المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فصل والحكمة العليا على نوعين اي ضن حصنا بقواطع البرهان احداهما في خلقه سبحانه نوعان ايضا ليس يفترقان احكام هذا الخلق اذ ايجاده في غاية الاحكام والاتقان وصدوره من اجل غايات له وله عليها حمد كل لسان والحكمة الاخرى فحكمة شرعه ايضا وفي هذان كالوصفان غاياتها التي حمدن وكونها في غاية الاحكام والاتقان هذا النوع الثاني مما يدل عليه اسم الله الحكيم وهو ان له الحكمة التامة في خلقه وامره وحكمته علياء لا يشابهها شيء فليس كمثله شيء في جميع نعوته التي من جملتها الحكمة والحكمة في خلقه على نوعين احدهما انه احكم جميع ما خلقه واتقنه باحسن خلق واتم نظام لا يمكن احدا من الخلق ان يقترح احسن منه ولا يرى فيه عيبا ولا عبثا فكل ما خلقه فهو محكم متقن لم يخلق شيئا عبثا ولا خلق شيئا معيبا قال تعالى وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فهم الذين يظنون بالله الظن السيء والذي من جملته انه يخلق شيئا لغير فائدة ولا مصلحة وقال تعالى وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وقال تعالى الذي احسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين وقال تعالى لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم وقال تعالى ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب ونحوها من الايات التي يحث الله بها العباد الى النظر والتفكر في المخلوقات لاشتمالها على الحكم البالغة والنعم السابغة وانها سالمة من كل عبث وعيب قال تعالى الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجعي البصر هل ترى من فتور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير لم ير خللا ولا نقصا بل يرى جميع العالم على اتم نظام واكمل خلق واحسنه فهذا نوع من انواع الحكمة في الخلق وهو انها كلها محكمة متقنة تشاهد حكمتها بالابصار والبصائر ويخفى اكثرها فيستدل بما علم منها على ما لم يعلم والنوع الثاني انها مخلوقة لغاية ومقصود بها مقصود عظيم فخلقها الله تعالى ليستدل بها العباد على ما لله من صفات الكمال وما له من جميل الفعال وهذه غايات يحمد عليها ليتضمنها ظهور اثار اسمائه وصفاته ومعرفة العباد لها وايضا خلق الله السماوات والارض وما بينهما بالحق فهي مخلوقة بالحق وللحق ومن ذلك انه ليجازي المحسن باحسانه والمسيء باساءته وخلق الله المكلفين ليعرفوه ويعبدوه ويطيعوه لاجل ان يجازيهم باعمالهم قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وقال تعالى الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله وان الله قد احاط بكل شيء علما ففي هاتين الايتين الاخبار من ان الغاية لخلق السماوات والارض والجن والانس وانزال الشرائع على الانبياء لاجل ان يعرفوا الله باسمائه وصفاته ويعبدوه بمقتضى ذلك وقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى اي معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب فان هذا ظن فاسد لانه يتضمن العبث في افعاله تعالى وهو منزه عن ذلك ثم قرر ذلك بدليل عقلي فقال الم يكن طفة ممن يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى اليس ذلك بقادر على ان الموتى فالذي نقل الانسان بهذه الاطوار المتنوعة حتى اوصله الى ما وصل اليه لا يليق به ان يهمله ويعطله عن امره ونهيه وثوابه وعقابه ونظير هذا قوله تعالى افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم وانكم الينا لا ترجعون فتعالى الله اي تنزه عن هذا الحسبان الباطل المنافي لملكه وحمده وكماله ولهذا قال الملك الحق لا اله الا هو رب العرش الكريم فان الملك الحق لابد ان يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويجازي المحسن باحسانه والمسيء باساءته وقال تعالى منزها نفسه عن ظن من ظن انه يترك خلقه سدى لا يرسل اليهم رسولا ولا ينزل عليهم كتابا وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء الى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا الاصل الكبير وهو ان افعاله تعالى كلها محكمة متقنة لا عيب فيها ولا خلل وانه فعل ما فعله لغايات محمودة ومقاصد سديدة ثم ذكر الحكمة الاخرى في شرعه وانها على نوعين ايضا احدهما انها في غاية الاحكام والاتقان ويكفي في هذا الموضع معرفة القاعدة العامة وهي ان الاوامر والنواهي تبع للمصالح والمنافع فعلا وتركا فكل امر مشتمل على المصلحة الخالصة او المصلحة الراجحة فانه مأمور به وكل امر مشتمل على مفسدة خالصة او راجحة فانه منهي عنه ويدل على هذا قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فالمعروف الذي يأمر به هو ما عرف حسنه شرعا وعقلا وذلك ما ترجحت مصلحته وفائدته في القلب والبدن والدنيا والاخرة والمنكر الذي ينهى عنه هو ما عرف قبحه شرعا وعقلا وذلك ما ترجحت مضرته في الدنيا والاخرة والقلب والبدن والطيبات التي احلها كل مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وصفه الطيب والمنفعة الذي يضطر او يحتاج اليه والخبيثات التي حرمها ضد ذلك وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان فالبر والتقوى الذي امر الله بفعله والتعاون عليه كل عمل صالح وخلق فاضل وفعل رشيد وقول سديد من الاخلاص لله تعالى والصدق وحسن الخلق وصلة الارحام وبر الوالدين والاحسان الى عموم الخلق والعدل بينهم وسلامة الصدر والنصح للخلق والتأدب بالاداب الحسنة والرفق واللين والسماحة وغير ذلك مما حث الشرع عليه وضد ذلك النهي عن الكبر والتجبر على الخلق والكذب والرياء وعقوق الوالدين وقطيعة الارحام وظلم الخلق في دمائهم واموالهم واعراضهم وسوء الخلق وغير ذلك من مساوئ الاخلاق ومن احكام الامر والنهي ان شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان فكل وقت ومحل يحتاج اليها فيه بل لا تصلح الدنيا والاخرة الا بالعمل بها ولهذا كانت من اعظم الادلة على كمال من انزلها وعلمه وحكمته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان خاتم الانبياء فلا نبي بعده قال تعالى اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا والنوع الثاني من حكمة الامر ان الله امر ونهى وشرع الشرائع ليبتلي عباده المطيع منهم والعاصي والصادق والكاذب وليقوم سوق الجهاد والعبادات التي يحبها ويرضاها ولتتنور القلوب بمعرفته والالسنة بذكره والاعضاء بطاعته وليثيب المطيعين من فضله وكرمه بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وليتم عليهم فضله واحسانه الى غير ذلك من الغايات والحكم التي شرع الله الشرائع لاجلها قال المصنف في بدائع الفوائد نشر دار الكتاب فتأمل اسرار كلام رب العالمين وما تضمنته ايات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بانه كلام رب العالمين والشاهدة لرسوله بانه الصادق المصدوق وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى وهو معنى كونه خلق السماوات والارض وما بينهما بالحق ولم يخلق ذلك باطلا بل خلقه خلقا صادرا عن الحق ايلا الى الحق مشتملا على الحق فالحق سابق لخلقها مقارن له غاية له ولهذا اتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة للغاية وحدها الباء مفيدة معنى اشتمالها على الحق السابق والمقارن والغاية الحق السابق صدور ذلك عن علمه وحكمته فمصدر خلقه تعالى وامره عن كمال علمه وحكمته وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف بهما حكمة كلية ومصلحة وحقا ولهذا قال تعالى وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم فاخبر عن مصدر المتلقي عن علم المتكلم وحكمته وما كان كذلك كان صدقا وعدلا وهدى ورشادا وكذلك قالت الملائكة لامرأة ابراهيم حين قالت قالت يا ويلتا االد وانا عجوز قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم وهذا راجع الى قوله وخلقه وهو خلق الولد لهما على الكبر واما مقارنة الحق لهذه المخلوقات فهو ما اشتملت عليه من الحكم والمصالح والمنافع والايات الدالة للعباد على الههم ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله وان لقاءه حق لا ريب فيه ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالاشخاص الشاهدة الناطقة بذلك بل شهادتها اتم من شهادة الخبر المجرد لانها شهادة حال لا تقبل كذبا فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله الا وجده شاهدا دالا على فاطره وباريه وعلى وحدانيته وعلى كمال صفاته واسمائه وعلى صدق رسله وعلى ان لقائه حق لا ريب فيه وهذه طريقة القرآن في ارشاد الخلق الى الاستدلال باصناف المخلوقات واحوالها على اثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات فمرة يخبر انه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا ومرة يخبر انه خلقهم بالحق ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما اخبرت به رسله حتى يتبين لهم ان الرسل انما جاءوهم بما يشاهدون ادلة صدقه وبما لو تأملوه لوجدوه مركوزا في فطرهم مستقرا في عقولهم وان ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما اخبرت به عنه رسله من اسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته وهذا باب عظيم من ابواب الايمان انما يفتحه الله على من سبقت له من الله سابقة السعادة وهذا اشرف علم يناله العبد في هذه الدار وقد بينت في موضع اخر ان كل حركة تشاهد على اختلاف انواعها فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد وطريق سهلة واضحة برهانية وكذلك ذكرت في رسالة الى بعض الاصحاب بدليل واضح ان الروح مركوز في اصل فطرتها وخلقها شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وان الانسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزا في نفس روحه وذاته وفطرته فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط لاستخرج منها الايمان بالله وصفاته والشهادة بانه لا اله الا الله والايمان برسله وملائكته ولقائه وانما يصدق بهذا من اشرقت شمس الهداية على افق قلبه وانجابت عنه سحائب غيه وانكشف عن قلبه حجاب انا وجدنا اباءنا على امة وانا على اثاره مهتدون فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه ويلوح له صباح هو ليله وظلامه فقف الان على كل كلمة من قوله تعالى ان في السماوات والارض لايات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة ايات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما انزل الله من السماء من رزق فاحياه به الارض فاحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ايات لقوم يعقلون ثم تأمل وجه كونها اية وعلى ماذا جعلت اية على مطلوب واحد ام مطالب متعددة وكذلك سائر ما في القرآن من هذا النمط كاخر ال عمران وقوله في سورة الروم ومن اياته الى اخرها وقوله في سورة النمل قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الى اخر الايات واضعاف اضعاف ذلك في القرآن وكقوله في سورة الذاريات وفي الارض ايات للموقنين وفي انفسكم افلا تبصرون وكأي من اية في السماوات والارض يمرون عليها يمرون عليها وهم عنها معرضون فهذا كله من الحق الذي خلقت به السماوات والارض وما بينهما وهو حق مقارن لوجود هذه المخلوقات مسطور في صفحاتها يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب كما قيل تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها الا كل شيء ما خلا الله باطل واما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم ان يعرفوا الله تعالى وصفات كماله تعالى وان يعبدوه لا يشركون به شيئا فيكون هو وحده الههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم قال الله تعالى الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله وان الله قد احاط بكل شيء علما فاخبر انه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته واحاطة علمه وذلك يستلزم معرفته ومعرفة اسمائه وصفاته وتوحيده وقال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون فهذه الغاية هي المرادة من العباد وهي ان يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده فاما الغاية المرادة بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب قال تعالى ولله ما في السماوات وما في الارض ليجزي الذين اساؤوا ليجزي الذين اساءوا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا بالحسنى وقال تعالى ان الساعة اتية اكاد اخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى وقال تعالى ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين وقال تعالى ان ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام ثم استوى ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع الا من بعد اذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه افلا تذكرون اليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا انه يبدأ الخلق ثم يعيده الى قوله بما كانوا يكفرون فتأمل الان كيف اشتمل خلق السماوات والارض وما بينهما على الحق اولا واخرا ووسطا وانها خلقت بالحق وللحق وشاهدة بالحق وقد انكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده فقال فتعالى الله الملك الحق لا اله الا هو رب العرش الكريم وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من ابطال هذا الحسبان الذي ظنه اعداؤه اذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الحق اذ الملك الحق هو الذي يكون له الامر والنهي فيتصرف في ملكه بقوله وامره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك اذ المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بامره وفعله والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وامره فمن ظن انه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في ملكه ولم يقدره حق قدره كما قال تعالى وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء ومن جحد شرع الله وامره ونهيه وجعل الخلق بمنزلة الانعام المهملة فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره وكذلك قوله الحق يقتضي كمال ذاته وصفاته واسمائه ووقوع افعاله على اكمل الوجوه واتمها فكما ان ذاته الحق فقوله الحق ووعده الحق وامره الحق وافعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الاخر حق فمن انكر شيئا من ذلك فما وصف الله تعالى بانه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه فكيف يظن بالملك الحق ان يخلق خلقه عبثا وان يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم كما قال تعالى ويحسب الانسان ان يترك سدى قال الشافعي مهملا لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يجزى بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب والقولان متلازمان فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب وهو الامر والنهي والاخر ذكر غاية الامر والنهي وهو الثواب والعقاب ثم تأمل قوله بعد ذلك الم يكن طفة ممن يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فمن لم يتركه وهو نطفة سدى بل قلب النطفة وصرفها حتى صارت اكمل مما هي وهي العلقة ثم قلب العلقة حتى صارت اكمل مما هي حتى خلقها فسوى خلقها فدبرها بتصريفه وحكمته في اطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا فكيف يتركه سدى لا يسوقه الى غاية كماله الذي خلق له فاذا تأمل العاقل البصير احوال النطفة من مبدأها الى منتهاها دلته على المعادي والنبوات كما تدله على اثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله فكما يدل احوال النطفة من مبدأها الى غايتها على كمال قدرة فاطر الانسان وباريه كذلك يدل على كمال حكمته وعلمه وملكه وانه الملك الحق المتعالي عن ان يخلقها عبثا او يتركها سدا بعد كمال خلقها وتأمل كيف لما زعم اعداءه الكافرون انه لم يأمرهم ولم ينههم على السنة رسله وانه لا يبعثهم للثواب والعقاب كيف كان هذا الزعم منهم قولا بان خلق السماوات والارض باطل فقال تعالى وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فلما ظن اعداؤه انه لم يرسل اليهم رسولا ولم يجعل لهم اجلا للقائه كان ذلك ظنا منهم انه خلق خلقه باطلا ولهذا اثنى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بانهم اوصلهم فكرهم فيها الى شهادتهم بانه تعالى لم يخلقها باطلا وانهم لما علموا ذلك وشهدوا به علموا ان خلقها يستلزم امره ونهيه وثوابه وعقابه فذكروا في دعائهم هذين الامرين فقالوا ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا انك من تدخل النار فقد اخزيته وما للظالمين من انصار فلما علموا ان خلق السماوات والارض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه ثم ذكروا الايمان الذي اوقعهم عليه فكرهم في خلق السماوات والارض فقالوا ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان ان امنوا ان امنوا بربكم فامنا فكانت ثمرة فكرهم في خلق السماوات والارض الاقرار به تعالى وبوحدانيته وبدينه وبرسله وبثوابه وعقابه فتوسلوا اليه بايمانهم الذي هو من اعظم فضله عليهم الى مغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم وادخالهم مع الابرار الى جنته التي وعدوها وذلك تمام نعمته عليهم فتوسلوا بانعامه عليهم اولا الى انعامه عليهم اخرا وتلك وسيلة بطاعته الى كرامته وهي احدى الوسائل اليه وهي الوسيلة التي امرهم فيها في قوله يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة واخبر عن خاصة عباده انهم يبتغون الوسيلة اليه اذ يقول تعالى اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب على ان في هاتين الايتين اسرارا بديعة ذكرتها في كتاب التحفة المكية في بيان الملة الابراهيمية فاثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السماوات والارض انه لم يخلقهما عبثا باطلا واثمر لهم الايمان بالله ورسوله ودينه وشرعه وثوابه وعقابه والتوسل اليه بطاعته والايمان به وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له فلا تستطله فانه كنز من كنوز العلم لا يلائم كل نفس ولا يقبله كل محروم والله يختص برحمته من يشاء انتهى كلامه رحمه الله وهو كما ذكره في غاية النفاسة ويوضح هذا المبحث توضيحا تاما واذا شئت ان تعرف تفاصيل الحكمة في الشرع فاعتبر المسائل مسألة مسألة فانك تجدها في غاية الاحكام والاتقان وفي اعلى درجات الحكمة والمصلحة ولهذا كان الفقهاء والمتكلمون على الاحكام الشرعية يعللونها بالمصالح والحكم والمناسبات فلو كان الامر والنهي والتحليل والتحريم غير تابع للحكمة لم يكن فائدة في تعليل الاحكام والاحتجاج بها عليها ومن اراد التوسع في بيان حكمة الله في شرعه وقدره اجمالا وتفصيلا وتأصيلا فعليه بكتاب مفتاح دار السعادة للمصنف رحمه الله فانه بسط الكلام فيه بسطا شافيا وفيما نبهنا عليه من ذلك كفاية والله اعلم