام بررة والابرار ومنه ايضا اسم البر في حق ربنا سبحانه وتعالى فان من اسمائه كما قال تعالى انه هو البر الرحيم. والى ذلك اشار المصنف بقوله في نوني والبر في اوصافه سبحانه هو كثرة الخيرات والاحسان. فاصل البر على كثرة الخير ووجود المنفعة. وهذا هو الذي اشار اليه المصنف بقوله فالبر لجميع انواع الخير والكمال المطلوب من العبد. وفي مقابلته الاثم. فالاثم كلمة جامعة للشر والعيوب التي يذم العبد عليها. فالاثم مقابل البر مقابل المعروف وهذا مضطرد في مواضع عدة من الشريعة يبين فيها كمال الشيء في مقابله ثم قال المصنف فيدخل في مسمى الايمان واجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى فتكون التقوى مندرجة تضمنا في حقيقة البر شرعا ثم قال المصنف مبينا معنى جديدا واكثر ما يعبر بالبر عن بر القلب اي عن المنفعة التي تكون فيه. والصلاح الذي يحيطه وبين وجه البر في القلب ومعناه فقال وهو وجود طعم الايمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالايمان. فان للايمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب. فبر قلب العبد هو ان يشتمل على الطمأنينة والسكينة والانس بالله التي يجد معها حلاوة الايمان وطعمه. وهذا الوجدان هو وجدان حسي يذوب الذائق ويلمسه التائق واختار هذا ابو الفرج ابن رجب في لطائف المعارف. ومن لم يجد هذه حلاوة فحاله كما ذكر المصنف فهو فاقد للايمان او ناقصه. ففقدان هذا من القلب دال على فراغ القلب من الايمان او نقص قدره فيه. ومن كان كذلك فهو من القسم الذين الله فيهم قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ومعنى دخول الايمان في قلوبهم استقراره فيها وتمكنه منها تمكن الجالس على كرسيه منه فان القلب لا يجد حلاوة الايمان وطعمه حتى يستوي الايمان عليه مستقرا فيه. اما ان كان على اللسان مع قلة وصول الى القلب فاما ان يكون المرء كافرا منافقا كما قال الله عز وجل يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم واما ان يكون ناقص الايمان كما في هذه الاية من سورة الحجرات. فهؤلاء على اصح قولين مسلمون غير منافقين. وليسوا بمؤمنين اي كامل الايمان. لان الايمان لم يدخل في قلوبهم فيباشرها حقيقة. وهذه المباشرة هو وجدان القلب بشاشة فاذا وجد القلب بشاشة الايمان وجد حقيقة تلك اللذة وهو الذي ذكره هرقل في خطابه مع ابي سفيان في حديث ابن عباس في الصحيحين قال له هل يرتد احد منهم عن دينه بعد ان دخل فيه؟ فقال لا فقال فكذلك الايمان اذا فخالطت بشاشته القلوب فاذا خالطت بشاشة الايمان اي حلاوته وطعمه القلوب فان العبد لا ينصرف عنه ولا ينفك منه لانه انس فيه ما لم يؤنسه في غيره. وذلك الانس له هو وجدان السكينة والطمأنينة فيه. ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى ان الله عز وجل جمع خصال البر في قوله ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الاية. فاخبر سبحانه ان البر هو الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وهذه هي اصول الايمان الخمس التي لا قوام للايمان الا بها. ومن جملة خصال البر المذكورة في الاية ما ذكره الله من شرائع الاسلام الظاهرة من اقام الصلاة وايتاء الزكاة والنفقات الواجبة. ومن جملة خصال البر الاعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد. فتناولت الخصال المذكورة في الاية جميع اقسام الدين حقائقه وشرائعه والاعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب واصول الخمس فهؤلاء الخصال المذكورات من خصال البر هن الدين كله ثم اخبر عز وجل ان هذه المذكورات في الاية هي خصال التقوى بعينها. فقال اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون. ومن لطائف المناسبات وجميل الجمل والعبارات ذكر الصدق في هذه الاية بعد ذكر البر لان مبنى البر عند العرب وجود الصدق. وتجد في كلام كثير من اهل العربية تفسير البر بالصدق لانه لا يوجد بر اي منفعة وخير الا مع صدق. فقول الله عز وجل اولئك الذين صدقوا جيء به لتوقف وجود البر على وجود الصدق. واولئك هم المتقون لتحققهم بخصال البر الموجبة لكونهم متقين. فان امتثال تلك الخصال لا يكون الا من امرئ يطلب التقوى. نعم