السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله ربنا واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له اشهد ان محمدا عبده ورسوله. اما بعد من علامة القاسمي رحمه الله وقبل الشروع في اقرائه لابد من ذكر مقدمتين اثنتين المقدمة الاولى تعريف بالمصنف وتنتظم في ثلاثة مقاصد. المقصد الاول جر نسبه هو الشيخ العلامة محمد جمال الدين ابن محمد سعيد ابن قاسم ذاق القاسمي الشافعي الدمشقي. يعرف بالجمال القاسمي المقصد الثاني تاريخ مولده ولد يوم الاثنين في الثامن من جمادى الاولى سنة ثلاث وثمانين بعد المئتين والالف المقصد الثالث تاريخ وفاته توفي رحمه الله مساء السبت الثالث والعشرين من جمادى الاولى سنة اثنتين وثلاثين بعد الثلاثمائة والالف وله من العمر تسع واربعون سنة فرحمه الله رحمة واسعة المقدمة الثانية التعريف بالمصنف وتنتظم في ثلاثة مقاصد ايضا المقصد الاول تحقيق عنوانه طبع هذا الكتاب بالاعتماد على نسخة خطية كتبها المصنف رحمه الله والذي يظهر ان هذا هو العنوان المذكور فيها ولم يشر ناشر الكتاب الى خلاف ذلك المقصد الثاني بيان موضوعه موضوع هذا الكتاب هو اثبات الاستغفار في ادبار الصلوات المكتوبات وبيان غاية الشريعة من ترتيبه في هذا المحل المقصد الثالث توضيح منهجه جمع رحمه الله تعالى في هذا الكتاب على وجزته بين الجادتين العظيمتين الرواية والدراية فشطره الاول مشتمل على ذكر الاحاديث المروية في هذا المحل المتعلقة بالاستغفار عقب الصلوات وشطره الثاني مشتمل على بيان الحكمة الشرعية من ترتيب الاستغفار بعد الصلوات المكتوبات واصل هذه الرسالة رد لمقولة قائل زعم عدم جواز الاستغفار بعد الصلاة الاكل فالحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله اجمعين. اما بعد فهذه في سر الاستغفار عقب الصلوات حدان الى جمعها ان بعض الطلبة نقل عن بعض الفقهاء انه قال لا يجوز للمصلي ان يقول بعد الفراغ من الصلاة استغفر الله لان الله سبحانه وتعالى قال انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون فقلت اطبق المحدثون على رواية الاستغفار بعد الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الائمة على ندب ذلك بلا نكيل ولا ما ساغ لرد الاحاديث الواردة في ذلك عما نهى انتصارا للرأي لدلالتها القطعية على ما ارشدت اليه دلالة يفهمها العربي والعجمي والغبي لظهورها نصا ومجيئها على شرط الصحيح والعجب من هذا استدلاله بالاية على عدم الجواز مع ان الذي انزلت عليه صلى الله عليه عليه وسلم هو الذي سن الاستغفار بعد الصلوات قولا وفعلا ذكر المصنف رحمه الله تعالى فيما مضى هذه الدعوة التي ذكرها بعض الطلبة عن بعض الفقهاء من قوله بانه لا يجوز للمصلي ان يقول بعد الفراغ من الصلاة استغفر الله وعلل ذلك بان الله سبحانه وتعالى قال انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون وتوهم هذا ان الصلاة عمل فاضل والاية دالة على اختصاص التوبة بالعمل السيء وقد رد المصنف رحمه الله تعالى قوله هذا بشيئين اثنين احدهما اطباق المحدثين على رواية الاستغفار بعد الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم والثاني اتفاق ائمة الفقهاء على ندب ذلك بلا نكير ثم ذكر رحمه الله تعالى انه لا مساق لرد الاحاديث الواردة في ذلك عن معناها انتصارا للرأي. فانه اذا صح الاثر بطل النظر والاحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب قطعية في هذا المراد لظهور نصها وصحة اسانيدها وهذه الدعوة التي ادعاها المدعي ظاهرة البطان فان الذي انزلت عليه هذه الاية هو الذي كان يستغفر صلوات الله وسلامه عليه في ادبار الصلوات كما سيأتي في كلام المصنف بذكر الاحاديث الواردة في ذلك نعم وهكذا بيان الاحاديث التي رواها ائمة السنن في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم. قال الامام مسلم في صحيحه في باب استحباب بالذكر بعد الصلاة وبيان صفته. حدثنا داوود بن رشيد قال حدثنا الوليد عن الاوزاعي عن ابي عمار اسمه شداد ابن عبد الله عن ابي اسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم انت السلام ومنك السلام اردت ذا الجلال والاكرام؟ قال الوليد فقلت للاوزاعي كيف الاستغفار؟ قال تكون استغفر الله استغفر الله. وروى ابن ابي شيبة اسناد صحيح عن زادان قال حدثني رجل من الانصار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة اللهم اغفر لي وتب علي فانك انت التواب الغفور مئة مرة. وروى عبد الرزاق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه من قال بعد كل صلاة استغفر الله الذي لا اله الا هو هو الحي القيوم واتوب اليه ثلاث مرات كفر الله عنه ذنوبه وان كان فرارا من الزحف. وروى ابن السني وابن النجار عن معاذ رضي الله عنه مرفوعا من قال بعد الفجر ثلاث مرات وبعد العصر ثلاث مرات استغفر الله الذي لا اله الا هو الحي القيوم واتوب اليه كفرت عن ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر. وروى الديلمي عن ابي هريرة رضي الله عنه مرفوعا من استغفر الله عز وجل ثمين مرة في دبر كل صلاة غفر له ما اكتسب من الذنوب. وروى الخطيب مرفوعا اي عبد صلى الفريضة ثم استغفر الله عشر مرات لم يقم من مقامه حتى يغفر له وذنوبه والاحاديث والاثار في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية للمنصف. ذكر المصنف رحمه الله تعالى فيما السلف حديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم المشتملة على مشروعية استغفار الله سبحانه وتعالى بعد الصلاة واصح المروي في هذا الباب هو الحديث الذي صدر به المصنف مخرجا من صحيح مسلم وهو حديث ثوبان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم انت السلام ومنك السلام باركت ذا الجلال والاكرام فان هذا الحديث نص في هذه المسألة لقول الصحابي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا والمراد بالانصراف في هذا المحل التسليم من الصلاة. فان الانصراف من الصلاة الوارد في الاحاديث يشمل معنيين اثنين احدهما السلام من الصلاة والثاني الخروج من المسجد والمراد هنا المحل الاول. فكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا ولم يأتي بيان لفظ الاستغفار في هذا المحل في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا سأل الوليد بن مسلم الدمشقي سأل ابا عمرو الاوزاعي كيف الاستغفار؟ فقال تقول استغفر الله استغفر الله. والاتيان بهذا اللفظ جائز بلا خلاف فاذا قال العبد استغفر الله كان مستغفرا. ولو جاء العبد بغير ذلك من الالفاظ المشتملة على الاستغفار كان فعله صحيحا واثبتوا الفاظ الاستغفار عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله اللهم اغفر لي وتب علي انك انت التواب الغفور. كما صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره من حديث ابن عمر فاذا شاء المصلي جاء بالاستغفار على هذه الصفة الله اوجأ بها على الصفة الاخرى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بان يقول اللهم اغفر لي وتب علي انك انت التواب ولو جاء بغيرهما كان ذلك جائزا الا ان الاولى اختيار واحدة مما تقدم اما الاحاديث المروية في هذا الباب مما ذكره المصنف عقب ذلك فلا يصح منها شيء. والحديث الاول الذي عزاه الى ابن ابي شيبة ثم قال باسناد صحيح وشاركه المعلق على هذه الرسالة في دعوى الصحة ليس بصحيح فان هذه اللفظة معله ولا يصح قوله يقول في دبر الصلاة والمحفوظ في روايات هذا الحديث كما ثبت عند النسائي في السنن الكبرى ان النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا بعد صلاة الضحى فقوله يقول في دبر الصلاة يوهم انها المكتوبة. والصحيح كما جاء التصريح به عند النسائي في السنن الكبرى انها صلاة الضحى فهذا الذكر مشروع عقب صلاة الضحى لا عقب الصلوات المكتوبات وقد اختلف اهل العلم رحمهم الله تعالى في الاتيان بالاستغفار ايختص بالصلاة المكتوبة ام يعم كل صلاة من صلوات النوافل واصح القولين ان الاستغفار مختص بالصلوات المكتوبات فيشرع للانسان ان يستغفر ثلاثا عقب الصلوات المكتوبات هذا هو الذي جاء به التصريح في الاحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم اما النوافل فلم يثبت منها شيء الا هذا الحديث المخرج عند ابن ابي شيبة وفيه الاستغفار بهذا اللفظ مئة مرة بعد صلاة في الضحى وما عدا ذلك من النوافل فلم يثبت الاستغفار عقبه. بل لم يثبت عقب النوافل شيء من الاذكار الا هذا ذكر عقب صلاة الضحى والا قول سبوح قدوس رب الملائكة والروح في دبر الوتر وما عدا ذلك من النوافل فلم يثبت فيه شيء عين وبقية الاحاديث بعده المعزوة الى مصنف عبدالرزاق وعمل اليوم والليلة لابن السني وذيل تاريخ بغداد لابن النجار ومستهد الفردوس الديلمي وتاريخ بغداد للخطيب كلها احاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نعم ولا يخفى على الخبير ان من صبر كثيرا من جزئيات الطاعات يرى ان الحق سبحانه وتعالى شرع التوبة والاستغفار في خواتيم اعمالها فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل وامر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار عقب توفيتهما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه افواجا فكان التبليغ عبادة قد اكملها واداها فشرع له الاستغفار وعقبها قال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى ثم افيضوا من حيث افاض الناس واستغفروا الله. كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء ولهذا ثبت في صحيح مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا. وقال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين في بحث ترتيب عبادة الصالحين حين دخول وقت الصلاة ما نصه. فاذا جاء وقت الفرض بادر اليه مكملا له ناصحا فيه بمعبود كنصح المحب الصادق المحبة لمحبوبه الذي قد طلب منه ان يعمل له شيئا ما فهو لا يبقي مجهودا بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه واصلاحه واكماله ليقع موقعا من محبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه. افلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده الا يكون عمله هكذا وهو يرى المحبين في اشغال محبوبهم من الخلق كيف يجتهدون في ايقاعها على احسن وجه واكمله بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبه من الخلق فلا اقل من ان يكون مع ربه بهذه المنزلة. ومن انصف نفسه وعرف اعماله استحى من الله ان يواجهه بعمله او يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه انه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئا الا فعله وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع اعماله فهو يعلم انه لا يوفي هذا المقام حقه فهو ابدا يستغفر الله عقب كل عمل وكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا. وقال تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون حالهم يستغفرون. فاخبر عن استغفارهم عقب صلاة الليل. قال الحسن قال الحسن مد الصلاة الى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم. وقال تعالى ثم افيضوا من حيث افاض الناس واستغفروا الله ان الله غفور رحيم. فامر وسبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة. وشرعني المتوضئ ان يقول بعد وضوئه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من متطهرين فهذه توبة بعد الوضوء وتوبة بعد الحج وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل. وصاحب هذا المقام مضطر الى التوبة والاستغفار كما تبين فهو لا يزال مستغفرا تائبا وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره. انتهى ذكر المصنف رحمه الله تعالى هنا ما شرعه الله عز وجل لعباده من التوبة والاستغفار في خواتيم اعمالهم ومقدم ذلك ما امر به النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النصر. لما من الله عز وجل عليه بتبليغ الرسالة واداء الامانة امر النبي صلى الله عليه وسلم بان يستغفر ربه سبحانه وتعالى فقيل له فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا. ثم امرت الامة جمعاء في مقامات كثيرة بان تستغفر ربها عند الفراغ من الاعمال الصالحة فامر العبد بعد الفراغ من الصلاة ان يقتضي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ثلاثا. وامر الناس عقب من الحج ان يستغفروا الله عز وجل كما قال تعالى ثم افيضوا من حيث افاض الناس واستغفروا الله وامر العبد وكذلك بان يستغفر ربه سبحانه وتعالى امرا مستحبا اذا فرغ من صلاة الليل كما قال الله عز وجل في حق اهل الليل كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون. ووصفهم سبحانه بذلك فقالوا المستغفرين بالاسحار قال الحسن البصري رحمه الله تعالى قاموا الليل فلما انتهوا الى السحر استغفروا ربهم سبحانه وتعالى ذلك انهم لما قال فقيامهم لله عز وجل خافوا الا تقبل منهم هذه الاعمال او ان يقصروا فيها ففزعوا الى استغفار الله عز وجل وذكر المصنف رحمه الله تعالى ايضا من هذه المقامات ما يشرع للمتوضئ ان يقول بعد وضوئه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ونقل ذلك من كلام ابن القيم في طريق الهجرتين وهذا الحديث مخرج عند الترمذي. واسناده صحيح الا ان هذه الزيادة شاذة. فلا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم واصل الحديث في صحيح مسلم ليس فيه ذكر هذه الزيادة وانما فيه ذكر الشهادتين فالمحفوظ ذكر الشهادتين اما قيادة اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فانها لا تصح. ويصح في ذلك الحديث الاخر المخرج عند في السنن الكبرى من حديث ابي سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم كان اذا فرغ من وضوءه قال سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله اله الا انت استغفرك واتوب اليك فان هذا الحديث صحيح وقد روي موقوفا ومرفوعا والصحيح وقفه الا ان مثله لا يقال من قبل الرأي والصحيح انه من الاذكار التي يأتي بها العبد بعد فراغه من وضوئه. والمقصود ان تعلم ان الشريعة رتبت الاستغفار والتوبة الى الله عز وجل في عدة مقامات من الطاعات كما ذكر المصنف تصديق ذلك من كلام ابي الفداء ابن كثير في تفسيره وصاحبه ابي عبدالله ابن القيم في طريق هجرتين وهذه التوبة التي وردت في هذه المقامات ليست توبة من مقارفة الرذائل باتفاق اهل العلم. ولكنها توبة من ترك تكميل الفضائل فان التوبة التي امر بها العبد نوعان اثنان النوع الاول التوبة من مقارفة الرذائل والنوع الثاني التوبة من ترك تكميل الفضائل. وقد ذكر هذا المعنى شيخ الاسلام ابن تيمية في رسالة التوبة وتلميذه ابن القيم في مدارج السالكين وتلميذه ابو الفرج ابن رجب في تفسير سورة النصر فحين اذ يكون العبد في هذه المقامات تائبا الى الله عز وجل من ترك تكميله للفضائل. فان العبد لا يزال في اثناء هذا العمل ربما لحقه فتور او نقص او قصر في شيء من احكام ذلك العمل فيتوب الى الله عز وجل من عدم تكبيره بفضائله نعم ثم وقال رحمه الله تعالى ايضا بعد ذلك بكراريس فان قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي اسباب المخافة وشدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بان الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وانه اقرب الخلق الى الله. قيل عن هذا اربعة اجوبة الجواب الاول ان هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده. وكلما كان العبد اقرب الى الله كان خوفه منه اشد لانه يطالب بما ما يطالب به غيره ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا في المشاهد ان الماثل بين يدي احد ملوك المشاهد له اشد خوفا منه من البعيد عنه. بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه وانه يطالب من حقوق الخدمة واداءها بما لا يطالب به غيره. فهو احق بالخوف من البعيد. ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله صلى الله واله وسلم اني اعلمكم بالله واشدكم له خشية. وفهم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابو داوود وغيره من حديث زيد ابن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ان الله تعالى لو عذب اهل سماواته واهل ارضه لعذبهم وهو غير ظالم انهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من اعمالهم. وليس المراد به لو عذبهم تصرف في ملكه والمتصرف في ملكه به غير ظالم فما يظنه كثير من الناس فان هذا يتضمن مدحا والحديث انما سيق للمدح وبيان عظم حق الله على عباده. وانه لو فان هذا ها؟ فان هذا لا يتضمن مدحا ما يستقيم الكلام الا بهذا اسأل الله ان وليس المراد وليس المراد به لو عذبهم تصرف في ملكه والمتصرف في ملكه غير ظالم. كما يظنه كثير من الناس فان هذا لا يتضمن مدحا والحديث انما سيق للمدح وبيان عظم حق الله على عباده. وانه لو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم ولم يكن بغير استحقاق فان حقه سبحانه عليهم اضعف ما اتوا لهذا قال بعده. ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من اعمالهم. يعني ان رحمته لهم ليست على قدر اعمالهم اذ اعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم قوموا بها فلو عذبهم الحالة هذه لكان تعذيبا لحقه وهو غير ظالم لهم فيه. ولا سيما فان اعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم. فاذا عذبهم على ترك شكرهم واداء حقه الذي ينبغي له سبحانه وعذبهم ولم يكن ظالما لهم. فان قيل فهم اذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له مقدورا لهم فكيف يحصل العذاب عليك؟ قيل الجواب من وجهين احدهما ان المقدور للعبد لا يأتي به كله بل لابد من فتور واعراض وثوان وايضا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها. من كمال المراقبة والاجلال والتعظيم والنصيحة التامة تامة لله فيها بحيث يبذل مقدوره كله في تحسينها وتكميلها ظاهرا وباطنا. فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال مثال ولهذا سأل الصديق النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به في صلاته قال له قل اللهم اني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب الا انت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني انك انت الغفور الرحيم. فاخبر عن ظلمه لنفسه مؤكدا له بان قضية ثبوت الخبر وتحققه ثم اكده بالمصدر النافي للتجوز والاستعارة. ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده تكثره ثم قال فاغفر لي مغفرة من عندك. اي لا ينالها عملي ولا سعي. بل عملي يقصر عنها وانما هي من فضلك ثاني لا بكسب ولا باستغفار وتوبتي. ثم قال وارحمني اي ليس معولي الا على مجرد رحمتك ان رحمتني والا لازم لي فليتدبر النبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية وفي ضمنه انه لو عذبتني لعدلت في ولم تظلمني واني لا انجو الا برحمة ومغفرتك. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لن ينجي احدا منكم عمله والله لن ينجي احدا منكم عمله قالوا ولا انت يا رسول الله؟ قال ولا انا الا ان يتغمدني الله برحمة منه وفضل واذا كان عمل العبد لا يستقيم بالنجاة فلو لم ينجه الله لم يكن قد بخسه شيئا من حقه ولا ظلمه. فانه ليس معه ما احفظي نجاته وعمله ليس وافيا بشكر القليل من نعمه. فهل يكون ظالما له لو عذبه؟ وهل تكون رحمته له جزاء لعمله ويكون العمل ثمنا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه. وكمال العبودية من الحياء المراقبة والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدي الله في العمل له. ومن علم هذا علم السر في كون اعمال الطاعات تختم ثم ساق نحو ما تقدم له وقال بعد فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الامر وان كل احد محتاج الى مغفرة الله ورحمته وانه لا سبيل الى النجاة بدون مغفرته ورحمته اصلا. ومن اراد تمام الاجوبة فعليه بالكتاب المذكور ضاعف الله لمؤلفه فيهم اجور ذكر المصنف رحمه الله تعالى هنا استطرادا متعلقا ببيان السر في ختم الطاعات بالاستغفار نقله من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين اذا اورد ابن القيم رحمه الله تعالى قول القائل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب؟ وشدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بان الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وانه اقرب الخلق الى الله. فبين ابن القيم رحمه الله تعالى مأخذ الخوف عند نبي الله صلى الله عليه وسلم والملائكة المقربين باجوبة عدة اقتصر المصنف رحمه الله تعالى على جواب واحد منها وهو ان الخوف من الرب انما يكون على قدر المعرفة ومعرفة القريب بالله اعظم من بغيره. فلما كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه بمنزلة عظيمة ومعرفة كبيرة. وكانت الملائكة المقربين كذلك صار خوفهم اعظم من خوف غيرهم فهم يخافون لمزيد معرفتهم بربهم سبحانه وتعالى اذ قصروا في عدم القيام بحقه وقد اورد المصنف رحمه الله تعالى من كلام ابن القيم ايضا اشكال اخر وفيه فان قيل فهم اذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له مقدورا لهم فكيف يحسن العذاب عليه؟ يعني ان الامر والنهي معلق بالقدرة والاستطاعة فاذا العبد بما يقدر عليه من شكر الله وعبوديته لم يكن حينئذ ملوما على تقصيره في عدم الاتيان بما الا يقدر عليه؟ واجاب ابن القيم رحمه الله تعالى عن ذلك من وجهين احدهما ان المقدور للعبد لا يأتي به كله بل لا بد من فتور واعراض وغفلة وثوان فهو يقصر في اتيانه بما يقدر عليه. والوجه الثاني ان قيام العبد بالعبودية لا يكون مكملا للحق الواجب لها من كمال المراقبة والاجلال والتعظيم لله عز وجل بل حقه نقص في ذلك فالتقصير لازم للعبد في حال الترك وفي حال الفعل ثم ذكر ما يصدق هذا من دعاء الصديق المشهور قل اللهم اني ظلمت نفسي ظلما كثيرا الى اخره وقد اخرجه شيخ الاسلام ابن ابن تيمية رحمه الله تعالى بشرح نفيس ذكر ما تضمنه هذا الدعاء من العبودية التي ذكر المصنف رحمه الله تعالى من كلام تقيم طرفا منها وفيها تقرير حاجة العبد واضطراره الى رحمة الله عز وجل. واذا كان محتاجا اليها اخرج له عنها وهي معوله في الفوز فحينئذ كان العبد مأمورا بدوام استغفار الله عز وجل في اعقاب الطاعات يشمله الله سبحانه وتعالى برحمته وتمام الاجوبة كما ذكر المصنف في الكتاب المذكور. نعم وقال الاستاذ الامام مثي مصر حرس المولى وجوده بتفسير قوله تعالى حكاية عن ابراهيم واسماعيل عليهما الصلاة والسلام ربنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وارنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم تاب بالمثناة كتاب بالمثنى ومعناه رجع ويقال تاب العبد الى ربه اي رجع اليه لان اقتراص الذنب اعراض عن الله. اي طريق دينه وموجبات رضوانه. ويقال تاب الله على العبد لان التوبة من الله تتضمن معنى الرحمة والعطف كأن الرحمة الالهية تنحرف وعن المذنب باقترافه اسباب العقوبة. فاذا تاب عادت اليه وعطس ربه عليه. والتوبة تختلف باختلاف درجات الناس فعبدك يتوب اليك من ترك ما امرته بفعله او فعل ما امرته بتركه. وصديقك يتوب اليك ويعتذر اذا هو قصر في عمل فيه فائدة عما في امكانه واستطاعته وولدك يتوب اذا قصر في ادب من الاداب التي ترشده اليها ليكون في نفسه عزيزا كريما وكذلك تختلف ثوبات التائبين الى الله تعالى باختلاف درجاتهم في معرفته وفهم اسرار شريعته. فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله تعالى واسباب عقوبته الا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها. واذا تابوا من عمل سيء فانما يتوبون من وخواص المؤمنين يعرفون ان لكل عمل سيء لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال ولكل عمل صالح اثرا فيها يقربها من الله وصفاته فالتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله تعالى. فهي اذا قصرت فيها تتوب واذا شمرت لا تأمن النقائص والعيوب ويختلف اتهام هؤلاء الابرار لانفسهم باختلاف معرفتهم بصفات النفس وما يعرض لها من الافات بسيرها معرفتهم بكمال الله جل جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه. ولذلك قال بعض العارفين حسنات الابرار سيئات المقربين ومن هنا تفهم معنى التوبة التي طلبها ابراهيم واسماعيل عليهما الصلاة والتسليم انتهى. ختم المصنف رحمه الله تعالى هذه الرسالة الوجيزة بنقل نفيس عن مفتي مصر في زمانه محمد عبده غفر الله له وسامحه وله كلام حسن في التفسير مع زلات عظيمة في عدة ابواب من ابواب الدين وقد اشتملت هذه الجملة المنقولة من كلامه رحمه الله على مسألتين عظيمتين اولاهما بيان حقيقة التوبة والثانية بيان مراتب التوبة تأمل مسألة الاولى وهي بيان حقيقة التوبة فانه ذكر ان حقيقة التوبة هي رجوع العبد الى ربه سبحانه وتعالى لان اصل الثوب الرجوع واذا تاب العبد الى ربه فانه يكون راجعا اليه اما المسألة الثانية وهي مراتب التوبة فذكر كلاما منثورا حاصله ما تقدم تقريره ان التوبة نوعان عن اولهما التوبة من فعل السيئات وهي مقارفة الرذائل والثاني التوبة من التقصير في الطاعات وهي التوبة من ترك تكميل الفضائل والناس متفاوتون في ادراكهم لهاتين المرتبتين فعامة المؤمنين لا يعرفون من معاني التوبة الا التوبة من المعاصي. واما خواص المؤمنين فهم يعلمون انهم اذا قصروا في الصالحات وفرطوا في الطاعات فان ذلك نقص يوجب المسارعة الى التوبة ولهذا قال بعض من قال من اهل الفضل والاحسان حسنات الابرار سيئات المقربين يعني ان الاعمال التي يعملها عباد الله الابرار هي بالنسبة الى مقام من فوقهم من المقربين هي سيئات في حقهم فان المقربين قد يفعلون حسنات ثم يعرفون ان هذه الحسنات قد لحقهم فيها نقص ولا يدرك الابرار وهذا المعنى فحينئذ تكون حسنات الابرار بمنزلة السيئات لاولئك لكمال حالهم وهذا اخر التقرير على هذه الرسالة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد واله وصحبه اجمعين